Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Genres
لقد بدأت موجة نقد الاستشراق من الزاوية السياسية والحضارية في الخمسينيات من هذا القرن، على حين أن نقده من الزاوية الدينية كان أقدم من ذلك بكثير. ومنذ أن كتب أنور عبد الملك مقاله الهام عن أزمة الاستشراق، بدأ حوار جاد حول هذا الموضوع، دارت معظم حلقاته خارج حدود الوطن العربي. ولكن العمل الذي فجر المشكلة في الخارج ونقلها بعد ذلك بصورة حية إلى الداخل، هو كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق. ومنذ ذلك الحين توالت كتابات متعددة حول هذا الموضوع بطريقة توحي بأن المثقفين العرب كانوا ينتظرون إشارة البدء للهجوم على الاستشراق بكل العنف الذي يؤدي إليه غضب وسخط مختزنان منذ أمد بعيد.
على أننا قد أوضحنا من قبل أن حركة نقد الاستشراق يستحيل أن ينظر إليها من اتجاه واحد؛ لأنها بطبيعتها جزء من ظاهرة أوسع منها وأهم، هي الإدراك المتبادل بين الثقافات. فمن القصور وعدم الدقة أن نصدر حكما أحادي الجانب على طريقة الباحثين الغربيين في دراسة الشرق، دون أن يكمل ذلك حكم آخر على رؤية الشرقيين للغرب؛ لأن بحث الموضوع من هذا المنظور يفتح آفاقا أوسع وأشمل. وصحيح أن الرؤية الغربية للشرق تتسم بسمة فريدة (هي التي يتوسع في تحليلها نقاد الاستشراق من العرب المعاصرين)، هي أنها رؤية تتم في ظروف عداء تاريخي طويل، مقترن برغبة في السيطرة، أي إنها معرفة غير مقصودة لذاتها، لا تشكل - على حد تعبير إدوارد سعيد - بحثا حرا أو موضوعيا. ولكن تكملة الرؤية الاستشراقية برؤية أخرى «استغرابية» - كما حاولنا أن نفعل في هذا البحث - كفيلة بأن تكشف لنا عن حقيقة هامة، هي أن الغرب بدوره لا يمكن أن يشكل بحثا حرا وموضوعيا بالنسبة إلى الشرقي، أو العربي، أو المسلم، مع فارق هام هو أن الخروج من الحرية والموضوعية - أي التشويه، إذا جاز أن نستخدم هذا اللفظ - يتم في هذه الحالة من موقع الضعف، والرغبة في مقاومة الخضوع والتبعية. وهكذا تتكشف لنا أبعاد جديدة لمشكلة الإدراك المتبادل بين الثقافات، ودوافع للافتقار إلى الموضوعية في العلوم الإنسانية، أوسع من مجرد فرض سلطة القوي وسعيه إلى تحقيق مصالحه. فالخوف من التبعية، أو الانتقام من السيطرة السابقة، أو تسوية الحساب مع القهر التاريخي، تخلق أساطيرها الخاصة عن «الآخر» على نحو لا يقل، بل ربما كان يزيد، عن تلك الأساطير التي تخلقها المصالح التوسعية للمسيطرين.
