1 - قوة غالبة
2 - وقوة صامدة
3 - عقيدة شاملة
4 - الإسلام والمسلمون في القرن التاسع عشر
5 - أمم غير مستقلة
6 - أمم أخرى
7 - الدعوات ونهضات الإصلاح
8 - المصلحون والمعلمون
9 - الساسة المصلحون
10 - الدعوات ونهضات الإصلاح في منتصف القرن العشرين
11 - في نظر الغرب
12 - آسيا وأفريقيا
13 - لو عاد محمد عليه السلام
14 - التراث الإسلامي ووسائل إحيائه في هذا العصر
15 - الغد
1 - قوة غالبة
2 - وقوة صامدة
3 - عقيدة شاملة
4 - الإسلام والمسلمون في القرن التاسع عشر
5 - أمم غير مستقلة
6 - أمم أخرى
7 - الدعوات ونهضات الإصلاح
8 - المصلحون والمعلمون
9 - الساسة المصلحون
10 - الدعوات ونهضات الإصلاح في منتصف القرن العشرين
11 - في نظر الغرب
12 - آسيا وأفريقيا
13 - لو عاد محمد عليه السلام
14 - التراث الإسلامي ووسائل إحيائه في هذا العصر
15 - الغد
الإسلام في القرن العشرين
الإسلام في القرن العشرين
حاضره ومستقبله
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
قوة غالبة
كان التقليد التاريخي في القرن السادس للميلاد أن تتقاسم العالم المعمور دولتان كبيرتان، كلتاهما حرب للأخرى تنافسها ولا تأمنها، ولا تهدأ عن حربها فترة من الزمن إلا ريثما تستعد لمعاودة الكرة بقوة من الجند والسلاح أعظم من القوة التي جردتها عليها في حروبها الأولى.
وكانت الدولتان المتنافستان في ذلك القرن؛ دولة المشرق وهي دولة الأكاسرة، ودولة المغرب وهي دولة القياصرة: فارس وبيزنطة، ولا ثالثة لهما في العالم المعمور بين القارات الثلاث.
جهدت كل من هاتين الدولتين ألا تدع بقعة من البقاع المعمورة في القارات الثلاث بعيدة من سلطانها أو قادرة على عصيانها.
وكانت بينهما صحراء جرداء تحفل الدولتان بما حولها، ولا تكترثان لما يجري في داخلها، وامتد سلطان كل منهما إلى الجانب الذي يليه؛ فاتخذت فيه أتباعا يطيعونها، ويحتمون بها، ويلوذون بجوارها: فارس تسيطر على الحيرة واليمن، وبيزنطة تسيطر على أرض غسان والبتراء، وتهم أن تنصب لها أميرا على الحجاز يدين لها بالولاء، ويحرس لها طريق الشام من أوله في الجزيرة العربية، ثم لا يعنيها الأمر عناية جد تنتهي فيه إلى عمل فاصل تجاوز به التردد والشروع، فليس الأمر من الخطر عندها بحيث تفرغ منه على قرار.
أما الخطر الذي فرغت له كلتا الدولتين : فهو الخطر من إحداهما على الأخرى، والخطر من قبل النهرين في العراق، ومن قبل النهر الكبير في وادي النيل. فلم تكن بقعة من هذه البقاع قد خلت طويلا من جنود الدولتين منتصرين أو منهزمين، ولم تزل الحرب بينهما سجالا في هذه الأودية وما جاورها، ولم تزل كل منهما على أمان من قبل الجزيرة الجرداء.
نعم، كان جيش من الفرس قد انهزم في وقعة «ذي قار» على طرف من أطراف تلك الجزيرة، ولكنها هزيمة حرس في ولاية كما تخيلوها، وليست هزيمة دولة تنازل قرنا لها من دولة أخرى جديرة بالخوف منها وحفز الهمم للتغلب عليها، ومثلها في عصورها الحديثة كمثل الهزائم التي أصيبت بها الدولة البريطانية يوم كانت تدعى سيدة البحار أو يوم كان القائلون عنها يقولون: إن الشمس لا تغيب عن أملاكها؛ هزائم تارة في حدود الأفغان أو عند أعالي النيل أو على طرف القارة السوداء في الجنوب، ولكنها تنهزم فيها وتبقى بعدها سيدة البحار أو غالبة على كرة الأرض بين مشارقها ومغاربها.
وكذلك كانت فارس بعد وقعة ذي قار، فلم تتبع هزيمتها بحذر أو احتراس من تلك الجهة، وظلت على عهدها من الحذر حيث تخشى الخطر، فلا ترفع عينها عن بيزنطة وأتباعها في أودية الأنهار أو بين أرجاء الهلال الخصيب، ولا تحسب هي ولا صاحبتها بيزنطة أن ثمة خطرا عليهما قط متوقعا من جهة الجنوب.
فلما جاء كسرى رسول من قبل هذا الجنوب، وسأل عن شأن هذا الرسول، فقيل له: إنه نبي في العرب يدعوه إلى دينه، ضحك غاضبا أو غضب ضاحكا، وأمر من يذهب إلى ذلك النبي الجسور فيأتيه به حيا أو ميتا، ليلقى جزاءه على هذه الجسارة التي اجترأ بها على الشاهنشاه ملك الملوك.
ولما تسامع القوم في الجزيرة العربية أن ذلك النبي يهم أن يحارب القيصر في عقر داره سخروا وقالوا فيما بينهم: عساه يحسبها غزوة من غزوات البادية.
لا بل قيل ذلك، أو شبيه ذلك، وبعد ثلاثة عشر قرنا من القرن السادس الذي استعظموا فيه ما استعظموا من جرأة النبي العربي على عروش الأكاسرة والقياصرة، فكان من المؤرخين المحدثين من كتب تاريخ الوقائع التي دارت بين أتباع ذلك النبي وبين جبابرة الفرس والروم، ومن كتب في تاريخه هزيمة أولئك الجبابرة أمام أولئك الأتباع، ولكنه حين روى النبأ عن رسل النبي إلى كسرى وقيصر رواه وهو يتعجب، ويقول شبيها لما قيل يومئذ قبل النصر والهزيمة: عساه يحسبها غزوة من غزوات البادية، أو عساه قد زهاه النصر في مكة والمدينة فلم يدر ما المدائن وما القسطنطينية وراء الرمال والبحار.
إن أعجب العجائب لما ينقضي على وقوعه مئات السنين، ثم يتعاظم من يرويه حتى ليوشك أن يرتاب فيه.
وكان ما جرى للدولتين - الفرس والروم - يومئذ أعجب العجائب في تواريخ الدول من قديم وحديث؛ فقد هزمت الدولتان معا في بضع سنوات، ولم يأت الخطر عليهما من مكان تتوقعان خطره إحداهما أو كلتاهما، بل جاء من المكان الذي هان شأنه حتى لم يحسب له حساب.
جاءت القوة التي هزمت الدولتين في وقت واحد من وراء الرمال، أو قل من وراء المجهول، أو من وراء الغيب، ولا تعدو الحق فيما تقول.
قوة غالبة لم تصمد لها قوة.
قوة نجمت من حيث لا مخافة ولا مظنة، فما هي تلك القوة؟ وليست هي قوة دولة ولا قوة سلاح!
قيل فيما قيل: إنها خشونة البادية غلبت ترف الحضارة ونعمة الرخاء، ولكن الدولتين اللتين انهزمتا معا قد كانتا تحكمان الملايين ممن لا يعرفون من العيش غير خشونته وشظفه، وكانت فارس تحكم من حولها قبائل لم تعرف غير الجبال، والقتال، وكانت بيزنطة تحكم على تخومها أشباه تلك القبائل في خشونتها وقوة مراسها، وظلت تحكمها وتهزمها كلما أغارت عليها من غربها أو شمالها، وبعد أن تلاحقت هزائمها في وقائعها مع أبناء البادية العربية، وسلمت بالهزيمة بعد الهزيمة تسليم الخيبة والاضطرار.
وقيل فيما قيل: إنه احتقار العرب للعجم، وكل الناس عجم عند من ينطقون بالضاد.
ولكنه سلاح كان ينبغي أن يصدق من الجانبين، أو يغلب به العجم في بعض ميادينهم إن لم يغلبوا به في الميادين كافة حيثما التقى الخصمان المتساويان في ذلك السلاح، بل لعل العجم كانوا أشد احتقارا للعربي في تلك الحقبة على التخصيص، وقد حدث في إحدى وقعات العراق أن زعيما عربيا ممن يلوذون بدولة فارس عرض على مهران قائد الفرس أن يتولى عنه حرب خالد بن الوليد؛ لأن العرب أعلم بقتال العرب، فغضب جنود مهران؛ لأنهم سمعوه يقول لذلك الزعيم العربي: «صدقت. لأنتم أعلم بقتال العرب، وأنتم مثلنا في قتال العجم»، وثاروا به يستعظمون أن يقول «لذلك الكلب» ما قال، ولم يرضوا عن هذه المجاملة لمن يريد نصره حتى قال لهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغكم أعداؤكم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء».
ألا إن هذا «الاحتقار» سلاح موفور في المعسكرين، فإن كان للعرب نصيب كبير منه، فما كان عند العجم منه فهو نصيب غير صغير.
على أن العرب الذين حاربوا الفرس والروم وانتصروا عليهم لم يكونوا جميعا من أبناء البادية ولا من الناشئين على الشظف والشدة، بل كان منهم أبناء نعمة وثراء، وكان قائدهم الأكبر - خالد بن الوليد الذي قال الزعيم العربي لقائد الفرس مهران إنه أعلم بقتاله - مخزوميا من أغنى السروات في بني مخزوم ذوي الجاه العريض والثراء المستفيض؛ إذ كان جده - كما ذكرنا في سيرته - المغيرة بن عبد الله الذي كان الرجل من بني مخزوم يؤثر أن ينسب إليه فيسمى المغيرة تشرفا بالانتساب إلى الفرع الذي أناف على الأصول، وكان أبوه الوليد بن المغيرة الملقب بالعدل وبالوحيد؛ لأنه كان يكسو الكعبة وحده سنة، وتكسوها قريش كلها كسوة مثلها سنة أخرى، وكان عمه هشام قائد بني مخزوم في حرب الفجار، وبوفاته أرخت قريش كما تؤرخ بالأحداث العظام، ولم تقم سوقا بمكة ثلاثا لحزنها عليه، وكان عمه الفاكه بن المغيرة من أكر العرب في زمانه، له بيت للضيافة يأوي إليه من شاء بغير استئذان، وكان عمه أبو حذيفة أحد الأربعة الذين أخذوا بأطراف الرداء، وحملوا فيه الحجر الأسود إلى موضعه من الكعبة، كما أشار النبي عليه السلام قبل الدعوة الإسلامية. أما الذي فض النزاع بين القبائل على هذا الشرف حين آذن التنافس بينها بالشر المستطير فهو عم آخر من أعمامه، وهو أبو أمية بن المغيرة الملقب بزاد الراكب كما جاء في بعض الروايات، فقد أشار عليهم أن يكلوا الحكم إلى أول داخل من باب المسجد؛ ليختار من بينهم من يرفع الحجر إلى مكانه، فارتضوا مشورته، وتم صواب المشورة بتوفيق البشارة النبوية قبل إهلالها على العالم بسنين، ولقب أبو أمية زاد الراكب؛ لأنه كان يكفي أصحابه في السفر مئونتهم فلا يتزودون بزاد، ولا يتم الكلام على تراث بني مخزوم حتى نضيف إلى مزاياهم المختلفة مزية ملحوظة لها شأنها في كل مجتمع إنساني، وليس شأنها بالقليل في حياة خالد على التخصيص. فقد كانت هذه القبيلة على كثرة الأقطاب بين رجالها مشهورة بجمال النساء بين الحواضر العربية، وبقيت لها هذه الشهرة إلى ما بعد قيام الدولة العباسية؛ إذ كان يقال لأبي العباس السفاح: «إن المخزوميات رياحين العرب، وعندك منهن يا أمير المؤمنين ريحانة الرياحين.»
فإذا كان المقصود بترف الروم والفرس ترف الطبقة التي يخرج منها القادة والسادة فليس في قادتهم من أحاطت به نعمة الثراء كما أحاطت بقائد المسلمين الأكبر في حربهم للدولتين، وهو الذي سماه صاحب الدعوة الإسلامية بسيف الإسلام.
ولا ننسى أن الجيوش الإسلامية لم تصل إلى ميادين العراق وفلسطين حتى كانت قد انتصرت على جيوش عربية من البدو والحضر قد نشأت مثل نشأتها، وتدربت على القتال مثل دربتها، وعرفت من الترف والخشونة مثل ما عرفته في بداوتها وحضارتها.
ولا ننسى أن الظاهرة قد تكررت حيث لا عرب ولا روم، وحيث كان الفرس في صفوف المنتصرين مع أمراء الإسلام، ففي القرن الثاني عشر للميلاد كان السلطان محمد غوري الأفغاني يحارب قبائل «راجبوت» الهندية التي اشتهرت بالشجاعة والفروسية في العالم القديم من أقصى الديار الآسيوية إلى أقصاها، وكان على رأسهم قائدهم «برتوي» الذي قيل عنه: إنه لم يعرف الهزيمة قط في منازلة قرين، فانتصر الجيش الأفغاني بمن فيه من الأفغانيين والأتراك والفرس على جيوش الراجبوت بعد حرب زبون كان النصر فيها سجالا بين الفريقين، وأوشك الأمير الغوري أن يقع في إحدى معاركها أسيرا مثخنا بالجراح في قبضة عدوه العنيد.
وتكررت الظاهرة في المغرب؛ حيث كان المنهزمون من قبائل البربر التي لم تعرف في تاريخها القديم غير الخشونة والقتال، وكان تكرارها في مواطن شتى دليلا على أن القوة التي انتصر بها دعاة الإسلام لم تنبعث فيهم من خشونة البادية العربية، ولا من هوان شأن العجم على العرب، ولا حاجة إلى قول قائل: إنها لم تنبعث من بأس الملك ولا من عدة السلاح.
فلا مناص إذن من الرجوع بها إلى السبب الذي اتفق عليه المؤرخون أو كادوا بعد التعلل لها بجميع الأسباب.
لا مناص إذن من الرجوع بها إلى العقيدة التي حفزت أولئك المجاهدين على اختلاف الأقوام والأزمان.
غير أن الرجوع بها إلى العقيدة لا يختم المطاف، ولا يغني عن مزية في هذه العقيدة تمتاز بها بين العقائد الكثيرة التي سبقتها أو لحقت بها، ولم تنبعث منها قوة كهذه القوة، ولا ظاهرة كهذه الظاهرة بعد تجريدها من العوامل الأخرى.
فما كانت جيوش الروم ولا جيوش الفرس خلوا من عقيدة يؤمنون بها ويقبلون على الموت في سبيلها، وما كانت قبائل الهند أو آسيا الوسطى تجهل الدين أو تهمله في معيشتها اليومية فضلا عن المراسم التي تصحب المتدين من مولده ولا تفارقه مدى الحياة.
أيقال إنها دفعة الدين الجديد ميزت عقيدة الإسلام على سائر العقائد في ذلك التنازع بين الدول والأديان؟
إن دفعة الدين الجديد ولا شك سبب لا يهمل في هذا المقام، وقد يسبق إلى الخاطر لتفسير قوة الدعوة في القرن السابع للميلاد وفي القرن الثاني عشر يوم كان القائمون بالدعوة في آسيا الوسطى أقواما من الأفغان والترك دخلوا حديثا في الدين.
لكن كم عقيدة جديدة صنعت مثل هذا الصنيع؟ وكم ظاهرة كهذه الظاهرة تكررت في تواريخ الدول والأديان؟
الفصل الثاني
وقوة صامدة
إن العقيدة الإسلامية لم تكن قوة غالبة وحسب في إبان النشأة والظهور، ولكنها كانت قوة صامدة بعد مئات السنين، ولا بد من تفسير لهذه القوة الصامدة كما لا بد من تفسير لتلك القوة الغالبة، فإن القوة التي تصمد كالقوة التي تغلب في حاجتهما إلى التفسير، أو لعل القوة التي تصمد أولى بالتفسير من القوة الغالبة؛ لأنها تدافع فتقوى على الدفاع حيث لا عدة عندها للغلبة في معترك الصدام والصراع.
وصمود القوة الإسلامية في أحوال الضعف عجيب كانتصارها في أحوال الشدة والسطوة، ولا سيما الصمود بعد أكثر من عشرة قرون.
ولقد تداولت الدول بقاع الأرض من القرن السابع للميلاد إلى العشرين: قامت دول إسلامية ثم انهارت أمام المنافسين من أبناء دينها أو أبناء الأديان الأخرى، وحدث في فترة من الزمن خروج المسلمين من أوروبا الغربية ودخولهم إلى أوروبا الشرقية، ودالت دولة دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة، وقامت دولة الآستانة أو إسلامبول، ثم ظلت وحدها هذه الدولة كفؤا للدول الأوروبية مجتمعات أو متفرقات حتى تداعت أركانها وتصدع بنيانها، وبقيت قائمة لاختلاف الطامعين في ميراثها على تقسيمها، وتلاحقت الضربات على البلاد الإسلامية بين هزيمة واضطهاد وتمزيق وتفريق حتى تمكن منها المستعمرون فلم تبق منها واحدة تنعم بقسط من حرية الحكم وسيادة الاستقلال، ومن كان منها مستقلا كالدولة العثمانية أو الدولة الإيرانية أو الدولة الحسينية بالمغرب الأقصى كان افتيات المستعمرين على حقوقها أشد وأقسى من افتياتهم على البلاد التي فقدت حريتها واستقلالها، وانقضى القرن التاسع عشر كله والأمم الإسلامية مخذولة متخاذلة، والدول المستعمرة غالبة متحكمة، وخيل إلى الناظرين أن الحاضر والمستقبل جميعا للاستعمار، وأنه قد جمع القوة والعلم والحضارة فلا نجاة من قبضته للذين حرموا القوة والعلم والحضارة، وأصبحوا في كل منها عالة على المستعمرين.
ثم انتهى القرن التاسع عشر، فكيف رأى الناس منتهاه؟
الاستعمار يتراجع، ولا يظفر بغناء من سلطان المال والعلم والسلاح.
والإسلام تبرز له دولتان في آسيا عداد المسلمين في كل منهما يزيد على سبعين مليونا، وهما دولتا إندونيسيا والباكستان، وسائر الدول في آسيا وأفريقيا تقترب من الحرية وتبتعد من ربقة العبودية، وهذه هي قوة الصمود بعد أربعة عشر قرنا من الدعوة المحمدية، لا ينظر المؤرخ في أطوارها على تعدد ظواهرها وأدوارها إلا وجب عليه أن يفترض لها سرا عجيبا كذلك السر العجيب في صدر الإسلام: سر الغلبة من حيث لا تنتظر الغلبة على دولتي العالم في خمس سنوات.
إن قوة الصمود هنا لعجيبة كقوة الغلبة هناك، ولعلها - كما قدمنا - أعجب من قوة الغلبة؛ لأنها تملك الدفاع، ولا مال لديها ولا سلاح ولا علم ولا معرفة، لا بل تملك الدفاع ولا اتفاق بينها على الدفاع.
وندع الصراع في مجال الدول المتداولة بين السطوة والخضوع وبين النصر والهزيمة، فإن قوة العقيدة الإسلامية قد سرت مسراها في أرجاء العالم بمعزل عن حروب الدول وسياساتها، وعن عروش العواهل وتيجانها، وفي أفريقيا اليوم مائة مليون مسلم لا شأن في إسلامهم لدولة أو سياسة، وقريب من هذا العدد مسلمون في السومطرة وبلاد الجاوة، وقريب منه في الباكستان، وقد يكون في الصين وما جاورها عدة كهذه العدة من الملايين.
وهؤلاء جميعا سرت فيهم عقيدة الإسلام بمعزل عن حروب الدول وسياساتها، وعن عروش العواهل وتيجانها، أو كان للدول والسياسات شأن في إسلامهم من بعيد متقطع غير موصول ولا مقصود، ولعله لو انحصر الأمر فيه لا يكفي لإسلام عدة من الناس تحسب بالألوف والمئات، ولا ترتفع إلى عشرات الملايين فضلا عن مئات الملايين، ولو حسب جهاد المجاهدين في سبيل إسلامهم بعدد الرءوس التي سقطت في ميدان القتال؛ لكان الرأس الواحد هنا عدلا في كفة الميزان الأخرى لمئات الألوف.
هذه القوة، غالبة وصامدة، تتطلب تفسيرا غير كلمة العقيدة مجردة من خواصها ومزاياها، ولا غنى لها عن مزية تهيأت لها ولم تتهيأ للعقائد الأخرى التي لم يعرف عنها مثل هذه الغلبة ومثل هذا الصمود، وتلك حقيقة فطن لها الباحثون في انتشار الإسلام من أصدقائه وأعدائه على السواء، فذهبوا جميعا يلتمسون الدواعي التي يسرت لهذه الدعوة ما لم يتيسر لغيرها، وهم متفقون على انفرادها بالمزية الخاصة مختلفة في بيان تلك المزية على حسب اختلاف النية واختلاف الرغبة في الحمد أو المذمة، ومنهم مبشرون يلجئون إلى المزايا التي تعينهم على الاعتذار كلما وضح عجزهم عن تحويل المسلمين من دينهم أو وضح عجزهم عن مجاراة الدعاة الإسلاميين في نشر دينهم بغير مشقة وبغير كلفة من المال والعتاد، ووسائل التدريب والتنظيم.
فمن أسباب انتشار الإسلام في القارة الأفريقية - عند فريق من هؤلاء الباحثين أو المبشرين - أنه لا يمنع تعدد الزوجات، ولا يحول بين الرجل الأفريقي وطلاق زوجاته أو الاحتفاظ بما شاء منهن كما يشاء.
ومن أسباب انتشاره عند الباحثين في سرعة الإقبال عليه بين الهنود: أنه سوى بين الطوائف المنبوذة وغيرها من طوائف السادة والأشراف، فأقبل المنبوذون عليه زرافات، وبلغوا به من المكانة الاجتماعية ما لم يكونوا بالغيه بالعقيدة المفرقة بين الطوائف والطبقات.
ومن هذه الأسباب عند الباحثين في سرعة انتشاره بين الأندلسيين: أنه صادف ثمة شعبا فقيرا ساءت ظنونه بساداته من رجال الدنيا والدين، وأنكروا من أولئك السادات الدنيويين والدينيين تعاليا عليهم، واشتغالا عنهم بلذتهم وأبهتهم، فرحبوا بأصحاب الدين الجديد، ودخلوا في ملتهم؛ لأنها ملة لا تفرق بين السادة والعبيد.
ومن هذه الأسباب أنه دين بسيط سهل القواعد والأصول لا يحوج المتدين به بعد الإيمان بالوحدانية وفرائض العبادة إلى شيء من الغوامض والمراسم التي يدين بها أتباع العقائد الأخرى ولا يفقهون ما فحواها.
وهذه كلها - على أصح ما تكون - أسباب محلية أو أسباب موقوتة تصلح لتعليل انتشار الدين في بيئة معينة أو في زمن معين، ولكنها لا تلازم انتشاره في جميع البيئات والأزمان، ومشكوك مع هذا في صدق تعليل البيئة الواحدة كما قيل عن تعليل شيوع الإسلام بين الأفريقيين وقلة إقبالهم على العقائد التي تحرم تعدد الزوجات.
فليس تعدد الزوجات من اليسر بحيث يقدر عليه من أراده بين أولئك الأفريقيين، ومن كان منهم قادرا على تعديد زوجاته وسراريه فهو يعددهن حتى الساعة كائنا ما كان اعتقاده، أو كائنا ما كان دينه بين الأديان الكتابية، وسائر القوم من غير ذوي القدرة على الجمع بين الزوجات الكثيرات قلما يعنيه السماح له بزوجة أو أكثر من زوجة، وقلما يوجد في بيئته سجل يحصي عليه عقود الزواج والطلاق، وقد أجمع الرحالون على صعوبة الاستعداد للزواج وتدبير المهر المطلوب بين قبائل أفريقيا الوسطى، فلا يتأهل الشاب للبناء بالزوجة الواحدة إلا أن يكون ذا مال يحسب بما عنده من رءوس الماشية والأنعام، ومن المستغرب حقا أن يتخيل المرء أفريقيا يدخل في الدين ثم يخرج منه؛ لأنه حال بينه وبين البناء بزوجة جديدة غير التي ارتبط بها بعقد من العقود على أيدي رجال الدين، وأغرب من ذلك أن نتخيل الأفريقي الأعزب منتظرا متسائلا لا يدخل في الدين حتى يتبين ما يبيحه له أو يحرمه عليه من روابط الزواج.
وأيا كان أثر العلاقات الزوجية في انتشار الإسلام بين الأفريقيين، فمن المحقق أن هذه المسألة خاصة لم يكن لها شأن في منافسة الأديان الأخرى قبل القرن السادس عشر للميلاد، فإن تحريم تعدد الزوجات لم يرد في كتاب من كتب العهد القديم أو العهد الجديد، وكل ما ورد في الإنجيل أن القس ينبغي ألا يزيد على زوجة واحدة إن لم يكن بد من الزواج، وقد جمع شارلمان في القرن التاسع بين زوجتين، وزاد عدد زوجاته على خمس، كلهن بقيد الحياة غير من في القصر من السراري والزوجات «غير الشرعيات». واعترف قبل مماته بعشرة من أبناء هؤلاء عدا الثمانية الذين ولدوا له من زوجاته دسدراتا وهولجارد وفسترادا
1
وعدا الأبناء الذين ولدوا له ولم يعترف بهم؛ لأنهم كانوا على غير ما يحب من سمات الأمراء.
ومن الأوهام الشائعة كما قلنا في كتابنا عن الفلسفة القرآنية:«إن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي أباح تعدد الزوجات بين الأديان الكتابية؛ لأن الواقع الذي تدل عليه كتب الإسرائيليين والمسيحيين أن تعدد الزوجات لم يحرم في كتاب من كتب الأديان الثلاثة، وكان عملا مشروعا عند أنبياء بني إسرائيل وملوكهم فتزوجوا بأكثر من واحدة، وجمعوا بين عشرات الزوجات والجواري في حرم واحد، ورورى وستر مارك
Westermayck
العالم الحجة في شئون الزواج على اختلاف النظم الإنسانية أن الكنيسة والدولة معا كانتا تقران تعدد الزوجات إلى منتصف القرن السابع عشر، وكان يقع غير نادر في الحالات التي لا تعنى بها الكنيسة عنايتها بزواج الأسر الكبيرة، وكل ما حدث في القرن الأول للمسيحية أن الآباء كانوا يستحسنون من رجل الدين أن يقنع بزوجة واحدة، وخير من ذلك أن يترهب ولا يتزوج بتة، فكانت الفكرة التي ذهبت إلى استحسان الزواج الموحد هي فكرة الاكتفاء بأقل الشرور، فإن لم تتيسر الرهبانية فامرأة واحدة أهون شرا من امرأتين، وكانت المرأة على الإطلاق شرا محضا وحبالة من حبالات الشيطان، بل أخطر هذه الحبالات، واستكثر أناس من آباء الكنيسة وفقهائها أن تكون لها روح علوية، فبحثوا في ذلك، وأوشكوا أن يلحقوها بزمرة الحيوان الذي لا حياة له بعد فناء جسده.»
ومن الواضح أن هذه المسألة بذاتها - مسألة الزواج والمرأة - لم تكن من المسائل التي تسبق الدخول في دين من الأديان، وما من أحد في أفريقيا وفي سائر القارات رأى المسلمين منفردين بإباحة الجمع بين النساء في البيت الواحد، وما من وثني على الفطرة أباح له الإسلام كل ما يستبيحه من الشهوات على دين آبائه، وأولها المسكرات التي تفشو بين البدائيين، ويضيقون بمنعها أشد من ضيقهم بمنع تعدد الزوجات، وما من عقبة قامت في وجه المسيحية بين الشرقيين أو الغربيين؛ لأنها كانت تحض على الرهبانية أو تنظر إلى المرأة نظرتها إلى شيطان أو حبالة شيطان. فإذا آمن المرء بفساد عقيدة آبائه وأجداده فلا مناص له من قبول الدين الذي كشف له ذلك الفساد، ثم يعالج بعد ذلك طاقته على احتمال أوامره ونواهيه، ولا يرفض الأوامر لأنه يعصيها، أو النواهي لأنه يقدر على اقترفها، بل يحاول أن يكف عن المعاصي والذنوب، ويرتقي في الدين فوق مرتقاه.
ولو كان الإقناع المنطقي يكفي وحده لتعليل الظواهر الاجتماعية أو التاريخية لصح أن يقال: إن الإسلام قد شاع بين طوائف المنبوذين في الهند؛ لأنه يرفع عنهم لعنة المذلة والحرمان. فهم خلقاء أن يوازنوا بين منزلتهم في دين آبائهم وأجدادهم ومنزلتهم في الدين الإسلامي فيختاروا أفضل المنزلتين، وقد وازنوا واختاروا فدخلوا أفواجا في الدين الجديد.
غير أن الإقناع المنطقي لا يكفي وحده لتعليل ظواهر الاجتماع وظواهر التاريخ فيما له اتصال بأطوار السرائر على الخصوص، أو لعل الإقناع المنطقي يكفي المؤرخ في تعليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية إذا اعتمد عليه في كتابة التاريخ، ولم يجعل الناس جميعا معتمدين عليه في أعمالهم، منقادين له في أحاسيسهم ودخائل وجدانهم. فمن المنطق الصحيح أن يرجع المؤرخ بالحوادث إلى الأسباب الثابتة والعوامل المقنعة، وليس من المنطق الصحيح أن نتخيل الناس جميعا منطقيين حين يؤمنون أو حين يكفرون، ومنطقيين في تمييز الحق والباطل من الدواعي والأسباب.
والواقع في أمر المنبوذين الهنديين، وفي أمر المحرومين جميعا، أنهم لم يكونوا أضعف إيمانا بعقيدتهم البرهمية من أبناء الطبقات العليا، ولم يثبت قط أن التحول إلى الأديان الأخرى كان بينهم أكثر وأسرع مما كان بين الطبقات العليا، وربما وجد فيهم من يصبر على قسمته؛ لأنه يعتقد أنها شرط من شروط الخلاص الأبدي، وكفارة على المساوئ التي سلفت منه في أدوار الخلق الأولى، وربما كان من المحرومين في كل أمة من هو أثبت إيمانا على دينه من ذوي النعمة والثراء؛ لأن جانب الوعد والأمل قوي في الدين، ونصيب المحروم من الوعد والأمل أوفر من نصيب القانع المجدود.
وقد حدث حقا أن أناسا من المنبوذين رحبوا بالدين الإسلامي، ودخلوا فيه؛ لارتياح نفوسهم إليه، ولحسن ما عاينوه من القدوة الصالحة في سيرة المسلمين الوافدين على بلادهم والمقيمين بين ظهرانيهم، ولكننا لا نجد من أسانيد التاريخ ولا من أسانيد العقل ما يفهم منه أن الهنود الذي أسلموا كانوا جميعا من طوائف المنبوذين، بل لا نجد في تلك الأسانيد ما يفهم منه أن الأكثرين كانوا منهم ولم يكونوا من طبقات العلية وذوي الوجاهة في المجتمع أو في الدولة الحاكمة، وقد تحول الهنود إلى الإسلام في بقاع الهند الغربية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب حيث يوجد المنبوذون وحيث لا يوجدون، وتحول أهل سومطرة وجاوة إلى الإسلام بهذه الكثرة أو بأكثر منها وهم بوذيون يقل بينهم المنبوذون، وتكاد الروايات المحفوظة عن أخبار الإسلام في الجزر الجاوية أن تجمع على ابتداء الإسلام بين الأمراء والقادة، ثم شيوعه بأمرهم وهدايتهم بين رعاياهم الوثنيين، ولعلها هي القاعدة المطردة في معظم الأمم الآسيوية من سكان الجزر إلى سكان القارة الوسطى، سواء من كان على الوثنية أو من دان في صباه ببعض الأديان الكتابية؛ كما حدث في إسلام «تكودار خان» أحد سلاطين المغول بأرض فارس، وهو الذي نقل لنا القلقشندي في صبح الأعشى كتابا منه إلى السلطان قلاوون بمصر يقول فيه:
إن الله - سبحانه وتعالى - بسابق عنايته، ونور هدايته، قد كان أرشدنا في عنفوان الصبا وريعان الحداثة إلى الإقرار بربوبيته، والاعتراف بوحدانيته، والشهادة لمحمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - بصدق نبوته، وحسن الاعتقاد في أوليائه الصالحين من عباده وبريته، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام.
وقد أسلم على هذا النحو بعض زعماء القبائل الأثيوبية، فلم ينحصر إقبال الآسيويين والأفريقيين على الإسلام في طبقة واحدة من الرعية أو الرعاة، وابتدأ التحول من العليا إلى من دونها كما ابتدأ من الأتباع إلى السادة والرؤساء.
ومهما يكن من أثر الأسباب المحلية أو الموقوتة فلا بد من البحث عن سبب عام محيط بجميع هذه الأسباب التي تختلف فيها بيئة عن بيئة وزمن عن زمن وحالة عن حالة، ولا بد من عامل واحد غير هذه العوامل التي تحبب الإسلام تارة إلى الحاكم وتارة إلى المحكوم، وتفتح له السرائر في نفوس الضعفاء وفي نفوس الأقوياء، وتجعله قوة تعين الغالبين على الغلب، وتعين المغلوبين على الصمود والدفاع، ولا تخفى حقيقة هذا العامل بعد هذا الشمول، فإن حقيقته التي تتضح من إحاطته بهذه العوامل كافة أنه عقيدة شاملة، وأنه بذلك حقق الصفة الكبرى للعقيدة الدينية على أتم شروطها، فما كانت سريرة الإنسان لتطمئن كل الاطمئنان إلى اعتقاد يفرقها بددا، ويقسمها على نفسها، ويترك منها جزءا لم تشمله بقوته ويقينه، وقد يخرج من سلطانه فيملكه سواه.
قلنا في ختام كتابنا عن عقائد المفكرين: إنه «لا التباس اليوم بين وازع الأخلاق ووازع العقيدة الدينية، وليس اتفاقهما في الإباحة والتحريم أحيانا بالذي يمنع الباحث أن يعرف لها صبغتها ويميز طبيعتها، فلا يخلط بين أوامر القانون وأوامر الأخلاق وأوامر الدين.» «والغالب على الأوامر القانونية أنها إرادية تكتفي بتحقيق السلامة، ولا تذهب وراء الأسلم الألزم إلى شوط بعيد، والغالب على الأوامر الأخلاقية أنها لدنية تعمل فيها الإرادة شيئا، ولكنها لا تعمل كل شيء، بل يتولى الشعور أهم البواعث في أعمال الأخلاق، ويشاهد فيها كثيرا نزوع إلى ما وراء السلامة واللزوم، وتفضيل للأجمل الأمثل من الأمور، فصاحب الوازع الأخلاقي لا يقنع بفروض القانون، ولا يزال متطلعا إلى درجة أعلى من درجات القانعين باجتناب العقاب والتزام أدنى الحدود.» «أما الغالب على الأوامر الدينية أو آداب العقيدة فهو الشمول الذي يحيط بالإرادة والشعور والظاهر والباطن، ولا يسمح لجانب من النفس أن يخلو منه، ولا يقنع بالسلامة أو بالجمال إلا أن تكون معهما الثقة التي لا تتزعزع في صميم الحياة، بل صميم الوجود، ومن السهل أن يقال: إن حاسة القانون تتولد في الإنسان؛ لأنه عضو في مجتمع، وإن حاسة الأخلاق تتولد فيه؛ لأنه من أفراد النوع الإنساني كله، ولكن ليس من السهل أن يقال: إن الإنسان مهتم بمصيره في الكون؛ لأنه عضو في المجتمع أو فرد من أفراد النوع، وإنما يتدين الإنسان؛ لأنه يهتم بمصيره ومعنى وجوده، ويطلب له قرارا أوسع جدا من علاقاته الإنسانية أو علاقاته بالمجتمع، ويجب أن يطلب عقيدة تحتويه، ولا يكتفي بعقيدة يحتويها ويريدها كما يشاء.»
وعلى هذا الشرط - شرط الشمول في العقيدة - يكون الإسلام هو العقيدة بين العقائد، أو هو العقيدة المثلى للإنسان منفردا ومجتمعا، وعاملا لروحه أو عاملا لجسده، وناظرا إلى دنياه أو ناظرا إلى آخرته، ومسالما أو محاربا، ومعطيا حق نفسه أو معطيا حق حاكمه وحكومته، فلا يكون مسلما وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلما وهو يطلب الدنيا دون الآخرة، ولا يكون مسلما لأنه روح تنكر الجسد أو لأنه جسد ينكر الروح أو لأنه يصحب إسلامه في حالة ويدعه في حالة أخرى، رهينا بوساطة بينه وبين السماء يتولاها في المعابد سدنة موكلون بالوساطة بين المخلوق والخالق وبين العابد والمعبود، ولكنما هو المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه في جميع حالاته وجميع حالاتها، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.
إن شمول العقيدة في ظواهرها الفردية وظواهرها الاجتماعية هو المزية الخاصة في العقيدة الإسلامية، وهو المزية التي توحي إلى الإنسان أنه «كل» شامل فيستريح من فصام العقائد التي تشطر السريرة شطرين، ثم تعيا بالجمع بين الشطرين على وفاق.
الفصل الثالث
عقيدة شاملة
يبدر إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب، ولا بد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات، فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة قبل أن يطلع على حقائق الديانة، ويتعمق في الاطلاع.
ومن المحقق أن إدراك الشمول من الوجهة العلمية لا يتأتى بغير الدراسة الوافية والمقارنة المتغلغلة في وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف بين الديانات، وبخاصة في شعائرها ومراسمها التي عليها المؤمنون في بيئاتهم الاجتماعية.
ولكن الناظر القريب قد يدرك شمول العقيدة الإسلامية من مراقبة أحوال المسلم في معيشته وعبادته، ويكفي أن يرى المسلم مستقلا بعبادته عن الهيكل والصنم والأيقونة والوثن ليعلم أنه وحدة كاملة في دينه، ويعلم من ثم كل ما يرغبه في ذلك الدين أيام أن كان الدين كله حكرا للكاهن، ووقفا على المعبد، وعالة على الشعائر والمراسم مدى الحياة.
لقد ظهر الإسلام في إبان دولة الكهانة والمراسم، وواجه أناسا من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود إلى حالة كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة، ولاح للناس في القرن السابع للميلاد خاصة أن «المتدين» قطعة من المعبد لا تتم على انفرادها، ولا تحسب لها ديانة أو شفاعة بمعزل عنه، فالدين كله في المعبد عند الكاهن، والمتدينون جميعا قطع متفرقة لا تستقل يوما بقوام الحياة الروحية، ولا تزال معيشتها الخاصة والعامة تثوب إلى المعبد لتتزود منه شيئا تتم به عقيدتها ولا تستغني عنه مدى الحياة.
لا دين بمعزل عن المعبد والكاهن والأيقونة، سواء في العبادة الوثنية أو في عبادة أهل الكتاب إلى ما بعد القرن السابع بأجيال متطاولة.
فلما ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه يصلي حيث شاء، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد الكهان، وهو مع الله في كل مكان، وأينما تولوا فثم وجه الله.
ويذهب المسلم إلى الحج فلا يذهب إليه ليستتم من أحد بركة أو نعمة يضفيها عليه، ولكنه يذهب كما يذهب الألوف من إخوانه، ويشتركون جميعا في شعائره على سنة المساواة، بغير حاجة إلى الكهانة والكهان، وقد يكون السدنة الذين يراهم مجاورين للكعبة خداما لها وله يدلونه حين يطلب منهم الدلالة، ويتركهم إن شاء فلا سبيل لأحد منهم عليه.
فإذا توسع قليلا في العلم بشعائر الحج علم أن الحج لا يفرض عليه زيارة قبر الرسول، وأن هذه الرسالة ليست من مناسك الدين، وأنها تحية منه يؤديها من عنده غير ملزم، كما يؤدي التحية لكل دفين عزيز محبوب لديه.
وإذا توسع قليلا في مكان ذلك الرسول من الدين قرأ في القرآن الكريم:
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي [الكهف: 110، وفصلت: 6].
وقرأ فيه:
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ [الشورى: 48].
وقرأ فيه:
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [النور: 54].
وقرأ فيه:
وما أنت عليهم بجبار [ق: 45].
