Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Genres
والأمر الذي ينبغي أن ننتبه إليه هو أنه لم يكن هناك اتصال بين فئتي النقاد هاتين، ولم يكن من المتصور أن يقوم بينهما أي اتصال؛ ذلك لأن لكل منهما منطلقها الخاص. وفي هذا المنطلق نواحي قوة ونواحي ضعف. فالفئة التي تنقد الاستشراق من منظور إسلامي كانت تتميز بعمق جذورها الإسلامية، فضلا عن حماستها الدينية المتوقدة، ولكن كان يعيبها في كثير من الأحيان سطحية النظرة إلى أعمال المستشرقين وتأملها من زاوية واحدة، هي محتواها الديني، بل إن بعض أفرادها كانوا يطلقون على الاستشراق أحكاما منقولة متسرعة لم تكن مبنية على اطلاع كاف ودراسة متأنية، وهؤلاء هم في الغالب ممن يفتقرون إلى ثقافة أجنبية تتيح لهم معرفة أعمال المستشرقين في لغاتها الأصلية، فضلا عن عجزهم التام عن استيعاب مناهج البحث الحديثة. أما الفئة الأحدث عهدا، والتي تنقد الاستشراق من منظور علماني مرتكز على البعد السياسي-الحضاري، فإن قدرتها على معرفة أعمال المستشرقين بصورة مباشرة أعظم بكثير، كما أن في استطاعتها، بما درسته وأتقنته من مناهج البحث الغربية الحديثة، أن تخوض المعركة ضد المستشرقين بأسلحة متكافئة، ولكن يعيبها في معظم الأحيان ضعف الإلمام بالتراث الشرقي ذاته، والافتقار إلى جذور عميقة في الثقافة الإسلامية، لا بالقياس إلى النقاد الإسلاميين فحسب، بل بالقياس أيضا إلى المستشرقين أنفسهم.
وهكذا فإن نقاد الاستشراق من منطلق إسلامي تقليدي تنقصهم في أغلب الحالات - ولا أقول في جميع الحالات؛ لأن هناك دائما استثناءات هامة - المعرفة الكافية بالمصدر الذي ينبع منه الاستشراق ذاته؛ أعني بالحضارة التي انبثق منها الاستشراق من حيث هو مبحث علمي، وبالمناهج التي تتبع في أبحاثه. والدلالة الحقيقية لنواتج هذا المبحث. أما نقاده من المنطلق السياسي الحضاري فينقصهم الإلمام الكافي بالموضوع الذي يتحدث عنه المستشرقون، ومن ثم كانت تفاصيل ذلك التراث الشرقي الذي يريدون أن يصدوا هجمات المستشرقين عليه، مجهولة لديهم إلى حد بعيد. وهكذا فإن الفئتين لم تلتقيا؛ لأن كلا منهما تسير في خط يزداد تباعدا عن الأخرى. وأغلب الظن أن كلا منهما لم تطلع على أعمال الأخرى إلا في أحوال نادرة، بالرغم من أنهما يحاربان، نظريا، معركة واحدة ضد خصم واحد، بل إن الأرجح عندي أنه لو أتيحت لأفراد إحدى الفئتين فرصة الاطلاع على أعمال الفئة الأخرى، لما وجدوا فيها ما يعينهم في معركتهم، وربما نظروا إليها بعين مرتابة وأدرجوها ضمن فئة الخصوم؛ إذ يرى الإسلاميون في النقاد العلمانيين نفس العيوب التي يرونها في المستشرقين، أعني الإفراط في العلمانية نتيجة للتأثر بأساليب التفكير الغربية. والوقوع في أسر المصطلح الأجنبي الدخيل والمنهجية المستمدة من تراث الغرب بوجه عام. أما العلمانيون فيرون أن أعمال الإسلاميين ترسم صورة للشرق لا تقل في تشويهها عن تلك التي يرسمها المستشرقون له، مع فارق واحد، هو أن التشويه في الحالة الأولى جاء نتيجة التحمس الزائد، بينما نجم في الحالة الثانية عن التحامل المفرط.
