وهو الأمر الذي يؤخذ على باحث في وزن موسكاتي؛ فدليله واضح التحيز وبين القصور؛ لأنك لن تحفر الأرض في أي موطن في الشرق الأوسط، إلا وتجد قرى وبلادا عفى عليها الزمان، بعد تدميرها على يد أقوام أخرى، ومعلوم أن منطقة الشرق الأوسط كانت تموج لمدى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد بالحركات البشرية والهجرات، ومعلوم أيضا أن فلسطين نالها النصيب الأكبر من اصطراع تلك الجموع البشرية الهائلة، لموقعها الجغرافي المركزي في بطن المنطقة؛ وعليه فإن وجود قرى مدمرة في طبقات الحفائر بفلسطين لا يشير بالشرط والقطع إلى بني إسرائيل تحديدا في الزمن الذي يشير إليه، وكون فلسطين كانت طوال تاريخها معبرا لجميع الشعوب المهاجرة، وساحة لمعارك الإمبراطوريات الكبرى المتصارعة دوما (مصر، أشور، بابل، الحيثيين)، كفيل وحده بجعل فلسطين تنال نصيبا أوفر من الدمار المتواصل، أكثر من مواضع أخرى كثيرة في الشرق القديم.
هذا بينما يذهب باحث آخر هو «أحمد سوسة» إلى تقسيم التاريخ الإسرائيلي إلى أدوار ثلاثة، يعتمد ذات خط «موسكاتي»؛ أقصد نظرية المواطن التي تقاسمت حركة التبدي للجماعة الإسرائيلية، لكنه يخالفه في تزمين تلك المراحل طولا أو قصرا؛ فالدور الأول يبدأ بهجرة النبي إبراهيم عليه السلام، مع قبيلته، من «أور الكلدانيين» جنوبي بلاد الرافدين، لكنه يمد هذا الدور زمنيا لينهيه باستقرار الإسرائيليين في مصر. حتى يزعم أنه بعد هبوطهم مصر، اندمجوا كلية في البيئة المصرية، بعد قضاء ستة قرون كاملة هناك (وهو تقدير خاص بأحمد سوسة). لكن مسألة الاندماج التام رأي له وجاهته، في ضوء ما يعرفه التاريخ، عن قدرة مصر الفذة في امتصاص الغرباء وتمصيرهم، في أزمنة أقصر بكثير من المدة المزعومة لبقاء الإسرائيليين بمصر. ثم ينتقل «سوسة» بعد ذلك إلى الدور الثاني، الذي يبدؤه النبي موسى عليه السلام وجماعته ، في نزوحهم من مصر إلى فلسطين، ويذهب في ذلك إلى رأي فريد؛ فيقول: إن رحلة الخروج التي أسهب في روايتها الكتاب المقدس، وتعتبر حجر الزاوية في البناء التاريخي لإسرائيل بكامله، ليست سوى «حملة مصرية، مؤلفة من جماعة من المصريين، وبقايا الهكسوس، يدينون بدين التوحيد، الذي ورثوه عن إخناتون فرعون مصر، واضطروا تحت ضغط الوثنيين واضطهادهم إياهم إلى الهروب من مصر، والتوجه إلى أرض كنعان.»
بل ويذهب «سوسة» إلى أن هؤلاء الخارجين لا ريب كانوا «يتكلمون باللغة المصرية، وبها كلمهم موسى على وجه التأكيد، وقد نسبت التوراة هذه الحملة إلى بني إسرائيل؛ بغية ربط هذه الجماعة بيعقوب وبإبراهيم الخليل، كما نسبت موسى إلى كهنة بني لاوي بن يعقوب، في حين أن الرأي الغالب لدى الباحثين في هذا العصر، هو أن موسى كان قائدا في بلاط إخناتون، يدين بدين التوحيد الذي دعا إليه إخناتون. ورواية التوراة نفسها تشير إلى أن موسى تربى مصريا في بلاط فرعون، واتخذته ابنة فرعون ابنا لها (خروج، 2: 10)، ثم تزوج من امرأة كوشية (زنجية) (عدد، 12: 10)؛ فلو كان لاوي في الوجود زمنه، لتزوج إحدى بنات عمومته. ومن الثابت لدى العلماء، أن اسم موسى اسم مصري صميم، تسمى به أباطرة عصر الإمبراطورية: أحمس أو «أح موسى» تحوتمس أو «تحوت موسى»، رعمسيس أو «رع موسى»، أما لغة هذه الشريعة فالأرجح عندنا أنها كانت باللغة المصرية، وقد أخذت جماعة موسى بالحضارة الكنعانية وتقاليدها وعاداتها، كما أخذت بلغتها الكنعانية ... أما لغتهم التي صارت تسمى بالعبرية في وقت لاحق، فهي إحدى اللهجات التي اقتبسوها من الآرامية، وقد تكونت بمرور أكثر من ستمائة عام على دخولهم أرض فلسطين وبها كتبت التوراة في بابل بعد عهد موسى بثمانمائة عام، وبعد عدة قرون اقتبست هذه الجماعة الكثير من أسس الديانة والعبادة الكنعانية، وصارت جزءا من ديانتها.»