وقرأ فيه:
لست عليهم بمصيطر [الغاشية: 22].
وقرأ فيه:
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [سبأ: 28].
وقرأ فيه آيات لا تخرج في وصف الرسالة عن معنى هذه الآيات. •••
مر بنا أن فساد رجال الدين كان من أسباب انصراف أتباعهم عن دينهم، ودخولهم أفواجا في عقيدة المسلمين.
مثل هذا لا يحصل في أمة إسلامية فسد فيها رجال دينها، فما من مسلم يذهب إلى الهيكل ليقول لكاهنه: خذ دينك إليك، فإنني لا أؤمن به، ولا أرى في سيرتك مصداقا لأوامرك ونواهيك أو أوامره ونواهيه.
كلا. ما من رجل دين يبدو للمسلم أنه صاحب الدين، وأنه حين يؤمن بالله يؤمن به؛ لأنه إله ذلك الرجل الذي يتوسط بينه وبينه، أو يعطيه من نعمته قواما لروحه.
والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير * يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [فاطر: 13-15].
نعم. كلهم فقراء إلى الله، وكلهم لا فضل لواحد منهم على سائرهم إلا بالتقوى، وكلهم في المسجد سواء، فإن لم يجدوا المسجد فمسجدهم كل مكان فوق الأرض وتحت السماء.
إن عقيدة المسلم شيء لا يتوقف على غيره، ولا تبقى منه بقية وراء سره وجهره، ومن كان إماما له في مسجده فلن ترتفع به الإمامة مقاما فوق مقام النبي صاحب الرسالة: النبي الذي يبشر وينذر، ولا يتجبر ولا يسيطر، ويبلغ قومه ما حمل وعليهم ما حملوا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
ومنذ يسلم المسلم يصبح الإسلام شأنه الذي لا يعرف لأحد حقا فيه أعظم من حقه، أو حصة فيه أكبر من حصته، أو مكانا يأوي إليه ولا يكون الإسلام في غيره.
كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح، ولا يعاني هذا الفصام الذي يشق على النفس احتماله، ويحفزها في الواقع إلى طلب العقيدة، ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام.
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا [القصص: 77].
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه [الأحزاب: 4، 3].
فإذا كانت العقيدة التي تباعد المسافة بين الروح والجسد تعفينا من العمل حين يشق علينا العمل - فالعقيدة التي توحد الإنسان وتجعله كلا مستقلا بدنياه وآخرته شفاء له من ذلك الفصام الذي لا تستريح إليه السريرة إلا حين تضطر إلى الهرب من عمل الإنسان الكامل في حياته، وحافز له إلى الخلاص من القهر كلما غلب على أمره، ووقع في قبضة سلطان غير سلطان ربه ودينه.
ومن هنا لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر؛ لأن الأمر في الإسلام كله لله
بل لله الأمر جميعا [الرعد: 31]
ولله المشرق والمغرب [البقرة: 115]،
رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [الشعراء: 28].
وإنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين وهو قادر على تطويع قيصر لأمر الله، وهذا التطويع هو الذي أوجبته العقيدة الشاملة، وكان له الفضل في صمود الأمم الإسلامية لسطوة الاستعمار وإيمانها الراسخ بأنها دولة دائلة وحالة لا بد لها من تحويل.
وقد أبت هذه العقيدة على الرجل أن يطيع الحاكم بجزء منه ويطيع الله بغيره، وأبت على المرأة أن تعطي بدنها في الزواج لصاحبها وتنأى عنه بروحها وسريرتها، وأبت على الإنسان جملة أن يستريح إلى «الفصام الوجداني» ويحسبه حلا لمشكلة الحكم والطاعة قابلا للدوام.
إن هذا الشأن العظيم - شأن العقيدة الشاملة التي تجعل المسلم «وحدة كاملة» - لا يتجلى واضحا قويا كما يتجلى من عمل الفرد في نشر العقيدة الإسلامية. فقد أسلم عشرات الملايين في الصحاري الأفريقية على يدي تاجر فرد أو صاحب طريقة متفرد في خلوته لا يعتصم بسلطان هيكل ولا بمراسم كهانة، وتصنع هنا قدرة الفرد الواحد ما لم تصنعه جموع التبشير ولا سطوة الفتح والغلبة، فجملة من أسلموا في البلاد التي انتصرت فيها جيوش الدول الإسلامية هم الآن أربعون أو خمسون مليونا بين الهلال الخصيب وشواطئ البحرين الأبيض والأحمر، فأما الذين أسلموا بالقدوة الفردية الصالحة فهم فوق المائتين من الملايين ، أو هم كل من أسلم في الهند والصين وجزائر جاوة وصحاري أفريقيا وشواطئها إلا القليل الذي لا يزيد في بداءته على عشرات الألوف. •••
وينبغي أن نفرق بين الاعتراف بحقوق الجسد وإنكار حقوق الروح، فإن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم إنكار الروحانية ولا الحد من سبحاتها التي اشتهرت باسم التصوف في اللغة العربية أو اشتهرت باسم «الخفيات والسريات» في اللغات الغربية
Mysticism .
إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح، وقد أشار القرآن الكريم إلى الفارق بين عالم الظاهر وعالم الباطن في قصة الخضر وموسى عليهما السلام، وذكر تسبيح الموجودات ما كانت له حياة ناطقة وما لم تكن له حياة:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا [الإسراء: 44]، وأشار إلى هذه الأشياء بضمير العقلاء، وعلم منه المسلمون أن الله أقرب إليهم من حبل الوريد، وأنه نور السماوات والأرض، وأنه
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [الحديد: 3].
وحسب المرء أن يتعلم هذا من كتاب دينه ليبيح لنفسه من سبحات التصوف كل ما يستباح في عقائد التوحيد، ولعله لم يوجد في أهل دين من الأديان طرق للتصوف تبلغ ما بلغته هذه الطرق بين المسلمين من الكثرة والنفوذ، ولا وجه للمقابلة بين الإسلام وبين البرهمية أو بين البوذية مثلا في العقائد الصوفية. فإن إنكار الجسد في البرهمية أو البوذية يخرجهما من عداد العقائد الشاملة التي يتقبلها الإنسان بجملته غير منقطع عن جسده أو عن دنياه.
وحسب المرء أن يرضي مطالبه الروحية، ولا يخالف عقائد دينه؛ ليوصف ذلك الدين بالشمول، ويبرأ فيه الضمير من داء الفصام.
كذلك يخاطب الإسلام العقل، ولا يقصر خطابه على الضمير أو الوجدان، وفي حكمه أن النظر بالعقل هو طريق الضمير إلى الحقيقة، وأن التفكير باب من أبواب الهداية التي يتحقق بها الإيمان:
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا [سبأ: 46]
كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون [البقرة: 219]، وما كان الشمول في العقيدة ليذهب فيها مذهبا أبعد وأوسع من خطاب الإنسان روحا وجسدا وعقلا وضميرا بغير بخس ولا إفراط في ملكة من هذه الملكات.
وفي مشكلة المشكلات التي تعرض للمتدين يعتدل المسلم بين الإيمان بالقدر والإيمان بالتبعة والحرية الإنسانية، فمن عقائد دينه:
إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر [نوح: 4]
وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [فاطر: 11]
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله [آل عمران: 145]
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا [النساء: 81].
ومن عقائد دينه أيضا:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد: 11]،
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [هود: 117].
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى: 30].
وليس في الإسلام أن الخطيئة موروثة في الإنسان قبل ولادته، ولا أنه يحتاج في التوبة عنها إلى كفارة من غيره، وقد قيل: إن الإيمان بالقضاء والقدر هو علة جمود المسلمين، وقيل على نقيض ذلك: إنه كان حافزهم الأول في صدر الإسلام على لقاء الموت وقلة المبالاة بفراق الحياة، وحقيقة الأمر أن المسلم الذي يترك العمل بحجة الاتكال على الله يخالف الله ورسوله؛ لأنه مأمور بأن يعمل في آيات الكتاب وأحاديث الرسول:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون [التوبة: 105] بل حقيقة الأمر أن خلاصه كله موقوف عليه، وأن إيمانه بحريته وتدبيره لا يقتضي بداهة أن الله سبحانه مسلوب الحرية والتدبير.
وأصدق ما يقال في عقيدة القضاء والقدر أنها قوة للقوي، وعذر للضعيف، وحافز لطالب العمل وتعلة لمن يهابه ولا يقدر عليه، وذلك ديدن الإنسان في كل باعث وفي كل تعلة كما أوضحنا في الفارق بين أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري، وهما يقولان بقول واحد في عبث الجهد وعبث الحياة.
فأبو الطيب يقول عن مراد النفوس:
ومراد النفوس أهون من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى
ثم يتخذ من ذلك باعثا للجهاد والكفاح فيقول:
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولايلاقي الهوانا
والمعري يقول: إن التعب عبث؛ لأنه لا يؤدي بعده إلى راحة في الحياة، ولكنه يعجب من أجل هذا لمن يتعبون، ويطلبون المزيد:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
وعلى هذا المثال يقال تارة: إن عقيدة القضاء والقدر نفعت المسلمين، ويقال تارة أخرى: إنها ضرتهم وأوكلتهم إلى التواكل والجمود، وصواب القول أنهم ضعفوا قبل أن يفسروا القضاء والقدر ذلك التفسير، وتلك خديعة الطبع الضعيف.
وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول؛ لأنها تشمل الأمم الإنسانية جميعا كما تشمل النفس الإنسانية بجملتها من عقل وروح وضمير.
فليس الإسلام دين أمة واحدة، ولا هو دين طبقة واحدة، وليس هو للسادة المسلطين دون الضعفاء المسخرين، ولا هو للضعفاء المسخرين دون السادة المسلطين، ولكنه رسالة تشمل بني الإنسان من كل جنس وملة وقبيل:
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [سبأ: 28] ...
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض [الأعراف: 158].
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [البقرة: 136].
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة: 62].
فهذه عقيدة إنسانية شاملة لا تخص بنعمة الله أمة من الأمم؛ لأنها من سلالة مختارة دون سائر السلالات لفضيلة غير فضيلة العمل والصلاح.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [الحجرات: 13].
وفي أحاديث النبي عليه السلام أنه: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»
وليس للإسلام طبقة يؤثرها على طبقة أو منزلة يؤثرها على منزلة، فالناس درجات يتفاوتون بالعلم، ويتفاوتون بالعمل، ويتفاوتون بالرزق، ويتفاوتون بالأخلاق:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [المجادلة: 11].
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم [النساء: 95].
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق [النحل: 71].
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: 9].
وإذا ذكر القرآن الضعف فلا يذكره لأن الضعف نعمة أو فضيلة مختارة لذاتها، ولكنه يذكره ليقول للضعيف: إنه أهل لمعرفة الله إذا جاهد وصبر وأنف أن يسخر لبه وقلبه للمستكبرين، وإلا فإنه لمن المجرمين. •••
يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين [سبأ: 31، 32].
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [القصص: 5، 6]. •••
وما من ضعيف هو ضعيف إذا صبر على البلاء، فإذا عرف الصبر عليه فإنه لأقوى من العصبة الأشداء.
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين [الأنفال: 66].
فما كان الإله الذي يدين به المسلم إله ضعفاء أو إله أقوياء، ولكنه إله من يعمل ويصبر ويستحق العون بفضل فيه، جزاؤه أن يكون مع الله، والله مع الصابرين.
بهذه العقيدة الشاملة غلب المسلمون أقوياء الأرض، ثم صمدوا لغلبة الأقوياء عليهم يوم دالت الدول، وتبدلت المقادير، وذاق المسلمون بأس القوة مغلوبين مدافعين.
وهذه العقيدة الشاملة هي التي أفردت الإسلام بمزية لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية، فإن تاريخ التحول إلى هذه الأديان لم يسجل لنا قط تحولا إجماعيا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرضى والاقتناع؛ إذ كان المتحولون إلى المسيحية أو اليهودية قبلها في أول نشأتها أمما وثنية على الفطرة لا تدين بكتاب، ولم تعرف قبل ذلك عقيدة التوحيد أو الإله الخالق المحيط بكل شيء، ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين كتابي غير الإسلام، وإنما تفرد الإسلام بهذه المزية دون سائر العقائد الكتابية، فتحولت إليه الشعوب فيما بين النهرين وفي أرض الهلال الخصيب وفي مصر وفارس، وهي أمة عريقة في الحضارة كانت قبل التحول إلى الإسلام تؤمن بكتابها القديم، وتحول إليه أناس من أهل الأندلس وصقلية كما تحول إليه أناس من أهل النوبة الذين غبروا على المسيحية أكثر من مائتي سنة، ورغبهم جميعا فيه ذلك الشمول الذي يجمع النفس والضمير، ويعم بني الإنسان على تعدد الأقوام والأوطان، ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرائع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع.
وإبراز هذه المزية - مزية العقيدة الإسلامية التي أعانت أصحابها على الغلب وعلى الدفاع والصمود - هو الذي نستعين به على النظر في مصير الإسلام بعد هاتين الحالتين، ونريد بهما حالة القوي الغالب وحالة الضعيف الذي لم يسلبه الضعف قوة الصمود للأقوياء، إلى أن يحين الحين، ويتبدل من حالتي الغالب والمغلوب حالته التي يرجوها لغده المأمول، ولئن كانت حالة الصمود حسنى الحالتين في مواقف الضعف مع شمول العقيدة وبقائها صالحة للنفس الإنسانية في جملتها وللعالم الإنساني في جملته؛ ليكونن المصير في الغد المأمول أكرم ما يكون مع هذه القوة وهذا الشمول.
الفصل الرابع
الإسلام والمسلمون في القرن التاسع عشر
(1) الإسلام
انتهى الإسلام في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد إلى نهاية جزره من القوة النفسية والقوة المادية؛ لأنه تلقى عن القرون الأربعة السابقة أثقالا من المتاعب والأدواء لم تمتحن أمة من قبله بمثلها؛ كان بعضها كافيا للقضاء على دولة الرومان الشرقية ودولتهم الغربية، وبعضها كافيا للقضاء على دول الفراعنة والأكاسرة في الزمن القديم، وإن في هذا الميدان من ميادين المقارنة التاريخية لفارقا يبدو لنا في كثير من الصور بين عظمة الدين وعظمة السياسة، فإن دول السياسة تذهب ولا تعود ولا يوجد بعدها من يحاول إعادتها، ولكن دولة الدين - أو على الأصح قوة الدين - تبقى من وراء الأمم والحكومات كأنها القوام الذي تتعاقب عليه بنية في أثر بنية، وهو باق يتجدد ولا يستسلم للفناء.
ولا نعرف من المؤرخين من يستغرب مصاب الإسلام بعد ما تلقاه من الضربات منذ القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر للميلاد، وإنما الغريب عندهم هو تلك القوة المنيعة التي صابر بها الكوارث والشدائد زهاء تسعة قرون، ولم يزل بعدها «وحدة إنسانية» هائلة تتخذ مكانها بين هيئات الأمم، ولا تزال على أمل وثيق في المزيد.
ونستطيع أن نتخيل تلك القوة المنيعة بنظرة سريعة نعرض فيها طائفة من الكوارث والشدائد التي صابرتها وصبرت عليها، وهي محيطة بها من خارجها، وناجمة فيها من داخلها وبين ظهرانيها.
فقد مضت القرون الأربعة بين القرن الحادي عشر والقرن الخامس عشر في منازلة الجيوش الصليبية، ولم تكد هذه الحروب تنتهي حتى خلفتها حروب «المسألة الشرقية» وهي التي وقفت فيها الدولة العثمانية - وكانت يومئذ دولة الخلافة - تناهض غارة بعد غارة من غارات الدول الأوروبية التي تألبت عليها، وأطلقت عليها اسم «الرجل المريض»؛ لأنها كانت تتنازع ميراثه وهو بقيد الحياة.
ولم تكد حروب المسألة الشرقية تنتهي بتنافس «الورثة» على بقية الميراث حتى أعقبتها حملات الشركات وأصحاب الديون، ومعها حملات الاستعمار والتبشير.
وقبل الحروب الصليبية وبعدها كان العالم الإسلامي عرضة لأهول الغارات من قبل آسيا الوسطى التي كانت ترسل الفوج بعد الفوج من عشائر التتر والمغول بقيادة جنكيز خان وهولاكو وغازان وتيمورلنك وأتباعهم من القادة والأمراء، وهم لا يفهمون معنى الغلبة إلا أنها قدرة على الفتك والتدمير، وأن أعظم المنتصرين من يقاس انتصاره بعدد من قتل من المحاربين وغير المحاربين، وعدد ما ضرب من المدن والقرى في الطريق. ومنهم من كان يظهر الإسلام ويغير على ممالكه؛ لأنها على زعمه تساس على خلاف شريعة الإسلام!
وفي خلال ذلك جميعه كانت الدولة الإسلامية تتسع وتمتد حتى ينقطع ما بينها من الصلة، ويتعذر على القائمين بها أن يجمعوها إلى حكومة واحدة، وكان اتساع الآفاق يصحبه اختلاف المواقع واختلاف السكان واختلاف المصالح والأهواء، فلا تلبث أن تتمزق وتتفرق، ثم تتعادى وتتعاون على البغي والعدوان، ضربات لم تصمد لمثلها دولة من الدول الجامعة أو الدول التي سميت بالإمبراطوريات في الزمن القديم.
وقد رأينا كثيرا من المؤرخين يوازنون بين أخطار هذه الضربات، ويجعلون الحروب الصليبية في مقدمتها، أو يجعلونها فاتحة الضربات يتلوها ما تعاقب بعدها من الأخطار والأخطاء.
وهذه الحروب - ولا نكران - كانت من أعظم الأخطار التي امتحنت بها الأمم الإسلامية، ولكننا نعتقد أن الخطر فيها إنما كان على نقيض المفهوم من هذا الخطر في عرف الجملة من مؤرخيها؛ لأنها في الواقع لم تنهك قوى الأمم الإسلامية، ولم تتركها موقنة بالهزيمة في نظر نفسها، بل تركتها وقد أورثتها إفراطا في الثقة برجحانها وإفراطا في سوء الظن بأعدائها، وقد كان هذا هو باب الخطر الجسيم إلى عدة قرون.
ومن آثار الحروب الصليبية التي لا تفوت أحدا من المؤرخين: أنها وقفت عوامل الشقاق بين الأمم الإسلامية ردحا من الزمن، وأنها جاءت بالترك العثمانيين من أواسط آسيا إلى أرض الروم، ودفعتهم إلى مقابلة الغارة بمثلها في صميم الديار الأوروبية، وأنها أيقظت الشرق الإسلامي كله من تخوم الصين إلى جوف الصحراء الكبرى في القارة الأفريقية، وإن أحمق الحمقى من الصليبيين كان أنفعهم وأقدرهم على إذكاء الحمية في نفوس الأمراء والسلاطين، وإن منهم لمن شغله الملك فوق اشتغاله بالدين.
وقد كان يوسف صلاح الدين بطل الحروب الصليبية غير مدافع في نظر الأوروبيين ونظر الشرقيين، ولكن الصفة التي كانت غالبة عليه - ولا شك - هي صفة الحلم الراجح والأناة الهادئة وإيثار الكسب بالسلم والمطاولة على الكسب بالعنف والهجوم، إلا أن هذا الرجل الحليم الرصين ثارت ثائرته حتى الجنون حين سمع بعزم «أرنولد» صاحب الكرك على فتح الحجاز، وإعداده العدة في البر والبحر لاقتحام المدينة والمساس بالقبر الشريف، وسرى وعيد «أرنولد» في المشرق كله، فنسي الخصوم خصومتهم والطامعون مطامعهم، وأقسم صلاح الدين ليقتلن «أرنولد» بيده، فكانت وقعة «حطين» التي تعد من وقائع التاريخ الحاسمة، وظفر صلاح الدين بشرذمة من الملوك والأمراء عفا عنهم جميعا إلا «أرنولد» هذا؛ فإنه لم يقبل فيه شفاعة من أحد، وتناول سيفه وضرب عنقه بيده، وهو يقول: «برئت من شفاعة محمد إن قبلت في هذا الأحمق شفاعة شفيع».
وقد استنكر الصليبيون أنفسهم حماقة «أرنولد» هذا ؛ لأنهم أدركوا أنها استثارت في نفوس المسلمين كل قوة كامنة، وأكسبتهم وقعة «حطين» بعد هزيمتهم في الوقائع التي سبقتها، وهكذا كان الشأن في أحمق الحماقات التي اقترفها شذاذ الصليبيين فإنها أفادت من أرادوه بشرها، وارتدت على أصحابها، وعجلت بالتوفيق بين المتنازعين والمتنافسين، وقد بطلت فيهم حيلة الموفقين.
وليس هذا الذي نعنيه من آثار الحروب الصليبية في نفوس المسلمين، فإنها آثار ظاهرة لم يغفل عنها أحد من مؤرخي تلك الحروب.
ولكننا نعني الأثر الذي عاد بالضرر الوخيم بعد عصر الحروب الصليبية بقرنين أو ثلاثة قرون، وهذا الأثر الوخيم العقبى: هو إفراط المسلمين في الثقة بأنفسهم وإفراطهم في سوء الظن بالأمم الأوروبية وكل ما يأتي من نحوها، حتى أوشكوا أن يوقنوا أنها لا تأتيهم يوما بشيء يحتاجون إليه، ولولا هذه الثقة لما خطر لرجل كسليمان القانوني في حصافته واقتداره أن يتبرع بالامتيازات الأجنبية لأبناء الأمم الأوروبية الوافدين على بلاده، ولم يكن في وسعها أن تقسره عليها لو لم يتبرع بها في غير اكتراث بعقباها.
إن الأمم الإسلامية قد أنكرت على الأوروبيين الذين قدموا في جيوش الصليبيين ضروبا من الخشونة والجلافة حسبتها من البربرية التي تعافها وتشمئز منها، ورسخ في نفوسهم أن هؤلاء القوم ليسوا بالمسيحيين؛ لأنهم لم يعملوا بوصية واحدة من وصايا المسيح التي يحفظها المسلمون، وكان أنكر ما استنكروه: سماحهم بجلب النساء من بلادهم لمعاشرة الجند معاشرة الأزواج بغير زواج، وكان أشد من ذلك نكرا لديهم: أنهم يعظمون الصور والتماثيل تعظيم عباد الأصنام للطواغيت والأوثان، فلم ينظروا إليهم نظرة الأعلين إلى الأدنين وحسب، بل وقرت في أخلادهم سخافة ما يدعون من حق المطالبة بشيء قط باسم المسيح عليه السلام، فهم في دعواهم مبطلون، وهم غير أهل لتلك المطالبة لو كانوا صادقين.
مثل هذا الشعور قد يحيك بصدور الأمم في أوقات كثيرة فلا يضيرها؛ بل يمدها في قوتها إذا خامرها في إبان النمو والصعود، ولكن الظروف التي تطورت إليها الحروب الصليبية لم تكن من هذه الأوقات، بل صادفت على النقيض فترة ذات وجهين من قبل الشرق ومن قبل الغرب، فكانت في الشرق فترة هبوط في النهضات العلمية، وكانت في الغرب فترى صعود في النهضة العلمية الحديثة، قامت بعدها أوروبا مقام القيادة على هذه النهضة، وتخلف الشرق زمنا عن اللحاق بها، وليس أخطر على الأمم من الاكتفاء بالذات والاعتزاز بالرجحان في أمثال هذه الظروف.
هبطت النهضات العلمية في الشرق بعد القرن الثاني عشر على أثر الغارات التي تعاورته في كل مكان، وانصبت كوارث هذه الغارات خاصة على معاهد العلم والمكتبات، فعصفت بالعشرات منها ما بين بخارى وسمرقند ومرو وبغداد ودمشق وحمص، وسائر المدن التي اشتهرت بمعاهدها ومكتباتها في الزمن القديم، ويحصى عدد الكتب التي احترقت خلال غارات التتر والمغول وغارات الصليبيين بمئات الألوف، وعدد المعاهد والمكتبات بالعشرات والمئات، وانصرف الأمراء وطلاب العلم عن العناية بالمدارس والمصنفات إلى التأهب والاستعداد لدفع المغيرين ممن كانوا يتوقعون غاراتهم واحدة تلو أخرى بغير انقطاع، وكثرت مطالب الحكام من المحكومين اضطرارا في أول الأمر، ثم اختيارا واعتسافا مع تمادي الزمن حتى ساءت الصلة بين الحاكم ومحكوميه، وتراخى الزمن على أثر الحروب الصليبية، واستقرت الأحوال بعض الاستقرار، فعاودت البلاد الإسلامية الوسطى شيئا من رخائها على طريق التجارة الهندية، ثم انقطع هذا الطريق واتجه الرواد إلى غيره من الطرق حول القارة الأفريقية، فاجتمع سوء الحكم إلى سوء الحال، وشاعت الشبهة عن حق وعن باطل بين الرعاة والرعية، وهذه هي الفترة التي كان ينبغي فيها للشرق الإسلامي أن يطلب المعرفة، ويؤمن بضرورة العمل على التقدم، أو يؤمن بمزايا العلم الحديث، ولكنها كانت - بحكم هذه الظروف جميعا - هي الفترة التي أعرض فيها الشرق عن كل حديث، وعما يأتي على الخصوص من قبل القارة الأوروبية، فتأخر عن ركب الحضارة العصرية زهاء قرن كامل، لو أنه استفاده ناهضا ومجاريا للنهضة في مضمارها لما قصر عن اللحاق بالسابقين.
وجاءت المدارس العصرية من جانبين كلاهما مظنة للتهمة، وكلاهما موضع للحذر والاتقاء.
جاءت المدارس العصرية على أيدي الحكومات التي بلغ التنافر بينها وبين المحكومين حد العداء والاتهام بغير بحث ولا روية، فكان الناس يحسبون التلميذ المطلوب للمدرسة كالعامل المطلوب للسخرة، أو كالجندي الذي يساق إلى المشقة والوبال في غير مصلحة أو كرامة.
وجاءت المدارس العصرية أيضا على أيدي رسالات التبشير التي صارحت الناس في ظل الامتيازات الأجنبية بغرضها من فتح المدارس وقبول التلاميذ بغير أجر في كثير من البلدان؛ فأحجم المسلمون عن تعليم أبنائهم في مدارسها، وجاوزوا ذلك إلى سوء الظن بالعلم نفسه، وسوء الظن بنية المعلمين وإيمان المتعلمين.
وانقطع ما بين المسلمين وعلومهم الأولى، فندر فيهم من كان يتعلم النافع منها؛ كالفقه واللغة والأدب والرياضة، وانقطع ما بينهم وبين العلوم العصرية فنظر الكثيرون منهم إلى علوم الجغرافيا والطبيعة والكيمياء كأنها الكفر البواح أو السحر المزيف، واتصل ما بينهم وبين الخرافة والجهالة بهذا الانقطاع بينهم وبين العلم الصحيح قديمه وحديثه، فاصطبغ فهمهم للدين بصبغة الجهل والتخريف، وطلبوا الخلاص من غير بابه، وتوسلوا للعمل فيه بغير أسبابه، واتهموا الناصحين، وأسلموا مقادتهم للمدجلين والمحتالين.
في هذه الفترة كان الإسلام كما يفهم الجهلاء - والجهلاء هم الأكثرون في سائر الأمم - مزيجا من الخرافة والشعوذة ومن الطلاسم والأوهام، ومن الوثنية وعبادة الموتى.
في هذه الفترة كان بعض المتعالمين من أدعياء المعرفة يحكم بكفر القائلين بدوران الكرة الأرضية، ولا يتردد في تكفير من يسميها بالكرة.
وفي هذه الفترة كان طلاب الفتوى من مشارق الأرض ومغاربها يسألون عن الكبريت، هل يجوز مسه؟ وهل يجوز قدح النار منه؟ وطبخ الطعام على تلك النار؟ أو يأثم من يمس «صنفرته» لأنها من مادة نجسة تنقض الطهارة؟!
وفي هذه الفترة كان السائلون يسألون عن صناديق التوفير والادخار، وعن معاملات التجارة من طريق المصارف والشركات، ويحسبون أن اللياذ بالأضرحة والتوابيت وترتيل الأوراد والعزائم يغنيهم عن السعي والتدبير وعن الجهاد والاجتهاد.
وفي هذه الفترة على الإجمال كان المسلم يعيش في العالم كمن يمشي في خرابة مظلمة، لا يدري من أين تسري إليه عقاربها وحياتها، ومتى تخرج عليه أشباحها وشياطينها، وانقلب معنى الإسلام إلى معنى المخافة والاتهام؛ إذ كان أول معاني الإسلام أنه طمأنينة إلى الخالق وخلقه، وكان هذا الإسلام الذي صار إليه المسلمون مخافة لا سلم ولا سلامة، واتهاما لا تسليم فيه ولا مسالمة.
قلنا: إن الإفراط في الثقة بالنفس والاكتفاء بها كان فيما بعد الحروب الصليبية مضارعا للإفراط في سوء الظن بالأعداء، وتوهم الاستغناء عنهم، والريبة بكل ما يأتي من قبلهم، وقلنا: إنه اكتفاء بالذات وخيم المغبة في أمثال هذه الأحوال.
ونقول على الدوام: إنه ما من شر يخلو من بعض الخير، وما من ضرر مطلق إن كان معنى الضرر المطلق أنه لا يقبل الترياق أو لا يحتويه في كثير من الأحايين.
هذه الفترة من الثقة العمياء لم تخل من فائدتها في المقاومة والأمل، في التبديل وفي عدل الله بين عباده، ولم تكد تبلغ أقصى مداها من الأضرار حتى جاءت بعدها نكبة الاستعمار بنقيض العبرة من دروس الحروب الصليبية؛ لأنها شككت المسلمين في كفايتهم واستغنائهم، وشككتهم في رجحانهم وغلبتهم، وقام بين المسلمين من يقول لهم: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن الغربيين نجحوا وتقدموا؛ لأنهم أخذوا بالوصايا والأحكام التي كان المسلمون أولى بها لو عقلوا وصايا الدين وأحكامه.
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة: 216].
فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا [النساء: 19].
نعم، وفي اصطدام الشرق الإسلامي مرتين بالقارة الأوروبية مصداق لهذه الآيات البينات.
إنه سلم من الحروب الصليبية فاكتفى وقنع وغفل عما يحتاج إليه، وانهزم في وجه الاستعمار فعرف حاجته وتيقظ لنقصه، واستقام على النهج الذي لا غنى له عن الاستقامة عليه، وعادت به البأساء إلى «العقيدة الشاملة» التي ميزته بين عقائد الأديان، فهو في مده اليوم عند منتصف القرن العشرين فإن لم يبلغ من مده اليوم ما يرجوه فقد ترك المرحلة التي انتهى فيها إلى جزره في أوائل القرن التاسع عشر، وما في ذلك من خلاف. (2) المسلمون
بدأ القرن التاسع عشر وفي العالم من المسلمين نحو ثلاثمائة مليون، وانتهى وعددهم حوالي أربعمائة مليون، موزعين بين آسيا وأفريقيا، وقليل منهم في أوروبا لا يزيدون على خمسة عشر مليونا بين البلقان والقرم وألبانيا واليونان وقبرص ورودس وبلاد البشناق وبولونيا وشواطئ بحر البلطيق في لتوانيا وفنلندا وما جاورها.
ويؤخذ من الإحصائيات الأخيرة أن عدد المسلمين في دولتي الهند يقارب تسعين مليونا، وأنهم يبلغون في جزر السوند الكبرى وجزر السوند الصغرى وجزر الملوك التي تدخل في دولة إندونيسيا نيفا وسبعين مليونا، ويختلف المقدرون لعددهم في الصين من خمسة ملايين إلى مائة مليون، فتقويم جوثا يقدرهم بثلاثين مليونا، وجلال نوري بك صاحب كتاب (اتحاد المسلمين) يقدرهم في داخل الحدود الصينية وفي منشورية وأنام وسيام والهند الصينية وفي الجزر التابعة لإنجلترا من أرخبيل ملقا بنحو ستين مليونا، أما إحصاءات بعثات التبشير فهي تقدرهم تارة بثلاثة ملايين وتارة أخرى بخمسة ملايين في داخل حدود الصين، ويرتفع الرحالة عبد الرشيد إبراهيم بعددهم إلى مائة مليون، ويقول هانوتو أحد وزراء الخارجية السابقين بفرنسا إنه: «قد انبعثت شعبة منه في الصين فانتشر فيها انتشارا هائلا حتى ذهب بعضهم إلى القول بأن العشرين مليونا من المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن يصيروا مائة مليون؛ فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء لساكياموني.»
ويعقب السيد توفيق البكري على هذا في رسالته عن مستقبل الإسلام فيقول: إن تاجرا بلوجيا جاء القاهرة في هذه الأيام، وكان قد ذهب إلى الصين مرارا «يؤكد القول بأن مسلمي الصين يبلغون ثمانين مليونا، وأن علماءهم يهزءون بقول الأوروبيين إنهم أربعون مليونا».
وقد تلقت الصحف الأوروبية برقية من الجماعة الإسلامية في الصين، أرسلتها أثناء حرب الصين واليابان، تقول فيها: إنها تتكلم بلسان خمسين مليونا من المسلمين.
فلا مبالغة - مع ملاحظة هذه الإحصاءات جميعا - في تقدير مسلمي الصين اليوم بنحو ستين مليونا، يضاف إليهم ثلاثون مليونا في التركستان وبخارى والقفجاق وغيرها من ولايات روسيا الآسيوية، ويضاف إليهم خمسة عشر مليونا في إيران وبلاد الأفغان، وثلاثون مليونا في بلاد العرب والعراق والشام وفلسطين وشرق الأردن وآسيا الصغرى، وبضعة ملايين في الجزر التابعة لإنجلترا والولايات المتحدة، فلا يقل عدد المسلمين الآسيويين عن ثلاثمائة مليون، وإن قل فهو بين مائتين وخمسين وثلاثمائة من الملايين.
أما في أفريقيا: فالتقدير المعتدل لهم يقارب مائة مليون، منهم خمسة وعشرون مليونا في مصر والسودان، وعشرون مليونا في ليبيا وتونس والجزائر ومراكش، وعشرون مليونا في الصحراء الغربية والسودان الفرنسي وبحيرة تشاد والشواطئ الغربية، ونحو عشرة ملايين في زنجبار ومدغشقر والسواحل الشرقية والصومال، وسائرهم بين الحبشة وأوغندة وكينيا وأفريقيا الجنوبية.
فليس من المبالغة أن يقدر عدد المسلين في العالم بأربعمائة مليون؛ أكثرهم في آسيا وأفريقيا، وأقلهم في أوروبا، عدا ألوفا معدودة في العالم الجديد.
فهم جميعا بحكم موقعهم من أبناء العالم القديم، يقابلهم سكان أوروبا الغربيون الذين نشأت بينهم الحضارة العصرية، ويصدق عليهم وصف واحد في المقابلة بينهم وبين الأوروبيين المحدثين، فلا يقال عنهم: إنهم تقهقروا منتكسين إلى الزمن القديم، وإنما يقال عنهم: إنهم وقفوا حيث تقدم غيرهم مع العلم الحديث، ولا ينسى المنصف في هذه المقابلة أن الأوروبيين الذين تقدموا هم الأوروبيون الذين اتصلوا بالإسلام من قريب، وهم أبناء أوروبا الغربية، ثم أبناء أوروبا الذين احتكوا بالإسلام في الحروب الصليبية، ولا نعني أن أسباب التقدم تنحصر في هذه الصلة أو في هذا الاحتكاك، ولكننا نعني أن الإسلام لم يكن قط قوة مهملة في حركة من الحركات الإنسانية سواء نشأت بين ظهرانيه أو نشأت في مواطن أخرى، وإن المؤرخ المحقق لن يستقصي أسبابا للنهضات الإنسانية على اختلافها دون أن يرجع بمرحلة منها إلى نهاية أو بداية في عالم الإسلام.
وفي هذا السياق ينبغي الالتفات إلى أمر واقع قلما يلتفت إليه المؤرخون من الغربيين أو الشرقيين، وهو أن محاربة الإسلام كانت على الدوام نكبة على محاربيه من المستعمرين، فإن السابقين إلى الشرق من المستعمرين الأوروبيين هم البرتغاليون والإسبان، ولكنهم لم يثبتوا في الشرق طويلا؛ لأنهم ذهبوا إليه بسمعة العداء للإسلام، وكان الإسبان يسمون المسلمين في جزر الهند بالمور متابعة لما عهدوه من تسمية المسلمين بالمراكشيين، وكان البرتغاليون أول من نزل بجزائر السوند الكبرى وجزائر السوند الصغرى وما بينهما من الجزائر التي يكثر فيها المسلمون، فلما تنافس البرتغاليون والإسبان وغيرهم من أبناء أوروبا الغربية وأمريكا دارت الدائرة على الأولين؛ لأنهم وجدوا العداء من المسلمين حيث نزلوا بينهم، وهكذا كان نصيب روسيا في آسيا الشمالية حيث اشتهرت بعداوة الخلافة الإسلامية، فقد كان موقف المسلمين منها في التركستان ومنشورية والصين الشمالية الغربية عقبة من أقوى العقبات التي رصدت لها في ذلك الطريق.
هذه القوة التي لم تسقط يوما من حساب السياسة العالمية لن تسقط اليوم من هذا الحساب، وقد توضع السياسات الظاهرة والخفية لحربها وإقصائها من الميدان، ولكنها تتغلب على هذه السياسات حين تنقلب الأمور على غير إرادة الساسة والمقدرين؛ لأن العقيدة الدينية أثبت من برامج السياسة وخططها الظاهرة والخفية، بل هي أثبت من الجغرافية وما يسمونه حديثا بالسياسة الجغرافية؛ لأن العقيدة الدينية تحول السكان حيث تثبت معالم الأرض ورواسي الجبال.
ونحن نستطرد هذا الاستطراد في مقدمة الكلام على المسلمين في القرن التاسع عشر؛ لأنه يعيد إلى الأذهان أخطاء المقدرين وأصحاب السياسات قبل مئات السنين، ويجعل هذه الأذهان على استعداد لانتظار أخطاء أخرى من هذا القبيل قد ينكشف عنها الزمن بعد آن قريب. •••
انقسم العالم في بداءة القرن التاسع عشر إلى حضارة حديثة في الغرب، وحضارات قديمة في الأقطار الآسيوية والأفريقية، وكان المسلمون - إلا القليل منهم - في هذه الأقطار تخلفوا عن ركب الحضارة في الصناعات والمخترعات والعلوم الحديثة، وأصابهم هذا التخلف في مرافقهم جميعا، ومنها الزراعة والتجارة التي كان قوامها الأكبر على الملاحة الشراعية؛ فتراجعت شيئا فشيئا أمام ملاحة البخار، وتراجعت كذلك عن سيادة البحار.
ولما تقدمت مرافق الصناعة والتجارة في الغرب تقدمت معها وسائل التنظيم والإدارة، وبقي الشرقيون جميعا، والمسلمون منهم، متخلفين في هذه الوسائل إلى ما قبل نهاية القرن التاسع عشر بقليل.
وأصبح العالم الإسلامي في مقدمة الأهداف التي تصوبت إليها حملات الغرب الثلاث، وهي حملات التبشير والاستغلال والاستعمار، ويتقدم التبشير هذه الحملات في ترتيب الزمن لا في الخطر والأثر؛ فإنه قد بدأ مع الحروب الصليبية حوالي القرن الثاني عشر، وكان في كثير من الأقطار رائدا لحملة الاستغلال وحملة الاستعمار.
أما العالم الإسلامي من وجهة النظر إلى مركزه السياسي: فقد كان معظمه عند أوائل القرن التاسع عشر في حوزة الدول الأجنبية، ولم يبق فيه من الدول التي كانت على نصيب من الاستقلال في عرف السياسة غير دول ثلاث، وهي الدولة العثمانية التي سميت بدولة الخلافة من عهد السلطان سليم، والدولة الإيرانية، والدولة الشريفية بالمغرب الأقصى.
ولم تكن هذه الدول على شيء من الاستقلال في غير الظاهر؛ لأنها لم تكن تملك من حقوق التصرف في سياستها الداخلية أو الخارجية ما تملكه الدول المستقلة، وأكبرها وأقواها - وهي الدولة العثمانية - كانت عرضة للتدخل الدائم من قبل الدول الكبرى في كل شأن من شئونها؛ إذ كانت هي محور المسألة الشرقية التي تتلخص في عبارة واحدة وهي: تقسيم بلاد الشرق «أولا» بين روسيا وفرنسا وإنجلترا، ثم تلحق بهذه الدول كل دولة أثبتت لها وجودا في ميدان الاستعمار أو في ميدان السياسة العالمية على الإجمال كالنمسا وبروسيا وإيطاليا وإسبانيا.