وهكذا تتسم الكتابات الحالية عن الاستشراق بأنها في أغلب الأحيان أحادية الجانب. ولست أعني بذلك أنها تتجاهل أي جانب آخر في موضوع الاستشراق، وإنما أعني أن تركيز فئة منها على الجانب الديني يمنعها من أن تدرك بوضوح الأبعاد السياسية والحضارية للمشكلة وتعطيها ما تستحقه من أهمية، على حين أن إرجاع الفئة الأخرى مشكلات الاستشراق كلها إلى العامل السياسي الحضاري يحول بينها وبين عمل حساب كاف للبعد الديني. وأعتقد أن المعالجة الشاملة لمختلف هذه الجوانب، بطريقة متساوية في الأهمية، هي إحدى النقاط التي تبرر في نظرنا إضافة هذا البحث الجديد إلى سيل البحوث التي تدفقت أخيرا حول هذا الموضوع.
على أن هناك سمة أخرى، ربما كانت أخطر شأنا من السابقة، يختلف فيها هذا البحث عن بقية البحوث التي ظهرت في هذا الموضوع، هي أنه لا يكتفي بالسير في اتجاه واحد، إذا جاز هذا التعبير، وإنما يسير في اتجاهين، وربما في ثلاثة. فالأبحاث الحالية تعالج موضوع الاستشراق من زاوية نظرة الشرقي إلى ما يكتبه الغربيون عنه وعن ماضيه وحاضره. ولكن يبدو في نظرنا أن هذه المعالجة تغدو أخصب بكثير لو ارتبطت ببحث مقارن يدرس، في كل حالة، نظرتنا نحن إلى الغرب ويقارن أخطاءهم بأخطائنا، وتحيزاتهم بتحيزاتنا. بل إننا سوف نجد أنفسنا، في أحيان كثيرة، مضطرين إلى إجراء مقارنة أخرى بين نظرة الغرب إلينا ونظرتنا نحن إلى أنفسنا، فنضيف بذلك بعدا ثالثا إلى الموضوع. ولو كنا ممن يميلون إلى استكمال تناسق البناء الشكلي وتحقيق «التماثل
Sysmmetry » الكامل، كما يفعل الفلاسفة أصحاب المذاهب عادة؛ لأضفنا بعدا رابعا، هو نظرة الغرب إلى نفسه، حتى تكون الأركان الأربعة قد اكتملت: الشرق في نظر الغرب، والغرب في نظر الشرق، والشرق في نظر ذاته، والغرب في نظر ذاته. غير أن هذا البعد الأخير، على الرغم مما فيه من خصوبة، وما يمكن أن يلقيه من أضواء على موضوع بحثنا، سوف يفتح أمامنا أبوابا تبلغ من التشعب حدا قد يهدد بضياع معالم الهدف الأصلي، ومن ثم فقد آثرنا أن نستبعده. وهكذا تتبقى الأبعاد الثلاثة الأخرى لكي تشكل معالجة لموضوع الاستشراق ضمن إطار بحث أوسع في مشكلات الالتقاء بين الحضارات، وهو الإطار الذي يلقي أضواء عظيمة الأهمية على موضوع يستحيل أن تستبين معالمه بوضوح ما دام يبحث بصورة منعزلة، أعني من زاوية التركيز على أخطاء أو تحيزات النظرة الغربية - علمية كانت أو غير علمية - إلى الشرق.
النقد الديني
كان الهجوم على الاستشراق من الزاوية الدينية، كما قلت، هو الأسبق. وكان النقاد الذين يتخذون وجهة النظر الدينية ينسبون إلى المستشرقين في معالجتهم لموضوع بحثهم، أي الإسلام، صفة التحامل، ولكن في أغلب الأحيان كانت اللهجة تشتد فتستخدم أوصاف مثل الكذب والافتراء ... إلخ. وفي حالات معينة كان سوء الفهم المنسوب إلى الغربيين يوصف بأنه ناجم عن تأثير تاريخ طويل من تشويه للعقيدة الإسلامية في الغرب المسيحي، بدأ منذ العصور الوسطى وظلت آثار منه باقية، بدرجات متفاوتة، حتى اليوم. ومثل هذا التفسير يتضمن، على الأقل، قدرا من التماس العذر للخطأ الغربي المعاصر بإرجاعه إلى أصول تاريخية قديما. غير أن الاتجاه الأغلب، بين ناقدي الاستشراق على أساس ديني، هو اتجاه التفسير التآمري؛ أي القول بوجود نية مبيتة لدى المستشرقين لتشويه تعاليم الإسلام. والرأي الشائع هو أن هذا التشويه يتم عند بعض المستشرقين بصورة صريحة تتضمن هجمات مباشرة وتفسيرات باطلة لحقائق أساسية في الإسلام، وعند البعض الآخر بصورة غير مباشرة، ربما اقترنت أحيانا بشيء من المدح أو الدعوة إلى التفاهم، ولكن الهدف - الذي يتم التوصل إليه بطريقة أذكى في هذه الحالة - يظل هو «الدس» للإسلام وتشويه صورته، مع تقديم بعض الأحكام الإيجابية من أجل «تمرير» الأحكام الباطلة في إطار يفترض أنه موضوعي.
