7
لسان غالبه بالعادة والإلف والمصلحة، هكذا كان الناس منذ عرف تاريخهم، وما خرجوا عن كونهم أبدا بين غالب ومغلوب، يلذهم أن يزينوا أنفسهم بالتخاطب مع من نزل عليهم أو نزلوا عليه، وهذا هو المشاهد اليوم في لغات الأمم الكبرى، فإنها تنتشر في البلاد التي اتصلت بإحدى الصلات مع أمة غالبة أو دخيلة، رأينا ذلك في شمالي إفريقية مع اللغة الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وفي الهند ومصر مع اللغة الإنكليزية، وفي جزائر جاوه وما إليها مع اللغة الهولاندية، فإذا لم تكن لأمة حاجة تجارية أو سياسية تدعوها إلى تعلم لسان من نزلوا عليها، فإنها تحاول تعلمه كأنه أداة من أدوات الظرف والزينة.
انتشار العربية في أقطار وتراجعها في أخرى
كانت العربية تتأصل على أيسر سبيل في البلاد، بحسب قربها وبعدها من جزيرة العرب، وكان من أول الأقطار التي دخلت فيها الشام فالعراق ثم فارس ومصر، انتشرت فيها بعد تصرم جيلين من الناس، إلا فارس فإنها على ما يظهر قد أظهرت الخضوع وأضمرت غيره؛ فمنهم من دخلوا في الإسلام رغبة وطوعا كأهل خراسان، ولكن المجوسية بقيت غالبة عليهم إلى القرن الرابع، فلم تكن ناحية ولا مدينة تخلو من بيوت النيران، وظل المجوس أكثر الأمم بها،
8
وإن غدت عواصم فارس كأصفهان ومرو ونيسابور والري وطبرستان وهمذان من المغرمات بالعربية، ونشأت فيها طبقات مهمة من الأدباء والعلماء من القرن الثالث إلى السابع، ولكن فارس وإن لم تعص العرب والعربية ظاهرا فقد عصتها باطنا، وكأن عمر بن الخطاب شعر بهذا في أيامه فقال: «اللهم لا تدركني أبناء الهمذانيات والاصطخريات، وعدد قرى من قرى فارس، الذين معهم قلوب العجم وألسنة العرب.» وفي الحق أن أهل فارس لما أتى الإسلام كانوا كما قيل: كنار أخمدت، وكرماد اشتدت به الريح فمزقوا كل ممزق.
وعلى كثرة ما كان في بلاد الفرس أيام الدولة العباسية من مراكز العلم، كانت اللغة العربية لا تعرف إلا في أندية الخاصة، وهي اللغة الرسمية واللغة العلمية، أما البادية فكانت بمعزل عنها على ما يظهر؛ ولذلك حفظت فيها الفارسية كما حفظت الكردية، وكانت أحياء الأكراد
9
في القرن الرابع في فارس تزيد على خمسمائة ألف بيت شعر، ولسان أهل أذربيجان وإرمينية الفارسية والعربية وقل من يتكلم بهما، فمن يتكلم بالفارسية لا يفهم العربية، ويفصح بها من التجار وأرباب الضياع، وهناك لغات لا تزال إلى اليوم كما كانت منذ تسعمائة سنة ونيف.
وأصبحت دولة العرب مدة ثلاثمائة سنة الدولة الحية الوحيدة دون سائر الدول المعاصرة لها في العالم، وكادت لغتها القومية تكون لغة دولية أيضا، وانتشرت العربية في جنوبي أوروبا وجزرها المشهورة، انبعثت جذوتها في تلك الأرجاء بعد استيلاء العرب على الأندلس؛ فانتشرت في شبه جزيرة إسبانيا، وفي جزر ميورقة ومنورقة ويابسة المعروفة اليوم بجزائر الباليار، ولم يكتب أن كانت للعربية سوق في جزيرة سردانية، وإن استولى عليها العرب سنة 92 على نحو ما كان في جارتها صقلية؛ لأنه لم ينزلها العرب للاستيطان، ولا قامت بها دولة لهم كصقلية، وقد دامت العربية معروفة بل رسمية فيها إلى ما بعد خروج العرب منها، ولم يبق للعربية في الأندلس من أثر بعد جلاء العرب الأخير في سنة 1016ه، وفي خلال ذلك منع العرب من تكلم العربية، وأصبح من آثروا التنصر على الخروج من أرضهم يكتبون الإسبانية بحروف عربية سموها الخميادو، أي الأعجمي.
Unknown page