الدولة العثمانية
وكانت المسألة الشرقية قائمة على محو الدولة العثمانية، ولكن الدول التي تعنيها هذه المسألة لم تكن على اتفاق في طريقة التنفيذ، ولم تكن على اتفاق كذلك في العجلة أو الأناة، ولم تكن على اتفاق بينها في نصيب كل منها من تركة «الرجل المريض» كما سميت الدولة العثمانية في ذلك الحين.
فروسيا كانت تتعجل التقسيم لتحتل القسطنطينية ومضايق البسفور والدردنيل، وفرنسا كانت تتوسط بين العجلة والأناة؛ لأنها كانت تكتفي بلبنان وسورية وبيت المقدس، ولا تحرص على تقويض الدولة العثمانية من رأسها، وإنجلترا كانت تطمح إلى طريق الهند، ولا تأبى عند الضرورة أن تساعد فرنسا؛ لتستعين بها على صد روسيا والحيلولة بينها وبين بلاد البحر الأبيض، وحاولت كل منها أن تتخذ لها صفة الرعاية لجميع المسيحيين بالديار الشرقية، وكانت روسيا وفرنسا قد حصلتا على اعتراف من السلطان العثماني بهذه الصفة؛ أولاهما: لرعاية الكنيسة الإغريقية، والأخرى : لرعاية الكنيسة اللاتينية، فحاولت إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر أن تضيف إلى ألقاب التاج لقب الحارس للديانة المسيحية، ولكن المسيحيين أنفسهم في الشرق الأدنى لم يعترفوا لها بهذه الصفة؛ لأن أتباع الكنيسة الإنجيلية كانوا يومئذ جد قليل بين الشرقيين.
ولم تجد هذه الدول صعوبة في إقلاق الدولة العثمانية؛ لأنها كانت تستخدم سلاح الامتيازات الأجنبية حين تشاء وكيفما تشاء، وكان القرن التاسع عشر عصر الحركات الوطنية في بلاد المغرب والمشرق، فلم يكن من العسير على الدول أن تجد المطاوعين لها في ثورتها على الحكم التركي سواء من المسيحيين وغير المسيحيين، ومنهم مسلمون يطلبون الاستقلال أو ينقمون على الإدارة التركية، ولكن الأمر الجدير بالنظر أن السياسة الجهنمية لم تتورع عن خلق المذابح في المكان المطلوب وفي الآونة المطلوبة، فحدثت مذابح أرمينية ومذابح لبنان ومذابح الإسكندرية على هذا التقدير كلما كانت لازمة لتنفيذ إحدى الخطط التي ترسم قبل ذلك بسنوات أو شهور، وكانت هذه المذابح هي التي تدعو إلى التدخل من جانب الدول الكبرى، أما المذابح في روسيا أو في البلقان فلم يعرض لها أحد بمجرد الاحتجاج فضلا عن التدخل أو التهديد بالاحتلال.
واصطلحت علل الضعف والجمود والخلل جميعا على الدولة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فانهزمت جيوشها في ميادين لم تتعود فيها غير النصر العاجل قبل هذه الفترة، ولما أرادت أن تدرب جيوشها على النظام الحديث تمردت فرق «اليني شاري» التي كانت هي نفسها تجديدا على النظم الحديثة في حينها كما يدل عليه اسمها، فقمعتها وكادت أن تستأصلها بالقليل الذي دربته على الأساليب العصرية، قبل أن يتم لديها من الجيوش العصرية ما يغنيها في حروبها المتتابعة، وكانت قد استكثرت من عقد القروض لسداد نفقات هذه الحروب، وإشباع نهمة السلاطين والأمراء الذين أفسدهم الضعف والاستبداد، فانغمسوا في الترف والبذخ، وكلفوا بلادهم ما لا تطيق من الضرائب والإتاوات، وأفضى سوء السياسة المالية إلى إعلان الإفلاس والعجز عن أداء فوائد الديون (في سنة 1874) في مواعيدها، واعتمد ساسة الباب العالي في مقاومة الدول صواحب الديون وصواحب الامتيازات على المضاربة بينها ومنح الامتيازات الاقتصادية تارة لهذه وتارة لغيرها، وقد كانت الدولة البروسية تبرز شيئا فشيئا إلى ميدان السياسة العالمية، ولا سيما بعد حرب السبعين التي انتصرت فيها على فرنسا، فاتخذ منها ساسة الباب العالي ذريعة للتخويف والتهديد، ورحبوا بالاتفاق معها على إصلاح المواصلات الداخلية فمنحوها (في سنة 1888) امتيازا بمد الخط الحديدي إلى أنقرة بعد امتداده في المجر إلى القسطنطينية، وأتبعوا هذا الامتياز بامتياز آخر لمد الخط إلى قونية على أن تخترق السكة آسيا الصغرى إلى الشام وبغداد، ولم تقف الدولة الإنجليزية مكتوفة اليدين أمام هذا الخطر الذي يقترب من الهند، ولكنها اضطرت إلى التراجع والسكوت حين لمحت من بروسيا بوادر الاتفاق عليها مع فرنسا على هذا الجانب من جوانب المسألة الشرقية، وعلى التدخل في القضية المصرية؛ لمطالبتها بالجلاء عن مصر تحقيقا لوعدها.
ومن خطوط المواصلات الهامة التي تمت في بلاد الدولة بين منتصف القرن التاسع عشر ونهايته؛ قناة السويس (سنة 1869) وسكة حديد الحجاز (من سنة 1900 إلى 1908) وهي السكة التي تجاوبت بأخبارها دوائر الاستعمار على أنها تعبئة من تعبئات الجامعة الإسلامية.
وإلى هذه الآونة كانت كل دولة ذات أثر في المسألة الشرقية قد انتزعت لها قطعة من بلاد تركيا في أوروبا أو آسيا أو أفريقيا، ما عدا بروسيا التي سيطرت في هذه الآونة على الأقاليم الألمانية بأجمعها، فاغتنم عاهلها «ولهلم الثاني» هذه الفرصة للتقرب من تركيا ومن العالم الإسلامي بأسره، وزار الآستانة وبيت المقدس، ونادى في بعض خطبه بصداقة دولته للثلاثمائة مليون مسلم المنتشرين بين بقاع المشرق، ونظر ساسة الترك إلى دولة أوروبيا يعتمدون عليها في تنظيم جيشهم، فلم يطمئنوا بطبيعة الحال إلى روسيا، ولم يجدوا عندها الكفاية الفنية لهذه المهمة، ولم يطمئنوا إلى إنجلترا؛ لأن وزيرها جلادستون أعلن غير مرة وجوب «طرد الترك» بقضهم وقضيضهم من كل بقعة في أوروبا، فرحبوا بالمساعدة الألمانية على تنظيم الجيش وتدعيم الأسطول على حذر، ولم يكن عبد الحميد داهية بني عثمان لينسى مؤتمر برلين ومرامي الألمان في الوقت المعلوم نحو المشرق، ولم تغب عنه الدعوة العسكرية والثقافية التي نجحت بين الألمان المعاصرين، واتخذت صيحتها (إلى الشرق) شعارا تردده، وتعلق عليه الآمال في توسيع ملك الجرمان، واستيلائهم على طريقهم من برلين إلى آسيا الصغرى إلى أواسط آسيا، ولم يخف عليه ما وراء حملة العاهل الجرماني على الآسيويين، وتحذير الغرب من يقظتهم، وتأليبه الأوروبيين على الشرق كله باسم الحذر من الخطر الأصفر، فتوخى في سياسته على الدوام أن يجنح إلى كل دولة من دول الاستعمار بمقدار، وترك بعده ساسة تربوا في مدرسته (حتى من أقطاب تركيا الفتاة) ينهجون نهجه في مسلكهم بين تلك الدول، فكان الكثيرون منهم يميلون إلى الحيدة عند اشتباك الحرب العالمية الأولى، وليس بالصحيح أن ساسة الترك كانوا مجمعين يومئذ على دخول الحرب إلى جانب دولتي المحور، ولكن الصحيح أن دول أوروبا الغربية استثارت الترك إلى محاربتها؛ لتضمن بذلك معاونة الروس إلى النهاية طمعا في القسطنطينية، وتضمن معونة المتربصين بالرجل المريض من دول البحر الأبيض المتوسط وسائر الدول الطامحة إلى الشرق الأدنى، وقد يفيد في بيان الأعاجيب من خفايا سياسة الاستعمار أن نومئ هنا - على غير تأييد ولا تفنيد - إلى ما قيل عن دسائس المستعمرين التي أحكموا تدبيرها للتعجيل بالثورة الروسية بعد سقوط آل رومانوف، فلعلهم لم يجدوا لهم مخلصا أوفق من هذا للتحلل من الاتفاق مع آل رومانوف على دخول القسطنطينية.
إيران
كان على عرش إيران في مفتتح القرن التاسع عشر شاه من أسرة قاجار - اسمه فتح علي شاه - تولى الملك بعد عمه أغا محمد الذي اشتهر بصرامته وقسوته على إخضاع ثوار الكرج وخراسان، وقد سمي فتح علي باسم رأس الأسرة، ولكنه لم يكن على نصيب من خلائق المؤسسين والفاتحين غير الطمع وحب الفخفخة، فاغتر بمظاهر التعظيم التي أحاطه بها رسل الدول الأجنبية، وراقه أن يرى بلاطه قبلة للسفراء والوفود من ملوك الغرب، فاستسلم لهذا الغرور، وتحالف مع بريطانيا العظمى على الأفغان؛ لاسترجاع أقاليم فارس الشرقية، وأملى له في مجاراة السياسة البريطانية أن روسيا انتزعت من فارس بلاد الكرج تلبية لطلب أميرها جورج الثاني عشر، فاستقبل الشاه مندوب شركة الهند الشرقية سيرجون ملكولم، وعقد معه محالفة سياسية تجارية تتعهد فيها الشركة بإمداد فارس بالسلاح والمال في حالة الاعتداء عليه من جانب الأفغان أو فرنسا، ويتعهد فيها الشاه بألا يعقد صلحا مع الأفغان ما لم تنزل هذه عن مطالبها في الهند، وقد تمكن الشاه من صد الغارة الروسية على «أروان» في سنة 1804 بمعاونة الضباط الإنجليز وضغط السياسة الإنجليزية، ثم أبرم في أواخر سنة 1814 - بعد نكبة نابليون - محالفة عامة تتعهد فيها فارس بإلغاء جميع الاتفاقات مع الدول المعادية لإنجلترا، وتتعهد فيها إنجلترا بنقدها مائة وخمسين ألف جنيه وتبادل المعونة في حالة الدفاع.
ولم تمض على هذه المعاهدة بضع سنوات حتى التحمت فارس وتركيا في الحرب التي انتهت بصلح أرضروم، ثم حاربت روسيا على أثر احتلال هذه لبعض الأقاليم المتنازع عليها، فانهزمت وتخلت عن أروان وتبريز (1827) وخذلتها إنجلترا في هذه الحرب، فاستدارت بسياستها إلى مجاراة روسيا. وأخرجت البعثة العسكرية الإنجليزية التي قدمت إليها لتدريب جيشها على النظم الحديثة، وهاجمت «هرات» ثم تفاهمت مع حكام الهند على فك الحصار عنها، وفي سنة 1856 شهرت إنجلترا الحرب على فارس - إذ عادت إلى مهاجمة هرات واستولت عليها - فاحتل الإنجليز بوشير والمحمرة، وتراجع الجيش الإيراني عن أرض الأفغان، ثم تم الاتفاق على الحدود الأفغانية الإيرانية.
وفي سنة 1864 أنشئ أول خط تلغرافي بين بغداد وطهران وبوشير على اعتباره «توصيلة» للخطوط الهندية، وافتتح خط أوديسة وتفليس وطهران بعد ذلك ببضع سنوات.
واستمر السباق بين إنجلترا وروسيا على كسب الامتيازات والرخص من الحكومة الإيرانية، فلما حصل البارون دي روتر على امتياز باستغلال بعض الموارد الإيرانية وارتهان المكوس الجمركية، أسرع الروس إلى إحباط هذا الامتياز، وحصلوا على الإذن بإنشاء فرقة القواذق وإلحاقها بجيش إيران. ثم احتلوا مدينة «مرو» واستولوا على بلاد التركمان (سنة 1884)، وتجددت مساعي الماليين الإنجليز فمنحوا امتيازا بافتتاح نهر قارون للملاحة، ومنح البارون دي روتر هذه المرة امتيازا بإنشاء المصرف الإمبراطوري مع الترخيص له باستغلال المناجم في إيران ما عدا مناجم الذهب والفضة (سنة 1889).
وبعد هذا الامتياز بسنة واحدة حصلت إحدى الشركات على امتياز الدخان المشهور الذي تصدى جمال الدين الأفغاني لإحباطه، ثم تمادى الشاه (ناصر الدين) في الاقتراض وبذل الرخص ورهن الموارد، ومنها قرض إنجليزي في مقابلة رهن المكوس الجمركية بالخليج الفارسي، فتمكن جمال الدين من إثارة القوم عليه، وإغرائهم بعصيانه واغتياله على البعد والقرب، فقتل في سنة 1896، وقيل: إن قاتله صاح به وهو يضربه: (خذها من جمال الدين).
وجلس ابنه مظفر الدين على العرش؛ فأصبحت إيران في عهده نهبا مقسما بين النفوذين ومساعي المستغلين من الجانبين، فتقدم بنك الخصم الفارسي - وهو فرع من وزارة المالية الروسية - بإقراض الحكومة نيفا وعشرين مليون روبية في مقابلة مكوس الجمارك بجميع أنحاء البلاد ما عدا خليج فارس، واشترط على الحكومة أن تصفي القرض الإنجليزي، ولا تتقبل قروضا أخرى مدى عشر سنوات (في سنة 1900).
واحتاج الشاه إلى قرض آخر بعد سنتين فأمدته به الحكومة الروسية في مقابلة الترخيص لها بمد السكة الحديد من جلفة إلى تبريز فطهران، وأوشك الاتفاق أن يتم على مد الخط إلى شواطئ الخليج لولا المقاومة الشديدة من جانب الإنجليز، تعززها مساعي الماليين على يد «دارسي» من زيلاندة الجديدة لإغناء خزانة إيران على معونة الروس، فانعقد الاتفاق بين دارسي
D’ arcy
وحكومة إيران على الترخيص له باستخراج النفط من منابعه التي كشفت بعد ذلك بمسجد سليمان، وحصة الحكومة من الأرباح ست عشرة في المائة عدا رسوم الامتياز وحصة بقيمتها من أسهم الشركة.
ولما كثرت المطالب والرهون على مكوس الجمارك وضعت الإدارة كلها في عهدة نوس البلجيكي، وكادت الدولة أن تشهر إفلاسها، وتفاقم سخط الشعب؛ فثار على الشاه وعلى وزيره عين الدولة المسئول عن سياسة القروض والرخص والرهون، ولاذ الثوار بمبنى السفارة البريطانية (يوليو سنة 1906) فأسرع الشاه إلى عزل عين الدولة والمناداة بالدستور، وكظمه الغيظ فمات بعد افتتاح مجلس النواب بأسابيع (ديسمبر سنة 1906).
أما الدولتان المتنافستان على أسلاب فارس؛ فإنهما قابلتا إعلان الدستور بالاتفاق الودي المشهور باتفاق سنة 1907، فاعترفت روسيا بمصالح إنجلترا في الخليج الفارسي، واعتبرت الجزء الجنوبي الشرقي في المملكة «دائرة نفوذ بريطانية» وسلمت إنجلترا باعتبار الجزء الشمالي منها دائرة نفوذ روسية، وتركت بين الدائرتين بقعة مفتوحة لكلتا الدولتين، وختمتا الاتفاق بتوكيد الحرص على استقلال البلاد وسيادتها!
ولم تمض على هذا الاتفاق سنة واحدة حتى كان الشاه الجديد «محمد علي» ألعوبة في أيدي الروس؛ لأنه آثر الخضوع للدولة الأجنبية على الخضوع لأحكام الدستور.
فأغلق المجلس، واعتقل أعضاءه وأنصاره، وأعلن الحكم العرفي، وأمعن في المتظاهرين تقتيلا وتشريدا، واستعان بالجيش الروسي على قمع الثوار في تبريز، وكانت قوتهم فيها غالبة على قوة الشاه.
ثم اغتنمت إنجلترا الفرصة فعملت على إنشاء الشركة الإنجليزية الفارسية لاستغلال امتياز دارسي باستخراج النفط في جزيرة عبدان، واشتد غليان الشعور الوطني فهجم الزعيم البختياري علي قولي خان على طهران وخلع الشاه، ثم ظهرت السياسة الأمريكية في الميدان فقدم إلى طهران مستر مورجان شستر
Shuster
بطلب من المجلس؛ لتنظيم الإدارة المالية، وافتتح عمله بإنشاء فرقة عسكرية في خدمة الخزانة، وتطمين إنجلترا بدعوة ضابط بريطاني لقيادة تلك الفرقة، فأطلقت روسيا الشاه من مأواه وأرسلته إلى «إستر أباد» وأغارت على الشمال منذرة المجلس بالتقدم إلى الجنوب إن لم يبادر إلى طرد شستر ومرءوسيه؛ فرفض المجلس إنذارها، وأصر على استبقائه، وظهرت فجأة في طهران جماعة من الرؤساء ذوي النفوذ بين القبائل؛ فأغلقوا المجلس، وقبضوا على أزمة الحكومة ومن ورائهم قوة الدولة الروسية، وظلت فارس في قبضة الروس إلى ما بعد إعلان الحرب العالمية الأولى.
مراكش
كانت مراكش في بداءة عصر الاستعمار أول هدف للمستعمرين؛ لأنها كانت على أقرب نظرة من دول الاستعمار في أوروبا الغربية، وكانت في الزاوية المقابلة لأوروبا الغربية تشرف على البحر الأبيض وعلى المحيط الأطلسي؛ فكانت في هذا الموقع مطمح الأنظار أمام فرنسا وإسبانيا وإنجلترا، ولكن فرنسا لم تتقدم إليها؛ لأنها كانت مشغولة بحروبها في القارة، وكانت تعلم أن إنجلترا لا تطيق دولة كبيرة على العدوة المقابلة لجبل طارق، وإسبانيا وصلت إلى أوائل القرن التاسع عشر وهي تلهث من الإعياء وتكاد بعد تنازع طلاب الملك فيها أن تصبح في عداد المستعمرات الخاضعة لغيرها. أما إنجلترا فكان جبل طارق يغنيها في ذلك الموقع عن العدوة الأفريقية، وكان همها أن تبقي مراكش في يد أبنائها وفي حوزة حكومة لا تقوى على منازعتها، وكانت وجهتها الأولى أن تحتل البحر الأبيض من شرقه عند مجاز التجارة الهندية، فلم تشأ أن تحسب عليها مراكش بدلا كبيرا في سوق المساومات الاستعمارية، واتفق بعد ظهور ألمانيا في ميدان الاستعمار وانتصارها على فرنسا أن المسألة بحذافيرها طرحت على مائدة المؤتمرات الدولية، فتفاهمت فرنسا وإنجلترا على التعاون المشترك في قضيتي مراكش ومصر، واستقر الرأي على تقسيم مراكش بين فرنسا وإسبانيا والمنطقة الدولية.
وقد بدأ القرن التاسع عشر ومراكش على شيء من القوة بالقياس إلى بلاد إفريقية الشمالية، فتصدى زعماؤها لمقاومة الفرنسيين بالجزائر بعد أن سلمت الدولة العثمانية بمركز الفرنسيين فيها، وزحف الجيش المراكشي إلى تلمسان مستثيرا قبائل العرب والبربر في طريقه، واستطاع «أبو معزى» المراكشي أن يقتحم الجزائر بعد احتلالها بخمس سنوات، ولم يتمكن القائد الفرنسي من مقاومته إلا بنجدة قوية جاءته من فرنسا، ولكن سلطان مراكش لم ينقطع عن مناوشة فرنسا بعد هزيمة أبي معزى وأسره، إلى أن تلاقى الجيش المحتل وجيش السلطان في سنة 1844؛ فمنيت جيوش السلطان بهزيمة منكرة اضطربت لها جوانب المغرب، ونبهتها من غفلتها؛ فنهضت لإصلاح الجيش، وتثمير المرافق الوطنية، ووافق ذلك قيام السلطان «مولاي الحسن» بالملك - وهو من أقدر سلاطين المغرب - فأحسن التصرف في مواجهة الدول المستعمرة والاستفادة من تنافسها وتنازعها، وأدخل الأساليب العصرية على دواوين الحكومة ومعامل الصناعة ومدارس التعليم، وأكثر من إيفاد البعثات إلى جامعات الغرب؛ لتخريج الخبراء في الشئون الفنية والعسكرية، ومن فضائح الاستعمار: أن الدول الموقعة على معاهدة مدريد احتجت عليه حين اتصل بالآستانة لمثل هذا الغرض، واعتبرت ذلك منه اشتراكا في حركة دينية معادية لا تنظر إليها بعين الارتياح والاطمئنان، واستنكرت تجديد العلاقة بين حكومة الآستانة وحكومة طنجة، والتمهيد لتبادل السفارات بينهما؛ لأنه يغير الوضع السياسي الذي اتفقت تلك الدول على أن تلاحظ فيه بقاء الحالة الراهنة.
ولم ينته القرن التاسع عشر حتى كانت دول الاستعمار في موقف يسمح لها بالتفاهم على هذه القضية العسيرة. فبريطانيا تحسب حساب اليقظة الوطنية في مصر فتجنح إلى مسالمة فرنسا، وفرنسا تسترضي إيطاليا وتعدها بالإغضاء عن مطامعها في ليبيا، والنمسا تطمع في بلاد البشناق من تراث الدولة العثمانية، وألمانيا تعلم أن الحرب العالمية دون وصولها إلى مقام في المغرب الأقصى؛ لمعارضة إنجلترا وفرنسا، وترضى بنصيبها في الكونغو وبلاد التوجو من القارة الأفريقية.
وفي هذه الأثناء توفي السلطان الحسن وخلفه السلطان عبد العزيز، والمغرب الأقصى في أشد مآزقه وأحوجها إلى الحزم والحنكة، فعبث في مقام الجد وسوأ سمعته في العالم الإسلامي فضلا عن العالم الأوروبي بما كان يشتغل به - أو يتلهى به على الأصح - من سفساف الأمور، وأرسل إلى مصر وغيرها في طلب المغنيين والراقصات، وأطمع الدول في العدوان على بلاده بهزله وغرارته، فانعقد مؤتمر الجزيرة (سنة 1906) في أسوأ الظروف بالنسبة إلى المغرب، وشهده مندوبون من قبل السلطان وافقوا على ما تقرر فيه باتفاق الدول التي اشتركت فيه، وعدتها بضع عشرة دولة، وكانت قرارات المؤتمر في ظاهرها مؤيدة لاستقلال مراكش وسيادتها، ولكنها ناطت بفرنسا مهمة الحراسة وتنظيم إدارة الشرطة، فكان هذا الاعتراف بالاستقلال والسيادة من قبيل اعتراف إنجلترا وروسيا باستقلال إيران ذودا للدول الأخرى عنها وانفرادا بالنفوذ فيها، ومعنى الحراسة الفرنسية مع هذا الاستقلال: هو إطلاق يد فرنسا شيئا فشيئا في البلاد، وتحريم التعرض لها على غيرها.
وشبت الثورة الوطنية على أثر مؤتمر الجزيرة؛ لعجز السلطان، واسترساله في لهوه، وإسراعه إلى إقرار الوضع الجديد في بلاده، فبويع السلطان عبد الحفيظ بعده، وتعهد قبل مبايعته بمقاومة السيطرة الأجنبية، وإعلان الاحتجاج على قرارات مؤتمر الجزيرة. فتعلل الفرنسيون بهذه المقاومة للعهود الدولية، وأغاروا على العاصمة وأعلنوا الحماية، فكان إعلانها في تلك الآونة (1912) أول خطوة من الخطوات الحثيثة التي دفعت بالعالم إلى الحرب العالمية الأولى، ثم انطلقت يد فرنسا بعدها في شمال أفريقيا بغير معارضة من الدول المنهزمة التي كانت تحول بينها وبين التبسط في مطامع الاستعمار.
الفصل الخامس
أمم غير مستقلة
وهكذا تطورت الحوادث بالدول الإسلامية المستقلة خلال القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين.
أما الأمم التي كانت في حكم غيرها خلال هذا القرن؛ فشأنها في حاضر الإسلام ومستقبله لا يقل عن شأن الدول المستقلة، سواء بكثرة عددها ومواقع بلادها ومكانتها من عالم الحضارة، وأكثر المسلمين عددا على هذا الترتيب هم: مسلمو الهند ومسلمو الجزر الشرقية (إندونيسيا) ومسلمو الصين.
الهند
في أوائل القرن التاسع عشر ثبت حكم الإنجليز في الهند، وخيل إلى الأكثرين أنه قد صار فيها معلما من معالم الإقليم كالجبال والأنهار، وتندر المتندرون بموعد خروجهم منها، فرددوا تلك الكلمات المشهورة عن المواعد التي تضرب لوقوع المستحيل، ومنها: أنهم يخرجون في الثلاثين من شهر فبراير، أو يخرجون حين يلتقي أحدان، أو حين يلتقي المشرق والمغرب، وهيهات يلتقيان.
وإذا كان ثمة أحد في الهند كان يؤمن بخروج الإنجليز منها لا محالة فهم مسلموها؛ لأنهم على يقين بوعد كتابهم أنهم هم الأعزة إذا استقاموا من أمورهم، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وقد شعر المستعمرون بصعوبة مراس هذه الأمة، ودخلوا الهند والدولة التي تقودها في أيدي المسلمين، فحاربوهم، وعملوا على إضعافهم، وصرح أحدهم لورد إلنبرو
Ellenbr ough
بعداوتهم فقال: «ليس في وسعي أن أغمض عيني عن اليقين بأن هذا العنصر الإسلامي عدو أصيل العداوة لنا، وأن سياستنا الحقة ينبغي أن تتجه إلى تقريب الهنديين» وجهر لورد إلفنستون
Elphinstone
في سنة 1858 بوجوب التفرقة بين المسلمين والهنديين في إدارة البلاد، وهي الخطة التي نادى بها كاتب المجلة الآسيوية قبل ذلك بنيف وثلاثين سنة. «وكان المسلمون في إبان دولتهم قانعين من الحياة العامة بالوظيفة الحكومية، وذادهم عن الاشتغال بالصيرفة أنهم يحرمون الربا، وعن ملك الأرض أن الأرض لم تكن مملوكة لأحد ولكنها كانت متروكة للزراع والجباة الذين يؤدون للحكومة حصتها من الضرائب، وكان أكثر هؤلاء الجباة من البرهميين المشتغلين ببيع الغلال وتصريفها، فلما أصدر الإنجليز قانونا لتسوية مسائل الأرض الزراعية جعلوا هؤلاء الجباة ملاكا، وجعلوا الزراع أجراء في أرضهم، واعتمدوا على هذا النظام زمنا لتحصيل الضرائب ومحاسبة الجباة عليها، فاجتمع الحرمان من الوظائف والحرمان من الأرض على إقامة العزلة بين المسلمين وغيرهم في الحياة الاجتماعية.»
1
ثم زاد المسلمين ضعفا: أنهم حرموا وسائل التعليم الحديث؛ لأن المدارس الحديثة كانت في أيدي المبشرين، وأن البراهمة بالغوا في عزلة الطوائف والطبقات بعد انتشار الإسلام بين صفوفهم، وشرح ذلك أحدهم الأستاذ لونيا مدرس التاريخ وعلم السياسة بكلية هولكار فقال: «إن المسلمين أول قوم أغاروا على الهند، ولم تستوعبهم حياة القارة الهندية المرنة التي لا تني تمتد وتنطوي على المغيرين، وقد أغار قبلهم كثيرون كالإغريق والسيثيين والمغول والمجوس وغيرهم، وانطووا في الغمار بعد أجيال قليلة انطواء تاما بأسمائهم ولغاتهم وعاداتهم وعقائدهم وأزيائهم وآرائهم، وفنيت جموعهم في الواقع خلال المجتمعات الهندية إلا المسلمين؛ فإنهم لم يزالوا في الهند طائفة منفصلة، ورفضت نياتهم المتشددة في الوحدانية كل هوادة في قبول الشرك والأرباب المتعددة، ومن ثم عاش المسلون والبرهميون في أرض واحدة دون أن يمتزجوا، ولم تفلح محاولة من المحاولات في وضع القنطرة على الفجوة، وما برح المسلمون خلال القرون التالية يولون وجوههم شطر الكعبة بمكة، وينفردون بشريعتهم ونظام إدارتهم ولغتهم وأدبهم وأضرحتهم وأوليائهم.»
وشهد المؤلف بفضل المسلمين في تعليم أهل الهند مبادئ المساواة، ولكنه قرن هذه الشهادة بقوله: «إن إحدى النتائج التي نجمت من حكم المسلمين في الهند أن المجتمع قد انقسم في عهدهم قسمة رأسية، وكان قبل القرن الثالث عشر ينقسم ولكن قسمة غير رأسية، ولم تستطع البوذية ولا الجينية أن تحدثا مثل هذا الانقسام؛ لأنهما ما عتمتا أن اندمجتا في المجموع بسهولة وسرعة، على حين أن الإسلام قد شق المجتمع من الأسفل إلى الأعلى شطرين متقابلين: براهمة ومسلمين. فنشأ في أرض واحدة مجتمعان متوازيان متغايران في جميع طبقاتهما قل أن تصل بينهما علاقة في المعيشة أو معاشرة، واشتدت محافظة البرهميين أمام غيرة الإسلام في نشر دعوتهم الدينية، فاندفعوا مع خوفهم وحرصهم على حماية مجتمعهم، والمبالغة في قيود الطبقات والطوائف وما إليها من القيود الاجتماعية.»
وهذه القيود الاجتماعية تشمل الطعام والشراب والأعراس والمآتم بما فيها من مباحات عند قوم محرمات عند آخرين.
وازدادت هذه العزلة بعد شيوع المقاومة الوطنية بين الهنديين؛ لأن زعيمها الأكبر طيلاق بنى دعوته صراحة على تخليص الهند من الغرباء، وإلغاء اللغة الأردية، وإبطال القوانين التي تحترم شعائر المسلمين، ونظر إلى المسلمين نظرته إلى الإنجليز، ثم نهجت على سنته جماعة الغلاة الذين جهروا بضرورة القضاء على كل أثر للإسلام في الهند، وندبوا أحدهم لقتل غاندي؛ لأنه كان يوصي بغير هذه الخطة في معاملة المسلمين.
إن الأستاذ لونيا الذي اقتبسنا ما تقدم من كلامه لم يعلل نجاح الإسلام حيث أخفقت البوذية والجينية، ولو أنه علل هذا النجاح بعلته الصحيحة لأظهر الخطأ البين في قول القائلين: إن الإسلام قد شاع بين المنبوذين؛ لأنه خولهم حقوق المساواة بينهم وبين سائر الطبقات؛ فإن البوذية كانت خليقة أن تنجح مثل هذا النجاح لو كان مرجعه إلى معاملة المنبوذين، وإنما يتجلى هنا سر نجاح الإسلام الذي أجملنا بيانه فيما تقدم من هذه الرسالة؛ وهو شمول العقيدة الإسلامية وعلاجها النفس الإنسانية من داء الفصام الذي يقلقها، ولا يريحها إلا باعتزال الدنيا، وحل المشكلات بتجاهلها والخروج منها، فهذا الشمول هو مصدر القوة الغالبة والقوة الصامدة في المسلمين، وهو هو البقية التي بقيت لهم في الهند بعد زوال الدولة، وزوال المناصب الكبرى والوظائف الصغرى، والحرمان من ثروة الأرض والمال، ومن زاد العلم الحديث والخبرة العملية، والعزلة أمام الحكومة المسيطرة وأمام الكثرة التي تربو على ثلاثة أضعاف، ومن أعماق هذه العقيدة الشاملة نجمت لهم عدة الخلاص حين لم يبق للهندي المسلم من عدة غير أنه مسلم وكفى، وتحركت بينهم أقدر دعوة للإصلاح برعاية السيد أحمد خان، ويرجع مبدؤها إلى إنشاء جماعته العلمية في عليجرة (سنة 1861) ثم إنشاء صحيفته «تهذيب الأخلاق» وكلية عليجرة بعد رحلته إلى إنجلترا (سنة 1870).
وتشعبت حركات الدعاة الإسلاميين في الهند خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر على حسب اتساع الأقاليم والمشارب، فظهر فيها من اتخذ من ابتداء القرن الرابع عشر للهجرة حجة للظهور بدعوة الإصلاح، ثم دعوة المهدية على قول من قال: إنه يظهر على رأس كل مائة سنة داع يجدد شباب الدين، ومن هؤلاء غلام أحمد خان القادياني الذي نشر في أوائل القرن الهجري كتابه «براهين الأحمدية» ثم ادعى أنه المسيح المنتظر بعد بضع سنوات، ثم ادعى (سنة 1904) أنه أقنوم كرشنا وأقنوح الروح الإلهي كله؛ فاتبعه في أول الأمر طائفة من المصدقين، ثم انقسم أتباعه فريقين؛ فريق يدين بنبوته، وفريق يحسبه من المصلحين ويرفض ما يروى عنه من دعوى النبوة والحلول، وقد أحيط ظهور القادياني بالشبهات؛ لأنه لقي من تشجيع الحكام البريطانيين ما لم يكن مألوفا منهم في معاملة أمثاله، ثم جاءت فتواه بقبول الحكم الأجنبي وتفسير أمر الجهاد على هوى الحكومة مرجحة عند الأكثرين لتلك الشبهات، وإنما استحق الخلاف عليه أن يقوى؛ لأن هذه الفتوى حملت على محمل التقية، وهي مقبولة في اعتقاد بعض الفرق من الشيعة منذ لقي الدعاة إلى أهل البيت ما لقوا من عسف الأمويين والعباسيين.
على أن الهند - مع بعدها في المشرق - كانت تتجاوب بكل صدى قريب أو بعيد من الدعوات الإسلامية في بلاد العرب، فسرعان ما ظهرت دعوة ابن عبد الوهاب بجزيرة العرب حتى تردد صداها في البنغال (سنة 1804) واتبعتها طائفة الفرائضية بنصوصها الحرفية. فاعتبرت الهند دار حرب إلى أن تدين بحكم الشريعة، ثم تردد صدى الدعوة الوهابية بعد ذلك بزعامة السيد أحمد الباريلي في البنجاب، وأوجب على أتباعه حمل السلاح لمحاربة السيخيين، وتقدمهم في القتال حتى قتل (سنة 1831) ونهض من بعده تلميذه «كرامة علي» فاتصل بطريقة الفرائضية، وأفتى بأن البلاد الإسلامية تجب فيها صلاة الجمعة ولا تحسب من ديار الحرب وإن كان الحكم فيها لغير المسلمين.
وترامت إلى الهند أنباء الدعوة المهدية في السودان، وبخاصة بعد وقعة «هكس» المشهورة، وانهزام القائد الإنجليزي فيها، فقد حذر الإنجليز مغبة هذه الدعوة، ونشروا في أرجاء الهند مئات الألوف من فتاوى العلماء المنكرين لها، وذهب بعض ساستهم إلى الزعيم المصري «أحمد عرابي» في منفاه بسيلان يسألونه عن مهدي السودان، فكان جوابه لهم من جنس السؤال، وقال لهم: إن المهدي في الإسلام هو كل من هداه الله.
وقد تطلعت الهند إلى دعوة جمال الدين الأفغاني كما تطلعت إلى الدعوات التي سبقتها، وصح فيها أنها كانت لاتساعها وتعدد بيئاتها أصلح الميادين لتجربة النافع والضار من حركات العاملين باسم الدين، فثبت من تجاربها جميعا أن أصلح الحركات وأدومها أثرا هي حركات التجديد التي تجاري العصر ولا تنقطع عن أصول الدين، وأخفقت فيها حركات الجامدين المتشبثين بالحروف، كما حبطت فيها حركات المبتدعين الذين انقطعوا عن الأصول، وخرقوا في العقيدة خرقا يخالف جوهر الإسلام.
ولقد بدأ القرن العشرون والمسلمون في الهند يتطلعون إلى دولة الخلافة، ثم أسفرت الحرب العالمية الأولى عن شدة في الحركة الوطنية لم تكن معهودة من قبلها، ثم بلغت هذه الشدة قصواها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتعاقبت التجارب التي يراد بها تسليم الوطنيين زمام الحكم حتى استقرت على التجربة الأخيرة بقيام دولتي الهند والباكستان.
إندونيسيا
وإذا كانت الهند أوفى الميادين بتجارب الحركات الدينية فالجزر الإندونيسية أوفى الميادين بتجارب الاستعمار بأنواعه ومشتقاته؛ لأنها كابدت ضروب الاستعمار التجارية والزراعية والثقافية والسياسية، واختبرت أساليب البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والإنجليز، واليابانيين، وعاصرت الاستعمار من أيامه الأولى في الشرق إلى أيامه الأخيرة على النحو الذي صار إليه في القرن العشرين، ولا نظن أن خطة من خطط الاستعمار اتبعت في ناحية من أنحاء العالم لم يتبع لها شبيه في هذه الجزر التي تعد بالألوف.
ولعل هذه الجزر أصلح مكان لتقرير الحقائق عن سر انتشار الإسلام بين الأمم التي كانت تدين بغيره قبل وصوله إليها. ففي كل موضع فيها تصحيح لأوهام من يزعمون أنه دين ينتشر بالسيف ولا ينتشر بغيره، وفي كل موضع دليل من الواقع على فعل القدوة الحسنة في انتشاره بغير عنف؛ بل بغير اجتهاد في الدعوة أكثر الأحيان، وحيثما وجد التجار والرحالون من العرب على شواطئ هذه الجزر فهناك مسلمون على المذهب الذي يأتمون به من مذاهب الأئمة الأربعة، وإذا كان الترك على الأغلب يأتمون بمذهب أبي حنيفة، وكانت للعشائر التركية دولة في الهند، فالدولة لم تصل إلى الجزر بسلطانها وقوتها، بل وصلت إليها بالمسافرين من تجارها، ومهاجريها، ولهذا يوجد الحنفيون حيث وجد هؤلاء التجار والمهاجرون، ويوجد إلى جانبهم أتباع المذهب الشافعي الذين اقتدوا بالعرب القادمين من بلادهم غرباء بغير دولة ولا صولة تكره الناس على مذهبها في شئون العقيدة، وهي أعصى الشئون على الإكراه. ومع هؤلاء وهؤلاء يوجد الشيعة حيث لم توجد قط دولة ذات سلطان تدين بمذهب من مذاهبها، ولم يزد عدد العرب في القرن التاسع عشر على ثلاثين ألفا في جميع جزر الأرخبيل، ولكن المسلمين يقاربون سبعين مليونا من أبناء البلاد الأصلاء وبعض الهنود.
وهذه البلاد من أغنى أقطار العالم بالمحصولات الزراعية، ينمو فيها القصب والبن والشاي والأرز والبطاطس، وتنبت فيها الأشجار التي تخرج الأصماغ المختلفة ومنها صمغ المطاط، وأشهر محصولاتها: الأبازير والتوابل التي تهافتت عليها أوروبا، ومن أجلها حاول الرحالون في القرن الخامس عشر أن يصلوا إلى منابتها من المغرب، فانكشفت لهم القارة الأوروبية على غير انتظار، وسميت جزرها بجزر الهند الغربية مقابلة لهذه الجزر التي كانت تعرف باسم جزر الهند الشرقية.
لا جرم كانت قبلة المستعمرين الأول، وصحبت الاستعمار من أول بعثاته إلى عهده الأخير.
وأبناء هذه البلاد يتكلمون لغة واحدة هي لغة الملايا، وشيوع هذه اللغة بينهم مع شيوع الإسلام هو الذي وحدهم وعودهم الشعور بقومية واحدة، على الرغم من الجهود التي بذلت للتفرقة بينهم بإحياء اللهجات الإقليمية، وتشجيع «الأبجديات» التي تلائم كل لهجة منها، ومن مفارقات الزمن أن الاستعمار قد زود هذه اللغة، على غير قصد منه، بالأبجدية اللاتينية التي رسمت لها كتابة واحدة لا يسهل تنويعها وتفريقها على حسب اللهجات في معاهد التعليم الحديث.