19
ثم ينتقل «سوسة» إلى الدور الثالث من أدوار التاريخ الإسرائيلي ، فينتقل مع بني إسرائيل إلى موطن ثالث، يبدأ بسبيهم من فلسطين إلى بابل على يد «نبوخذ نصر الثاني الكلداني»، وذلك حوالي عام 586-539ق.م؛ حيث أقاموا في بابل إقامة أدت إلى تطور هائل في العقيدة اليهودية خلال القرون التالية، كما كان لتلك الإقامة أهمية أخرى؛ فقد دونت في بلاد الرافدين - أثناء الأسر - أهم فصول التوراة. ويذهب «سوسة» إلى أنه ربما كان في حوزتهم، نسخة من وصايا موسى الأصلية، المكتوبة بالهيروغليفية، قدمت لهم المادة الأساسية والخام، لعملهم بالكتاب المقدس.
20
ثم نجد لونا آخر من تقسيم التاريخ الإسرائيلي، لا يعتمد خط الحركة المهاجرة ولا يأخذ باعتباره المواطن الجغرافية للحل والترحال، إنما يربط بين أدوار التقسيم، وبين تبادل الأحداث التي مرت بالجماعة الإسرائيلية، وكانت ذات أثر جوهري في حدوث نقلات تاريخية، حولته تحولا كبيرا؛ بحيث أصبح ذلك بمثابة الانتقال من دور إلى آخر، مع أخذه بالحسبان، شكل الحياة، أو نمطها السائد، ومدى ما دخلها من تغيرات نقلتها من دور إلى دور آخر في التاريخ، وهو ما نجد نموذجا له عند «أنيس فريحه» حيث يقول: «مر العبران في خمسة أدوار رئيسية: (1)
دور البداوة: حيث كانوا من جملة القبائل السامية المنتشرة في شمالي الجزيرة العربية، ولم يكونوا موحدين، لكنهم كانوا في طريقهم نحو التوحيد، وأصبح أحد ألهتهم - يهوه - قائدهم في الحروب، الإله الأول. وكان يهوه إله قبيلة قليلة العدد ضيقة الآفاق، وكان يتميز بكثير مما تتميز به آلهة الصحراء؛ فقد كان إلها غيورا يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، للجيل الثالث والرابع، كان صارما شديدا، حتى إنه لم يرد أن يرسم له رسم أو نحت، خوفا من المنافسة، ولكن هذا الإله الصحراوي أصبح على يدي الأنبياء أمثال إشعيا وعاموس وميخا، إلها عالميا يأمر بالمحبة والعدل. (2)
دور التكوين القومي والسياسي: وهو طور استقرارهم في كنعان، بعد أن دخلوا أسباطا وعشائر تحت إمرة شيوخهم وقضاتهم، ولم تخضع البلاد لهم برمتها، بل ظلوا يكافحون فيها قرونا يحاربون، حتى دانت لهم من دان إلى بئر سبع، وكانت الحضارة الكنعانية أرقى من حضارتهم، وكذلك كانت لغة الكنعانيين أرقى من لغتهم، فاقتبسوا لغة البلاد واندمجوا في حضارتها وتكونت على مر الأجيال قومية عبرية، ... وتأسست الملكية ... ونعموا بفترة استقرار ورخاء دامت أكثر من تسعين سنة، ثم إنهم ما لبثوا أن انقسموا على ذواتهم؛ قسم شمالي عاصمته بالقرب من نابلس الحديثة، وقسم جنوبي عاصمته أورشليم، وفي هذه الفترة، نشأ صراع عنيف بين يهوه وبين آلهة أخرى زراعية، وقام نزاع بين كهنة البعل وكهنة يهوه، واشتد الصرع بين العادات الصحراوية القبلية، وبين العادات الزراعية الحضرية. (3)
دور السبي: في سنة 721ق.م وقعت المملكة الشمالية إسرائيل في قبضة الآشوريين، فخربوا العاصمة، وأجلوا قسما كبيرا من السكان إلى العراق، وفي عام 586ق.م، وقعت المملكة الجنوبية في قبضة البابليين، وخربوا العاصمة، ودكوا معالم الهيكل، وأجلوا السكان إلى بابل. (4)
Unknown page