إن السياقات التاريخية للالتقاء بين الثقافات تتسم بالتعدد والتعقيد الشديد، وتفرض بالضرورة حدودا لا تستطيع كل ثقافة أن تتعداها في محاولتها فهم الثقافة الأخرى. وإذا كنا قد اكتفينا في المحاولات السابقة بإضافة بعد جديد يشكل الوجه الآخر لذلك البعد الذي ركز عليه ناقدو الاستشراق المعاصرون - أي إذا كنا قد أضفنا بعد سوء الفهم الذي يجلبه الضعف إلى سوء الفهم الناتج عن القوة، فإننا حتى بعد هذه الإضافة لا نكون قد استنفدنا التعقيد الشديد لظاهرة الالتقاء الثقافي بين الشرق والغرب على مدى التاريخ؛ ففي العصر القديم، لم تكن العلاقة تتسم فقط بذلك التحامل والاستعلاء الذي أبداه أدباء اليونان وشعراؤهم تجاه الشرق، كما أشار إ. سعيد، بل كان هناك - كما قلنا من قبل - ذلك الإعجاب المفرط الذي أبداه أفلاطون بحكمة المصريين القدماء، وتلك الرحلة إلى الشرق التي كانت جزءا أساسيا من التكوين العقلي والروحي للفيلسوف. كذلك لا نستطيع أن نجد نمطا واحدا ثابتا للعلاقة بين الغرب والشرق في العصور الوسطى، فقد تكونت عداوات وحدثت تشويهات وتحاملات بسبب الحروب الصليبية والصراع الديني والنزاع على طرق التجارة مع الشرق، ولكن كان هناك في الوقت ذاته إعجاب مفرط بالعرب والإسلام (في بلاط ملوك صقلية وجنوب إيطاليا مثلا)، وكان هناك انبهار بالمعرفة والقيم والأخلاق العربية حتى في قلب العداء الصليبي ذاته. وفي العصر الحديث تعقدت صورة الغرب في نظر الشرق: ما بين العداء الشديد للاستعمار وكل ما يرتبط به عند البعض، والتمجيد الزائد للعلم والتقدم الاجتماعي الغربي عند البعض الآخر. ومن جهة أخرى كان الغرب يؤكد الصورة الجامدة للإسلام نتيجة لاستعلائه وشعوره بالسيطرة، ولكنه بعد بداية عصر البترول العربي، ثم بعد الثورة الإيرانية بوجه خاص، يقوم بجهد محموم للبحث في ديناميات العقيدة الإسلامية، بطوائفها المختلفة، أملا في التنبؤ بالاتجاهات المحتملة لتحركها في المستقبل.
إنها إذن صورة معقدة كل التعقيد، لا يمكن اختزالها إلى نمط «التشويه من أجل السيطرة». وهذا يؤدي إلى إثارة سؤال على جانب كبير من الأهمية هو: لماذا ركز النقاد العرب المعاصرون والعلمانيون على هذا النمط بالذات، وتركوا الجوانب الأخرى لظاهرة الالتقاء بين الثقافات، التي لا يشكل هذا النمط إلا جانبا واحدا من جوانبها؟
في محاولتنا أن نجيب عن هذا السؤال الهام، سيكون لزاما علينا أن نقوم بنوع من التحليل الاجتماعي-النفسي لحركة نقد الاستشراق في المجتمع العربي المعاصر، وهذا التحليل يستحق في الواقع أن يسمى «دراسة لباثولوجية النقد المعاصر للاستشراق». وبطبيعة الحال فإن أي تحليل من هذا النوع ما هو إلا اجتهاد شخصي يمكن أن يرفض بأكمله. فالجزء السابق من البحث هو الجزء الواقعي
Factual ، أما هذا الجزء فهو تفسيري
Explanatory . ومن حق الكثيرين ألا يقتنعوا بهذا التفسير، وإن كنت من جانبي أعتقد أنه يسهم في إلقاء ضوء هام على حركة نقد الاستشراق لدى العرب المعاصرين، بقدر ما تمثل جانبا هاما من جوانب أزمة الثقافة العربية المعاصرة.
محاولة لتحليل اجتماعي-نفسي للاستشراق
على الرغم من أن هدفنا في هذا الجزء من البحث هو تحليل حركة «نقد الاستشراق»، فلا بأس من أن نبدأ بمحاولة شديدة الإيجاز، وناقصة بغير شك، لتحليل حركة الاستشراق ذاتها من منظور اجتماعي-نفسي .
إن الاستشراق يرضي عند الكثيرين من أصحابه نزعات التعصب التي يمارسها المنتمون إلى ثقافة معادية دينيا، وأحيانا عنصريا، لثقافة أخرى، وكذلك نزعات الاستعلاء التي تشعر بها ثقافة متفوقة نحو ثقافة أصبحت في المرحلة التاريخية الراهنة أضعف منها بكثير، ولكن هذا جانب واحد من صورة شديدة التعقيد، فلنرجئ الكلام إلى موضع لاحق عن ظاهرة التعصب ولنتأمل الأشكال المختلفة المباشرة وغير المباشرة التي تتخذها نزعة الاستعلاء.
Unknown page