جاءها البرتغاليون عند ختام القرن الخامس عشر، ولم يعرفها الهولنديون إلا بعد قرن كامل، ثم تبعهم الإنجليز والفرنسيون، وظفر الهولنديون بمعونة أبناء البلاد؛ لأنهم جاءوهم بعد البرتغاليين ، فحالفهم الوطنيون للخلاص من هؤلاء وإقصائهم عن أسواق المشرق، وتكاثرت شركات التجارة الهولندية تنافسا على الربح الغزير الذي استأثرت به الشركة الأولى، فوحدت حكومة هولندا بين هذه الشركات، وجمعتها إلى شركة واحدة هي شركة الهند الشرقية الهولندية، وقد تعاقدت هذه الشركة في مطلع القرن السابع عشر مع مملكة بنتام على احتكار التجارة في موانئها وأسواقها، وإعفائها من الضرائب، وإمدادها بالجند والعدة اللازمة لصد الشركات الأوروبية الأخرى، إذا أدى إغلاق الموانئ دون سفنها إلى الاعتداء على بلاد المملكة.
ولما وفد التجار الإنجليز على الجزر كان الهولنديون قد أسرفوا في مطالبهم، فرحب القوم بالإنجليز، وأعانوهم على الشركة الهولندية، ولكن هذه لم تلبث أن عادت بقوة بحرية كبيرة، وحاصرت الموانئ، ومنعت خروج السفن منها، ثم تغلبوا على جزيرة جاوة، وافتتحوا عهد استعمارهم بإنشاء مدرسة في العاصمة «جاكرتا» تتبعها كنيسة، واغتنموا فرصة النزاع بين الأمراء، فضربوا بعضهم ببعض، وكادوا ينهزمون لولا المعونة الوطنية التي أسعفتهم مرارا في أشد أوقات الحاجة إليها.
إلا أن التنافس التجاري بين المستعمرين قد اضطر الشركة إلى التحول من التجارة إلى الزراعة، واضطرها التنافس كذلك إلى الإكثار من بناء السفن الحربية، والاستعداد بالأسلحة والذخائر، ووقعت الحرب بين الدولتين الهولندية والإنجليزية؛ فكسدت تجارة الشركة، ولجأت إلى الاستدانة، ونزلت على كره منها عن عقود الاحتكار التي اتفقت عليها مع الوطنيين، ثم احتلت فرنسا أرض هولندا في أثناء الحرب الفرنسية الإنجليزية، فاستولى الإنجليز على مستعمرات هولندا جميعا، وآلت البلاد إلى شركة الهند الشرقية الإنجليزية حتى أوائل القرن التاسع عشر، فسعى بعض الأمراء والمصلحين إلى الحاكم الإنجليزي لإقناعه بتوحيد الإمارات الإندونيسية في شبه ولايات متحدة تتولاها هيئة نيابية، فلم يقبل مجلس الشركة في لندن هذا الاقتراح! واستعاض عنه بالإكثار من الحكومات المحلية، وإلغاء قوانين السخرة، وتخفيف بعض الضرائب، واحتكار تجارة الملح لتعويض خزانة الشركة عن الضرائب الملغاة.
ولما عاد إلى هولندا استقلالها بعد انهزام نابليون أمام الجيش الإنجليزي الهولندي في وقعة «واترلو» طالبت بمستعمراتها المختلفة فردت لها، وأظهر القادة العسكريون المسيطرون على تلك المستعمرات عصيانا «متفقا عليه» حتى تم الاتفاق بين الدولتين (سنة 1824) على تسوية تحفظ لإنجلترا جزءا من المستعمرات، وتعيد سائرها إلى الحكومة الهولندية.
وعادت الإدارة الهولندية إلى السخرة، وزيادة الضرائب، وحرمان البلاد من غلاتها ومحاصيلها، فتعاقبت الثورات مع المجاعات والأزمات الاقتصادية، وكاد السخط على الحكومة المستعمرة أن يعصف بها لولا استغلال الوقيعة بين أمراء الممالك، وتأليب صغارهم على كبارهم، وانقياد صغارهم للدسيسة الأجنبية خوفا على سلطانهم المحدود من غلبة الأمراء الكبار عليهم، ولم تهدأ هذه القلاقل إلا في السنوات الأولى من القرن العشرين، ثم أذعنت هولندا كما أذعن غيرها من دول الاستعمار لمطالب النهضات الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى، فاستجابت للشعب الإندونيسي إلى بعض حقوق الحكومة الذاتية، وقامت المجالس النيابية في هذه البلاد لأول مرة في ظل الاستعمار.
ويرجع فضل النهضة الوطنية إلى يقظة المسلمين، وتأسيس أول جماعة من جماعات الإصلاح باسم «شركة إسلام» وهي الجماعة التي انضوت إليها جماعات متعددة بعد ذلك باسم «مسجومي» ... كلمة منحوتة من «مجلس سجورو مسلمين إندونيسية»
Madjelis Sjuro Muslimin Indonesia .
وأكثر القائمين بهذه الدعوة من تلاميذ الشيخ محمد عبده، وقراء تفسيره بمجلة المنار؛ لأنهم استفادوا من تجارب الإصلاح السابقة على مقربة منهم في الهند، واتفق نشاطهم للإصلاح بعد توافر أسبابه في إبان دعوة الأستاذ الإمام بالديار المصرية، وهي دعوة تعول على تعزيز الجامعة الإسلامية من الوجهة الثقافية، ولا تشتد في طلبها من الوجهة السياسية على طريقة جمال الدين، وقد تمحصت التجارب خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر بعد حركة الجامعة الإسلامية الأولى، وبعد حركة الخلافة في الهند، فأسفرت عن رجحان المنهج القويم الذي اختاره الأستاذ الإمام رحمه الله.
الصين
ومسلمو الصين لهم تاريخ يتناقلونه عن السلف وتغلب عليه الصحة، وإنما يرجع الخطأ فيه إلى تعديل التقاويم الصينية من حين إلى حين، بحيث تتسع في بعض العصور لفرق عشرين أو ثلاثين سنة تزيد تارة وتنقص أخرى، وعلى حسب التاريخ الذي يتناقلونه يكون الإسلام قد دخل إلى الصين بعد الهجرة النبوية بقليل، وقد هزم المسلمون الفرس والروم معا بعد الهجرة النبوية بجيل واحد، فأرسل كلاهما إلى الصين يستغيثون بابن السماء، ويهولون له في خطب هذا العدو الظافر؛ ظنا منهم أن هذا التهويل يحفزه إلى المبادرة بإغاثتهم في الطريق حرصا على حدود الصين، فكان هذا العاهل أحذر مما حسبوه، ودعته استغاثة الروم بعد استغاثة الفرس إلى مسالمة هذه القوة الجديدة، فأوفد رسله إلى الخليفة عثمان، وقابل الخليفة هذا التقرب بمثله، فأوفد إليه بعثة قوبلت بالحفاوة والترحاب.
وقبل أن يمضي قرن واحد على هذه الزيارات عرضت لبلاط الصين تلك المشكلة التي حيرت سفراء الغرب وقهارمة البلاط في مملكة ابن السماء بعد أكثر من عشرة قرون، حين اشترط ابن السماء على السفراء أن يتقدموا إليه راكعين، وعز على هؤلاء السفراء أن يحيوه بتحية أكبر من تحياتهم لملوكهم فإن العاهل «سوان تسنج» غره ما سمعه عن اضطراب أحوال الدولة الإسلامية، فجرد على تخومها جيشا كبيرا يريد أن يدحر به جيش قتيبة بن مسلم الرابض على تلك التخوم. فانهزم، وأمر قتيبة الرسل الذين أنفذهم إلى بلاط ابن السماء أن يعرضوا عليه الإسلام أو الجزية أو مواصلة القتال. فدخل هؤلاء الرسل على ابن السماء لأول مرة مترفعين عن السجود منذرين متوعدين، ثم مات الخليفة الوليد، وقتل قتيبة، وأجزل العاهل عطاء الجيش الإسلامي، وأذن لهم بالبقاء في بلاده، فسموا باسم القبيلة الصينية التي كانت إلى جوارهم ودانت بالإسلام مقتدية بهم، وهي قبيلة هوى شوي، ولا يزال المسلمون جميعا يعرفون باسم «هوى هوى» في جميع بلاد الصين.
ويؤخذ من سجلات أسرة تانج أن الدولة كانت تمنح الأسر الإسلامية المقيمة في «سيانغو» خمسمائة ألف أوقية من الفضة كل سنة، وهو عطاء فرضته الدولة على نفسها مكافأة لهم على نجدتهم للعاهل «سوتسنج» الذي ثار به الجند بعد إكراه أبيه على النزول عن العرش، فاستنجد بالخليفة العباسي أبي جعفر فأمده ببضعة آلاف جندي هزموا الثوار، وأقروه على عرشه، فاستبقاهم في أرضه (سنة 757) ومن هؤلاء ومن سبقهم من جنود قتيبة تناسل المسلمون في غرب الصين.
إلا أن المسلمين قد دخلوا الصين من غير طريق الغرب، ولم ينقطع تجارهم وسياحهم والملاحون منهم عن زيارة موانئ الجنوب في كانتون وما جاورها، وأوغل بعضهم إلى داخل البلاد من الجنوب والغرب والشمال مع القبائل الرحل، فلم يخل منهم إقليم في الأقطار الصينية على الإجمال، ويسمى المسلمون في الشمال الغربي عند قانصوه وشنسي بالتنجان، أي: المنتقلين إلى الدين الجديد، ويسمون في سنكيانج بالترك؛ لأنهم من السلالات التركية في التركستان، ويسمون في يونان بالبنشاي، وهم من سلالة الترك والعرب وأهل الصين الأقدمين، وليس هؤلاء جميعا من سلالة المسلمين الأولين، بل منهم أناس من أبناء الصين آثروا الإسلام إعجابا بأهله، ومنهم من كان آباؤهم يبيعونهم في أعوام المجاعة فينشئون بين المسلمين على عقيدتهم، ولم يحل تحريم المسلمين أكل الخنزير وتعاطي الخمر والمخدرات دون اجتذاب جيرانهم إلى دينهم بالقدوة الحسنة والمعاملة المرضية والأمانة في التجارة والزراعة، فأسلم كثيرون بغير إكراه على قلة اكتراث الصينيين بالتحول من دين إلى دين؛ لأنهم لا يبالون ما يعتقدون إذا تركت لهم عبادة الأسلاف ورعاية التقاليد في الشعائر وآداب السلوك.
وقد شقي المسلمون في الصين بحكم أسرة المانشو في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعلمت هذه الأسرة الواغلة تاريخ المسلمين في نصرة الأسرة المخذولة، فأشفقت من ثورتهم، وتعللت لهم بالعلل التي تصطبغ بصبغة الدين لتنفير البوذيين منهم، فحرمت عليهم ذبح البقر (سنة 1731) مع أنها تبيح ذبح الخنازير، وظنت أنها ترضي بذلك طوائف البوذيين، وترضي سائر أهل الصين الذين يبيعون الخنزير، ويسرهم أن يضطر المسلمون إلى أكله بعد تحريم لحوم البقر عليهم، فثار المسلمون، وتتابعت ثوراتهم، وهزموا جنود الحكومة في معارك كثيرة؛ ومنها معركة في التركستان الصينية قتل فيها ألفان وانتحر الوالي خوفا من القصاص (سنة 1863)، وفي هذه الآونة استقل البطل التنجاني يعقوب بك بحكم التركستان، وأوشك أن ينفصل بها وبالإقليم المجاور لها لولا أنه مات فجأة (سنة 1877) واختلف أتباعه وقادة جنده، فتلاحقت بعده المذابح والثورات، إلى أن سقطت دولة المانشو، وكان لثورات المسلمين في الغرب والشمال أثر في إسقاطها، وتحريض الناقمين منها على مهاجمتها.
وقد أحس المستعمرون الشرقيون والغربيون وطأة الصينيين المسلمين في حروب تلك الدول مع الصين، وكانت اليابان أول من تعرض لبأسهم في حربها مع الصين (سنة 1875) فخطبت ودهم وتقربت منهم جهرة وخفية، ثم أوفدت سفراءها من أمراء البيت المالك إلى دار الخلافة؛ لتستميل إليها المسلمين الصينيين في خصوماتها مع أسرة المانشو ومع الروس في وقت واحد، وكانت أسرة المانشو قد حرمت على المسلمين الاتصال بالعالم الخارجي؛ فتعذر عليهم أداء فريضة الحج، ولكنهم كانوا يتحايلون على الخروج لأداء هذه الفريضة بمختلف الحيل، فلما أحست بمساعي الدول بينهم، وتسلل الدعاة إليهم من اليابان والروس والترك وحكومة الهند - ضربت حولهم السدود، وحظرت العودة على من يغادر منهم البلاد للحج أو لطلب العلم، فنشأت بينهم عادة غريبة وهي عادة الحج بالنيابة، وتوافد عليهم فقراء المسلمين من الأمم القريبة؛ لينوبوا عنهم في الحج بأسمائهم، خوفا من النفي الدائم إذا غادروا البلاد بغير إذن الحكومة، ولم تخل القيود من أثرها المحمود. فإنها ضاعفت عنايتهم بدراسة الدين وحفظ القرآن؛ فكثر بينهم من يعرفون لغته، ويقرءون بها قراءة المجتهد في أرض معزولة عن الثقافة العربية، وتعزى إلى هذه الفترة نهضة التجديد بين مسلمي الصين الغربية، وهي كسائر النهضات مقبولة عند فريق، مستنكرة أو مشتبه فيها بين فريق المحافظين على كل قديم.
ولا يزال مسلمو الصين في غمرة من جرائر الظلم الذي حاق بهم على عهد الأسرة المنشوية، ولم يرتفع عنهم كثيرا بعد قيام الجمهورية، ولكنهم على أية حال كانوا في مطلع القرن العشرين قوة لا تهمل في حساب أحد يعنيه أمر الصين كلها، ولهذا جعلتهم الجمهورية عنصرا من العناصر الخمسة التي يقوم عليها بناء النظام الجديد.
الفصل السادس
أمم أخرى
تلك في العالم الإسلامي أكبر الجماعات التي بقيت إلى ختام القرن التاسع عشر في حكم غيرها، وهي جماعات كبيرة حتى بالقياس إلى أكبر الجماعات من حولها؛ إذ ليست الصين مثلا على عقيدة واحدة بملايينها الأربعمائة، ففيها الطاويون والبوذيون وأتباع كنفشيوس، وطوائف شتى لا تقيم شعائرها في بيعة واحدة، وقد تواترت الأدلة على الرغبة في الإقلال من عدد المسلمين بين هؤلاء في جميع الإحصاءات الحكومية وغير الحكومية، ولم تتبدل هذه الرغبة بعد إعلان الجمهورية، فقال دكتور ليمان هوفر معتمدا على مراجع الحكومة العامة: إن عددهم يتراوح بين سبعة ملايين وعشرة، وكشف الأستاذ أحمد علي الباكستاني عن خطأ هذا الإحصاء معتمدا على عدة مراجع، منها دليل الصين الرسمي في سنة 1943، فإن تعداد سنكيانج وحدها في ذلك الدليل 4360020 وتعداد قانصوه 6255467 وتعداد شنسي 9799617 وكلها بلاد إسلامية أكثر من فيها مسلمون، وهذا عدا مسلمي يونان وشنغهاي ونتغسية وهم هناك قلة كبيرة، وعدا المسلمين بوادي اليانجستي، وقد ذكر ولز وليامس إحصاءهم في كتابه الذي ظهر قبل خمسين سنة (1883) فقدرهم بناء على ذلك الإحصاء بعشرة ملايين، ولا حاجة إلى شواهد أخرى أو إلى استقصاء سائر الأقاليم لإثبات تلك الرغبة في الإقلال من عدد المسلمين الصينيين، فقد يرى بعضهم أن الجماعة الإسلامية التي كان ولاة الأمر الصينيون يودون الإكبار من شأنها لم تذكر كل الحقيقة حين كتبت - بإذن ولاة الأمور - أنها تمثل خمسين مليونا من الصينيين.
ووفرة العدد هنا لها شأنها الخطير في قارة كالقارة الآسيوية يتقدم اعتبار العدد فيها اليوم على كل اعتبار.
وهناك شأن آخر لا بد من الالتفات إليه في كل كلام يتعلق بالجغرافية الإسلامية، فلا يخفى أن البلاد الإسلامية تبتعد عن شواطئ البحار بتدبير أو بغير تدبير، وذلك مصدر ضعف لها في بعض المواقع ومصدر قوة لها في المواقع الأخرى، فالمسلمون في وسط آسيا قوة؛ لأنهم هناك ميزان القارة الداخلية لا يتم أمر من الأمور في سياسة العالم التي ترتبط بتلك المواقع إن لم يحسب فيه حسابهم قبل كل حساب، ولكنهم في الجزر الهندية الشرقية يملكون الشواطئ فلا يهمل شأنهم في كل سياسة عالمية لها علاقة بحرية، وهم في الباكستان شرقا وغربا يتوسطون البر والبحر، فلا تنفصل سياسة القارة الآسيوية بعد النظر إلى هذه الاعتبارات كافة عن سياسة الإسلام.
وتعاصر هذه الجماعات الإسلامية الآسيوية أمم شتى لا تساويها في العدد، ولكنها ملحوظة المكانة والمكان لغير ذلك من الاعتبارات، وفي طليعتها وادي النيل والبلاد العربية.
وادي النيل
فوادي النيل قضى القرن التاسع عشر كله - اسما ورسما - في حوزة الدولة العثمانية، ولكنه كان قبل قيام الدولة العثمانية وبعد انحسار ملكها محور العالم الإسلامي، لجملة أسباب تدور على الدين تارة وعلى السياسة أو الثقافة تارة أخرى.
فقد كانت القاهرة تحسب عاصمة الإسلام، وكان ملوك الإفرنج يخاطبون سلطانها باسم أمير الإسلام إذا انتحل أحدهم لنفسه لقب الإمارة على المسيحيين، وكانت مصر طليعة الجيوش الإسلامية في مقاومة الصليبيين، وبيت المقدس تابع لها في أيام تلك الحروب، ومضى زمن على العالم الإسلامي في القرون الوسطى وهو لا يعرف قبلة لعلوم الدين أولى بالرحلة إليها من الجامع الأزهر، وعظمت مكانتها أمام الغرب بعد الحروب الصليبية في عهد الاستعمار، وفي عهد المسألة الشرقية، فكان الفيلسوف الألماني «ليبنتز» يغري لويس الرابع عشر بفتح مصر للقضاء على المستعمرات الهولندية، ويقول له: إن هولندا لا تجسر حينئذ على معاداته؛ لأنها تجر عليها غضب العالم المسيحي إذا حاربته وهو مشغول بفتح معقل الإسلام، ولما فكرت الدول في أمر قناة السويس كان المركيز دار جنسون
Dargenson
يروج للمشروع من الناحية الدينية فيقول: إنه فتح صليبي لجميع المسيحيين.
وشاءت الحوادث، كما شاء حكم الموقع، أن تسبق مصر بلاد العالم الإسلامي إلى الحضارة الحديثة؛ لأنها تنبهت إلى مزايا هذه النهضة عند وصول الحملة الفرنسية إليها بقيادة نابليون بونابرت قبيل ابتداء القرن التاسع عشر، وكانت في حقيقتها حملتين: حملة عسكرية، وحملة علمية يشترك فيها جلة العلماء من المختصين الثقات في كل علم حديث.
ويعتبر القرن التاسع عشر في مصر بمثابة الأزمة النفسية التي تصاحب سن الرشد في بواكير الشباب، فاعتلجت فيها النفس المصرية بتجارب النكسة والتقدم وعوامل الأسر والحرية، واستهلت أمة مصر سنواته الأولى بحركة من حركات الاستقلال تمثلت في إجماع القادة على عزل الوالي العثماني، وترشيح وال يختارونه ليخلفه على شرطهم من الاستقامة في الحكم والتعفف عن الحرمات والأموال، فتولى الأمر «محمد علي» ولجأ إلى النظم الحديثة في إدارة الدولة، وتثمير الأرض، والانتفاع بماء النيل، ولولا إسرافه في العدة لتوسيع ملكه لأدركت البلاد أضعاف ما أدركته من المنعة والتقدم بعد القضاء على عصابة المماليك.
وقد استفادت مصر في هذا القرن من الحضارة الأوروبية، وأوشكت أن تخلص لها فوائدها لولا بقايا الامتيازات الأجنبية، وأثقال الديون، وشطط الولاة وعجزهم من أيام عباس الأول إلى أيام توفيق بن إسماعيل، وفي عهد هذا تفاقمت بواعث السخط والنقمة، فثارت الأمة تطلب الإصلاح، وتعالج أن تفك قيودها بتقييد سلطان الولاة، فتذرعت بريطانيا (العظمى) باختلال الأمن في مصر لضرب الإسكندرية واحتلال القطر كله، ولم تنس أن تثير العصبية والطمع في الغرب بدعوى حماية المسيحيين وحراسة حقوق أصحاب الديون، ولم يحدث قط أن مسألة الديون سوغت احتلال شبر من الأرض في أوروبا أو أن اضطهاد المخالفين في الدين ضيع استقلال أمة من غير الشرقيين.
وكان القرن التاسع عشر - كما أسلفنا - بمثابة الأزمة النفسية التي تصاحب سن الرشد في بواكير الشباب، فحدثت فيه نكبة الاحتلال الأجنبي، وحدثت فيه قبل الاحتلال وبعده نهضة الحرية في وجه الدولة صاحبة السيادة وهي الدولة العثمانية، وفي وجه حكام مصر وهم سلالة محمد علي، وفي وجه السيطرة الفعلية وهي سيطرة المستعمرين، ويحسن بالمؤرخ الذي يعنيه الاستقصاء في النهضات الفكرية على الخصوص أن يقرر في ثقة ويقين أن العصبية العمياء لم تكن قط عاملا فعالا في حوادث مصر الهامة. فقد كان شعور مصر إسلاميا كلما أحس العصبية من الغرب في عدائه للأمم الإسلامية، ولكن الهتاف بالسخط على «العثمانلي» كان على لسان الخاصة والعامة، يدل عليه أن جماهير العامة كانت تنادي في أواخر أيام المماليك مستنجدة بالمتولي لهلاك العثمانلي، وكان هتافها الذي لا يعقل أن يصدر من غير العامة «يا متولي يا متولى. تخرب بيت العثمانلي»، وبعضهم يتعلم ويتخرج فيستبدل المتجلي بالمتولى، وهو وما جرى مجراه مسطور في تواريخ مصر بأقلام المصريين والأجانب، وأقلام المسلمين وغير المسلمين.
أما الخاصة: فمنهم الحزب السياسي الذي نادى «بمصر للمصريين» قبل نهاية القرن التاسع عشر بعشرين سنة، وعلى رأسهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أستاذ رجال الدين من المصلحين، وأحد أصدقائه وتلاميذه سعد زغلول قائد الثورة بعد الحرب العالمية الأولى، وكان وكيلا للهيئة النيابية التي تألفت في أوائل القرن العشرين باسم «الجمعية التشريعية» وأثبتت أن الجماعات النيابية تنال منزلتها ومقدرتها على قيادة الأمم بفضل من فيها من الأعضاء لا بمقدار ما لها من الحقوق في النصوص والأحكام.
البلاد العربية
ومن تاريخ الإصلاح الإسلامي في جزيرة العرب يبدو أن الإصلاح في العالم الإسلامي يخلق حيث توافرت دواعيه على حسب البيئة. فهو سابق في المجتمعات التي تدور فيها المعيشة على بساطة البداوة وما شابهها، وهو كذلك سابق في المجتمعات الحضرية التي تشعبت جوانبها، وتركبت عناصرها، فلا يصلح لها ما يصلح للبداوة، وكل ما هنالك أن الإصلاح فيها يتأخر به الزمن؛ لأنه يستلزم من الدواعي العلمية والاجتماعية ما لم يكن لزاما في البيئات البدوية.
فالنهضة في مصر بدأت عند أوائل القرن التاسع عشر، ولكنها بدأت في الجزيرة العربية قبل ذلك بنحو ستين سنة بالدعوة الوهابية التي تنسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبدأت نحو هذا الوقت في اليمن بدعوة الإمام الشوكاني صاحب كتاب «نيل الأوطار»، وكلاهما ينادي بالإصلاح على نهج واحد: وهو العود إلى السنن القديم ورفض البدع والمستحدثات في غير هوادة، وإنما تسامع الناس بحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وظلت الدعوة الشوكانية مقصورة على قراءة كتب الفقه والحديث؛ لأن الوهابيين هدموا القباب والأضرحة في الحجاز، واصطدموا بجنود الدولة العثمانية في إبان حربها مع الدول الأوروبية التي اتفقت على تقسيمها، ومثل هذا الاصطدام قد أودى بدولة علي بك الكبير في مصر، فانتقض عليه أعوانه، وتمكن منه حساده بعد محالفته لروسيا في حرب الخلافة الإسلامية.
ولم تذهب صيحة ابن عبد الوهاب عبثا في الجزيرة العربية، ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، فقد تبعه كثير من الحجاج وزوار الحجار، وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية، وأعجب المسلمين أن سمعوا أن علة الهزائم التي تعاقبت عليهم إنما هي في ترك الدين لا في الدين نفسه، وأنهم خلقاء أن يستجدوا ما فاتهم من القوة والمنعة باجتناب البدع، والعودة إلى دين السلف الصالح في جوهره ولبابه.
أما سياسة الاستعمار: فلم يفتها في هذه المرحلة أن تستغل التمرد على الدولة العثمانية كما تستغل التنازع بين أمراء الجزيرة في داخلها وعلى شواطئها، فسارعت بريطانيا العظمى إلى التعاقد مع أمراء الشواطئ على نوع من الحماية الخفية، وأحكمت عقودها هذه بعد فتح قناة السويس، ومد السكك الحديدية إلى العراق، فلم ينقض القرن التاسع عشر حتى كانت قد أحاطت الجزيرة العربية بحلقات من هذه الإمارات التي تخضع لها، وتعمل لها في السر ما لا تستطيعه في العلانية.
الهلال الخصيب
والهلال الخصيب وسط بين مصر والجزيرة العربية في نهضة الإصلاح الديني ومجاراة الحضارة الحديثة، فالمسلمون في بلاد الهلال الخصيب يشعرون بالحاجة إلى التغيير، ولكنهم لا يلتمسونه في بساطة القديم، ولا تتوافر لهم الوسائل لالتماسه في العلوم الحديثة، وتقيدت أحوالهم بأحوال الدولة التركية، فتعلم منهم من تعلم في المدارس التركية، وقدم بعضهم إلى الجامع الأزهر بمصر أو تلقى العلم على منهاجه من علماء بلده.
ولما تسابقت الدول الغربية إلى فتح المدارس في لبنان وسورية لم يقبل عليها المسلمون؛ لاعتقادهم أن التعليم فيها وسيلة للتبشير، وهو أمر لا يخفيه رؤساء تلك المدارس بعد انقضاء جيلين على افتتاحها، ومنهم رئيس جامعة كبيرة يقول: إن التعليم خير الوسائل في التبشير والتنصير.
ومن خدام الاستعمار: طائفة تمهد له بخدمة اللغة العربية تشجيعا لثورة العرب على دولة الخلافة، واحتيالا على نفث بعض المغامز في طيات الكتب التي تنشرها، وإن خدام اللغة هؤلاء لشاهد من شواهد شتى على أن العلم لا يخلو من الخير وإن ساءت النية عند ناشريه.
وجملة الحال في بلاد الهلال الخصيب عند أواخر القرن التاسع عشر أنها تتقدم في نهضة إسلامية تتوسط بين منهج محمد بن عبد الوهاب ومنهج محمد عبده، وأن هذه النهضة يمتزج فيها طلب الحرية وطلب التجديد كأنها جيش ذو جناحين يذهب الجناح السياسي منهما بعيدا ، ويصطنع الجناح الديني شيئا من الأناة والمحافظة.
وفي داخل هذا الهلال الخصيب فرق من المسلمين كالمناولة والدروز يحسبون من غلاة الشيعة، ويذهبون إلى أقوال في مسألة الحلول ومسألة الإمامة يخالفهم فيها السنيون والشيعة المعتدلون، وتكاد كل فرقة منهما أن تنطوي على عزلتها، إلا أفرادا منهم يقصدون إلى معاهد العلم الحديث في لبنان ومصر والديار الأوروبية.
إفريقية الشمالية
أما في إفريقية الشمالية، فقد احتلت فرنسا الجزائر في سنة 1830، واحتلت تونس في سنة 1881، وسلكت في كل منهما السياسة التي تبصر من لا يبصر بأساليب الاستعمار سواء منه ما ينتحل المبادئ الديمقراطية أو ينتحل الدعوة الدينية.
فنابليون الثالث قد منح المسلمين في الجزائر حقوقا كحقوق المواطنة، وهو عاهل مطلق اليدين، ثم جاء غمبتا داعية الحرية فحرم المسلمين هذه الحقوق، وضاعفها لليهود.
وحكومة فرنسا وهي تنادي باعتزالها للدين تضع في «الميزانية» التي عجزت مواردها عن مصروفاتها بابا واسعا لمعونة المبشرين في إفريقية الشمالية، ويعلن وزيرها في البرلمان أن «السياسية اللادينية» تقف عند حدود فرنسا ولا تتخطاها إلى المستعمرات.
وقد ابتدأ القرن العشرون في الجزائر وتونس بنهضة من نهضات التقدم يستعجلها المجددون، ويستمهلها المحافظون، ولم يبق من المحافظين في نهاية القرن التاسع عشر من يحرم الدستور؛ لأنه بدعة مستمدة من الشرائع الغربية، ولكن أنصار القديم من هذا يتحرجون مما يتوسع فيه أنصار التجديد.
وتم احتلال المستعمرين لإفريقية الشمالية باحتلال طرابلس في سنة 1911، فكانت الغنيمة هذه المرة من نصيب الإيطاليين، وسمعت في إيطاليا قبيل الزحف على طرابلس أناشيد «الصليبية» في نغم جديد، ولكنها سمعت أيضا بعد ذلك بزهاء ثلاثين سنة تمجيدا لغزوة الحبشة، وابتهاجا بتخليص أثيوبية القديمة من «الهمج» الذين دنسوا دين المسيح!
مسلمو الحبشة
ومن أكبر المجاميع الإسلامية في القارة الأفريقية مسلمو الحبشة، وعدتهم مع المسلمين في الصومال وإريترية لا تقل عن ستة ملايين.
وتجمع التواريخ التي كتبها الشرقيون والغربيون عن الحبشة في القرن التاسع عشر على سوء حالهم واضطهادهم، وقد أمر أحد ملوكهم يوحنا بتنصير سكان الحبشة جميعا ومنهم المسلمون، وجاء في إحدى الرسائل التي كتبها جوردون إلى أخته «أن يوحنا - ويا للعجب - يشبهني تعصبا للدين وله رسالة سينجزها، وهي تنصير جميع المسلمين.»
1
وقد أشار ترمنغهام في كتابه عن «الإسلام في الحبشة» إلى أعمال يوحنا هذا فقال في صفحة 122: «إن بعض المسلمين تحولوا إلى بلاد الغالا أو المنخفضات الإسلامية أو البلاد الوثنية حيث ينشرون دينهم، وبعضهم تنصر، ولكنه تنصر لا يعني لديهم إلا القليل؛ إذ كان مقصورا على التعميد وأداء العشر، وقد قال الكاردينال ماسيا
Massaia : إنه رأى بعينه أناسا منهم يخرجون من الكنيسة التي عمدوا فيها إلى المسجد ليزيلوا أثر العمادة على يد الإمام.»
2
وبعد أن قتل هذا الملك في حربه مع الدراويش حسنت أحوال المسلمين بعض الشيء، ولكنهم تعرضوا لمظالم شتى يذكرها السياح من الأوروبيين كما ذكرها السياح الشرقيون في كتب الرحلات الحديثة.
السودان
ونريد بالسودان هنا جملة الأقطار الأفريقية التي يقطنها الزنوج، وفيه مسلمون في جماعات قليلة أو متفرقون بين بواديه وقراه.
وموقف الحكومات الأجنبية في أقطار هذا السودان جميعا هو موقف المقاومة كما يؤخذ من تقارير المبشرين والسياح من الأوروبيين، وقد تمنع هذه الحكومات رسالات التبشير من دعوة المسلمين إلى النصرانية، ولكنها تيسر لهم عملهم كل التيسير في بلاد الوثنيين، فتبيح لهم السفر إلى أقصى الجهات، وتحرمه على الجلابة والفقهاء وأصحاب الخلوات.
3
وصرح القس «شو» في سنة 1909 «بأن قبائل الوثنيين ما لم تدخل في المذهب الإنجيلي قريبا، فهي حتما صائرة إلى الإسلام.»
وعقب ترمنغهام على هذا في كتابه عن محاولة المسيحية مع الإسلام في السودان، فقال في صفحة 38: «ولكن هذا الخطر قد زال الآن.»
ويفهم من كتاب «السودان المتغير»
The Changing Sudan
تأليف ولسون كاش
Cash
أنه ما من قائد أو رائد أرسلته مصر إلى أعالي النيل في القرن التاسع عشر بإيعاز من الدول إلا من رواد التبشير على وجه من الوجوه.
التبشير على الإجمال
وبعد هذه الخلاصة العاجلة عن موقف الإسلام من الاستعمار في القرن التاسع عشر على الخصوص، نوجز الموقف الذي تقفه منه جماعات التبشير بعد تجربة قرن كامل في مختلف الأقطار.
فالتقارير التي كتبها رسل التبشير مجمعة على صعوبة تحويل المسلم عن معتقده إلى دين آخر، وأكثر هؤلاء المبشرين تابعون لكنيسة روما أو للكنيسة الإنجيلية، ومنهم من يجتهد في تحويل المسيحيين الشرقيين إلى مذهبه؛ لأن التحول من مذهب إلى مذهب في ديانة واحدة أيسر من التحول من ديانة إلى أخرى.
وربما شجر النزاع بين المبشرين من المذهبين في أواسط أفريقيا وفي الشرق الأقصى من آسيا، وربما انتهى أمرهم جميعا بين المسلمين إلى الكف عن الدعوة والاكتفاء بالقدوة والتعليم على أمل النجاح بهما حيث أخفقت الدعوة الصريحة كما ذكر داعيتهم الكبير ترمنغهام في كتابه عن محاولة المسيحية مع الإسلام في السودان.
وجملة الموقف الآن أن جماعات التبشير قد فرغت أو كادت من اتخاذ الإسلام هدفا لدعوة التنصير، وهي تنظر إليه الآن نظرتها إلى منافس خطر في بلاد الوثنيين من الآسيويين والأفريقيين، وإذا أمنت خطره فقد تستريح إليه للتعاون على مقاومة الدعوة إلى المذاهب الهدامة أو مذاهب الإلحاد، وبخاصة في البلاد التي تصطدم لديها الكتلتان الشرقية والغربية.
ويبدو لنا أن هذه الجماعات في الشرق إنما تطيل رسالتها لاستبقاء الإتاوات المخصصة لها في بلادها، ولو كان بقاؤها على قدر نجاحها في التبشير؛ لعدلت عنه منذ عهد بعيد.
ولكن هذه الجماعات التي تمدها الإتاوات والحبوس من بلادها تتخفى بغرضها المدخول وراء كل غرض ظاهر من التعليم أو التطبيب أو الإحسان، ولها أساليب ملتوية لمحاولة التأثير، نذكر منها أسلوبا صغيرا اختبره كاتب هذه السطور في تشجيع بعض ذوي الأقلام، وغمط الآخرين ممن يحذرون خدمتهم الثقافية، فلا يخفى على أحد في الشرق العربي أن كل ترتيب للكتاب العشرين الذين تشيع كتبهم بين قراء العربية لا بد أن يرد فيه اسم كاتب هذه السطور في آخر القائمة على الأقل إن لم يرد في أولها، ولكن إحدى هذه الجماعات زعمت أنها تعني بترتيب الكتب العربية التي تقرأ في الشرق فلم يأت بينها ذكر لكتاب واحد ألفناه، ولم تصنع شيئا بهذا السفساف إلا أن تدل على النية المدخولة والتواء الأسلوب، ومن دلالة كهذه يظهر ما وراء هذه الجماعات من الغرض، وإن ابتعدت عنه في الظاهر غاية الابتعاد.
الفصل السابع
الدعوات ونهضات الإصلاح
أتى على الأمم الإسلامية حين من الدهر لم تكن شيئا مذكورا.
حرمت العلم والثروة والسلاح والحرية والمكانة السياسة، وهي عدة الأمم في تنازع البقاء.
والويل للأمم التي تحرم هذه العدة في الحالتين.
والويل لها إذا أحست نقصها، والويل لها إذا غفلت عنه، ولم تفطن لمصابها. فإن إحساسها بالنقص في جميع هذه العدد يذلها وييئسها، ويهون عليها الخضوع لغيرها، والاستسلام لسوء مصيرها.
أما الغفلة عن النقص فهي أشد عليها من الإحساس به إن كانت هناك حالة أشد من حرمانها العلم والثروة والسلاح والحرية والمكانة السياسية؛ لأنها تزيد عليها حرمانا آخر لا تزال له بقية فيها، وهو الحرمان من محاولة التبديل إن كان للمحاولة سبيل.
ويحدث في بعض هذه الأحوال أن تتماسك الأمة بعض التماسك لاعتصامها بكبرياء الجنس أو بكبرياء الدم والسلالة، وهي كبرياء تخامر النفوس بغير حجة، وتداخل الجاهل مداخلة العارف أو أشد وأقوى.
فالجنس الأصفر ينظر إلى الأمم الأخرى كأنها الغريب المتطفل على العالم؛ لأن أوطانها في عرفها هي مركز العالم ومحوره، فلا محل في خارجه لغير المتطفلين المشردين.
والجنس الأسود يعيب على جميع الأمم أنها لا تأخذ بعاداته ومراسمه، واليونان الأقدمون كانوا يحسبون الناس ما عداهم في زمرة واحدة هي زمرة البرابرة، والمصريون يحسبون الناس واليونان منهم أجلافا مستوحشين، والعرب يسمون غيرهم عجما، والعجم يأنفون من عيشة الصحراء كأنها مسبة لمن يقبلها ومسبة لمن يفضلها على غيرها.
وكان للأمم الإسلامية أن تلوذ بهذه الكبرياء لولا أنها تنتمي إلى جميع الأجناس، وقد تنتسب في رقعة واحدة إلى البيض والسود والصفر كما تنتسب إلى الآريين والساميين والحاميين، وأعلم من فيها يعلم أنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.
ففي هذه المحنة التي مرت بالأمم الإسلامية في عصر الاستعمار لم تكن لها غير عصمة واحدة: وهي عصمة الدين.
عصمها؛ لأنها لم تهلك هلاك الأمم التي حرمت مقومات الحياة، وعدد الكفاح، فاستسلمت ويئست، وأيقنت أنها أقل من سائر الأمم في جميع الصفات، وأنها محتاجة من تلك الأمم إلى كل شيء.
عصمها؛ لأنها لم تهلك هلاك الأمم التي تجهل حاجتها، وتغفل عن نقصها؛ لأن نزولها منزلة العبودية كاف وحده لتعريفها بتبدل حالها وقبولها ما ليس ينبغي أن تقبله وتستقر عليه.
بقي لها شيء يوحي إليها أنها ليست ضائعة محرومة من كل شيء بعد حرمانها العلم والثروة والسلاح والحرية والمكانة السياسية.
ولم يكن هذا الشيء كبرياء الجنس العمياء، أو كبرياء الحيوانية في الإنسان؛ بل كان شيئا يليق بالإنسان لأنه منوط بأشرف مزاياه، وهي مزية الضمير والوجدان.
بقي لها الإيمان بدينها.
بقي لها الإيمان بأنها في حالة لن تدوم، وأنها قمينة أن تغيرها لو غيرت ما بنفسها، وأن الله يريد منها هذا التغيير، ويعينها عليه.
ولم يزل الإسلام منذ كان يعلم المسلم أنه مطالب بعلم الدين وعلم الدنيا، وأن نبي الإسلام - فضلا عمن هو دونه - قد يقول لمن يهديهم: إنكم أعلم بأمور دنياكم.
وانحلت المعضلة الكبرى على هذه الصورة التي لا صعوبة فيها على النفس المسلمة، ففي وسع الدول المستعمرة أن تتغلب بسلاحها، وفي وسع الأمم الإسلامية أن تدفعها بمثل ذلك السلاح إذا ملكته، وعليها أن تملكه بأمر دينها.