والذي كان يحدث في هذا الهجوم من المنطلق الديني على الاستشراق هو أن المهاجم كان في واقع الأمر مدافعا؛ فهو يدخل في مبارزة مع «عدو للإسلام»، محاولا أن يثبت له أنه وقع في أخطاء أساسية، مقصودة أو غير مقصودة، وساعيا إلى أن يعيد إلى الإسلام صورته النقية عند المسلم المؤمن، وناظرا إلى كل خروج عن هذه الصورة عند المستشرق على أنه جزء من «المؤامرة».
وبطبيعة الحال، فإن مجال «المبارزة» يغدو واسعا حين تدور المعركة على أرضية دينية بين مدافع متحمس من جهة، وبين باحث ينتمي - رسميا على الأقل - إلى عقيدة أخرى، ولا يلزم نفسه بتعاليم الإسلام من جهة أخرى. إذ يصبح ميدان الهجوم في هذه الحالة هو نظرة المستشرقين إلى معنى الألوهية في الإسلام، وإلى شخصية الرسول وسلوكه وتاريخه، وإلى القرآن في ذاته وفي علاقته بالكتب المقدسة الأخرى، وإلى طبيعة الوحي في الإسلام، ثم يمتد من هذه الأصول إلى الشخصيات الإسلامية الرئيسية، كآل البيت والصحابة والخلفاء الراشدين، وربما امتد بعد ذلك إلى شخصيات فرعية، فضلا عن أنه يشمل مسار التاريخ الإسلامي وتفسيرات المستشرقين له، وإسهامات الحضارة الإسلامية وأحكامهم عليها. هذه بعض من الميادين التي يدور فيها الجدل الساخن بين المدافعين عن الإسلام وبين المستشرقين، وهي ساحات لهجوم ظل ممتدا منذ أن اطلع المفكرون العرب على كتابات الغربيين عن الإسلام من فجر النهضة العربية الحديثة حتى اليوم.
والمعيار الأساسي، والأوحد في أغلب الأحيان، الذي تقاس به قيمة المستشرق عند هذه الفئة التي تنقد الاستشراق من منظور ديني، هو مدى اقتراب المستشرق أو ابتعاده عن تعاليم الإسلام، ومدى تمجيده للعرب أو تنديده بهم. وفي معظم الحالات تنسى القيمة الذاتية، والعلمية، لأبحاث المستشرق إذا كان ما يكتب يبتعد كثيرا عن أصول العقيدة، ويتم الحكم عليه من المنظور الديني وحده. وهكذا ينطوي هذا النقد على مبدأ لا يصرح به، بطبيعة الحال، ولكنه يكاد يقفز إلى العيان في كافة كتابات هؤلاء النقاد، هو أن المطلوب من المستشرق أن يكون مشاركا للمسلمين في عقيدتهم، وفي هذه الحالة يعد منصفا، أما إذا ابتعد عنها فإنه يغدو مفتريا متآمرا. وأفضل الحالات، بالطبع، هي تلك التي ينطق فيها المستشرق بالشهادتين، ويشهر إسلامه، إذ يصبح في نظر هؤلاء النقاد مستشرقا نموذجيا، أمينا، منصفا، أما القيمة الكامنة لأعماله، ومدى الجهد الذي بذل فيها أو الدقة المنهجية التي روعيت فيها، فهي في نظر هؤلاء النقاد آخر ما يؤخذ في الحسبان، بل إن الخلط بين الأمرين شائع إلى أبعد حد، إذ يوصف المستشرق الذي يتعاطف مع تعاليم الإسلام بأنه هو الأدق، والأعمق، أما الذي يتباعد عنها فلا بد أن يكون بعيدا عن روح العلم ومنهجه.
Unknown page