-58- عدله ، وهو في الأصل من دين الله الني لا يختلف فيه ، فليس له أن يرجح بعد ذلك العلم إلى الجهل ، ولا بعد اليقين إلى الشك ، ولا بعد ذلك الهدى إلى الضلال ، وقد قال الله - تبارك وتعالى - : ( فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون)(1) . ، فعلم المرء عليه أوجب حجة من علم العالم الذي يقوم عليه بما يسعه جهله ، لأن العالم فيما يسعه جهله قد جاء فيه الاختلاف ، وما جاء فيه الاختلاف فلا يحكم قيه بأحكام الدين ، وهذا ما لا نعلم فيه اختلافا ، ولو كان علم ذلك من لسان صبي أو معتوه أو مشرك أو أعرابي جلف ، أومن أثر مرسوم بلفظ معلوم مفهوم ، فعرف ذلك وعقله كما عقل المتعلم الأشعار ، كسبعية امرؤ القيس من سبعية طرفة بن العبد من غيرهما من السبعيات وغيرها من الأشعار ، أنها ليست بسبعية امرؤ القيس ، فيسمع من يقول إن سبعية طرفة بن العبد هي من قول امرىء القيس ، أو يقول إن سبعية امرىء القيس هي من قول طرفة بن العبد لم يجز لهذا السامع بعد أن قد صح معه وعرف بما لا يشك فيه ، أن هذا القائل كاذب في قوله ، إلا أن يشهد عليه أنه كاذب ، لأنه يعلم أن جميع العلماء بالأشعار والأخبار يشهدون معه على كذب هذا القائل ، ويشهدون معه على صدق نفسه ، وهذا ليس من أمر الدين ، وأمثال هذا مما يطول وصفه كثير، مثل أنه يسمع من يقول إن أبا جهل عمرو بن هشام وعتبة و شيبة ابني ربيعة قتلوا يوم حنين في محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتلوا يوم بدر وإنما قتلوا بحنين ، وليس ذلك من أصول الدين ، ولكنه قد علم أن هذا كاذب فيما قد صح معه باليقين أن هؤلاء كلهم لم يقتلوا يوم حنين ، وإنما قتلوا يوم بدر قبل يوم حنين ، هل كان يجوز لهذا أن يشك في كذب هذا القائل ، في مخالفته للحق الذي عرفه و الصدق الذي عرفه ، ولا يجوز له ذلك ولا يسعه ، فكيف إذا علم شيئا من أحكام الدين والحق من أحد من العالمين ، فعرف ذلك ولم يشك فيه ، فكيف يجوز له أن
-59-
__________
(1) - الآية ( 32) من سورة يونس.
Page 59