هذه العصمة هي سر العقيدة الوافية الذي تلوذ به حين تخذلها كل عصمة، وهو قيمة حقيقية لا تفرط فيها أمة متى وجدتها، ولا يكون التفريط فيها إلا علامة على الوهن والانحلال.
ولم تشعر الأمم الإسلامية بمثل هذا الشعور قبل عصر الاستعمار.
لم تشعر به في عهد الحروب الصليبية؛ لأنه خرجت منها، وهي مالكة لبلادها منفردة بانتصارها وارتداد المغيرين عليها.
ولم يكن ثمة فارق في عدد القتال بينها وبين الصليبيين، فيدخل في روعها أنها مطالبة باقتباسه مفتقرة إليه.
ولم يكن في أحوال الصليبيين ما تغبطهم عليه؛ بل كان الأكثرون منهم على حالة، يترفع عنها بنو الحضارة، ويحسبونها من التخلف والهمجية.
أما صدمة الاستعمار فلم تكن من هذا القبيل، ولم تكن بالصدمة العابرة التي تمر في ساعتها، ولا تترك بعدها عبرة للمعتبر ولا أثرا للمتأثر؛ بل كانت هي الصدمة الماثلة أمام كل نظر، الملحة في كل حين، المتجددة في كل جهة، المعاودة على نحو واحد في جميع الأقطار، وعلى اختلاف التجارب والأحداث.
وقد تقدم في خلاصة أحداث القرن التاسع عشر أن هزائم تركيا وإيران ومراكش ومصر كانت هي نقطة التحول في تواريخ تلك الأمم، وأن الجامدين على القديم لم يؤمنوا بضرورة التحول إلا بعد هزيمة من هذه الهزائم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
وسيتبين من «رد الفعل» الذي أعقب هذه الهزائم أن «العالم الإسلامي» لم يزل بنية حية تستجيب للمؤثرات، وتستبقي منها ما صلح وأجدى.
وتلك هي العلامة الصادقة على كل بنية حية.
علامتها أن تستجيب للمؤثرات، وأن تعالجها بما يصلح ويجدي، فلا يبقى في البنية عارض من حقه أن يطرد وينفى.
إن رد الفعل الذي أعقب الهزائم أمام الاستعمار قد تنوع بكل نوع يخطر على البال، فكانت منه الدعوة إلى معاودة القديم على قدمه، وكانت منه الدعوة إلى البدعة التي لم تسبقها سابقة، وكانت منه الدعوة إلى حفظ الأصول واقتباس الجديد على توافق واتصال، وكانت منه الدعوة الغالية والدعوة المعتدلة، فلم تستبق البنية الحية من جميع هذا إلا ما هو جدير بالبقاء، ودلت البنية الحية بذلك على نصيبها من الحياة.
وسنعلم الأصلح من هذه الدعوات في خلاصة سريعة لما أرادته، ولما حققته، ولما تركته بعدها غير قابل للتحقيق أو قابلا له على مدى من الزمن قد يقصر وقد يطول.
الدعوة الوهابية
كان أول هذه الدعوات في تاريخ ظهورها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي ولد في أوائل القرن الثاني عشر للهجرة ببلد العيينة من نجد في جزيرة العرب.
وسبق هذه الدعوة في تاريخها يرجع إلى بساطة المجتمع الذي ظهرت فيه، وإلى ابتعاده في داخل شبه الجزيرة عن عوائق الحياة العصرية بين الأمم الإسلامية الأخرى التي تختلط فيها عوامل السياسة والاجتماع.
وقد ترجم له المولى محمود الألوسي صاحب تفسير «روح المعاني» وهو بعض مريديه، فقال: إنه «ابن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاض بن ريس بن زاخر بن محمد بن علي بن وهيب التميمي النجدي صاحب الدعوة المشهورة.» قال: «وقد نشأ الشيخ محمد في بلد العيينة من بلاد نجد في حجر أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان القاضي في بلدة العيينة في زمن إمارة عبد الله بن محمد بن حمد بن عبد الله بن معمر المشهور صاحب العيينة التي تزخرفت في أيامه، وذلك قبل انتقال الشيخ عبد الوهاب إلى بلد حريملة من بلاد نجد. فقرأ الشيخ محمد على أبيه الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وكان الشيخ محمد في صغره كثير المطالعة لكتب التفسير والحديث والعقائد، فصار ينكر على أهل نجد كثيرا من الأمور، فلم يسعفه على ذلك أحد وإن استحسن إنكاره بعض الناس، فسافر من بلده العيينة إلى حج بيت الله الحرام، فلما قضى نسكه صار إلى المدينة فأخذ فيها عن الشيخ العالم عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف رؤساء بلد المجمعة المعروفة في ناحية سدير من نجد، والشيخ عبد الله هو والد الشيخ إبراهيم مصنف كتاب «العذب الفائض في علم الفرائض.»»
وروى الألوسي في الهامش أن محمد بن عبد الوهاب كان عنده يوما فقال له: تريد أن أريك سلاحا أعددته للمجمعة؟ قال محمد بن عبد الوهاب: نعم. قال: فأدخله منزلا فيه كتب كثيرة، فقال: هذا الذي أعددت لها.
ثم استطرد الألوسي فقال: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنكر استغاثة الناس بالنبي
صلى الله عليه وسلم
عند قبره، ثم رحل إلى نجد، ثم إلى البصرة يريد الشام، فلما ورد البصرة أقام فيها مدة، وأخذ على العالم الشيخ محمد المجموعي من أعلى المجموعة محلة من محال البصرة، فأنكر أيضا أشياء كثيرة على أهل البصرة فأحس الناس به فآذوه وأخرجوه وقت الهجيرة، ولحق بعض الأذى بالشيخ محمد المجموعي أيضا لمؤاتاته للشيخ محمد، فلما خرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب هاربا من البصرة، وتوسط الطريق فيما بين البصرة وبلد الزبير في وقت الصيف في شدة الحر، وكان ماشيا على رجليه، كاد يهلك من شدة العطش، فوافاه رجل من أهل بلد الزبير يسمى أبا حميدان، ووجده من أهل العلم، فسقاه الماء، وحمله على حماره حتى أوصله إلى بلد الزبير. ثم إن الشيخ محمدا أراد السفر إلى الشام، فضاق زاده، فانثنى عزمه عن الشام فقصد الأحساء فنزل بها عند الشيخ العالم عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي. ثم خرج من الأحساء وقصد بلد حريلمة من نجد، وكان أبوه الشيخ عبد الوهاب قد انتقل إليها من بلد العيينة سنة تسع وثلاثين ومائة وألف بعد وفاة عبد الله بن معمر صاحب العيينة في الوباء الذي وقع بها فأفناها، وتولى فيها بعده ابن ابنه محمد بن حمد الملقب بخرفاش، فوقع بينه وبين الشيخ عبد الوهاب منازعة، فعزله عن قضاء العيينة، وجعل مكانه أحمد بن عبد الله بن عبد الوهاب بن عبد الله النجدي قاضيا، فانتقل الشيخ عبد الله إلى بلد حريلمة، ولما وصل الشيخ محمد إلى بلد حريملة لازم أباه، وقرأ عليه، وأظهر الإنكار على أهل نجد في عقائدهم، فوقع بينه وبين أبيه منازعة وجدال، وكذلك وقع بينه وبين الناس في بلد حريملة جدال كثير، فأقام على ذلك مدة سنتين حتى توفي أبوه الشيخ عبد الوهاب سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف.
ثم أعلن الشيخ محمد بالدعوة والإنكار على الناس، وتبعه أناس من أهل حريملة واشتهر بذلك، وكان رؤساء بلد حريملة قبيلتين أصلهما قبيلة واحدة، وكل منهما يدعي الرئاسة، وليس في البلد رئيس يحكم على الجميع، وكان لإحدى القبيلتين عبيد يقال لهم الحميان، وهم أهل الفساد، فأراد الشيخ محمد أن يمنعهم من فسقهم وفجورهم، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فهم العبيد ليلا بقتل الشيخ محمد خفية، فلما تسوروا عليه من وراء الجدار علم بهم بعض الناس فصاحوا بهم، فانتقل الشيخ محمد من بلد حريملة إلى العيينة ورئيسها يومئذ عثمان بن حمد بن معمر، فتلقاه بالقبول وأكرمه وحاول نصرته، وقال لعثمان: إني أرجو إن أنت قمت بنصر (لا إله إلا الله) أن يظهرك الله وتملك نجدا وأعرابها، فساعده عثمان، فأعلن الشيخ محمد بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشدد في النكير على الناس، فتبعه بعض أهل العيينة، وقطع أشجارا كانت تعظم في تلك النواحي، وهدم قبة قبر زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - عند الجبيلة، فعظم أمره، فبلغ خبره إلى سليمان بن محمد بن عزيز الحميدي صاحب الأحساء والقطيف وما حوله من العربان، فأرسل سليمان كتابا إلى عثمان وكتب فيه: إن المطوع الذي عندك قد فعل ما فعل وقال ما قال، فإذا وصلك كتابي فاقتله، فإن لم تقتله قطعنا خراجك الذي عندنا في الأحساء، وكان خراجه ألفا ومائتين ذهبا وما يتبعها من طعام وكسوة.
فلما ورد الكتاب إلى عثمان لم تسعه مخالفته، فأرسل إلى الشيخ محمد وأخبره بكتاب سليمان، وقال له: لا طاقة لنا بحرب سليمان، فقال الشيخ محمد: إنك إن نصرتني ملكت نجدا، فأعرض عنه عثمان، وأرسل إليه ثانيا أن سليمان قد أمرنا بقتلك في بلدنا، فشأنك ونفسك وخل بلادنا، وأمر فارسا يقال له الفريد الظفيري بإخراجه من البلد، فركب الفارس جواده والشيخ يمشي على رجليه أمامه وليس معه إلا المروحة، وذلك في أشد الحر من الصيف، فهم الفارس بقتله في الطريق، فكف الله يده عنه لما أصابه من الرعب والخوف العظيم وخلى سبيل الشيخ، فصار الشيخ إلى الدرعية، وكان ذلك سنة ستين بعد المائة والألف، ووصل إليها وقت العصر، فنزل في بيت عبد الله بن سويلم العريني، فلما دخل عليه ضاقت به داره، وخاف على نفسه من محمد بن سعود صاحب الدرعية، فوعظه الشيخ وسكن جأشه وروعه، وقال: سيجعل الله لنا ولك فرجا، فاستقر فأراد أن يخبر محمد بن سعود بحاله ويرغبه في نصرته، فالتجأ إلى أخويه مشاري وثنيان ولدي سعود وزوجته موخي بنت أبي وحطان من آل كثير، وكانت ذات عقل وفهم، فأخبروها بحال الشيخ وصفته من الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقذف الله محبة الشيخ في قلبها، فأخبرت زوجها محمد بن سعود بحاله، وقالت له: إن هذا الرجل أتى إليك، وهو غنيمة ساقها الله تعالى إليك، فأكرمه وعظمه، واغتنم نصرته، فقبل قولها، وألقى الله محبته في قلبه، ورغبوا محمد بن سعود في زيارته لعل ذلك يكون سببا لتعظيم الناس له وإكرامه، فسار محمد بن سعود إليه، فلما دخل عليه في بيت ابن سويلم رحب به، وقال: أبشر بالخير والعزة والمنعة، فقال له الشيخ: «وأنا أبشرك بالعز والتمكين والغلبة على جميع بلاد نجد، وهذه كلمة (لا إله إلا الله) من تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم.»
واستطرد الألوسي إلى تعاهد الرجلين على النصرة؛ إذ قال الشيخ للأمير: «أما الأولى: فامدد يدك، فمدها وقبضها، وقال له: الدم بالدم والهدم بالهدم
1 ... وأما الثانية: فلعل الله تعالى يفتح عليم الفتوحات فيعوضك من الغنائم ما هو خير منه، أي من خراج أهل الدرعية. فبايع محمد بن سعود الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى استقامة الشعائر.»
إلى أن قال: «ثم أمر أهل الدرعية بالمقاتلة معهم، فامتثلوا أمره، وقاتلوا أهل نجد والأحساء دفعات كثيرة إلى أن أدخلوهم إلى طاعتهم، وحصلت إمارة بلاد نجد وقبائلها جميعا لآل سعود بالغلبة، وكان الشيخ كثير العطايا بحيث كان يهب كل ما غنمه الجيش مع كثرته إلى رجلين أو ثلاثة، وفي تاريخ ابن بشر إلى حمد وابنه عبد العزيز، وكانت الغنائم تسلم بيده، ثم هو يضعها حيث يشاء، ويعطيها إلى من يشاء، ولا يأخذ أمير نجد شيئا من ذلك إلا بأمره، ولما فتحوا الرياض من بلاد نجد، واتسعت بلادهم، وأمنت الطرق، وانقاد لهم كل صعب - عرض الشيخ أمور الناس وأموال الغنائم إلى عبد العزيز الأمير، وانسلخ الشيخ، وتفرغ للعبادة وتعليم العلم، ولكن لا يقطع عبد العزيز الأمير ولا أبوه أمرا ولا ينفذ حكما إلا بأمر الشيخ محمد، وتوفي الشيخ المشار إليه في سنة ست بعد المائتين والألف، وهي السنة التي غزا فيها سعود بن عبد العزيز ناحية جبل شمر، وأخذ أهله، وكسب منهم أموالا كثيرة منها ثمانية آلاف بعير، وقتل منهم عدة رجال، فأخرج خمسها وقسم الباقي على جيشه.»
قال الألوسي: «وله من التصانيف كتب كثيرة، منها: كتاب التوحيد، وتفسير القرآن، وكتاب كشف الشبهات ... وغير ذلك من الرسائل والفتاوى الفقهية والأصولية، وأعقب أربعة أولاد كلهم من أجلة العلماء، وهم الشيخ حسين والشيخ عبد الله والشيخ علي والشيخ إبراهيم، تغمدهم الله برحمته أجمعين.»
والكتاب الذي تضمن دعوة الشيخ من هذه الكتب التي ذكرها المولى الألوسي هو كتاب «التوحيد ... حق المولى على العبيد» وفيه يحصي الشيخ الذنوب التي تكفر صاحبها وتعتبر شركا بالله، وأكثرها من البدع والخرافات، والمغالاة بتعظيم الأحبار، والأولياء، ومن الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، ومن الشرك: اتخاذ الرقى والتمائم للوقاية والتبرك بالشجر والحجر، والذبح لغير الله والنذر لغير الله والاستعاذة بغير الله، والعبادة عند القبور، وأن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله، وأن الكهانة والعيافة والتطير والتنجيم من الشيطان، وأورد الشيخ الآيات والأحاديث التي تحرم الاستسقاء بالأنواء، وأنكر على المتصوفة تأويلاتهم وخوارقهم، واستشهد على تحريم الصور بما ورد عن مسلم:
ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي.
2
ويقول النبي عليه السلام في رواية عائشة: «أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله.» وحذر من المغالاة في تعظيم النبي عليه السلام مستشهدا بقول أنس: إنا ناسا قالوا يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: «أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل.»
وكان الشيخ ينكر الغلو، ويستشهد بقول الرسول عليه السلام: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو»، وقوله عليه السلام: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون.»
ولا آخر للمناقشات التي دارت حول دعوة ابن عبد الوهاب مقابلة لتفسير بتفسير أو لآية بآية أو لحديث بحديث أو مخالفة لما يفهم من مقاصد هذه الآيات وهذه الأحاديث، فلا يعنينا هنا أن نفصلها أو نخوض مع الخائضين في جدلها، ولكننا نرى في جملة ما تصفحناه من الآراء المتقابلة أن الإجماع منعقد أو يكاد على استنكار البدع والخرافات التي ذكرها ابن عبد الوهاب، ولكن الخلاف على الشرك والتكفير، أو على درجة الشرك الذي يخرج صاحبه عن الملة، وأكبر من خالف الشيخ في ذلك أخوه الشيخ سليمان صاحب كتاب الصواعق الإلهية، وهو لا يسلم لأخيه بمنزلة الاجتهاد والاستقلال بفهم الكتاب والسنة، ويقابل تفسيراته بتفسيرات تذهب في غير مذهبها، ويعتمد على ابن تيمية وابن القيم في مناقشة أخيه، فيقول: إن من أصول أهل السنة المجمع عليها كما ذكراها «أن الجاهل والمخطئ من هذه الأمة يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبين الحجة التي يكفر تاركها بيانا واضحا لا يلتبس على مثله، أو ينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعا جليا قطعيا يعرفه كل من المسلمين.» ويرى أن البدع التي يمر بها الأئمة جيلا بعد حيل ولا يكفرون أصحابها لا يكون الكفر فيها من اللزوم الذي يوجب القطع به ويستباح من أجله القتال، ويقول في ذلك: «إن هذه الأمور حدثت من قبل زمن الإمام أحمد في زمان أئمة الإسلام، وأنكرها من أنكرها منهم، ولا زالت حتى ملأت بلاد الإسلام كلها وفعلت هذه الأفاعيل كلها التي تكفرون بها، ولم يرو عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفروا بذلك، ولا قالوا هؤلاء مرتدون، ولا أمروا بجهادهم، ولا سموا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم، بل كفرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها. أتظنون أن هذه الأمور من الوسائط التي يكفر فاعلها إجماعا، وتمضي قرون الأئمة من ثمانمائة عام، ولم يرو عن عالم من علماء المسلمين أنها كفر؟ نبهنا الله وإياكم من الضلال.»
وظاهر من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه لقي في رسالته عنتا، فاشتد كما يشتد من يدعو غير سميع، ومن العنت إطباق الناس على الجهل، والتوسل بما لا يضر ولا ينفع، والتماس المصالح بغير أسبابها، وإتيان المسالك من غير أبوابها، وقد غبر على البادية زمان يتكلون فيه على التعاويذ والتمائم وأضاليل المشعوذين والمنجمين، ويدعون السعي من وجوهه توسلا بأباطيل السحرة والدجالين حتى في الاستسقاء ودفع الوباء، فكان حقا على الدعاة أن يصرفوهم عن هذه الجهالة، وكان من أثر الدعوة الوهابية أنها صرفتهم عن ألوان من البدع والخرافات، ولكن المهم في الإصلاح أن ينصرفوا عن الجهل الذي يوقعهم في بدع غير تلك البدع، وخرافات غير تلك الخرافات، وأن يكون النهي على قدر الضرر الزائل وعلى قدر النفع المنتظر، وهذا ما بقي للزمن أن يحكم فيه بعد دعوة ابن عبد الوهاب.
السنوسية
وتقارب الوهابية في عصرنا دعوة أخرى في البادية هي السنوسية التي تنسب إلى السيد محمد بن علي السنوسي الخطابي الذي ولد ببلدة مستغانم من بلاد الجزائر (سنة 1787).
والدعوتان تتشابهان في حماسة الدعوات البادية، وفي نبذ البدع والخرافات، والرجوع بالإسلام إلى الكتاب والسنة، ولكنهما تختلفان بعد ذلك في أمور كثيرة.
فليست السنوسية مذهبا ولا نحلة، ولا نقضا لمذهب من المذاهب، وإنما هي «أخوة» في الله أو طريقة يتبعها من شاء من المسلمين، ولا يطلب منه عند اتباعها غير قراءة الفاتحة على العهد، واتباعها على درجات أولها درجة الخواص ثم الإخوان ثم المنتسبون، ولا فرق بين هذه الدرجات في غير العلم والإخلاص وحسن السيرة والولاء للآخرين، ولا يشترط في درجاتها العليا أن تنحصر في البيت السنوسي؛ بل يكون منهم الأقرباء وغير الأقرباء.
والسنوسي مجتهد، ولكنه يتبع مذهب الإمام مالك إلا في القليل الذي صح عنده أنه أقرب إلى السنة، ولا يتصدى بالنقض لأحد من الأئمة؛ بل كان أبغض الأشياء إليه - كما قال الشيخ محمد بن عثمان الحشايشي في رحلته - أن يسمع مقالة السوء في إمام أو غير إمام، وقد تعرض للقتل من جراء اجتهاده، وألمع الأستاذ الإمام محمد عبده إلى ذلك في كتابه عن الإسلام والنصرانية؛ إذ يقول: «ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي كتب كتابا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية، وجاء في كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، وقد يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية، وكان المقدم من علماء الجامع الأزهر الشريف، فحمل حربة وطلب الشيخ السنوسي ليطعنه بها؛ لأنه خرق حرمة الدين، وتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه، وإنما الذي خلص السنوسي من الطعنة، ونجى الشيخ المرحوم من سوء المغبة، وارتكاب الجريمة باسم الشريعة: هو مفارقة السنوسي للقاهرة.»
وقد اجتهد الشيخ في مذهبه بعد أن حضر دروس الفقه والتفسير والحديث في بلده وفي مراكش، ولقي العلماء بمصر ومكة واليمن، وصاحب بعض أئمة الطرق في المغرب والمشرق، ثم ضاقت به سبل الدعوة تحت نظر الحكومة العثمانية التي كانت تتوجس من أمثال هذه الدعوات، فعكف على زاويته البيضاء، واختار لمقامه واحة جغبوب وبنى بها مسجدا ومدرسة للعلوم الدينية، واستصوب أن ينشر طريقته بنشر الزوايا في أرجاء العالم الإسلامي؛ فانتشرت حيثما استطاع بين برقة وطرابلس ومصر والسودان وبلاد العرب، واطلعنا في كتاب «سنوسي برقة» الذي ألفه برتشارد على أسماء مائة وست وأربعين مدينة وقرية فيها زوايا للطريقة، ويوشك أن يكون شيوخ هذه الزوايا مرجعا لأتباعهم في أمور الدين والدنيا يرشدونهم إلى الفرائض والواجبات، ويفضون خصوماتهم، ويكفونهم عن الشر كما قال ابن مقرب:
فكم من حريم قد أباحوا وأجحفوا
بمال غني لا يخافون عاديا
فأرشدهم للرشد من حل بينهم
فلا زال مهديا ولا زال هاديا
وكم بدوي في الفلا خلف ناقة «يجول» على الأعقاب أشعث حافيا
تلقاه في مهد الضلالة هاويا
فأصبح نجما في الهداية عاليا
وكم من جهول أسود اللون خلقة
كساه لباس العلم أبيض صافيا
ولا تبيح السنوسية الغلو في تقديس المشايخ الأحياء أو الأموات، ولا تأذن لأتباعها أن يذكروا ميتا عند قبره بغير الدعاء له والترحم عليه، ولكنها لا تمنع اللياذ بالمقامات للعظة والتبرك، وشرعتها في ذلك أنها نشأت حيث كانت مقامات المرابطين من عهد الأندلس فأرادت أن تجددها، ولا تشعر أهل الصحراء بالتقحم عليها.
وكان الشيخ السنوسي - بخلاف الغالب على مشايخ الطرق - خبيرا بأحوال السياسة العالمية، فوقر في ذهنه أن النابلطان، أي الإيطاليين، مغيرون لا محالة على برقة في يوم قريب، فأوغل بمقامه إلى واحة الكفرة على طريق السودان؛ ليشرف من ثم على تعليم أهل الصحراء جنوبا وشمالا وشرقا وغربا، ويهيئ في جوف الصحراء ملاذا لمن تقصيهم غارات المستعمرين عن السواحل ومدن الحضارة.
وتوفى الشيخ سنة 1859 فدفن بالجغبوب حيث بنى مزاره الكبير، وخلفه على إمامة الطريقة ابن أخيه السيد أحمد الشريف.
وقد كان أثر الطريقة السنوسية في المغرب والسودان والصحراء الكبرى أثرا صالحا في جملته، وشهدنا ما لأبناء الشيخ وعشيرته من السلطان الروحي بين أهل البادية في رحلتنا الانتخابية يوم كنا نرشح للنيابة عن الصحراء، فرأينا من هذا السلطان ما لم تبلغه القوة ومخافة السطوة، وحدث مرة أن واحدا من أصحابنا ألقى على جمع من البدو إلى جوار بيت السيد السنوسي بمرسى مطروح أكوابا من الورق المقوى لشرب الماء، فتهافتوا عليها، وتعذر على الجند أن يفضوهم بالحسنى، فما هو إلا أن نهض السيد إبراهيم، وناداهم إلى قراءة الفاتحة حتى تركوا ما هم فيه جميعا، وقاموا يتبعونه في تلاوتها، ثم أومأ إليهم فانصرفوا بسلام.
ويرى العارفون بالصحراء أن هذا السلطان الروحي ينبسط إلى جوفها الأقصى، ويهدي أبناءها مع حسن التعهد والقوامة إلى سبيل الصلاح والتعمير.
طرائق أخرى
وقد عاصرت الوهابية والسنوسية حركات كبيرة أكثرها من قبيل الطرائق و«الأخوات» التي تنشر الزوايا والخلوات في البوادي الشاسعة كالصحراء الغربية وما يليها، ومنها طرائق تضارع في كثرة أتباعها الوهابية والسنوسية، ولكنها نمط آخر من الحركات الإسلامية التي لا ترتبط بحوادث القرن التاسع عشر أو القرن العشرين خاصة، ويصح أن تظهر قبل ثلاثة قرون أو أربعة كما يصح أن تظهر بعد العصر الحاضر في بيئاتها التي تلائمها فليست هي من قبيل رد الفعل للعوارض السياسية أو الاجتماعية التي أصابت الدول الإسلامية في القرون الأخيرة؛ لأن أمثالها من حركات الاعتكاف قد ظهر قبل ستمائة سنة، وشعاره الغالب عليه «دع الخلق للخالق» بخلاف الحركات الأخرى التي تتصدى لشئون السياسة بالتأييد أو بمقاومة تهيئ العدة للمستقبل في هذا الميدان.
وأكبر الطرائق التي عاصرت الدعوة السنوسية على وجه التقريب طريقتان: إحداهما: شاعت في المغرب وشواطئه، ثم في السودان وآسيا الصغرى وهي الطريقة التجانية، والأخرى: شاعت في الحجاز، ثم في مصر والسودان، وهي الطريقة الميرغنية.
وتنسب الطريقة التجانية إلى تجان بالمغرب حيث أقام إمامها الشيخ «أحمد محمد المختار» الذي ولد بقرية «عين ماضي» سنة 1737 ميلادية، وكان في شبابه من أتباع الطريقة الشاذلية، ثم دعا إلى طريقته بعد أن جاوز الأربعين، من آداب الطريقة: أنها لا تناهض الحكم القائم، ولا يعني أتباعها بعد الولاء لشيخها بتغيير السلطان حيث كان، فمنهم من بايع الدولة الشريفية بمراكش، ومنهم من بايع محمد سعيد باشا بمصر واعتبره من الزمرة التجانية، ومنهم من كان يسفر بين سلطان دارفور والسلطان العثماني عبد المجيد، ولكنهم لا يقبلون الهوادة في مسألة الولاء للشيخ الكبير، ويرتابون أشد الريب فيمن يشرك في ولائه أحدا غير إمام طريقته كأنه قابل لأن يتدرج من ذلك إلى المشاركة في ولائه لنبيه وخالقه، وقد قال صاحب كتاب الرماح، وهو من كتبهم المعدودة، إن «من أكبر الشروط الجامعة بين الشيخ ومريده ألا يشرك في محبته غيره، ولا في تعظيمه ولا في الاستمداد منه ولا في الانقطاع إليه، ويتأمل ذلك في شريعة نبيه
صلى الله عليه وسلم ، فإن من سوى رتبة نبيه
صلى الله عليه وسلم
برتبة غيره من النبيين والمرسلين في المحبة والتعظيم والاستمداد والانقطاع إليه بالقلب والتشريع، فهو عنوان على أن يموت كافرا إلا أن تدركه عناية ربانية.»
ويعرف أتباع التجانية في السودان باسم «الفلاتة» وهو الاسم الذي يطلق في الغالب على الغرباء المهاجرين من شواطئ إفريقية الغربية، ومن أتباعها من يقيم الآن في آسيا الصغرى، ويحاول أن يسترد حريته في نشر الدعوة إلى الطريق وإلى شعائر الدين.
ويرجع الفضل الأكبر في انتشار الطريقة الميرغنية إلى السيد محمد عثمان الميرغني المتوفى سنة 1853 ميلادية، أحد تلاميذ السيد أحمد بن إدريس بالحجاز، وقد زامله في هذه التلمذة السيد السنوسي الكبير، وكلاهما عالم فقيه واسع التحصيل، ولكن الميرغني أقرب إلى خلائق العزلة والتعمق في الأسرار الصوفية، وزميله السنوسي أقرب إلى خلائق الدأب والمجاهدة والسياسة العملية، ولهذا كان الملوك والأمراء يتتبعون أخباره، ويخشون بأسه من سلطان القسطنطينية إلى سلطان دارفور، وكان المحافظون من العلية والرؤساء في الحجاز يميلون إلى الطريقة الميرغنية، ويوجسون خيفة من شيوع السنوسية بين أهل البادية العربية والبادية المغربية، ولم يتفق التلميذان بعد شيخهما الكبير ولكنهما لم يتنازعا في مكان واحد، وانقسم الميدان لهما بغير تقسيم.
كان الشاغل الأكبر للسيد محمد عثمان في شبابه أن يبحث عن الحقيقة الصوفية حيثما وجد سبيلا إليها، فاتبع الطريقة النقشبندية، ثم الطريقة القادرية، ثم الطريقة الجنيدية، ثم الطريقة الشاذلية طريقة أستاذه أحمد بن إدريس، وقد ندبه أستاذه للدعوة باسمه في مصر والسودان، فبرح الحجاز إلى القصير، وقصد إلى أسوان من طريق النيل، فانتشرت دعوته بين النوبيين، وبرح مصر من ثم إلى السودان، ونجح نجاحا طيبا بين أهل دنقلة وكردفان، واتبعه كثيرون من قبائل البجاة.
ثم قفل إلى الحجاز، وواظب على حضور الدروس، وملازمة أستاذه الكبير إلى يوم وفاته (سنة 1837) ولكنه أحس العداء ممن كانوا ينافسونه في مكة، فعكف على العبادة بالطائف، واكتفى بجهود ولديه في نشر الدعوة؛ إذ اتجه السيد محمد سر الختم إلى اليمن، واتجه السيد الحسن إلى سواكن فالتف به المريدون من قبائل بني عامر والحلانقة وأكثرهم من البجاة.
ولم تظهر في العهد الحديث طريقة أكبر من هذه الطرق الثلاثة: وهي السنوسية والتجانية والميرغنية، ويستلفت النظر أن هذه الطرق جميعا تشيع بين السنيين، وقلما تشيع بين الشيعة ولا سيما الشيعة الإمامية، ولعلها بين السنيين بديل من اعتقاد الشيعة في الإمامة المنتظرة بشروطها الخاصة التي يصعب ادعاؤها بغير ادعاء المهدية، وهي دعوة كبيرة يشتد الشيعة أنفسهم في محاسبة من يجترئ عليها، فلا يتيسر برهانها، ولا تخلو من المخاطرة؛ لأنها تصطدم بسلطان الدولة وسلطان الدين.
الفصل الثامن
المصلحون والمعلمون
السيد أحمد خان
تقدم أن النهضة الإسلامية في القرن التاسع عشر قد اتسعت لكل تجربة من تجارب الإصلاح: إصلاح بالعودة إلى القديم، وإصلاح بالتجديد، وإصلاح بإحياء الحماسة الدينية، وإصلاح بمجاراة الحضارة العصرية، ودعوات يقوم بها الثائرون وأخرى يقوم بها المتطهرون المعتكفون، وغير هذه وتلك دعوات يقوم بها المعلمون والمهذبون، وسنرى أن هذه الدعوات - دعوات المعلمين المهذبين - كانت ألزم دعوات الإصلاح، وأبقاها أثرا، وأوفقها لكل زمان ومكان، وأبعدها من أن تضيع عبثا كيفما كانت أحوال الأمم التي تنجم فيها، وتنمو بين ظهرانيها.
وقد ظهرت في أهم البيئات التي ينبغي أن تظهر فيها، وفي الزمن الذي ينبغي أن تظهر فيه.
ظهرت في الهند وفي مصر وفيما بينهما من بلاد الشرق الأوسط، وكان قادتها على هذا الترتيب الزماني: السيد أحمد خان الهندي، والسيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده المصري، وهو المصلح المخضرم بين عصر الجمود وعصر اليقظة والتقدم.
ولد السيد أحمد خان سنة 1817 بمدينة دلهي بالهند، ولا تزال للدولة المغولية بقية فيها، وكانت أسرته لأبيه وأمه من كبار المتصلين بها، وخاله فريد الدين أحد وزرائها، وقد أنعم عليه بهادر شاه - آخر ملوكها - بلقب «أستاذ الحرب» بعد وفاة والده، ولما يبلغ العشرين.
وكان التقليد المرعي بين مسلمي الهند مقاطعة الوظائف في ظل الحكم الإنجليزي، ولكن نشأة أحمد خان بين رجال الدولة رشحته لولاية الوظائف، فلم يرفض الوظيفة التي عرضت عليه في سلك القضاء.
وانفجرت ثورة الهند «1857» وهو قاض في بجنور، فحال جهده بين الثوار وقتل المسالمين والنساء، ولم يمنعه ذلك أن يؤلف كتابه في أسباب الثورة فيلقي تبعتها على الإدارة الإنجليزية، ويدحض ما قيل من تدبير هذه الثورة في بلاد الأفغان بإيعاز من الحكومة الروسية؛ «لأن أسبابها الوطنية كافية لنشوبها مغنية عن كل تدبير يتسلل إليها من خارج البلاد الهندية»، روي عن السيد أحمد خان، وهو طفل صغير، أنه دعي مع أنداده وأهليهم إلى بلاط بهادر شاه فنودي عليه مع التلاميذ الذين استدعاهم الملك لتشجيعهم ومكافأتهم فلم يجب، وتكرر النداء ولا جواب، ثم وجده رجال الحاشية منزويا في مكان قريب، فسألوه: لم لم تجب حين نودي باسمك بين زملائك، فلم يحجم أن يذكر السبب الصحيح، وهو أنه انتظر وطال انتظاره فاستسلم للنوم!
وضحك رجال الحاشية، وظنوا أنه سبب لا يقال في حضرة ملك، فلم يشأ الصبي الصغير أن يتلطف في الاعتذار، ويتعلل بسبب غير هذا السبب الصحيح.
ولم يتغير أحمد خان بعد أن جاوز الأربعين، فإنه كاشف أبناء قومه بعلة جمودهم، ولم يقبل قط أن يتملقهم، ويخفي عنهم أسباب قصورهم وعجزهم، وصارح الدولة الحاكمة بأسباب الثورة، وما يقع عليهم من تبعاتها، وصارح أبناء قومه بتبعاتهم، فكانت خلاصة هذه التبعات في رأيه أنهم «نائمون».
وقد وصف السيد أحمد خان بالأناة والحذر، وكاد المترجمون له أن يصفوه بالمبالغة في أناته وحذره، ولكنهم لو وصفوه بالإقدام أو الهجوم لوجدوا الدلائل على ذلك أظهر وأكثر من دلائل الأناة إن كان معنى الأناة أن يتخلف المستأني عن العمل في حينه، فما توانى أحمد خان عن مصارحة الإنجليز بتبعاتهم وعيوب إدارتهم، وما توانى عن مصارحة قومه بجمودهم وعجزهم ووسائل الخلاص من نكبتهم، وما توانى بعد ذلك عن مصارحة الهند كلها بتنظيم الحياة النيبابية فيها على النحو الذي يصلح لجميع أبنائها مع تعدد النحل وتفاوت النسبة في توزيع السكان، ولكنه كان يتأنى حين يخشى مغبة العجلة ولا يؤمن بجدواها، وكانت هذه الأناة منه أدل على الشجاعة من الهجوم السريع؛ لأنه كان يغضب بها أضعاف من يرضيهم بالتعجل في غير جدوى.
وقد عرف مكامن الضعف في قومه، ولم تخف عليه مكامن القوة في الدولة الغالبة على وطنه، فجزم بضرورة التعليم الحديث، ثم بدأ بإرسال ابنه إلى الجامعات الإنجليزية، واعتزم أن يصحبه إليه ليطلع بنفسه على حقائق الحضارة الأوروبية في بلادها، وقد لخصها في جوهرها أحسن تلخيص، فجمع حقائقها النافعة في كلمتين: وهما العلم والخلق، ورأى أن الشباب المسلم لا يكسب الخلق المتين بغير دين، فلخص برنامج الإصلاح عنده في الدين المستنير، وجعل شعاره كله كلمة واحدة يعيدها مرات وهي: علم، ثم علم، ثم علم، أو تعلم، ثم تعلم، ثم تعلم، بغير انقطاع عن التعلم أو التعليم.
ولما توفي وهو في الحادية والثمانين كان للمسلمين في الهند مدرسة كلية عالية ومدارس حديثة متفرقة، وكان لهم ما هو أهم من ذلك وألزم؛ وهو الوجهة المرسومة، ومعالم الطريق التي لا تخفى على ذي عينين، وقد خطا السيد أحمد خان هذه الخطوة التي أحجم عنها معاصروه؛ لأنهم لا يعرفونها ولا يجسرون عليها، فعرفها ولم يحجم عنها، وقال من قال: إنها لخطوة عظيمة واستصغرها آخرون، فقالوا: إنه قد أطال الأناة فيها، ولكنهم مجمعون على أنها هي الخطوة التي لا بد منها في البداءة، فلا تتأتى الخطوات التالية إلا بعد الإقدام عليها، وقد أقدم عليها، فاتبعه في الطريق من يؤثر العجلة ومن يؤثر الأناة.
جمال الدين
والمعلم الأكبر جمال الدين من أبناء الأقاليم الوسطى، بين الهند والبلاد العربية وبلاد الدول العثمانية، وكأنما شاءت العناية أن يولد حيث يتوسط العالم الإسلامي، ويتولى فيه دعوة الإصلاح والتعليم من أقصاه إلى أقصاه.
والقول المشهور إنه هو وآباؤه وأجداده من أبناء الأفغان، ويقال غير هذا إنه ولد بقرية «أسد أباد» في جوار همذان من بلاد فارس، ثم انتقل إلى الأفغان، وتعمد إخفاء نسبته الفارسية بعد أن تجرد لدعوة الإصلاح في العالم الإسلامي كافة، وتوقع من شاه العجم أن يطالب بتسليمه؛ لأنه من رعاياه، فضلا عن غلبة المذاهب السنية على البلاد التي خاطبها بدعوته، ومنها بلاد الترك ومصر وسائر البلاد العربية.
إلا أنه لا خلاف في نشأته منذ صباه في بلاد الأفغان، وفيها تعلم الفقه على مذهب أبي حنيفة، ودرس علم الكلام وهو خلاصة الفلسفة الدينية، كما أحاط بالميسور من علوم الرياضة والهندسة في كتب الأقدمين، وكان في أخريات أيامه يعرف الفرنسية والتركية وقليلا من الإنجليزية، عدا الفارسية والعربية التي كان يتكلم الفصيح منها بلهجة الفرس المستعربين.
وإذا لخصت رسالة جمال الدين في كلمتين فرسالته بالإيجاز هي «الجامعة الإسلامية»؛ ولكن الجامعة الإسلامية كما أرادها جمال الدين شيء غير الجامعة الإسلامية التي يراد بها توحيد الحكومات، وضمها جميعا إلى حكومة واحدة، وإنما يتوقف فهم هذه الجامعة على مراجعة أحوال الأمم التي درج جمال الدين، وهو يستمع إلى أخبارها، ويشترك في شئونها، وهي بلاد الأفغان وإيران، وقبائل الترك ومن ورائهم دولة بني عثمان، ومن حولهم مطامع الاستعمار ودسائسه في أوج سلطان المستعمرين من البريطان والروس بعد اجتياحهم للهند، وأواسط آسيا بزمن قليل.
فقد فتح السيد عينيه على بلاد الأفغان وفارس، وهي على أعنف ما يكون من التنازع والبغضاء، وكانت حكومة الهند البريطانية تستغل الخلاف بين الأمتين في المذهب والخلاف بينهما على الحدود كما تستغل حاجتهما إلى المال والسلاح، فتغري إحداهما بالأخرى، وتبذل لها من مالها وسلاحها ما تقوى به على جارتها، وتشترط عليها ألا تعقد الصلح معها حتى تأذن لها، وإلا قطعت عنها المدد والمعونة، وكانت حكومة الهند لا تأذن بالصلح إلا أن تكون الدولة المغلوبة قد نزلت عن دعواها في الحدود الهندية.
وربما سكن القتال بين الأفغان والفرس على مقربة من الهند لينشب بين الفرس والترك من قبل العراق وبحر الخزر بإيعاز من الروس أو طلاب الرخص الاقتصادية، وينتهي القتال من هنا وهناك بغنيمة للإنجليز أو للروس، وخسارة على الأفغان والفرس والترك أجمعين.
وقد وضع جمال الدين يده على الداء كله حينما أدرك أن العلاج السريع لهذه المحنة إنما يبدأ بالتوفيق بين الأمم الإسلامية، وكف المطامع والدسائس عن بلادها، وكان يشق عليه كثيرا أن يرى هذه الأمم كما قال: «متحدين على الخلاف مختلفين على الاتحاد مطاوعين للمستعمرين والمستغلين جادين في خدمتهم كأنها فريضة من فرائض الدين.»
فعقد عزيمته على رسالة واحدة يتحراها مدى الحياة، وهي حسم الخلاف بين الأمم الإسلامية، وإيصاد الأبواب على المستعمرين والمستغلين حتى تنقطع المطامع التي تسول لهم العدوان على الأمم الإسلامية، وإيقاع الفتنة والشقاق بين حكوماتها وطوائفها.
وهذه هي الجامعة الإسلامية كما أرادها جمال الدين، وفي سبيلها رحل إلى الهند وبلاد العرب والآستانة ومصر وروسيا وفرنسا وإنجلترا، وخرج من الهند مرة، على رواية مستر بلنت المستشرق الأيرلندي، قاصدا إلى الولايات المتحدة ليتجنس بالجنسية الأمريكية ويستثير الأمريكيين على الإنجليز والروس، وكان قد سمع بمساعي الأمريكيين في الشرق الأقصى فخطر له أن يستخدمها في قضيته، ولكنه أقام أشهرا في الولايات المتحدة على قول مستر بلنت، فعدل عن عزمه، ولم يتمم ما نواه من رحلته، ولعله عرف بالخبرة الواقعة أنه يعلق الرجاء حيث لا رجاء.
وقد خطر لجمال الدين يوما أن يرسل تلميذه ومريده الشيخ محمد عبده إلى السودان؛ لتنظيم الثورة المهدية، وتحويلها إلى خدمة الجامعة الإسلامية، وخطر له في مصر أن يسقط الخديو إسماعيل، ويقيم فيها الجمهورية؛ بل خطر له أن يحرض على إسماعيل من يغتاله عسى أن يجد من خليفته توفيق مستمعا لنصائحه ووصاياه.
وقد توسل جمال الدين في رسالته بكل وسيلة تملكها يداه، فأصدر في أوروبا صحيفة «العروة الوثقى» وصحيفة «ضياء الخافقين» وأنشأ في مصر محفلا ماسونيا بعيدا من سيطرة المحافل الأجنبية، وقيل: إنه ألف في مكة المكرمة جماعة «أم القرى» وهم بالسفر إلى نجد لقيادة الحركة الوهابية، ولم يهدأ قط في حياته عن عمل مستطاع يحقق به رسالة الجامعة الإسلامية، واتهمه السلطان عبد الحميد بالعمل في الآستانة على استمال الخديو عباس الثاني إلى تنفيذ مساعيه يوم زارها في ضيافة السلطان.
ثم أصيب بالسرطان فمات به (سنة 1897) وحظر السلطان الاحتفال بجنازته، فلم يشيعه إلى مقره الأخير غير آحاد معدودين، وفارق الحياة، ولم تتحقق مساعيه؛ لأنها أكبر من أن تحققها جهود جيل واحد، غير أنه أحسن بذر البذور فلم تمت في تربتها الصالحة، وحق لمترجمه أن يقول: إن تاريخ الشرق الإسلامي في ثوراته على الحكم المطلق وعلى مطامع الاستعمار والاستغلال لن ينفصل عن تاريخ الدين.
محمد عبده
هؤلاء المصلحون المعلمون الثلاثة نشئوا كنشأة الإخوة في أسرة واحدة: ولد السيد أحمد خان في سنة 1817، وولد السيد جمال الدين في سنة 1839، وولد الشيخ محمد عبده 1849، وكان بينهم من التخصص على غير قصد ما يشبه توزيع الوظائف في المهمة الواحدة؛ فتولى كل منهم عمله الذي يستطيعه حيث يستطاع، ولم يكن للعالم الإسلامي غنى عن واحد منهم في موضعه، أو في مهمته كما فرضتها عليه دواعي الإصلاح.
ولقب الشيخ محمد عبده بحق «الأستاذ الإمام»؛ لأن هذا اللقب يلخص رسالته في الإصلاح بين زميليه أحمد خان وجمال الدين.
فهو مصلح معلم كالسيد أحمد خان، ولكنه يزيد عليه بالإمامة الدينية التي لم يتهيأ لها السيد أحمد، ولم يرشح نفسه لها؛ بل قصر جهوده كلها على إيقاظ المسلمين، وتنبيههم إلى حاجتهم من العلم الحديث.
فالشيخ محمد عبده أستاذ إمام، ورسالته هي التعليم والإمامة في وقت واحد، وفحواها أنه خرج من تجاربه كلها بنتيجة واحدة وهي فساد الجو السياسي من حوله، فلم يبق له أمل في إصلاح المسلمين بالوسائل السياسية، وآمن برسالته «العلمية الدينية» كل الإيمان، فانصرف بعزيمته كلها إلى رفع الحجر عن العقول بإجازة الاجتهاد لمن يقدر عليه، وتفسير المسائل الدينية تفسيرا يطابق العلم الحديث.
وتبدو هذه الكلمات سهلة هينة لمن يقرؤها في العصر الحاضر، ولكنه يعرف صعوبتها - بل خطرها - إذا عرف أن القول بدوران الأرض كان يعرض القائل به لتهمة الكفر والتواطؤ مع أعداء الدين على إفساده، وأن استخدام التليفون حرج شديد؛ لأنه قد يكون من آلات الشيطان، وأفاعيل السحرة «المتشيطنين».
وقد بدا للأستاذ الإمام عبث السياسة، وهو يعاون السيد جمال الدين في مساعيه الأوروبية، فكان يعاود له المشورة بتركها، والإقبال على تعليم المصلحين والمرشدين، وكان يقول له حينا بعد حين: إننا إذا علمنا عشرة، وأرسلناهم في أرجاء العالم الإسلامي، فعلم كل منهم عشرة من مريديه أصبح في العالم الإسلامي مائة مرشد، فألف مرشد بعد ثلاثين أو أربعين سنة؛ وذلك أوثق وأوفق من عملنا الضائع بين الساسة والأمراء، وكان السيد جمال الدين يستمع إليه مرة، ويحتد في جوابه مرة أخرى فيقول له: إنك لمن المثبطين.
وقد بدأ الشيخ محمد عبده حياته بالتعليم بعد حصوله على درجة العالمية من الجامع الأزهر. فألقى بعض الدروس (سنة 1879) في دار العلوم، ثم طاحت به شبهات السياسة، فأخرج منها، وألزم المقام بقريته «محلة نصر» بإقليم البحيرة، ثم أفرجت عنه وزارة رياض، ووكلت إليه الإشراف على تحرير الصحيفة الرسمية فأدركته الثورة العرابية وهو في تلك الوظيفة، وقد اشترك في الثورة حتى أفلت العنان من يديها، فأنف من خذلانها في أحرج مآزقها، وأصابه ما أصاب رجالها من عقوبات السجن والنفي إلى خارج البلاد، فاتخذ من النفي فرصة لنشر الدعوة إلى الحرية الفكرية، وضاق به المقام في بيروت، فلحق بأستاذه جمال الدين في باريس، وتعاونا معا على إصدار صحيفة «العروة الوثقى» فلم تتم عشرين عددا حتى ضربت حولها السدود في البلاد الإسلامية، فتعذر المضي في إصدارها، واختار الشيخ محمد عبده أن يشخص إلى تونس عسى أن يتسع لها فيها مجال العمل؛ لما كان بين الدولتين الفرنسية والإنجليزية يومئذ من التنافس على اجتذاب أقطاب المسلمين، فلم يلبث غير قليل حتى خاب ظنه، وأزمع الرحلة إلى بيروت ليقيم فيها مشتغلا بالدراسات الأدبية، وفي هذه الفترة عكف على شرح نهج البلاغة ومقامات البديع، وترجم من الفارسية رسالة أستاذه جمال الدين في الرد على الدهريين.
ثم عفي عن المنفيين فعاد إلى القاهرة، وتولى القضاء قاضيا، فمستشارا بالمحكمة العليا، وشغله في وظيفته بالقضاء الأهلي أن ينظر في إصلاح المحاكم الشرعية، وفي تجديد نظام التعليم بالجامع الأزهر، فأشار بتأليف مجلس من المختصين يشرف على شئونه العلمية والإدارية، وندب للعمل في هذا المجلس عند تأليفه، ثم اختير لمنصب الإفتاء، فلم ينقطع في هذا المنصب عن إلقاء الدروس بالجامع الأزهر، وإصلاح التعليم فيه.
واستفاضت شهرة الشيخ في العالم الإسلامي من تخوم الصين ومراكش إلى إفريقية الجنوبية، واعتمد عليه المسلمون في استجازة ما يجوز وتحريم ما يحرم، وهم بين الحضارة الحديثة وجمود الجامدين حائرون فيما يأخذون وما يدعونه من أمور الدنيا والدين، ويدل على استفاضة هذه الشهرة فتوى «الترنسفال» التي أقامت الدنيا وأقعدتها عدة شهور؛ لأنه أفتى فيها بتحليل طعام أهل الكتاب ولبس ملابسهم، كما أفتى بالإجازة في أمر صناديق التوفير توضيحا للمقصود من تحريم الربا المضاعف بنص القرآن الكريم، وقد كانت الأسئلة تتقاطر على «المفتي» من أرجاء العالم الإسلامي، فيبادر إلى الإجابة عنها على ما في الجواب أحيانا من العنت والاصطدام بجهالة الجامدين ومنافعهم الموروثة في كل قطر من أقطار المشرق والمغرب، ولا يغلو من يقول إنه فارق الدنيا - وهو في الخامسة والخمسين من عمره - وله في كل بلد إسلامي دليل ينير الطريق من فتاواه ودروسه وسيرته التي ارتفع بها مكانا عاليا من النزاهة النادرة والخلق المتين.
الفصل التاسع
الساسة المصلحون
وعلى الجملة ينبغي أن يقال: إن هؤلاء المصلحين المعلمين قد عملوا غاية ما في الوسع للإصلاح والتنبيه وإقامة القدوة المثلى لمن تابعهم من المصلحين والمنبهين.
إلا أن الحقيقة الواقعة تستوجب علينا أن نقول: إن أعمال ثلاثة أو ثلاثين من المصلحين المعلمين لم تكن لتبلغ هذا المدى البعيد من حث العالم الإسلامي واستنهاضه لو لم يكن لهم سميع مجيب من جيشان الشعور بين المسلمين، وإن يكن جيشانا مبهما يتخبط بين غواشي الظلم والظلام.
وفضل العقيدة هو الفضل الأكبر في إعداد النفوس للاستماع من المصلحين، والإيمان بوجوب التغيير، والاتجاه إلى وجهته القويمة، ومن ثم وجدت في الحكومات الفاسدة نفسها عوامل اليقظة والانتباه إلى التغيير أو الإصلاح، فوجد في إيران وزير كميرزا تقي خان يحاول أن يحد من سلطان الشاه ناصر الدين، ووجد في تركية رجال كأحمد مدحت يحاولون مثل هذا من السلطان عبد الحميد، ووجد في مصر رجال كمحمد شريف وأحمد رياض قبيل انفجار الثورة العرابية، ووجد في المغرب أمثال خير الدين، ولم يكن وجودهم مصادفة ولا فلتة من الفلتات العارضة؛ بل كان علامة من علامات الزمن لا بد لها من معقبات وآثار. (1) المهديون
من أقوى الدلائل على عمق الأثر الذي تركته ضربات الاستعمار في أرجاء العالم الإسلامي هذه الظاهرة المتفقة التي تواترت في تلك الأرجاء، ولما ينقض على هجوم الاستعمار جيل واحد، خلاصة هذه الظاهرة: أن رد الفعل بعدها قد برز بكل نوع من أنواعه في تلك الأرجاء، فلم يكن في العالم الإسلامي كله بلد خلا كل الخلو من إحداها.
فكما توزع العالم الإسلامي دعوات المعلمين المصلحين كذلك توزع دعوات الساسة وأصحاب الطرق الصوفية ودعوات التجديد أو العودة إلى القديم الصحيح، وتخليصه من شوائب البدع والخرافات، ثم توزعته كذلك دعوات أخرى من نوع آخر، وهي دعوات المهديين الذين زعموا أنهم مبعوثون على موعد، وأنهم رسل الخلاص والنجاة، فظهر منهم من ظهر في الهند، وظهر منهم من ظهر في الرقعة الوسطى من أرض فارس، وظهر غيرهم في وادي النيل، ومن قبل رأينا أن هذه الأقطار هي التي أخرجت للعالم الإسلامي السيد أحمد خان والسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري، وأخرجت كذلك رواد السياسة والوزراء.
ظاهرة تدل على قوة الأثر، وتدل كذلك على حياة البنية التي تستجيب لكل فعل برده الذي يناسبه في حينه، وليست البنية هنا إلا العقيدة التي هي مرجع تلك القوة وتلك المقاومة.
والمهديون نوع آخر من الدعاة، ولكنه نوع له محله وأوانه كيفما كان.
وأشهرهم في عصر الاستعمار ثلاثة: هم ميرزا علي الملقب بالباب، وقد ظهر في إيران، وميرزا غلام أحمد القادياني وقد ظهر في الهند، ومحمد أحمد عبد الله وقد ظهر في السودان.
والغالب - على اعتقاد المؤرخين - أن المهديين قوم خادعون يتعمدون الكذب في دعوتهم، ويسرون غير ما يعلنون من طلب الإصلاح والعناية بشئون الدين.
ولكن الكذب المحض في أمثال هذه الدعوات أمر غير معقول، والأقرب عندنا إلى المعقول في أمرهم، أنهم عاشوا في فترة انتظار متفق عليها، وأنهم نشئوا نشأة «صوفية» في أكثر الأجيال، فاشرأبت نفوسهم أن يكون الرجاء المنتظر على أيديهم، وربما ساورهم الظن أنهم مندوبون لتحقيق الرجاء، فأشفقوا أن ينكلوا عن هذه الندبة، وأقدموا خوف المخالفة، وأملا في صدق الوعد مع العمل والجهاد، ثم طوتهم الشبكة المعقدة من هواجس ضمائرهم، ومما أحاط بهم من عقائد أتباعهم من ضرورات المواقف المتلاحقة التي لا يسهل الخلاص منها، فأسلموا أنفسهم للحوادث، واعتذروا لها بحسن المقصد وسلامة النية، أو كان منهم من يلج في المكابرة والمغالطة؛ لأنه لا يأمن التراجع ولا يقدر عليه، ومنهم من يخالطه الوسواس فيفعل أفعال المجانين.
ونحسب أن الباب أشد هؤلاء ثقة بنفسه في البداية وأقلهم ثقة بها في النهاية، ولهذا كان أبعدهم عن العقيدة السوية في الإسلام.
الباب
وأول نشأة البابية في عصر الاستعمار شيخ يسمى الحاج كاظم الرشتي الجيلاني، ولد في أول القرن الثالث عشر للهجرة (سنة 1205) وتتلمذ على يد الشيخ أحمد الإحساني الذي ولد في البحرين، وجال في بلاد فارس، وتلقى الدروس عن الفلاسفة والمتصوفة، ودان بمذهب الحلول مع تغليبه لمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
وقد أخذ كاظم الرشتي مبادئ الفلسفة والتصوف عن هذا الشيخ الذي تنسب إليه الفرقة «الشيخية» وتعلم من أستاذه أن المهدي المنتظر سابح في عالم الروح يوشك أن يظهر بالجسد خلافا لاعتقاد الإمامية أنه محتجب بجسده إلى أن يحين يوم الفرج الموعود، وكان من تلاميذ الحاج كاظم فتى يسمى علي محمد، يتنسك وتعاوده حالات الوجوم والغيبوية، فتسمى باسم باب المهدي أو باب الدين، قال: إن المهدي إنما يأتي إلى الدنيا بعد اجتماع الخلق على كلمة تتوافق فيها عقائد الإسلام والمسيحية واليهودية والوثنية، وبث بين أصحابه عقيدة كعقيدة الحلول يزعم من آمن بها أن جسده يستنزل إليه الروح المتشبه به من الشهداء والقديسين، وسبقه أصحابه إلى دعواه فزعموا له أنه تلبس بروح الإمام علي - رضي الله عنه - فنادى من ثم بأنه هو المهدي الموعود، وأنه صاحب كتاب يسمى البيان، هو المشار إليه في القرآن بقوله تعالى:
الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان [الرحمن: 1-4].
وتلا على الناس سورا من هذا الوحي، فعابوا عليه أخطاءه النحوية، فتعلل لها بعلة توائم دعوته التي تحلل المؤمنين بها من قيود العقائد السالفة، وقال: إن الكلمات لما علمها الله آدم عصت كعصيانه، فعاقبها الله وقيدها بقيود الإعراب، ثم أذن له أن يطلقها، فهي بعد اليوم في حل من تلك القيود!
وقال ميرزا عبد الحسين صاحب الكواكب الدرية في تاريخ ظهور البابية والبهائية : إن حضرة الباب وضع كتاب البيان، ورتبه على تسعة عشر واحدا، وقسم كل واحد إلى تسعة عشر بابا، والآن نقول: إن أبواب هذا الكاب تكون إذن من حيث الجملة والمجموع ثلاثمائة وواحدا وستين بابا، وهذا العدد ينطبق على مجموع أعداد حروف (كل شيء) إذا استخرجت بحساب الجمل، وقد خصص حضرته الواحد الأول لنفسه، والثمانية عشر واحدا الباقية لكبار الصحابة لكل منهم واحدا، ولما كان حاصل جمع أعداد حروف (ص) إذا استخرجت بحساب الجمل ثمانية عشر؛ لذلك سمي أصحابه المشار إليهم حروف (ص) ونسب انتشار الحركة الروحية ونفخ الحياة الإيمانية - التي برزت، وظهرت تحت ظل البيان - إلى تلكم الأصحاب، ولكن حضرته لم يكمل بقلم كتابة جميع هذه الأبواب، وإنما تمم كتابة آحاد ثمانية وتسعة أبواب من الواحد إلى التاسع فقط تاركا كتابة البقية الباقية، ويتضح لكل من يطلع على كتاب البيان، ويتصفح ما كتبه الحضرة أن حضرته عهد بمهمة إتمام بقية الكتاب إلى حضرة بهاء الدين، وكذلك كل من طالع كتاب البيان، ودرسه بإمعان، وسبر غور مطالبه تبين له أن الكتاب لا يرمي إلى تشريع كامل مستقل بنفسه، ولا إلى أحكام قائمة على حدة دونت لتقوم باحتياجات أمة في دورة كاملة من دورات الزمن، وإنما يفهم منه أمران: الأمر الأول: حل نظريات اعتقادية إسلامية ومشكلات مهمة أصولية من مثل الرجعة والساعة والقيامة والحياة والموت والجنة، والنار ونحوها، وغير خاف أن هذه المواضيع من حيث التفسير والفهم كانت منذ القدم موضع مباحثات علماء الإسلام ومجادلاتهم، ومنشأ اختلافهم في الرأي.
مثال ذلك: أن جمهورا فهموا من القيامة أنها حشر الموتى بأجسادهم الأولية بعد قيامهم من هذه الأجداث الترابية، وذهب آخرون إلى تفسيرها بظهور المهدي المنتظر، واحتشاد الناس تحت لواء أمره، ونيلهم الحياة الإيمانية من الإيمان به والإيقان بصدقه، والتخلق بالأخلاق الفاضلة الإلهية، وكذلك اختلفوا في معنى الرجعة: فذهبت قبائل إلى أنها عبارة عن رجعة الأئمة السابقين بأجسادهم، ولم تزل هذه القبائل تتصور ذلك إلى اليوم، وآخرون توصلوا إلى خرق حجب الظواهر وإماطة البراقع عن وجوه الحقائق والسرائر، واعتقدوا أن المغزى من الرجعة هو رجوع الآثار والصفات التي كانت كالمعنى الذي يفهم من قول القائل عند امتداح فتى بالشجاعة إن فلانا رجعة رستم «وهو بطل الفرس المشهور».
وفي هذه النبذة ما يكفي للوقوف على نهج الباب في تأسيس قواعده وعقائده، وهي مزيج من أسرار التصوف والتنجيم، وتأويلات الباطنية، ومحاولات التوفيق بما هو أقرب إلى التلفيق.
أما فرائض البابية: فالصلاة عندهم ركعتان في الصباح، والكعبة عندهم مسجد في شيراز، ثم البيت الذي ولد فيه الباب بمدينة تبريز، والصوم شهر من آخر نزول الشمس ببرج الحوت؛ ليوافق عيد الفطر يوم النوروز أول الحمل، ويجوز الزواج من اثنتين ولا يجوز الطلاق، وشرب الخمر والتدخين محرمان، ولا حرج في شرب الشاي والقهوة، وهذه الأحكام تسري بعدد حروف «المستغاث» بحساب الجمل إلى نيف وألفي سنة، ثم يظهر بإذنه إمام آخر يعيد النظر في جملة تلك الأحكام.
ونقل الدكتور ميرزا محمد مهدي خان في كتابه مفتاح باب الأبواب أنه «كان من جملة دعاته امرأة فتية بارعة الجمال متوقدة الجنان فاضلة عالمة تسمى بأم سلمة
1
من بنات أحد المجتهدين في العجم، وكانت متزوجة بمجتهد آخر، طلقت نفسها من زوجها على خلاف حكم شريعة الإسلام، وآمنت بذلك الرجل - أي الباب - عن غيب، وكانت تكاتبه ويكاتبها، فكان يخاطبها في مكاتباته بقرة العين فلقبت بذلك، ولما وقعت المحاربة بين البابيين وعساكر الدولة في مازندران جيشت جيشا قادته مكشوفة الوجه، وسارت أمامه طالبة إعانتهم، وفي أثناء الطريق قامت في الناس خطيبة، وقالت: أيها الناس! إن أحكام الشريعة الأولى - أعني المحمدية - قد نسخت، وإن أحكام الشريعة الثانية لم تصل إلينا، فنحن الآن في زمن لا تكليف فيه بشيء ... فوقع الهرج والمرج، وفعل كل الناس ما كان يشتهيه من القبائح، ثم قبض عليها، وألبست البرقع جبرا، وحكم عليها بأن تحرق حية، ولكن الجلاد خنقها قبل أن تلعب النار بالحطب الذي أعد لإحراقها.»
ويختلف في نسب الباب، ولكنه على الأشهر ينتمي إلى أب بزاز يسمى ميرزا رضا وأم تسمى خديجة، وكان مولده أول المحرم سنة 1235 هجرية، ومات أبوه قبل فطامه، فرباه خاله ميرزا سيد علي التاجر، وعلمه الفارسية والعربية وإتقان الخط. أما أتباعه: فيزعمون أنه لم يتعلم، وإنما كان أميا يكتب بإلهام من الله، وقد شغل في صباه بالرياضات الصوفية، وتسخير روحانيات الكواكب، وقيل: إنه كان يصعد في بلدة أبو شهر إلى أعلا البيت عاري الرأس، ويمكث في الشمس في الهجيرة إلى العصر حيث تبلغ الحرارة درجة اثنتين وأربعين (سنتجراد) ثم تعتريه من جراء ذلك نوبات، ويعيد الكرة أياما على هذه الحال حتى أشفق خاله من عقبى هذه الرياضات الشاقة، فأرسله إلى كربلاء أملا في شفائه على أيدي الأئمة والمجتهدين، ولكنه أمعن هنالك في رياضاته، وتراءت له الأشباح في خلواته، فكاشف أناسا صدقوه؛ لأنهم كانوا على رقبة الإمام الموعود، ثم استفحل أمره، واجترأ أتباعه على نشر دعوته، وتهديد من يخالفهم في معتقده، وهبت الثورة باسمه في زنجان ومازندران وتبريز، وعرض أمره على العلماء، فتحرج بعضهم من الحكم بقتله؛ لعله أن يكون مخالطا في عقله غير مسئول عن فعله، وأفتى غيرهم بوجوب القتل اتقاء للفتنة، فسجن ثم قتل (في سنة 1850) وحدث عند إطلاق الرصاص عليه، في زعم البابيين، أنه ظل واقفا؛ لأن الرصاص قد أصاب قيوده، ولم يصبه في مقتل، ولكن شهود الحادث من غير البابيين يقولون: إنه مات، وألقيت جثته في خندق فأكلتها السباع.
وكان الباب قد أوصى قبل اعتقاله باتباع خليفته ميرزا يحيى الذي نعته بصبح أزل، فانتقل صبح أزل إلى بغداد، ومعه أخوه ميرزا حسين علي الملقب بالبهاء، ثم اختلفا، فانقسمت الطائفة إلى فرقتين تعرف إحداهما باسم الأزلية، وتعرف الأخرى باسم البهائية، ونشط كلاهما للدعوة في البلاد الإسلامية وغيرها، ولم يبق من أتباعهما في العصر الحاضر غير القليل.
مهدي السودان
أشرنا فيما تقدم إلى علامات كثيرة من علامات التوقع والاستعداد في العالم الإسلامي عند أواسط القرن التاسع عشر بعد اصطدام الشرق بغزوات الاستعمار، ونضيف إلى هذه العلامات علامة أخرى في هذا الصدد نلمحها في التجاوب السريع بين بلدان المسلمين لكل خبر من أخبار الدعوات والحركات العامة، وبخاصة ما كان من أخبار الثورة والتغيير، فلم يكد داعية البابية يلقى مصرعه حتى تسامع بهذا المصير مسلمو الهند وإفريقية الشرقية والوسطى على التخصيص، وهي قديمة الصلة ببلاد إيران، لا تنقطع عنها أخبارها من صدر الإسلام، وقد ترجع هذه الصلة إلى حقبة طويلة قبل البعثة المحمدية.
ولو كان الباب قد انتصر في معاركه مع جند الحكومة الإيرانية لكان هذا الانتظار خليقا أن يوصد الطريق على من يطمحون إلى ادعاء المهدية بعده، ولكن خذلانه على نقيض ذلك قد فتح الطريق في الهند وإفريقية ومواطن شتى لمن يطمحون إلى نصيب يكون خيرا من نصيبه، ويؤمنون في سريرتهم بصلاحهم وصلاح أوقاتهم للقيام بالرسالة المهدية.
وكان أقوى من تصدى للقيام بالرسالة المهدية بعد الباب: «محمد أحمد» الذي اشتهر باسم المهدي السوداني، ويلفت النظر في هذا المقام أن دعوته الأولى كانت باسم الإمام الثاني عشر الذي يترقبه الشيعة الإماميون، وقد نشأ بين أهل الطريق، وقرأ أشراط الساعة في كتب محيي الدين بن عربي، واطلع على قول ابن حجر والسيوطي: إن من هذه العلامات خروج صاحب السودان، ولم يكن في السودان يومئذ من يشك في اقتراب الساعة؛ لسوء الحال، وشيوع الفساد، واجتراء المفسدين على الجهر بمنكراتهم حتى اجترأ بعضهم على زفاف الغلمان بدلا من النساء، فلما انهزمت الدعوة المهدية في إيران تهيأت الأذهان في البلدان الأخرى لقبول دعوة غيرها يكتب لها النجاح، ووافق ذلك سخطا عاما بين كبار الزعماء الذين كانوا يتجرون بالنخاسة وبين العامة الذين أرهقتهم الضرائب وبين التجار الذين كسدت مرافقهم؛ لاضطراب المواصلات، وتتابع المنازعات بين مصر والسودان والحبشة، فتهيأت العقول للإصغاء إلى دعاة الإصلاح أو دعاة التغيير كيف كان.
وينتسب المهدي إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويقال: إن أجداده الأقربين أقاموا بإقليم المنيا زمنا بعد مقامهم إلى جوار الفسطاط، ثم انتقل بعضهم إلى بلاد النوبة، ثم استقروا في دنقلة، ثم انتقل أبوه عبد الله إلى الخرطوم فعمل فيها بصناعة السفن، وتوفي بقرية كررى إلى جوار أم درمان.
وقد ولد له ابنه محمد من زوجته آمنة (سنة 1845) وفي مكان مولده خلاف، إلا أنه على القول الأشهر قد ولد بجزيرة لبب، ومات أبوه وأمه وهو صغير.
ودرج الطفل الصغير في موطن يكثر فيه أبناء الطريق، وهو يطيل التفكير في يتمه، وفي المشابهة بينه وبين النبي عليه السلام باسمه واسم أبيه وأمه، فمال إلى النسك والعبادة، وحفظ القرآن ودرس الفقه وطرفا من التاريخ، وأخذ نفسه بالرياضة الصارمة؛ فاجتنب الملاهي، وحرم على نفسه ما يستباح من غشيان مجامع الطرب والغناء، وكانت صرامته هذه مثار الخلاف بينه وبين أستاذه الشيخ محمد الشريف أحد مشايخ الطريقة السمانية؛ لأنه سمح لتلاميذه ومريديه بالغناء والرقص في الاحتقال بختان أبنائه، فأنكر عليهم محمد أحمد هذه المجانة، وغضب عليه أستاذه ففارقه، ولاذ بشيخ آخر من شيوخ الطريق بجزيرة أبا إلى أن استقل بالمشيخة، وناهز الأربعين، ووافق ذلك لقاءه للشيخ عبد الله التعايشي من المشتغلين بالتنجيم، فطابق ما عنده من علامات الحروف والحساب على ظهور المهدي، وتبادلا التشجيع والتعاون على بث الدعوة باسم المهدي الموعود ووزيره «صاحب الخرطوم» كما جاء في بعض النبوءات.
وبعد وقائع بينه وبين جنود الحكومة تم له الظفر بالحملة المعروفة باسم حملة هكس، وهي حملة لم يكن لها نظام، ولا مدد من الذخيرة والمال، بل كان جنودها يجمعون جزافا من المجندين المرفوضين في القرعة العسكرية، وكانت الحكومة البريطانية تعوق مصر عن إرسال المال اللازم والعدة الضرورية لتسيير الحملة إلى كردفان، فلم تستطع أن ترسل لقائدها غير أربعين ألف جنيه من المائة والعشرين ألفا التي طلبها، وأبرق اللورد جرانفيل من لندن إلى القاهرة في السابع من شهر مايو سنة 1883 يعلن «أن حكومة جلالة الملكة غير مسئولة بحال من الأحوال عن حملة السودان التي تولتها الحكومة المصرية بأمرها، ولا هي مسئولة عن تعيين القائد هكس أو أعماله»، ونشب الخلاف بين قادة الحملة؛ لقلة وسائل النقل، وصعوبة التخلف في وقت واحد بعد أن تسامع أهل السودان جميعا بتأهب الحكومة لتجريد حملتها منذ عدة شهور، واستبد هكس برأيه في اختيار الطريق مع ندرة الماء، وارتياب الخبراء بأمانة الأدلاء. فوقع الجيش في كمين بعد كمين، ثم فوجئ بضعفي عدده من الدراويش، وهو على غاية الجهد من العطش والجوع والتعب، فلم يفلت منه غير آحاد معدودين، وكان عدد الدراويش أكثر من عشرين ألفا قتل منهم بضع مئات، وبلغ القتلى من الحملة المصرية نحو عشرة آلاف.
كانت هذه الكارثة ذريعة لإكراه الحكومة المصرية على إخلاء السودان، فانحصرت القوة التي رفضت الإخلاء بقيادة جوردن في مدينة الخرطوم، ثم انقطع عنها المدد تنفيذا لسياسة الإخلاء، وتمهيدا لإعادة فتح السودان باسم جديد، فاضطرت المدينة بعد اليأس من النجدة إلى التسليم.
وقد تقدم أن القوم عاشوا ردحا من الزمن يترقبون ظهور المهدي المنتظر، ويتخيلون أنهم يلمسون حولهم أشراط الساعة من عموم الفساد وسوء الحال وغلبة الكفر على الإيمان، وقد شهدوا انتصار صاحبهم على الجيوش التي حسبوها من قبل قوة لا تغلب، فكان هذا حسبهم من دليل على صدق دعواه، ومن بقي من دهمائهم منكرا لهذه الدعوى، فإنما كان ينكرها؛ لأنه يأتم بإمامة لا تقبلها ولا تقول في علامات المهدية بقولها، ومنهم أتباع الميرغنية والسنوسية والتجانية، وبعضهم كان يستمع إلى فتاوى العلماء خارج السودان بإنكار هذه المهدية.
ويبدو أن صاحب الدعوة قد توطدت في نفسه الثقة برسالته ممن عاينه حوله من دلائل الإيمان به، وانتظار الفلاح على يده، فأكثر من كتابة الكتب إلى الأمراء والملوك يدعوهم إلى تصديقه، وينذرهم عاقبة الكفر به، وأشفق أن يلتقي أتباعه خارج السودان بمن يشككهم فيه؛ فحظر الخروج، وحرم الذهاب إلى الحج، وأقنعهم بكفاية الحج إلى مقامه، ومن أمثلة كتبه التي كان ينشر بها رسالته قوله في منشور عام: «أخبرني سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بأن الله جعل لي على المهدية علامة، وهي الخال على خدي الأيمن، وكذلك جعل لي علامة أخرى تخرج راية من نور، وتكون معي في حالة الحرب يحملها عزرائيل عليه السلام فيثبت الله بها أصحابي وينزل الرعب في قلوب أعدائي، فلا يلقاني أحد بعداوة إلا خذله الله، هذا وقد أخبرني سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بأن من شك في هديتك فقد كفر بالله ورسوله كررها
صلى الله عليه وسلم
ثلاث مرات، وجميع ما أخبرتكم به من خلافتي على المهدية فقد أخبرني به سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
يقظة في حالة الصحة، وأنا خال من الموانع الشرعية لا بنوم ولا جذب ولا سكر ولا جنون، بل متصف بصفات العقل أقفو أثر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالأمر فيما أمر به والنهي عما نهى عنه، وليكن في معلومكم أني من نسل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأبي حسني من جهة أبيه وأمه، وأمي كذلك من جهة أمها، وأبوها عباسي، والعلم لله إن لي نسبة إلى الحسين.»
ولم يطل بقاء محمد أحمد بعد سقوط الخرطوم، فأصابته حمى التيفوس، وتوفي صيف سنة 1885، وكانت آخر كلماته: «... إن النبي
صلى الله عليه وسلم
اختار الخليفة عبد الله الصديق خليفة لي، وهو مني وأنا منه، فأطيعوه ما أطعتموني، أستغفر الله.»
القادياني
كان من أسباب ذيوع الأخبار عن مهدي السودان في البلاد الآسيوية، ولا سيما الهند والصين، أنه هزم القائدين هكس وجوردون، وكان أولهما من قواد الجيش الإنجليزي الذين اشتركوا في قمع الثورة الهندية سنة 1857، وثانيهما من الضباط الدوليين الذين اشتركوا في تدريب الجيش الصيني على النظام الحديث، وقمع الثورة على حكومة بكين.
فلما قتل هكس وجوردون في حروبهما مع مهدي السودان طارت الأنباء بوقائعه إلى كل مكان، وخشيت الحكومة البريطانية عاقبة الإيمان به، ولما تهدأ عقابيل الثورة في الهند، فكان هذا على الأرجح باعثا من بواعث عطفها على الحركة القاديانية الهندية عسى أن يكون الإيمان بصاحبها ميرزا غلام أحمد صارفا للقوم عن تصديق المهدي السوداني، ومعززا للعقائد الحديثة التي كان يبثها بين أتباعه، وقوامها إسقاط فريضة الجهاد بالسيف، وإيجاب الجهاد بالإقناع والبرهان.
وقد كان مولد ميرزا غلام أحمد سنة 1839 بقرية قاديان من أسرة عريقة آلت بها الحال إلى الخمول والفاقة بعد الثروة، فتعلم في مكتب القرية، وعمل في وظيفة حكومية صغيرة، وشب وهو يسمع الأقاويل عن كرامات أبيه، ومنها أنه كان يعرف المولود من أبنائه قبل أن يولد ويسميه باسمه، وقد سمى أبناءه جميعا بأسماء النبي وألقاب الأمراء، فمنهم سلطان أحمد ومحمود وبشير أحمد وولي الله ومبارك أحمد، وبنت تسمى بعدة أسماء من أسماء نساء آل البيت.
نشأ الغلام منقبضا عن الناس جانحا إلى العزلة، ومطالعة الأسفار القديمة من كتب الشيعة والسنة وكتب الأديان الأخرى، وقد لقي في سياحته من أنبأه بموافقة أحواله وأحوال زمنه لعلامات المهدي المنتظر، وجعل من هذه العلامات: خسوف القمر وكسوف الشمس، وانتشار الوباء وخروجه من المشرق، وسبق الدعاة الكذابين لدعوته، ولم يقصر علاماته على الكتب الإسلامية؛ بل ذكر منها ما جاء في الإصحاح الحادي والأربعين من سفر أشعيا، وفي «الجاماسبي» من كتب المجوس، فلما حدث الخسوف والكسوف في شهر رمضان (سنة 1894 ميلادية) كانت هذه الآية عنده وعند أتباعه برهانا من الله على أنه هو صاحب الزمان الموعود.
وقد زعم أنه المسيح المنتظر، وألف كتابا سماه: «البراهين الأحمدية على حقيقة كتاب الله القرآن والنبوة المحمدية» وفسر ظهر المسحاء الذين يظهرون بعد الإسلام بأنهم هم الأولياء ورثة الأنبياء، وقال إنه محدث، ولم يثبت أنه ادعى النبوة إنما دعواه - على قول الأكثرين من أتباعه - إنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة، وقد جاء في باب إزالة الأوهام: «لا أدعي النبوة وما أنا إلا محدث»، وقال في منشور أبريل سنة 1897: «لعنة الله على كل من ادعى النبوة بعد محمد».
ومدار الرسالة القاديانية كلها على التوفيق بين الأديان، وتدعيم السلام بين الأمم، وفي كلام القادياني ما يشبه القول بالحلول فهو يتلبس بروح السيد المسيح وروح كرشنا رب الخير عند البراهمة، كما يتلبس بأرواح غيرهم من الصالحين، وقد توفي سنة 1908، فانقسم أتباعه إلى فريقين: فريق يسمى: الأحمدية، وهم الذين يؤمنون بإمامته ولا يؤمنون بنبوته، وفريق يسمى: القاديانية، وهم القائلون بنبوته وحجتهم التي يقابلون بها عقيدة الإسلام في ختام النبوة بعد البعثة المحمدية أن «خاتم» التي وردت في القرآن الكريم إنما وردت بفتح التاء بمعنى الزينة ... وينكرون قراءة ورش بكسر التاء متشبثين بقراءة حفص عن طريق عاصم، ولكن الفرقة الأخرى تورد من كلامه ما يبطل دعوى النبوة على غير معنى المجاز، وتستشهد بآخر كلامه في حقيقة الوحي، ونصه بالعربية: «وما عنى الله من نبوتي إلا كثرة المكالمة والمخاطبة، ولعنة الله على كل من أراد فوق ذلك، أو حسب نفسه شيئا، أو أخرج عنقه من الربقة النبوية، وأن رسولنا خاتم النبيين، وعليه انقطعت سلسلة المرسلين، فليس من حق أحد أن يدعي النبوة بعد رسولنا المصطفى على الطريقة المستقلة، وما بقى بعده إلا كثرة المكالمة، وهو بشرط الاتباع لا بغير متابعة.»
ويبدو أن الفرقة القاديانية كانت أقرب الفرقتين إلى هوى الدولة البريطانية؛ لأنها لم تكن تعارض الحكومة، ولم تتورع عن اشتراط الطاعة لها على من يدخلون في زمرتها، وقد كتب أحدهم في كتاب فارسي باسم «تحفة شاه زاده ويلز» يقول فيه وهو يدعو ولي العهد إلى الإسلام: «إن هذه التحفة تقدم إليك من الجماعة التي صبرت على مصائب شتى ثلاثين سنة أو أكثر على أيدي أعدائها وذويها من جراء ولائها لجدتك الموقرة الملكة فكتوريا، ثم جدك العظيم الإمبراطور السابق إدوارد السابع، ثم والدك الجليل الإمبراطور الحالي، ولم تكن قط طالبة مكافأة حكومية، وما زال منهج هذه الجماعة من يوم تأسيسها أن تطيع الحكومة القائمة، وتنكب عن جميع أنواع الفتنة والفساد، وأن مؤسسها عليه السلام كان وضع شرطا من شروط المبايعة التي لا تسمح لأحد أن ينضم إليها إلا على عهد العمل بها، وهو أن تطاع الحكومة القائمة.»
ويعتذر أصحاب هذه السياسة برعاية الضرورة والتوسل بسلطان الدولة إلى تيسير الدعوة، ولكنها قوبلت بالنقد الشديد من أتباع القادياني أنفسهم بعد نشاط نهضة الاستقلال، وقيام الدعاة إلى نصرة الخلافة، وكان لهذا الانقسام السياسي أثره الأكبر في تفرق أتباع الطائفة إلى أكثر من فرقتين، على كونهم جميعا لا يزيدون على مائة ألف أو نحوها، ولهم مع هذا التفرق إيمان وثيق بصدق دعوتهم، ودأب عظيم على نشرها في العالم بمختلف اللغات. (2) تعقيب
أولئك المهديون الثلاثة أنماط متقاربة للدعوة المهدية في عصر الاستعمار، يتشابهون أو يختلفون على حسب ما أحاط بهم في بلادهم من دواعي الاستعمار وموانعه، وعلى حسب المذهب الذي توارثوه من أسلافهم، والتربية التي هيأت أفكارهم وعقائدهم، فهم أبناء ماضيهم وحاضرهم في مواضع الشبه بينهم ومواضع الخلاف، ولا يلوح لهم في الوقت الحاضر مستقبل يرتبط بمستقبل الإسلام غير ما انتهوا إليه.
ونحن كلما أمعنا في استقصاء سيرتهم، وما تأثروا به من أحوال زمانهم، بدا لنا أن التاريخ يظلمهم إذا وصفهم بالدجل المتعمد، وفرغ منهم على هذه الصفة، فإنهم على الأغلب الأعم من ظواهرهم مسوقون إلى دعوتهم على الرغم منهم، وربما انساقوا إليها وهم مؤمنون بها، ثم دار بهم دولاب الحوادث دورته التي لا فكاك منها، فاستعصى عليهم الفكاك من وثاقه، وأصبح الرجوع عن الدعوة بعد ذلك أخطر عليهم وعلى أتباعهم من المضي فيها.
يفيض العصر الذي ينشئون فيه بحوافز الترقب والأمل واليقين بالتغيير الذي لا محيص منه، وقد تكون عوامل هذا التغيير موصوفة لديهم بارزة لهم في الصورة التي يتخيلونها كما تبرز صور السحاب لمن يحاول أن يرتق فتوقها على مثال مرسوم.
وبين هذه الهواجس والقلاقل تنو النفوس القلقة المتشوفة، فيتفق حتما لزاما أن يكون منها من يتعلق بالغيوب، ويروض عقله على استصلاح خفاياها، وتطول مناجاته لنفسه وتساؤله عن واجبه، فيخطر له أنه مندوب لأمر جسام يروقه أن يصبح أهلا له، ويخيفه أن يكون هو المقصود به، ثم ينكل عنه خوفا من تبعاته وأهواله، وكلما طالت به المناجاة والتساؤل تمكن الخاطر منه، وتلمس الخلاص من شكوكه بالمزيد من الرياضة والاستعداد، عسى أن يلهمه الغيب سبيل الرشاد، ويجلو له حقيقة الأمر الذي هو في ريب منه، وإذا احتجبت عنه آيات الإلهام فترة فليس بالعجيب في هذه الحالة بين الأمل والخوف أن يذكر فترات الحيرة التي مرت بالرسل الكرام، ويحسبها من ضروب الامتحان والتمحيص في انتظار الموعد الموقوت، وقد يصادفه بين هواجس هذه الحيرة من ينفضها عنه ببارقة رجاء وكلمة تشجيع، فيتشبث بها ويستصعب إهمالها، وما أسرع النفس إلى التشبث بأمثال هذه العلالة في أمثال هذه المآزق والأزمات.
ثم يخطو الخطوة الأولى فلا يعدم من يخطوها معه ويسبقه إلى ما بعدها، ثم تدفعه المصادفات تارة وتصده تارة حتى يتوسط الطريق، وتنسد وراءه شيئا فشيئا منافذ الرجوع، إن فكر في الرجوع، ولن يلبث بعد ذلك أن يعلق بدولاب الحوادث فتوحي إليه أمرها بحكم الضرورة قبل أن يوحي إليها، فإن خامره شك فلعله يحسب في هذه المرحلة أن المصلحة في التقدم أكبر وأضمن من المصلحة في التراجع والنكوص، ويزعم لضميره أنه إنما يريد الخير، ولا يحاسبه الله إلا بما نواه.
على أن العبرة من هذه الحركات جميعا أن ضجتها أعظم جدا من جدواها، وأنها تجشم الأمم كثيرا ولا تنفعها ببعض ما تتجشم من أهوالها ومتاعبها، وتنجلي الغاشية وقد حبطت الحركة في أول أغراضها، وأضافت نحلة جديدة إلى النحل التي أرادت أن تمحوها وتدمجها في كيانها، وقد تنشعب الحركة شعبا شتى بين أتباعها ومريديها، وهي لم تتحرك أول الأمر إلا على أمل التوفيق بين النحل التي تنازعت ضمائر الناس قبلها.
ولو وضعت كل هذه الدعوات في الميزان لرجحت عليها جميعا دعوة التعليم والتقويم، وهي أقلها ضجة وأطولها أمدا وأبقاها ثمرة، ففي كل ما أجملناه من الدعوات ونهضات الإصلاح لم ينتفع الإسلام بمنفعة محققة أثبت وأعظم من منفعة التعليم على هدي العقيدة النيرة والخلق المكين، ولم يخدم الإسلام أحد في العصر الحديث كما خدمه المعلمون من طراز أحمد خان وجمال الدين ومحمد عبده، ويشبههم في النفع بين أهل البادية دعاة السلوك الحسن والاستقامة من أصحاب الطرق المخلصين.
وخير خدمة للإسلام تجلت لنا في ضوء تجاربه من مطلع القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين هي الخدمة التي تكفل للمسلم أن يؤمن بعقيدته، ولا يتخلف عن عصره في علومه ومعارفه ومقتضيات أعماله، أو هي خدمة التوفيق بين الدين وعلوم التقدم، وغاية ما نلاحظ على أساليب التوفيق أننا لا نستصوب التعجل بتفسير الكتاب على الوجوه التي تتراءى لأول وهلة من نظريات العلم وفروض العلماء المحدثين؛ لأن النظريات تتبدل وشواهد الواقع تتراءى في كل حقبة على غير صورتها في الحقبة التي تسبقها أو التي تليها، ومثال ذلك تفسير السماوات السبع بالسيارات السبع في المنظومة الشمسية، وقد ينكشف كما انكشف فعلا بعد سنوات أن السيارات والنجيمات عشر، ولا حصر للشهب الصغار التي تشرق وتغرب في هذا المدار.
وعبرة الدعوات جميعا منذ أواسط القرن التاسع عشر أنها تنحصر في كلمتين قال بهما رائد الهند وإمام مصر، وهما: العلم والإيمان.
الفصل العاشر
الدعوات ونهضات الإصلاح في منتصف القرن العشرين
تتعدد المقاييس التي يقاس بها تقدم الأمم، ويأتي في طليعتها مقياس الحرية، ومقياس الحضارة، ومقياس الحالة النفسية.
وبهذه المقاييس جميعا تبدو دلائل التقدم على الأمم الإسلامية عند المقابلة بين ما كانت عليه في منتصف القرن التاسع عشر وما صارت إليه في أواسط القرن العشرين، وتبدو هذه الدلائل كذلك بارزة بينة عند المقارنة بين ما هي عليه الآن وبين ما كانت عليه في أوائل القرن منذ خمسين سنة.
فالمسلمون الذين يعيشون في بلاد مستقلة أو شبيهة بالمستقلة، يزيدون على خمسة أضعاف المسلمين الذين يخضعون لحكم دولة أجنبية.
ومهما يكن من شأن الاستقلال الواقعي أو الشكلي فمن الغباء أن يقال: إن الاستقلال كعدم الاستقلال كائنا ما كان، ومن الحذلقة أن يستشهد على ذلك بخضوع الأمم المستقلة كثيرا أو قليلا لسلطان الدول القوية بحكم الضعف أو الاضطرار.
فالصبي القاصر يخضع لوصاية وليه، والرجل الراشد لا يفعل كل ما يريد، ولا يزال في حياته الراشدة خاضعا لذوي السلطان عليه بحكم الضعف أو الاضطرار، ولكن لا يقال - من أجل هذا - إن الصبي والرجل الراشد سواء لأنهما، كليهما، لا يعملان كل ما يريدان.
وقد خرج معظم الأمم الإسلامية من ربقة السيادة الأجنبية، وأصبحت لها مشيئة إلى جانب مشيئة الأقوياء. أو أصبح الأقوياء مضطرين إلى التماس الحيلة والذريعة للتوفيق بين المشيئتين، وهذه خطوة في الطريق لا بد منها قبل ما يليها من الخطوات.
أما الأمم التي لا تزال خاضعة للسيطرة الأجنبية ففي كل منها نهضة قومية، ووعي متيقظ يقلق المسيطرين عليها، وتنبئنا حوادث الماضي القريب أن السيطرة ترجع إلى الوراء مع الزمن، ولا ترجع اليقظة بعد المسير ولو إلى غير شوط بعيد.
في آسيا ظفرت إندونيسيا باستقلالها، ولا تزال أمامها مشاكلها الكثيرة، ومنها: ازدحام السكان، وشيوع الأمية، وحاجة الأمة إلى الخبراء الكثيرين في الإدارة وتدبير الثروة، وانفصال بعض أجزائها، وتنازع الآراء والأحزاب على سياستها.
وقد ظفرت الباكتسان بكيانها السياسي، ولا تزال أمامها مشاكلها الكثيرة، ومنها تباعد شطريها وحاجتها إلى موارد الماء في كشمير، وخلافها مع الهند ومع الأفغان.
وفي الصين عشرات الملايين من المسلمين متيقظون يشعرون بخطر واحد وحقوق واحدة، وعلى التخوم بين الصين والهند ملايين آخرون خاضعون لسلطان الدولة الروسية يخشون على ضمائرهم كما يخشون على ديارهم ومعالم أوطانهم، وتقوم الأفغان وإيران مستقلتين إلى جانب هذه الأمم، وفي كل منهما كفايتها، وفوق كفايتها من مشكلات السياسة والمعيشة.
ولا خطر من جميع هذه المشكلات.
ولن يجيء اليوم الذي تستريح فيه الأمم من أمثال هذه المشكلات أو تعيش في حقبة من الزمن بغير مشكلة كبيرة أو صغيرة.
إنما الخطر الأكبر أمة بغير إيمان وبغير معرفة، فإذا بقي للأمة إيمانها، ومعرفتها فكل ما أصابها بعد ذلك هين مأمون العاقبة بعد حين.
ولس الخطر كله من الأعداء، وليس الأمان كله من الأصدقاء أو الأبناء.
فقد يجيء الخطر على الإيمان من غلاة التجديد، وقد يجيء الخطر على المعرفة من غلاة الجمود، قد يتقابل هؤلاء وهؤلاء على قوة واحدة فيسري إلى الأمة شلل لا تنفع معه معرفة ولا إيمان.
ومن وجوه الرجاء، أو العزاء، بين المشكلات الجسام التي تستقبلها الأمم الإسلامية أنها لا تحمل العبء كله، ولا تنفرد بالعمل على دفعه أو تخفيفه؛ لأن سنن الحوادث أن تأتي بالنجدة كما تأتي بالعقبة، وأن العامل لا ييأس من مفاجآت الغيب، وإن كان لا يأمن الغدرات من تلك المفاجآت.
لقد كان على إندونيسيا شوط بعيد مع هولندا، وشبكة الاستعمار التي تمكن لها في مستعمراتها، ثم ابتليت هولندا باليابان فأخرجتها، ثم ابتليت اليابان بالهزيمة فخرجت مكرهة، وتركت سلاحها للثوار في سبيل الحرية، ثم اضطر المنتصرون من الأمريكيين والإنجليز إلى مداراة الشعوب الآسيوية، ونفس بعضهم على بعض أن تخلف هولندا على تلك الغنيمة الضخمة، فإذا بالاستقلال يسعى إلى أندونيسيا كما سعت إليه، ثم تبقى الكفاية لمشكلات الحكم والمعيشة، وهي لا تعضل قوما كأبناء تلك الأمة كادوا أن يستأثروا بالتجارة والملاحة في بحار الهند قبل زحف المستعمرين عليها.
وكان على الباكستان شوط بعيد مع الدولة البريطانية والكثرة البرهمية، ثم تغير الموقف في القارة الآسيوية بعد هزيمة اليابان، وبعد كساد التجارة البريطانية في المشرق، وبعد التزاحم الجديد بين الروسيين والأمريكيين على القارة في شرقها الأقصى، فإذا بالاستقلال يسعى إلى الباكستان كما سعت إليه، ثم تبقى مشكلة كشمير، وتبقى بإزائها صناعة في الهند تتوقف على الباكستان وصناعة في الباكتسان تتوقف على الهند، ومصلحة مشتركة تلجئ الجانبين إلى المصالحة، وخطر من جانب الصين الشيوعية يفتح الأعين هنا وهناك.
وثمة عامل جديد في سياسة الدول القوية، لم يكن له خطر قبل منتصف القرن العشرين، وذلك هو عامل العقيدة في المجتمع.
فلم تكن دولة من دول الاستعمار تبالي شيئا بعد غلبتها العسكرية والسياسية على بلد من البلاد المستضعفة، ولكنها اليوم تبالي ما يعتقده الشعب، وتعلم أن هذه العقيدة عامل هام في الترجيح بين المستعمرين من كتلة المشرق وكتلة المغرب، وقد تعودوا المبالاة بالإسلام، وما تحتويه عقيدته من المقاومة أو المسالمة للمذاهب الاجتماعية، فليست السطوة بقوة السياسة أو بقوة السلاح هي كل ما تباليه الدول الكبرى في منازعاتها، وقد يخافون من هذه السطوة أن تدفع بالمسلمين إلى جانب وتصرفهم عن جانب، فيبنون علاقاتهم بهم على هذا الأساس.
والفرق بين الكتلتين: أن الأمريكيين والإنجليز لا يستطيعون أن يجعلوا الأمة المسلمة أمريكية أو إنجليزية، أما الكتلة الشرقية فإذا جعلت أمة من الأمم شيوعية لم تكترث بعد ذلك بجنسها وعقيدتها؛ لأن الشيوعية تبطل الأوطان والأديان.
وفي آسيا دولتان قديمتان هما إيران وتركية، وكلتاهما في شقة الصدام بين الكتلتين يحميهما هذا الصدام أن تقعا في قبضة هذه أو تلك، ولكنها حماية مانعة وليست بالحماية العاملة، فلا بد من سند لها في بنية الأمة، ولا بد من قيام هذا السند من الإيمان والمعرفة.
ويقال اليوم: إن تركية تعود إلى الدين بعد ثورة مصطفى كمال على تقاليدها الدينية، ولكن تركية في الواقع لم تفارق الدين حتى يقال: إنها تعود إليه، وكل ما حدث إنما هو تغيير في مراسم الحكم لم يتغلغل قط إلى ضمير الأمة، وقد يكون الاعتدال بين ثورة مصطفى كمال وتقاليد الجامدين أصلح لتركية من أيام الخلافة المتداعية وأيام الثورة الكمالية الأولى.
أما الأمم العربية فقد وضع لها الغرب إسفينا في صميم بنيتها يوم أقيمت بينها دولة إسرائيل، ولن تؤمن العقبى ما بقي فيما بينها هذا الصدع الوبيل، وتتسلل منه المفاسد والمطامع إلى جوفها.
ولكن إسرائيل على قوة الدول التي تسندها لا تعيش ولا تتمكن في موضعها بين أمم تقاطعها وتبعد المسافة بين مواردها ومصادرها، وباب الأمل في هذا الجانب أن المصير لا يعدو حالة من حالتين: إما أن تسيطر إسرائيل على أمم العرب ونهضتها، وإما أن تنخذل دون هذا المطلب العصي فتنهار أو تقبع في أضيق حدودها، وأصعب هاتين الحالتين: سيطرة إسرائيل على أمم ناهضة تتقدم ولا تنكص على أعقابها.
والإسلام في القارة الأفريقية يشغل شواطئها على البحرين الأبيض والأحمر، وعلى المحيطين الأطلسي والهندي. فكل الشواطئ الأفريقية يقطنها مسلمون ما خلا الجانب الغربي إلى الجنوب، ويتخللها المسلمون في جوف الصحراء الكبرى كما يتخللونها في أواسطها من السودان إلى أعالي النيل.
وتنصب قوة الاستعمار كلها على القارة الأفريقية في الوقت الحاضر، فعلى الإسلام عبء كبير ينهض به في وجه هذا الاستعمار.
ومهما يكن من تفاوت القوى المتنازعة في هذه القارة فليس السؤال هنا: من يقدر على الغلبة؟ بل هو من يقدر على البقاء بعد طول الصراع؟
ونخال أن الجواب لا يقبل الخلاف، فلن يبقى المستعمرون ويزول أبناء البلاد، ولن يستطيع المستعمرون مهما عملوا أن يخرجوا أبناء البلاد عن أجناسهم وعقائدهم ليدمجوهم في غمارهم أفريقيين «مغتربين».
وقد تطول المسافة على الشعوب الأفريقية قبل بلوغ المرحلة التي تخرج الاستعمار، ولكن الاستعمار يحمل من جراثيم الفناء ما يعاون المنكوبين به على الخلاص منه، وليس اللازم أن يتساوى الأفريقيون والمستعمرون في العلم والثروة والحول والحيلة، وإنما اللازم أن يضيق المستعمرون بقهر الأفريقيين، وقد يضيقون بهم قبل أن يتساوى الفريقان في هذه الصفات بزمن طويل.
ومصر - في طليعة الأمم الأفريقية - تمضي قدما إلى هذه المرحلة، وتقترب منها حقبة بعد حقبة منذ أوائل القرن العشرين. فلم تمض من هذا القرن عشر سنوات متعاقبة دون أن تتدرج فيها من حالة إلى حالة أفضل منها، فخرجت من السيادة العثمانية، ثم خرجت من الحماية البريطانية، ثم تخلصت من حكم الملكية الرثة التي صار بها الزمن إلى أسوأ أطوارها في عهد فاروق ربيب الفساد، ابن أحمد فؤاد صنيعة الحماية، ابن إسماعيل رائد الخراب والاحتلال، وإذا اطردت مراحلها عشر سنوات بعد عشر سنوات على هذه الخطى فليس الرجاء في مرحلتها التي تقود فيها القارة الأفريقية ببعيد.
وعلى شواطئ البحرين الأبيض والأحمر أمم من هذه القارة تتيقظ وتتحفز، وتوشك أن تبلغ المرحلة التي تعنت فيها الاستعمار كما يعنتها، ومن آمالها: وحدة المغرب ووحدة وادي النيل، وأيا كان مآل هذه الآمال في عالم السياسة فمناط الأمر كله أن يتم لها حظ الأمم المستقلة في المعرفة والكرامة، وكل وضع من أوضاع السياسة بعد ذلك مرضي ومقبول.
الفصل الحادي عشر
في نظر الغرب
منذ القرن الأول للهجرة لم يعرف العالم حقبة من حقب التاريخ خلا فيها الغرب ممن يهتمون بالإسلام على نحو من الأنحاء، ولكن الذي يعنينا في هذه العجالة هو اهتمام الغرب بالإسلام في عصر الاستعمار، وقد كان على الأغلب اهتماما يروده الباحثون من وجهة النظر العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو الدينية، فلم يهتم الغرب بالإسلام قط من وجهة نظر عامة أو من وجهة نظر علمية في القرن الثامن عشر أو القرن التاسع عشر، وإنما التفت الغربيون إلى دراسة الإسلام من هذه الوجهة - وجهة النظر العلمية - منذ أوائل القرن العشرين، وهي مع هذا لا تخلو من غرض، وإن تخفى الغرض فيها أحيانا وراء نقاب.
فمن أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم تقوم الجامعات والمعاهد في هولندا وفرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة لدراسة أحوال المسلمين، وأسرار العقيدة الإسلامية على أضواء العلم الحديث، وينشئ بعض الجامعات كراسي لهذه الدراسة أو قاعات لإلقاء المحاضرات، وانتداب المختصين لإلقاء سلاسل من هذه المحاضرات سواء كانوا من الأساتذة فيها أو ممن يعلمون في الجامعات الأخرى.
وسنجمل في هذا الفصل أقوالا متفرقة من مباحث المختصين الذين صوروا الإسلام للغرب كما فهموه، فإننا إذا عرفنا كيف يفهموننا عرفنا كيف يكون موقفهم منا، وكيف يكون موقفنا منهم، ولو كانت المحاولة «علمية» تدور عليها دراسات علماء. •••
افتتحت جامعة شيكاغو قاعة محاضراتها الإسلامية منذ نحو خمسين سنة (1906) فحصر المحاضر الأول - دنكان بلاك مكدونالد - أهم الموضوعات التي يمكن أن يدور عليها البحث في ثلاثة، وهي الشخصية المحمدية، ومدارس التصوف، وأطوار الأمم الإسلامية في حركة التجديد.
وصفوة ما انتهى إليه في هذه الموضوعات الثلاثة أن الشخصية المحمدية لا تزال بعد أربعة عشر قرنا مصدر المدد المتصل في تقوية المسلم، وأن الصوفية قد خلقت منفسا للعقيدة الفردية التي يدين بها المسلم المستقل بتفكيره واعتقاده عن سلطان الشيوخ وسلطان الجماهير، وأن أطوار المسلمين تختلف اختلافا لا بد منه بين أناس ينتمون إلى كل جنس وكل أصل من الأصول البشرية، ولكن الإسلام قد أوجد بينهم أخوة عامة قل أن يوجد لها نظير في أتباع الكنيسة الواحدة، وقد طبعت هذه المحاضرات بعنوان «الموقف الديني والحياة الدينية في الإسلام».
1
ومن الدارسين لموقف الإسلام في القرن العشرين المؤرخ الكبير أرنولد توينبي
Toynbee
في محاضراته عن «العالم والغرب» التي ألقيت سنة 1952، وفي محاضرات أخرى عن حركة التجديد التي سماها بالهيرودية وحركة التجديد المقابلة التي سماها بالآسية.
وعند توينبي أن المسلم يواجه الغرب اليوم كما واجه الإسرائيلي حضارة روما واليونان قبل ألفي سنة، ولا يعني بذلك أنه جامد على أساليب ذلك العصر، بل يعني به أن من المسلمين من يقاوم الحضارة الأوروبية بالاقتباس منها كما فعل هيرود في عصر السيد المسيح، ومنهم من يقاومها بالمحافظة الشديدة والإصرار على القديم بنصه وحرفه.
وقد ذكر الانقلاب التركي وما تلاه من الحركة الكمالية نحو الغرب، فقال: إن التجديد التركي قد تطور هذا التطور؛ لأن التجديد كله قد بدأ من ناحية العسكريين على أثر الهزائم المتوالية التي منيت بها الدولة العثمانية، فاتخذ صبغة التنفيذ العسكري بعد هزيمة الأخيرة في الحرب العالمية الأولى. ثم قال ما فحواه أن النظام العسكري قد اقترن بالنظام النيابي الذي علقت جذوره على ما يظهر بالتربة الإسلامية، وفضل العقلية الإسلامية على العقلية الأوروبية في أخوة الدين. فإنها في هذا العصر الذي تقاربت فيه المسافات قمينة أن تحشد الإسلام صفا واحدا أمام غزوات الشيوعيين، وقد نوه بالرسالة التي تؤديها اللغة العربية في هذا الموقف، وهي لغة الكتابة على اختلاف اللهجات بين مراكش وإيران ومسقط وزنجبار. •••
وصنف الأستاذ جب
Gibb
أستاذ العربية بجامعة أكسفورد عدة رسائل تدور بالتفصيل أو بالإجمال على هذا الموضوع.
وملاحظته الأولى: هي أن التجديد في الإسلام يبدأ من جانب «العلمانيين» أو الدنيويين خلافا لتجديد الغرب الذي يتولاه رجال الدين، وأن المسلمين العصريين يعتمدون على مكانة الإمام محمد عبده لتسويغ جهودهم التي لا يرضى عنها الجامدون كلما حاولوا التقريب بين الإسلام والحضارة الحديثة، وتعليل ذلك عنده أن المسلم المتعلم على المنهاج الأوروبي هو الذي يعرف ما يستفاد من علوم الغرب وحضارته، وهو منهاج لم يفتح أمام الشيوخ قبل الجيل الجديد.
ويرى الأستاذ جب أن التجديد ينتشر في العواصم، وقلما يسري إلى الأقاليم النائية في جوف البلاد.
ويلاحظ أن المجددين في مصر قد يتأولون الأحاديث النبوية، ولكنهم لا يجترئون كما اجترأ بعض مجددي الهند على المناقشة في التنزيل، ولا سيما المناقشة حول تنزيل القرآن بلفظه أو بمعناه، ولم يعلل الأستاذ جب هذا الاختلاف، ولم يذكر له أمثلة كثيرة في الهند أو غيرها، ولكننا نظن أن خاطر التنزيل بالمعنى إنما يخطر لمن يتعودون أن يفهموا القرآن بمعناه، أو يترجموا هذا المعنى مع قراءته بالحروف العربية، وقليل جدا مع هذا من يعلق التجديد بهذا الضرب من التأويل. •••
وممن ألفوا عن الإسلام في الهند خاصة الأستاذ ولفرد كانتويل سميث
Welfred Cantwell Smith
مدرس التاريخ الإسلامي بجامعة عليجرة.
وأهم ما لاحظه: أن دعاة التجديد يهتمون بإثبات «قابلية الإسلام» للتحضر والتمدين، ويشيدون بفضله على حضارة الغرب من عهد دخوله الأندلس إلى عهد الحروب الصليبية، وأن بعض المجتهدين - وسمى منهم أبا الأعلى المودودي - يؤمنون بأن الإسلام نظام الكون، وأن العالم العلوي يمشي على نظامه، فيصح أن يقال عن الشمس والقمر والكواكب أنها كائنات مسلمة؛ بل يصح أن يقال عن تكوين الملحد نفسه إنه في «كيانه الجسدي» يتبع نظام الخلق فيتبع من ثمة أحكام الإسلام.
وينزع الأستاذ سميث إلى التفسيرات الاقتصادية في عقائد الطبقات، فيقول: إن «الشخصية النبوية» هي مدار العقيدة حيث يلتمس المسلم في العصر الحاضر «مثلا أعلى» لمسلكه وأدبه وقواعد خلقه، وإن المساس بالنبي عليه السلام يثير المسلم أشد من ثورته على من يمس الربوبية، ولا يقصد بذلك أن مقام النبوة أعظم عنده من مقام الإله، فهذا ممتنع كل الامتناع في الإسلام، ولكنه قد تعود أن يسمع بالملحدين المنكرين لوجود الإله، ولم يتعود أن يواجهه أحد بالقدح في نبيه، ولو لم يكن من المتدينين بدينه، وهذه الحركة الواسعة قد عرفت خاصة بتعظيم شخص الرسول صلوات الله عليه حتى سميت باسم حركة «السيرة» وأصبح قوامها الإعجاب والاقتداء بسيرة النبي في حياته الخاصة والعامة، وهنا يستطرد الأستاذ إلى تعليلاته الاقتصادية فيقول: إن الطبقة الوسطى في جميع الأمم «فردية» أو معنية بالشخصية الفردية، ومن ثم اتجه الشعور الديني عند المتعلمين - ومعظمهم من الطبقة الوسطى - إلى «شخصية» تملك إعجابهم، وتقنع المتدين بجدارتها للقدوة والأمانة، فكانت «الشخصية المحمدية» هي مدار هذا الشعور وقبلة هذا التفكير.
وليس من غرضنا أن نطيل التعقيب خلال تلخيص الآراء الغربية عن الإسلام، ولكننا نحسب أن الخطأ هنا لا يحتاج إلى إسهاب في التعقيب عليه ؛ لأن الاهتمام بذوات الأولياء والقديسين يشيع في كل أمة بين العامة وسواد الناس أشد من شيوعه بين الميسورين المتوسطين ممن يسميهم أصحاب التفسير الاقتصادي بالبرجوازيين، ونرى أن تعظيم النبي عام بين المسلمين في هذا العصر، وأن كتابة السيرة المحمدية عامة كذلك بينهم في كل أمة، فلا عجب أن تعم البلاد التي كان للشخصية الإنسانية فيها مكانة بارزة في كل عقيدة من أقدم العصور، وهذا عدا ما هو مأثور من طبيعة الإنسان؛ إذ تدرك القداسة متمثلة في صورة واضحة قبل أن تتمثلها في عالم التجريد. •••
وبين أحدث الكتب عن الإسلام كتاب الأستاذ تريتون
Tritton
أستاذ الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، وقد اختار للمسلم المعاصر مثالين؛ أحدهما: هندي، وهو الشاعر الصوفي محمد إقبال، والآخر: مصري، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وهو يحاول أن ينفذ إلى طبيعة إدراك الماضي والحاضر والقديم والجديد في ذهن إقبال، فيقول: إن الزمن المطلق عنده كل عضوي شامل لا نتركه خلفنا، بل هو يتحرك معنا ويعمل في حاضرنا، ثم يقول: إن الإسلام يعطي كلا من العالمين - الدنيا والآخرة - حقهما، وفي وسع المسلم العصري أن يعيد النظر في الإسلام كله دون أن ينقطع عن الماضي، وله أن يراجع أحكام المعاملات والشريعة؛ لأن باب الاجتهاد مفتوح لا يزال.
قال: وقد أدى ضغط الآراء الغربية إلى تغيير واحد في التفكير الإسلامي، فإن المسلمين في القرون الوسطى كانوا يتجاهلون قواعد التفكير الأخرى، فأصبحوا اليوم معنيين بالرد على وجوه الاعتراض التي تأتي من غيرهم، وهم يجتهدون ليثبتوا أن الإنسانية الصادقة والآداب القويمة والعقل السليم تلقى أرفع تعبيراتها في شريعة الإسلام وأحكامه، ويسلمون أن ديانتهم اليوم ليست على ما يحبون، وأن الإصلاح ضرورة لا محيص عنها، ولكنهم يصرون على أن الإسلام دون غيره هو الذي يصلح لمطالب النوع الإنساني، فقد تغيرت الأحوال، ووجب أن تتغير معها النظرة إلى الديانة، وقد كان أثر الغزالي في الشيخ محمد عبده قويا يبدو واضحا في فهم الدين على أنه عقيدة باطنة حيوية من شئون السريرة، وأن الشعائر الخارجية ثانوية مضافة إليها، وقد أخذت طائفة من الذين يدعون على العموم تلاميذ الشيخ تنقاد لمذهب الحنابلة، فتجمعت من ذلك دعوة إلى رفض البدع المستحدثة، والعود إلى سلامة العقيدة الماضية، وتضمنت هذه الدعوة برامج إصلاح في الشئون الدينية والاجتماعية والاقتصادية تثبت قابلية الإسلام للتدين به في الأحوال الحاضرة، وهؤلاء التلاميذ يتجهون إلى أهداف مختلفة؛ بعضها وطني قومي، وبعضها مدرسي ينظر إلى الحرية العقلية، وبعضها يقدم الإصلاح الديني ويعتبره مبدأ لكل إصلاح، ومنهم من يصبح بانقياده للنزعة الحنبلية محافظا في بعض الأمور أشد من المحافظين، وتنصل الصبغة الغزالية عن حياتهم، وإنهم ليعتقدون أنهم معتدلون يتوسطون بين البساطة التي ترجع بقوتها كلها إلى التسليم الأعمى في طوائف الدهماء وبين المتطرفين من دعاة التقدم الذين يجنحون إلى الحرية العقلية المطلقة، والاتجاه إلى الحضارة العصرية، ونظم الحكم الحديث، والشريعة الوضعية، ويؤكدون أن الإسلام إذا فسر كما يفسرونه يتكفل بالحل الوحيد لمشكلات المجتمع والسياسية والدين.
وانتقل تريتون إلى مسألة الخلافة فقال: «إن إلغاء الترك للخلافة صدم العالم الإسلامي، وإن كانت الخلافة قد صارت منذ زمن بعيد اسما على غير مسمى، ولكنها كانت عندهم ذات قيمة عاطفية، ومنهم من يؤثر إيجاد الخلافة بأية صبغة روحية خادمة للشريعة لا حاكمة مسيطرة عليها، وإنما وظيفة الخليفة أن يراقب القيام بحكم الشرع، ولا يستطاع ذلك بغير سلطان وراءه، ومثل هذا الخليفة أدنى إلى أن يكون كالإمام عند الشيعة، إلا أنه لم توجد قط ولا توجد الآن أداة معترف بها تتولى اختياره، وأقرب ما يكون إلى هذه الأداة فتاوى الفقهاء بغير صفة رسمية، وهم لا يعينون بل يرتقون إلى مكانتهم بالمعرفة ووجاهة الشخصية كأنهم المثل المحسوس لاتفاق الجماعة، ويعتبر الوطنيون الذين يعتقدون أن خلاص الإسلام مرهون بإقامة الحكومات المستقلة أناسا من الوجهة النظرية مقترفين لخطيئة التفرقة بين صفوف الجماعة، ولكن الحكومات المنفصلة قد وجدت قديما دون أن تفصم وحدة الجماعة، وليس ما يمنع أن يعود الأمر كما بدأ، ويومئذ يصدق على عالم السياسة ما روي عن النبي حيث يقول: إن الاختلاف بين أمتي رحمة.» «وربما تأثر المسلمون بإجلال النصارى للمسيح فرفعوا مقام النبي إلى أوج المثل الأعلى، وجعلوا الدين محاكاة له في سيرته، ولم تزل نظرة المسلمين إلى نبي الإسلام تتنوع من حقبة إلى أخرى، ولكن النبي نفسه كان يقول: إنه إنما هو رسول وإنسان من البشر، وليس في يديه أن يصنع المعجزات.»
وختم تريتون هذا الفصل قائلا: إن الفجوة بين مدرسة التجديد ومدرسة المحافظة لا تزال على اتساع لا يأذن بالمراجعة التي دعا إليها محمد إقبال، وكلتاهما مع هذا قد تثوب إلى القرآن الذي يوحي إلى المدرستين أن الله ليس كمثله شيء، وأنه أقرب إليهم من حبل الوريد. •••
واشترك نحو عشرة من الباحثين الغربيين والشرقيين في دراسات متفرقة عن الثقافة والمجتمع في أمم الشرق الأدنى
Near Eastern Culture and Society
فقال أحدهم الأستاذ عبد الخالق عدنان أديوار - وهو تركي: إن حركة التجديد العصرية بدأت بدعوة ضيا شوق آلب المسماة بحركة «يني مجموعة» أو الجماعة الجديدة، وغايتها أن تنشئ في الإسلام توفيقا كالتوفيق بين المسيحية والحضارة العصرية على مبادئ اللوثرية، ولكن غلطة شوق آلب كانت على الأغلب غلطة لغوية في الترجمة؛ إذ كان من سوء حظه أنه ترجم كلمة الدنيوي أو العلماني
Laic
باللاديني، فنفر المحافظون من مذهبه على اعتباره زندقة مناقضة للدين، في حين أن الكلمة لا تعني اللادينية بل تعني «غير الكهنوتية» ... ولو أنها ترجمت بهذا المعنى لما نفر منها المسلمون؛ لأنهم يسلمون أن ديانتهم خلو من سلطان الكهنوت، ثم جاء الاندفاع في سبيل «التغرب» فبلغ من سورته حدا أخرجه من الدعوة الفكرية إلى حالة تشبه الحتمية الحكومية في سبيل «اللادينية» وانقلبت الآية من تعصب قديم إلى تعصب جديد لا يسمح بالتمحيص وحرية المناقشة.
ولخص حبيب أمين الكوراني حركات التجديد في ثلاث دعوات كبرى: هي دعوة جمال الدين المنادي بالجامعة الإسلامية على أساس التقريب بين الإسلام والعلم، ودعوة الوهابيين على أساس العودة إلى السلف الأول، ودعوة الشيخ محمد عبده على أساس العمل بمقتضيات العصر كما يسوغها التفسير الحديث لأحكام الإسلام.
وتكلم كويلر يونج
Cuyler Young
عن ثورة السخط في إيران على المادية والإباحية، وعزاهما إلى سوء المعيشة الدنيوية لا إلى سوء العقيدة الدينية، وقال: إن تحسين المعيشة ونشر التعليم خير علاج للمشكلة النفسية مع تذليل صعوبة اللغة المختلفة بين الأقاليم.
ومن الكتب التي درست الإسلام دراسة علمية على اتصال بمساعي المبشرين كتاب «قنطرة إلى الإسلام»
Bridge Islam
لصاحبه إريخ بتمان
Erich Bethmann
وكتاب «طوالع الإسلام»
The prospects of Islam
لصاحبه لورنس بروان
Laurence Browne .
أما الأول: فيصرح بإخفاق التبشير، وينعى على الحضارة الغربية أنها نفرت المسلمين من المسيحية، ويشتد في نقد الروايات السيمية؛ لأنها أدخلت في روع المسلم الشرقي أنها تمثل حياة الأمم المسيحية، فنظروا إليها نظرة طالب التسلية، ولم ينظروا إليها نظرة طالب الإصلاح.
وكأنما خشي من أنصار التبشير إعراضا عن المعونة فلام الذين ينصحون بالتحبب إلى الشرق من طريق التعليم والإحسان والتطبيب، وقال: إن الذهن الشرقي مطبوع على التفكير الديني «الثيولوجي» فهو لا يفهم الإصلاح على غير هذه القاعدة، وما لم يكن هنالك حافز ديني فالأمر عنده من الشواغل العرضية التي لا تستحق الجهد ومحاولة التبديل، وإنه لرأي في الحق جد عجيب؛ لأنه الرأي الذي ينقلب على صاحبه، ويقنع أنصار التبشير بضياع المسعى وخيبة الرجاء في كل تغيير يتوقف على تغيير العقيدة أو تغيير «الذهن» بما اشتمل عليه.
وأما لورنس براون: فمحاولته كلها متجهة إلى تكذيب القول بعقم المساعي التي تبذل في «تبشير المسلمين»، وهو لا ينكر أن المسلمين الذين يصبئون عن دينهم جد قليلين، ولكنه يرى أن المسألة هنا مسألة الطبقة لا مسألة العقيدة، وأن أبناء الطبقات الميسورة من المسلمين كأبناء هذه الطبقات في جميع الملل والنحل، قوم قد استقروا على عاداتهم الاجتماعية وعلاقاتهم العائلية، فلا مطمع في تحويلهم عن هذه العادات أو قطعهم لهذه العلاقات، ولكن المطمع كبير في الطبقات البائسة كما ظهر من نتائج التبشير بين الهنود المحرومين، كما ظهر في رأيه بين المتنصرين الهنود الذين يرجح انتماؤهم في الأصل إلى أجداد كانوا يدينون بنحلة من نحل الإسلام.
وقد ظهر باللغة الإنجليزية كتاب عن الإسلام والغرب، ثم ترجم إلى العربية باسم الإسلام في نظر الغرب، ونشر منذ شهور قليلة، وقام بترجمته الدكتور إسحق موسى الحسيني من فلسطين.
يقول الأستاذ «فيليب حتى»: إن الطرفين من المحافظين والمجددين يتباعدان، وبينهما جماعة وسطى «تواجه عملية اختيار دائم» يتيسر من المسائل الفنية والعلمية، ويتعسر في مسائل المجتمع ومشكلات المعيشة أو المشكلات الاقتصادية، ويقول: إن المتفرنجين من الترك قد غيروا لباس الرأس، ولكنهم لا يستطيعون أن يغيروا ما في داخل الرأس بمجرد لبس القبعة وخلع الطربوش، ويختم كلمته قائلا: إن الدول العربية ليست جزءا من آسيا، وعلى الغرب أن يقنع تلك الدول التي ترغب في توطيد التفاهم مع الغرب أنها تنتسب إلى تلك الثقافة، أي إلى الثقافة الغربية!
ويسهب الدكتور بايرد دودج المدير السابق للجامعة الأمريكية في إيراد الأمثلة من تفسيرات الشيخ محمد عبده على المطابقة بين الإسلام والعلم الحديث؛ ومن مسائل العلم الحديث التي أشار إليها: مسألة التطور والجراثيم، ومسائل الاقتصاد التي تتناول المعاملة بالربا وما إليها، ولكنه يقول: إن الناشئة تنبذ فرائض دينها «ويلوح لي أن هوليوود قد أثرت في الجيل الحاضر من المسلمين أكثر من تأثير مدارسهم الدينية.»
ثم يقول: «واليوم قد أصبحت القومية ذات الصبغة المادية عنصرا قويا في الفكر الإسلامي والمجتمع، وهذا يؤدي إلى مناهضة فكرة الوحدة الإسلامية أو الخلافة، وكون الإسلام أخوة منظمة - فالقومية قد حلت محل المظهر الديني للوحدة الإسلامية إلى حد كبير، وغني عن البيان أن الشبان المسلمين الذين لا يبالون بالإسلام باعتباره نظاما عظيما هم الذين يغلب عليهم اعتناق الشيوعية.»
وزبدة كل هذه الآراء، ما كان منها لمحض العلم أو ما كان منها منظورا فيه إلى التبشير والسياسة، أن الغربي مشغول بأمر الإسلام شغلان من يشعر بيقظته، ويترقب ما وراء هذه اليقظة، فلا يخرجها لحظة من حسابه، وأهم ما يهمه أن يعلم كيف يقف الإسلام غدا من مجاميع الأمم الغربية والشرقية، وكيف يكون مسلكه إذا التحمت المعسكرات ثم افترقت عن هزيمة هذا وانتصار ذاك.
ويقابل هذه النظرة، أو هذه النظرات من الغرب، نظرة أو نظرات مثلها من جانب المجموعة الأممية التي تسمى بالكتلة الشرقية، وتدل نظراتها جميعا على تناقض غير مطرد في وجهته. فيرحبون حينا بنشاط القوميات؛ لأنها تفرق بين المسلمين في البقاع المتقاربة، ويرحبون حينا آخر بنشاط الوحدة الإسلامية؛ لأنهم يخشون العصبية القومية، ولا ييأسون من تفسير الدين بما يوافق دعوتهم الاجتماعية.
وإذا صرفنا النظر عن «اهتمام البواعث» أو عن الشغلان الذي يبعث إليه حب المعرفة وحب الانتفاع بهذه المعرفة في توجيه السياسات وتقرير المواقف الدولية، فالحقيقة البينة أن الاهتمام شامل لجماهير الأقوام غير مقصور على معاهد العلم ومراجع السياسة، وإحدى ظواهر هذا الاهتمام شيوع الطبعات الشعبية من ترجمة القرآن الكريم، وأبلغ من دلالة هذا الشيوع أن يقول رجل من رجال الدين، وهو يقدم المختارات من آي القرآن، إنه إذا لم يكن كتابا فهو صوت قوي حي
Astrony Living Voice
وهو غاية ما ينتظر ممن ينكر الكتاب.
2
الفصل الثاني عشر
آسيا وأفريقيا
وكل بحث في مستقبل المسلمين يستتبع البحث في مستقبل القارتين آسيا وأفريقيا على الخصوص؛ لأن تسعة أعشار المسلمين يسكنون هاتين القارتين، وحولهما تحوم اليوم مطامع الاستعمار والاستغلال والتبشير.
وجملة ما يقال في آسيا: إن شعوبها أضخم من أن تبتلع في بنية شعب آخر، وجملة ما يقال في أفريقيا: إنها أبعد أصلا من أن تندمج في الغرب وهي قائمة على تربتها.
إنما ينظر في هذه وتلك إلى عاقبة السيطرة الثقافية، ولا نعني بالسيطرة الثقافية سيطرة العلم الحديث، فإن الأمم التي تتقدم في العلم الحديث لا تقع تحت سيطرة أمة من جراء ذلك، وقد تتغلب بعلمها على السيطرة الأجنبية إن كانت واقعة في قبضتها.
وإنما نعني بالسيطرة الثقافية سيطرة العقيدة من جانب المذاهب الاجتماعية أو من جانب التبشير.
إن الدول الكبرى التي تتجاذب سياسة العالم هي الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وروسيا الشيوعية.
والظاهر من سياسة بريطانيا في القرن العشرين أن تتراجع عن آسيا، وعن الشرق الأقصى خاصة، وتترك ميدان السباق فيه للروس والأمريكيين، ثم تلوذ بمفترق الطرق بين القارات الثلاث في آسيا الغربية، أي في بلاد العرب التي تمتد من العراق إلى البحر الأبيض والأحمر.
أما السيطرة الروسية: فهي تقوم على نشر الشيوعية، وهي مذهب لا يوافق الإسلام في أساسه، ولكن الإسلام يغني عنه إذا اتبع المسلمون قواعد المساواة والإنصاف، وعملوا بأصول دينهم في التوسط بين التهالك على الدنيا والإعراض عنها، وينبغي أن نذكر في هذا المقام أن بلاد الروس وما جاورها هي قطعة من أوروبا أخذتها آسيا من زمن غير بعيد، وقد يحدث في المستقبل تكرار لهذه الظاهرة على صورة أخرى، ويكون للإسلام شأن كبير في هذا التكرار.
وتتسابق الدولتان الروسية والأمريكية على المناجم وينابيع النفط ونقط الاستحكام في هذه القارة الواسعة، ومآل كل ذلك حتما إلى أبناء البلاد؛ لأن حبل الزمن أطول من حبل المال وحبال السياسة، وذلك على شرط واحد وهو الاحتفاظ بكيان الأمة وقوامها، وليس في آسيا قوة روحية أقدر من الإسلام على حفظ الكيان والقوام للأمة التي تؤمن بدينه.
أما بلاد العرب حيث تتراجع الدولة البريطانية: فقد أحيطت بحلقات من المشيخات والسلطنات تتعاقد معها بريطانيا على ضروب من الحماية المقنعة، وتحسب من وراء ذلك حساب المواصلات، وآبار النفط، ومواضع الاستحكام العسكري في حالة الحرب العالمية، ولكنها لا تهمل حساب التبشير، ولا تنكر مسعاه في حمايتها، وهذه عبارة في سلسلة السيطرة العالمية تدل على كثير.
يقول هارولد ستورم في كتابه: «إلى أين يا جزيرة العرب»:
1
إن قبائل الجبال وراء ظفار - وهم من سلالة مخالفة كل المخالفة - تستخدم لهجات غير عربية كالشحرية والمهرية والبوطهارية والخرسوسية، وكل لهجة من هذه اللهجات لا يفهمها المتكلمون باللهجات الأخرى، وقد تمكن العالم اللغوي الألماني الدكتور مكسمليان بثنر
Bethner
من رسم اللهجتين الشحرية والمهرية بالكتابة، وهما على ما يلوح لي على قرابة من إحدى اللغات الهندية، حيث تدل بعض الروايات على هجرة سابقة من الهند إلى ظفار، ولا تزال ثمة عادات قريبة من عادات الهنود، وقد اضطررت إلى استخدام مترجم بين هذه القبائل حين عشت في بلادها، وتبين لي من صعوبة اللغة أن العمل بينها - أي عمل التبشير - عسير.
ولما كانت ظفار على بعد خمسمائة ميل من مسقط تحت سيادة سلطانها، فكل محاولة لتكوين العمل هنا تستلزم لا محالة رجوعا إلى العمل الذي تأسس في مسقط نفسها، ويدعو موقف السلطان الودي في الوقت الحاضر إلى الأمل في الانتفاع بهذه الفرصة لإنجاز شيء؛ إذ تتنقل بعثات التبشير بغير عائق في عمان، ويرجى من تعزيز مركز مسقط مزيد من العمل، وهناك في داخل عمان قبائل لا حكم عليها للسلطان نجحت بعثات مسقط في حمل رسالة الإنجيل إليها على نطاق أوسع مما تيسر قبل الآن في أي مكان.
أما القارة الأفريقية: فقد أحيطت كذلك بحلقات من الجهات الأربع تسيطر عليها الدولة البريطانية، وتكاد المصنفات الكثيرة عن هذه القارة أن تجمع على اعتبارها في عالم الاستعمار «حظيرة خاصة» بريطانيا (العظمى)، وأحد هذه المصنفات صريح بهذا المعنى في عنفوانه، وهو «أفريقيا إمبراطورية بريطانيا الثالثة»
Empire Africa; Britain’s Third
من تأليف جورج بادمور
.
وقد ظهر باللغة الإنجليزية في السنوات الأخيرة أكثر من مائة كتاب عن القارة الأفريقية، وبعض عناوينها ينم على مبلغ الأمل والحذر من هذه الجهة التي أحاط بها الظلام إلى أوائل القرن العشرين.
من عناوين هذه الكتب عنوان: «الأمل في أفريقيا» لمؤلفه آلبورت، وعنوان: «أفريقيا الغربية الجديدة» لأربعة مؤلفين، وعنوان: «الأفريقي اليوم وغدا» لمؤلفه ديديرنج وسترمان، وعنوان: «قضية الحرية الأفريقية» لمؤلفه جويس كاري، وعنوان: «أفريقيا تنهض» لمؤلفه و. م مكميلان، وعنوان: «قارة الغد» لمؤلفه بطرس بن ولوسي ستريث ... وهكذا وهكذا عشرات من التصانيف الجديدة تتلوها عشرات.
وما من كتاب من هذه الكتب خلا من ذكر الإسلام، والتحدث عن سهولة انتشاره بين الشعوب الأفريقية، ونجتزئ بنماذج من هذه الإشارات للدلالة على السياسة التي قد توحيها معلومات القوم عن أثر هذا الدين في مستقبل الأفريقيين.
يصف وستر مان دين الإسلام وصفا غريبا يعلل به قابلية الشعوب الفطرية للإصغاء إلى دعوته، فيقول عنه: إنه دين مذكر أو دين ذو رجولة
Masculine
يعجب الأفريقي ببساطته وقوته، ثم يقول: «إن المسلم لا يهبط إلى مثل هذا الاقتداء الخاضع الذي يهبط إليه الزنجي الوثني، فبينما يفخر الزنجي الوثني إذا أتيح له أن يلف نفسه بخرقة عتيقة يلقيها الأوروبي إليه، ويعرض نفسه للسخرية بهذه القدوة الهزلية - لا يخطر على بال المسلم أن يستبدل ملابس الأوروبيين بردائه الفضفاض وقلنسوته السعفية.»
ويضيف إلى ذلك أن الإسلام متى بدأ في مكان لم ينتظر مددا من الخارج للتوسع في جوار ذلك المكان، فمعظم التبشير به أفريقي لا يحتاج إلى معونة من غير الأفريقيين.
وقد ألف الأستاذ نادل
Nadel
النمسوي - أستاذ علم الأجناس البشرية بجامعة النمسا الوطنية - كتابا مفصلا عن عقيدة النيوب في بلاد النيجر وأثر الإسلام فيها، قال فيه: «إن الإسلام يطوي جميع العقائد والشعائر، ويلحق به الأتباع، ولا يدعهم شراذم هنا هناك، ويتطلب الإيمان التام، ولا يكتفي بعلامات الموافقة والمجاراة.»
ويقول البروفسور مكميلان في كتابه «أفريقيا تنهض»
Africa Emergent : «إن الجانب الإسلامي في بلاد النيجر قد أنمى فيه ما يحسب الآن ثقافة مقررة بمعنى الكلمة الصحيح، وقد تلقت هذه الطوائف حكمة جمة قد يكون القليل منها اليوم هو الحقيق بأن ينسى.»
وبديه أن كل اعتراف من هذه الاعترافات يستتبع وراءه خطة الحذر والحيطة للمستقبل، ولكن المستقبل سيكشف للأفريقيين ولا ريب حيلته في مقاومة هذه الخطط أو محاذرتها، واتقائها من جانبه.
أما الأمل الذي يتخايل أمام المستعمر البريطاني في هذه القارة فهو تأليف دولة شاسعة من ولايات متحدة تتصل كل مجموعة منها مع المجاميع الأخرى بصلة المحالفة، وقد شرح صاحبا كتاب «قارة الغد» برامج هذه الولايات، وقالا: إن مصلحة الأوروبي والأفريقي فيها لا تتعارضان ولا تتناقضان بل تتوازيان، وإن أفريقيا إما أن تحكم على هذا المثال أو تصير في نصفها الجنوبي على الأقل وطنا مدمجا في الشعوب الشرقية التي تهاجر إليها وأكثرها من الهنود، وقد تطمع الشيوعية في استخلاصها لها من مصير كهذا أو مصير كذاك.
ويوشك الرأي الغلب على هذه المصنفات أن يتجه إلى غاية واحدة: وهي ادخار أفريقيا لتزويد الأمم الغربية بمواد الغذاء وخامات الصناعة، مع بعض الرجاء في العثور على المعادن والزيوت في باطن أرضها، حيث يتيسر تصنيعها إلى جانب مناجمها.
وقليل من الكتاب الغربيين من يطيب له أن ينظر بعينيه جميعا مفتوحتين إلى الغد الذي لا مهرب منه في قارة «الغد» كما يسمونها. فمهما يبلغ من نجاح خطط الاستعمار أو التبشير، فلن تكون إفريقيا في النهاية لغير الأفريقيين، ومن داخلها سيخرج لهم من ينتزع سيادتها من أيديهم، ومن يناصبهم العداء؛ لأنهم قد استأثروا دونه زمنا بهذه السيادة، ولا يسره يومئذ أنهم استعمروه أو بشروه.
الفصل الثالث عشر
لو عاد محمد عليه السلام
من الأماثيل التي تعاد ولا تمل أمثولة للكاتب الروسي (ديستيفسكي) عن السيد المسيح ومحكمة التفتيش في قصة الإخوة كرامزوف.
وخلاصة الأمثولة: أن السيد المسيح عاد إلى الأرض، وأخذ في وعظ الشعب وتبشيره بالملكوت، فأقبلوا عليه، واستمعوا له، وأوشكوا أن ينفضوا عن وعاظهم ودعاتهم المعهودين، فأشفق هؤلاء على مكانتهم، وأوعزوا إلى رئيس محكمة التفتيش فاعتقله وتوعده بالمحاكمة والحكم عليه لتضليله الشعب والانحراف به عن تعاليم السيد المسيح! ... وقال له: إن هؤلاء الذين يقبلون عليك اليوم هم أول الثائرين عليك، وأسبق المبادرين إلى تنفيذ القضاء فيك.
أمثولة تعاد ولا تمل؛ لأن العبرة بها لا تنقضي في حقبة واحدة، ولا تزال عبرة الدهر كله في أحاديث المصلحين والمفسدين.
ولم يبالغ الكاتب العظيم في تخيله، فإنما يكون مبالغا لو كان ما تخيله بعيدا أو غريبا في بابه، ولكنه في الواقع أقرب شيء إلى الاحتمال مع هذه البشرية التي تختلط فيها الشيطانية والخنزيرية والحمارية في وقت واحد، فلا تزال حربا على من ينفعها، وألعوبة في أيدي العابثين بها، وإن كرروا العبث بها كل يوم مرات بعد مرات.
لو عاد السيد المسيح لأنكره كثيرون ممن يعيشون باسمه وينتحلون هدايته.
ولو عاد محمد عليه السلام لكان له نصيب كذلك النصيب ممن يرفعون العقيرة بهداية الإسلام، والإسلام بريء منهم، وكل ما هنالك من خلاف أن المسألة لا تمر بتلك السهولة التي توهمها رئيس محكمة التفتيش، أو من يتصدى في الإسلام لمثل عمله، وأنه سيندم على فعلته ندما يكفر عن سيئاته، إن كانت سيئاته مما يقبل التكفير.
وأسأل نفسي كيف ينتفع المسلمون على أحسن وجوه النفع بعودة النبي عليه السلام فترة قصيرة من الزمن؟ وما هي المسائل التي يرجعون بها إلى شخصه الكريم، فيسمعون منه فصل الخطاب فيها؟
أسأل نفسي فتخطر لي مسائل خمس يرجع فيها إلى شخصه الكريم، ويغني جوابه فيها كل الغناء، فلا لجاجة ولا اختلاط، ولا حاجة إلى الاجتهاد والتأويل من مجتهد أو مقلد، وما أشبه الاجتهاد والقليد في هذا الزمن!
تلك المسائل الخمس هي: مسألة الأحاديث النبوية، ومسألة الروايات في قراءة الكتاب المجيد، ومسألة الخلافة والملك، ومسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين، ومسألة المذاهب الاجتماعية الحديثة وحكم الإسلام عليها وقول نبي الإسلام فيها.
مسألة الأحاديث النبوية
إن رجال الحديث قد بلغوا الغاية من الاجتهاد المشكور في جمع الأحاديث وتبويبها وتقسيم رواتها وأسانيدها، وقد جعلوا من أقسامها الثابت والراجح والحسن والمقبول والضعيف والمشكوك فيه والمرفوض، وجعلوا لكل قسم شروطه وعلاماته، فأصبح الحديث بفضل هذه الشروط والعلامات علما مستقلا يتفرغ له علماء مستقلون.
وبعد كل هذا الجهد المشكور لا تزيد الأحاديث الثابتة على عشر الأحاديث المتداولة في الكتب وعلى الألسنة.
وكلمة واحدة من فمه الشريف عليه السلام ترد الأمور جميعا إلى نصابها: «لم أقل هذه الأحاديث!» وينتهي القيل والقال، ويبطل الخلاف والجدال، ويبطل معهما بلاء أولئك المحدثين الذين يستندون إلى الحديث الكاذب في التضليل وترويج الأباطيل.
قراءات القرآن
ومسألة الروايات القرآنية دون مسألة الأحاديث في أشكالها ونتائج الاختلاف عليها، فإن الروايات التي لم يتفق عليها القراء لا تغير شيئا من أحكام القرآن، ويمكن الأخذ بها جميعا، ولا ضرر في ذلك ولا ضرار.
إلا أنها لا تحتمل أقل اختلاف مع وجود النبي الذي تنزل عليه القرآن، فما يقوله فيها فهو مجتمع القراءات ومرجع الروايات، ومتى استمع الناس إلى تلاوته - في عصر التسجيل - فتلك ذخيرة الأبد في ذاكرة الأجيال، وسيبقى صوته بتلاوة القرآن أول ما يسمعه السامعون في مجالس الذكر الحكيم.
الخلافة والملك
وتأتي مسألة الخلافة، بل معضلة الخلافة.
تلك المعضلة التي سالت فيها بحور من الدماء وجداول من المداد، وبقيت وراء كل انقسام نذكره في الإسلام حين نذكر السنة والشيعة والإماميين والزيديين والإسماعيليين والنزاريين، وحين نذكر الهاشميين والأمويين والعباسيين والفاطميين وغيرهم وغيرهم من المنقسمين وأقسام المنقسمين، بم أوصيت يا رسول الله في أمر الخلافة؟ وهل أوصيت بها دينية أم دنيوية؟ وهل تريدها اليوم على هذه أم على تلك من صفاتها وأحكامها؟
فإذا قال عليه السلام أوصيت بكذا ولم أوص بكذا، فكأنما مسح بيده الشريفة على تلك الصفحات والمجلدات؛ فإذا هي بيضاء من غير سوء، وإذا هي بقية من بقايا الماضي تحال إلى دار المحفوظات للعبرة والحذر، أو يلقي بها حيث لا حس ولا خبر.
وكفى الله المؤمنين شر القتال، وذكرى القتال.
الرسالة بعد خاتم المرسلين
والخطب أهون من ذلك جدا في مسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين، فإن المخالفين للإجماع في هذه المسألة واحد من كل خمسمائة مسلم، وسينتهي خلافهم عما قريب.
ولكن إذا انتهى بكلمة من الرسول الذي يؤمن به المسلمون جميعا فتلك هي النهاية الفاصلة، وقد تمنع في المستقبل أضرارا لا يقاس عليها ضررها في الوقت الحاضر، وخير من واحد ينشق على خمسمائة أن يتفق الخمسمائة فلا ينشق منهم واحد!
المذاهب الاجتماعية الحديثة
وما قولك يا رسول الله في دعاة المذاهب العصرية من اجتماعية أو غير اجتماعية؟
لا حاجة إلى السؤال عن الديمقراطية، فإن سابقة الإسلام فيها أصلح من كل سابقة.
ولا حاجة إلى السؤال عن الفاشية، فإن الإسلام يمقت الجبارين والمتجبرين.
ولا حاجة إلى السؤال عن الشيوعية الماركسية، فإنها ملعونة في كل دين.
وإنما يسأل النبي عليه السلام في الاشتراكية، فيقول ما قاله القرآن حيث نهى أن تكون الثروة دولة بين الأغنياء، ثم يسأل عن شرحها، فيتلقاه منه المسلمون على أقوم المناهج وأسلم الحلول.
وتأتي على الهامش أسئلة عن ترجمة القرآن، وعن حقوق المرأة، وعن دعاوى المدعين في الأحكام والقوانين باسم الدين، وعن أحاديث شتى مما يتحدث عنه الصحفيون وأشباه الصحفيين.
ويسمع من النبي عليه السلام في أولئك كله جواب يغني عن ألف جواب أو عن كل جواب.
ونعود إلى محكمة التفتيش، وما يشبه محكمة التفتيش بين المسلمين.
إن كاتب هذه السطور آخر من يؤمن بإقناع العقول، أو بسلطان البرهان في الإقناع.
إن كاتب هذه السطور قد رأى بعينيه أناسا أغرب وأصفق ممن ينكرون الشمس في رائعة النهار.
وليس بالمستحيل عندي أن يعاندك المعاند ويكابرك المكابر في «اثنين واثنين يساويان أربعة، وفي واحد وواحد يساويان اثنين».
بل ليس بالمستحيل عندي أن يكابرك المكابرون في معنى الواحد ومعنى الاثنين، وأن هذا خمسة وليس بواحد، وذلك صفر وليس برقم من الأرقام.
فإذا عاد النبي عليه السلام وقضى قضاءه في أحكام الإسلام، فلا والله لا يعدم الناس من يشكك في كلامه وبيانه، وفي ملامح وجهه، وعلامات جثمانه، ولا والله لن يسلس المقاد ممن يلج في العناد، ويضيع عليه الجاه أو الغنى بما قضاه الرسول، وتلقاه الناس منه بالتسليم والقبول.
غير أنه، فيما نحسب، عناد لا ينفع أصحابه، ولا يطمعون في الرجاء منه حتى تفجأهم الحوادث بالندم عليه، وصلى الله على محمد في الأولين والآخرين، فما هو إلا أن يعود فلا تعز عليه هداية المهتدين ورياضة الذين لا يهتدون، فلا يصدون أحدا عن الدنيا ولا عن الدين!
الفصل الرابع عشر
التراث الإسلامي ووسائل إحيائه في هذا العصر
إحياء التراث الإسلامي لا بد له من عملين متلازمين يتوقف أحدهما على الآخر.
أحدهما: نشر الكتب والآثار الإسلامية في جميع الأقطار التي تقرأ لغة العرب.
والثاني: إيجاد الرغبة في قراءة هذه الكتب والإحاطة بهذه الآثار، أو تنشيط هذه الرغبة إذا كانت موجودة على حالة من الضعف والفتور؛ إذ لا يكفي نشر الكتب والآثار لإحياء التراث الإسلامي إذا نحن نشرناها بين أناس لا يحفلونها، ولا يقبلون عليها، ولا يشعرون بالحاجة إلى دراستها والإلمام بها.
وكثيرا ما تكون طريقة النشر سببا من أسباب الترغيب في القراءة والتنشيط إليها، وكثيرا ما تكون الرغبة في القراءة والنشاط إليها سببا من أسباب العناية بالنشر والتوفر على وسائله المثلى، ومن ثم نقول: إن إحياء التراث الإسلامي يحتاج إلى عملين متلازمين، وإن كل عمل من هذين العملين يتوقف على الآخر.
وعندنا أن الوسيلة المثلى لإيجاد الرغبة في إحياء التراث الإسلامي هي مزجه بالحياة الحاضرة وتحويله إلى مجراها، فلا يشارفه الإنسان كما يشارف متحفا قديما للآثار المحفوظة؛ بل يشارفه كما يدخل في معترك الحياة، وينغمس في تيار الشعور والعاطفة، وليس ذلك بعسير إذا حسنت المطالعة وحسن الاختيار وحسن التنبيه. •••
فالتراث الإسلامي عامر بسير العظماء والأبطال، وكل واحد من هؤلاء العظماء والأبطال له حياة، وله أشواق، وله هموم، وله وثبات بين الرجاء وبين النجاح والإخفاق، ونعيد هذه الحقيقة بعبارة أخرى فنقول: إن كل عظيم من عظماء الأمم الإسلامية وكل بطل من أبطالها صالح، لأن يصبح مدار قصة أو حادثة كهذه القصص أو كهذه الحوادث التي نقرؤها ونشاهدها، فتهز نفوسنا، وتنطبع في خواطرنا، وتصبح حية بحياتنا عصرية بانتقالها إلى عصرنا ومشابهتها الوقائع والأحداث التي تجري بيننا.
التراث الإسلامي عامر بالحركات الاجتماعية التي تحتاج منا إلى فهم جديد وتفسير جديد، فإذا استخرجنا هذه الحركات الاجتماعية وعرضناها وفسرناها على الوجه الأمثل، فسنرى يومئذ أنها حركات حية تشبه كل الشبه ما نراه بأعيننا أو ما نقرؤه في الأنباء البرقية والصحف السيارة، وسنرى يومئذ أن عالم التاريخ الماضي وعالم الحياة الحاضرة يلتقيان أقرب التقاء، ويتعاونان في إفهامنا حقيقة الماضي والحاضر على السواء، فرب مسألة عصرية لا نفهمها حق فهمها إلا إذا قارناها بمسألة مثلها في العهود الغابرة، ورب مسألة غابرة لا نفهمها حق فهمها إلا إذا ضاهينا بين أسباب اليوم وأسباب الأمس، ورجعنا إلى البواعث المشتركة بين ما كان وبين ما هو كائن، فنحس ونحن نقرأ أننا لا ننتقل إلى عالم التاريخ الدابر؛ بل ننقل التاريخ الدابر إلى عالمنا الذي نعيش فيه، ونضطرب بالرجاء والكفاح في نواحيه.
والتراث الإسلامي عامر بالفكاهات والنوادر والأحاديث التي لا زمان لها؛ لأنها إنسانية تصلح لكل زمان، ولا تختلف باختلاف البلدان والأطوار، فإذا بحثنا عنها وجمعناها وجدنا أنها صالحة لوقتنا كما كانت صالحة لأوقاتها التي جرت فيها؛ لأن الطبيعة الإنسانية في أساسها قلما يطرأ عليها التغير في عناصر الفكاهة والعبرة ومقاييس الفطنة والبلاغة، فالنادرة البارعة والجواب السريع والفكاهة الحسنة والكلمة النافذة هي بنت كل زمان يعيش فيه الإنسان، وليس بالمتغير عليها مع تغير التواريخ إلا طريقة العرض والتناول دون المعدن الأصيل.
والتراث الإسلامي عامر بالشعر «الغنائي» والمقطوعات الباهرة، والشواهد السيارة، ومنها ما ليس يحتاج إلى غير النقل والتعليق اليسير، ليلقى نصيبه من الرواج والإعجاب، ومنها ما يحتاج إلى تعليق يجعل الفائدة منه فائدتين والرغبة فيه رغبتين، يقرؤه القارئ ليستوعب محاسنه فهذه فائدة، ويقرؤه ليدرك الفرق بينه وبين ما يقابله من آداب الأمم الأخرى أو من آداب العرب في العصر الحاضر فهذه فائدة أخرى.
وهذه عندنا هي وسائل «إحياء التراث الإسلامي» أي نقله إلى عالم حياتنا وتحويله إلى مجرى زماننا، وتمثيله للقراء كي يشارفوه، كما يشارفون الدنيا الحية، لا كما يشارفون المتاحف المزوية. فهو يحيا بنا ونحن نحيا به في آن. •••
من الذي يقوم بهذا الواجب؟
جماعات أو أفراد لا يستغنون عن جهد الجماعات، وسنبين لحضرات القراء فيما يلي أن الأدب العربي خاصة - سواء أكان قديما أم حديثا - أحوج الآداب إلى جهود الجماعات التي لا تغني فيها أعمال الأفراد المتفرقين.
فعلى الحكومات قبل كل شيء أن تقبل في بلادها المختلفة على إحياء ما عندها من المخطوطات المتروكة أو المطبوعات الكاسدة، وعليها أن تربط بين هذا العمل وبين قوانين الإنتاج الناجح في سوق الأعمال الاقتصادية، فلا تلقي به إلى موظفين مطمئنين إلى مرتب مضمون كيفما كان مصير عملهم من النجاح أو الخيبة، بل تنوط به أناسا يعنيهم رواجه وكساده، ويهتمون به اهتمام الزارع بمحصوله والتاجر بكسبه، وتجعله مقرونا إلى بعض الشركات على نحو تشترك فيه الغيرة على الأدب والغيرة على الرواج.
وهناك أقسام كثيرة لإحياء التراث الإسلامي غير مجرد الطبع والإذاعة، فمن الكتب ما يطبع كما كتبه مؤلفوه، ومنها ما يختار منه الأصلح والأدنى إلى التشويق، ومنها ما يشفع بالتعليق أو التفسير، ومنها - وهو أصعب الأقسام جميعا - ما يحتاج إلى المقارنات بينه وبين نظائره في الأمم الأخرى، وإلى الملاحظات عن البواعث والأسرار التي لا يقتصر العلم بها على العلم بالشئون الإسلامية.
وعلى الحكومات إلى جانب هذا أن تهتم بإقامة المؤتمرات والمحافل في مناسباتها المتجددة، كذكرى الأدباء والعلماء والعظماء، وافتتاح المعاهد التي تعني جميع الناطقين باللغة العربية، وتكريم النابهين وتبادل الزيارات، وما إلى ذلك من المناسبات التي تلفت الأنظار وتجذب الأسماع وتخلق بواعث الرغبة في الاطلاع.
وقد أسلفنا أن الأدب العربي أحوج الآداب إلى جهود الجماعات؛ لأن اللغة العربية موزعة بين أقطار عدة وحكومات شتى على خلاف اللغات الأخرى التي تشتمل كل منها على أمة واحدة أو أمتين كبيرتين تستغني إحداهما عن الأخرى.
فالكتاب الإنجليزي له - على سبيل التمثيل - مائة ألف قارئ يتبعون حكومة واحدة ويتعاملون بنظام واحد، ويتبادلون الأخذ والعطاء في ظل دولة واحدة، ويكفي أن يطبع الكتاب في لندن أو في نيويورك ليعتمد على قرائه في أنحاء الدولة البريطانية أو في أنحاء الولايات المتحدة بغير حاجة إلى أمة خارجة عن هذا النطاق.
أما الكتاب الذي يطبع في القاهرة، فلا بد له من طابع قادر على معاملة أناس متفرقين في عشرة أقطار، وحكومات بينها من الاختلاف مثل ما بين مراكش والعراق، أو ما بين سورية والسودان، أو ما بين طرابلس وحضرموت، وأين هو القلب الواحد الذي يحرك الدم في جميع هذه الشرايين من أدناها إلى أقصاها إن لم يكن قلبا كبيرا يتجاوز طاقة الفرد الواحد إلى طاقة الجماعة القوية بالمال والنفوذ؟
بل خذ مصر وحدها تعلم أن الجهود الثقافية فيها تكاد تنحصر في القاهرة، ولا تتعداها إلى سائر المدن الموزعة بين الأقاليم، فالإسكندرية خلو من مكتبة عربية كبيرة، ودع عنك طنطا والمنصورة وأسيوط وأسوان، ويرجع هذا إلى قيام الأفراد بالطبع والنشر دون الشركات الواسعة النطاق، فإن الشركة تستطيع أن تسير الباعة في الأقاليم مرة كل أسبوع أو مرة كل شهر لتوزيع الألوف المطلوبة من الكتب هناك، ولكن الفرد الواحد لا يستطيع أن يدير مكتبة في البلدة الصغيرة من أجل عشرين نسخة من كل كتاب جديد لا يدري متى يكون صدوره، ولا من يتولى إصداره، وهل هو صاحب المكتبة التي يعاملها أو هو صاحب مكتبة غيرها، وقس على ما تقدم سائر المصاعب والعراقيل.
وخلاصة الرأي: أن إحياء التراث الإسلامي إنما يتأتى بأعمال ثلاثة هي: (1)
إظهار ذلك التراث. (2)
تنشيط الرغبة فيه بتحويله إلى مجرى الحياة الحاضرة وتقريبه من شواغل الأذهان والنفوس في الزمن الحديث. (3)
تنظيم النشر والتوزيع على أيدي جماعات قوية يتسنى لها ما ليس يتسنى للأفراد من توحيد المعاملة، وتوسيعها بين الجهات المتنائية والحكومات المتباينة، وسيكون هذا العمل العظيم مفيدا للقائمين به ولأبناء الأمم العربية كافة، أيا كان معنى الفائدة الذي نتوخاه.
الفصل الخامس عشر
الغد
والغد غيب مجهول.
ولا حاجة بنا إلى التنجيم عن حوادثه وصروفه، فإنه بأية حال لن يخلو من الحوادث والصروف، ولن تخلو حوادثه وصروفه من سلم وحرب، ونصر وهزيمة، ودول تعلو ودول تهبط، وعلاقات تتصل وعلاقات تنفصل، وصداقة تنقلب إلى عداوة، وعداوة تنقلب إلى صداقة، وتكرار على نسق الماضي وبدع جديد كأنه من الماضي المتكرر، فما خلا زمن قط من بدع جديد.
إنما نحن آمنون إذا واجهنا الغد المجهول بعدته، وإنما نحن مستعدون له بخير ما نستطيع إذا خرجنا من الماضي الطويل بعبرته الوافية، وعبرته الوافية أن العقائد أثبت من السياسات، وأن الأمم أثبت من الدول، وأن الجاهل أعدى لأمته من أعدى أعدائها، وما نكب الإسلام قط من حرب صليبية أو من حرب استعمار كما نكب من أبنائه الجهلاء.
ولنرجع إلى ألف سنة مضت منذ ابتدأت الحروب الصليبية لنرى مصداق هذه العبر واحدة بعد واحدة.
كفى أن نرجع إلى أول هذا القرن العشرين، ولما ينصرم منه غير نصفه أو أكثر من نصفه بسنوات. فقد كانت في أوله دول يخشى منها على قارة كاملة، وكانت فيه دول تشبثت بكل بقعة من بقاع المشرق أقصاه وأدناه، وكانت فيه دول تعتزل العالم القديم، وتطلب من العالم القديم أن يعتزلها، فتغيرت المواقف، وتغيرت السياسات، وتغيرت الدول، وتغيرت العلاقات، وقاتل الناس في صفوف ثم قاتلوا في غير تلك الصفوف، ولم تتغير معالم الأرض، ولكن تغيرت الحدود، وتغيرت الدول التي تقوم بين تلك المعالم والحدود، فمهما تكن السياسة فالعقيدة أثبت منها.
ومهما تكن الدولة فالأمة هي الباقية.
ومهما يكن الخطر فالجهل في كل معترك ومع كل خصم أو منازع هو أخطر الأخطار.
وإذا بقي للإسلام إيمانه والمؤمنون به على هدى وبصيرة، فلا خطر عليه من أقوياء اليوم ولا من أقوياء الغد المجهول، وأخطر من كل خطر أن يتخلف مكان العلم والبصيرة، ويتقدم مكان الجهل والغباء.
ومثل من أمثلة الجهل والغباء أن يطول اللجاج، ويحتدم الهياج على التحريم والتحليل، ومحصول ذلك كله أهون من خطر اللجاج وخطر الشقاق والهياج.
إن الجهل الذي يغري صاحبه بتحريم البرق، واتهام العاملين في الكهرباء بمحالفة الشيطان لهو أخطر على الإسلام من كل حلال وحرام.
ولقد تطول الأقاويل في حل التماثيل وتحريمها، وفيما هو تمثال وليس بصورة، أو ما هو صورة وليس بتمثال، ولكن التماثيل والصور على اختلاف أوصافها وتعريفاتها قد وجدت بين أبناء الأديان المسيحيين واليهود والبراهمة والبوذيين، ولم نسمع قط أنهم سجدوا لتمثال بطل عظيم، أو تعبدوا لضريح نابغ مشهور، وليست عقيدة المسلم بأضعف من عقائد الأديان عن مدافعة هذه الأخطار إن خيفت منها الأخطار، فلا يمتنعن البحث في الحلال والحرام ولا في الصحيح والباطل من عقائد المعتقدين، ولكنه إذا بذل فيه من الجهد فوق حقه، وأضعاف خطره، فذلك هو الخطر الأكبر، وذلك هو الجهد العقام، واحتفاظ المسلم بإيمانه أمام هذه المحرمات أيسر جدا من احتفاظه بالإيمان أمام جاهل يكفر القائلين بدوران الأرض أو تسخير الكهرباء أو الاستماع إلى المذياع من غير ذي صوت منظور، ثم يزعم أنه يفتي بحكم الدين فيصدقه من يجهل الدين، ويكفر بالدين من يحمل عليه جريرة فتواه.
ولا خطر على المسلمين أوبل من هذا الخطر، فإذا اتقوه وعاذوا بالإيمان على علم وبصيرة فلا خطر عليهم من الدول والسياسات، ولا من ذوات اليمين ولا من ذوات اليسار.
ولا ينسين المسلمون أنهم مجموعة من الأمم في عصر المجموعات، وإن لم يكن عصر الجامعات كما عرفت قبل هذا القرن العشرين.
ولا ينسين المسلمون أنهم مجموعة من أمم العالم، فإن العالم لا ينسى هذه الحقيقة، ولا يزال يذكرها ويتذاكرها، ويرتب عليها ما يرتبه من الخطط والمواقف بإزائها.
وعصر المجاميع غير عصر الجامعات، أو هكذا تتمثل لنا المجاميع والجامعات باصطلاح الزمن مع التقارب بينها في مادة اللغة العربية، فالمجموعة قائمة سواء أرادها أصحابها أو لم يريدوها، والجامعة لا تقوم إلا إذا أريدت لغرض مقصود، وغالبا ما يكون هذا الغرض وحدة في الحكم أو في السياسة أو في مشروع من مشروعات المحالفة والمعاهدة.
والإسلام شاء أو لم يشأ مجموعة بين مجاميع الأمم الكبرى في القرن العشرين، وليست مجاميع الأمم مقصورة على الكتلة الشرقية التي يتزعمها الروس، أو الكتلة الغربية التي يتزعمها الأمريكيون والإنجليز، ولكنها أكثر من ذلك، وأحق أن تعرف جميعا أو يعرف بعضها على سبيل التمثيل، ثم يقاس عليه.
فالمجموعة الشرقية والمجموعة الغربية معا تتخللهما مجموعة واحدة يمكن أن تسمى بمجموعة الكنيسة الرومانية، ويظهر موقف المجاميع في هذا العصر من موقف الكنيسة الرومانية بين الكتلتين.
إن الكتلة الغربية يقودها إنجيليون، والكتلة الشرقية يقودها أناس يقضون على الكنيسة الروسية الكبرى، ومن هنا يتميز موقف الكنيسة الرومانية، وتحرص على بقاء أتباعها من أمم العالم على حدة في الشئون الروحية، ومن هنا أيضا تظهر في أمريكا الجنوبية وفي أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية برامج في السياسة لا تنضوي كل الانضواء إلى الكتلتين، ولا تنفصل عنهما كل الانفصال.
ومجموعة الأمم الإسلامية مقصودة، ولا بد أن تقصد، بخطة واحدة في بعض الأحوال.
فإذا غفلت عن هذا الأمر الواقع أصابها ما يصيب كل غافل عن الأمر الواقع، ولكنها لا تتنبه له بداهة لتجتمع على عدوان في الاستغلال أو على عدوان في التبشير، وإنما تتنبه له لتدفع العدوان من هذه الجوانب كافة، وتجعل لها صوتا مسموعا في كل سياسة تصاب بها على سوء النية أو حسنها، وتربأ بنفسها أن تكون بحيث كانت تيم في رأي الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم
ولا يستأمرون وهم شهود
ومتى استطاعت هذه المجموعة العالمية أن تسهم في أمانة «الإنسانية» وأن تعطيها من عندها، ولا تعيش عالة عليها، وأن تؤدي رسالتها للحضارة والسلام، وأن تفرض وجودها على من يهملونها، ولا يحسبون حسابها، فذلك حق الإسلام منها، وحقها هي من الإسلام.
وإمامها على الدوام «إيمان على هدى وبصيرة» ولا خذلان لمن يقتدي بهذا الإمام.
Unknown page