بسم الله الرحمن الرحيم [وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم]
أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن يزيد بن إدريس القُرشيّ قراءةً مني عليه بالمدرسة الناصرية المنشأة على تربة الإمام الشافعيّ، ﵁. وعرضنا بأصلِ سماعِهِ فأقرَّ به. قالَ: حدّثني الشيخُ الإمام الصالحُ المتقنُ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن خليل القيسيّ القرُطبيّ قراءةً عليه في داره بمراكش سنة ثمان وستين وخمسمائة قالَ: ثنا الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتّاب قالَ: ثنا أبو عمرو عثمان بن أبي بكر الصَّدَفيّ السفاقسيّ قالَ: ثنا محمد بن علي بن عبد الملك الفقيه قالَ: قالَ أبو سليمان الخطابيّ، ﵀: هذه أَلفاظٌ من الحديث يرويها أكثرُ الرُّواةِ والمُحَدِّثينَ ملحونةً ومُحرَّفَةَ أَصلحناها [لهم] وأَخبرنا بصوابها، (٢ أ) وفيها حروفٌ تحتملُ وجوهًا اخترنا منها أَبْينَهَا وأَوْضَحَها، واللهُ الموفقُ للصوابِ لا شريك له. قالَ: أبو سُليمان:
1 / 19
١ - قوله، ﷺ، في البحر: ([هو] الطّهُورُ ماؤهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ). عوامُّ الرواةِ يُولعونَ. بكسرِ الميمِ من المَيْتَةِ. يقولونَ: ميِتَتُهُ وإنَّما هي مَيْتَتُهُ، مفتوحة [الميم]، يريدون حيوان البحر إذا ماتَ فيه. وسمعتُ أبا عُمَر يقولُ: سمعتُ المُبَرّدَ يقولُ في هذا: المِيتةُ: الموتُ، وهو أمرٌ من اللهِ [﷿ يقعُ في البَرِّ والبحرِ] لا يُقالُ فيه حلالٌ ولا حرامٌ.
٢ - قالَ أبو سُليمان: فأمّا قولُهُ [﵇]: (مَنْ خرجَ من الطاعة [فماتَ] فميِتَتُهُ جاهِلِيّةٌ). فهي مكسورةُ الميم، يعني الحال التي ماتَ عليها. يُقالُ: ماتَ فُلانٌ ميتَةً حَسَنَةً وماتَ ميِتَةً سيِّئةً. كما قالوا: فُلانٌ حَسَنُ القِعْدَةِ والجِلْسَةِ والرِّكبْةِ والمِشْيَةِ والسيِرةِ والنيِمَة. يُرادُ بها الحالُ والهيئةُ.
٣ - (٢ ب) ومِثْلُهُ قولُهُ، ﷺ: (إذا ذَبَحْتُم فأَحْسِنوا الذِّبْحَةَ، وإذا قَتَلْتُم فأحسِنوا القِتْلَةَ)
1 / 20
وأَمّا الذَّبْحةُ والقَتْلةُ [مفَتْوُحَتَيْن] فالمَرَّةُ الواحدةُ من الفِعْلِ.
٤ - فأمّا قولُهُ، ﷺ، لعائشة [﵂]: (ليسَتْ حيِضَتُكِ في يَدِكِ). [فإنَّهم قد] يفتحون الحاءَ [منه] وليسَ بالجَيِّد. والصوابُ: حيِضتك، مكسورةُ الحاءِ. والحيِضَةُ: الاسمُ أو الحالُ، يريد: ليستْ نجاسةُ المَحيضْ وأَذاهُ في يدِكِ. فأمَّا الحَيْضَةُ: فالمَرَّةُ الواحِدةُ من الحَيْضِ [أو الدُّفعةُ من الدَّمِ].
٥ - وفي الحديث الذي يرويه سلمان [﵁] في الاستنجاء: (أَنَّ رجلًا من المشركين قالَ [له]: لقد عَلّمكُم صاحِبُكم كلًّ شيءٍ حتى الخِراءَةَ). عوامُّ الرُّواةِ يفتحون الخاءَ فيُفْحِشُ معناهُ. وإنّما هو الخِراءَةُ، مكسورة الخاءِ ممدودة الألفِ. يريد الجِلْسَةَ للتخلي والتنظفِ منه والأدب فيه.
٦ - قولُهُ، ﷺ، (٣ أ) عند دخولِ الخلاءِ: (اللهُمّ إنّي أعوذُ بكَ من الخُبْثُ والخبائِثِ). أصحابُ الحديثِ يروونَهُ: الخُبْثَ، ساكنة الباءِ. وكذلكَ رواهُ أبو عُبَيْدٍ في كتابِهِ وفَسَّره فقالَ: أمَّا الخُبْثُ فإنَّهُ يعني الشّرَّ،
1 / 21
وأَمَّا الخبائِثُ فإنَّها الشياطينُ. قال أبو سُليمان: وإنّما هو الخُبُثُ، مضمومُ الباءِ، جَمْعُ خبَيثٍ. وأمَّا الخبائِثُ فهو جمعُ خبيثةٍ استعاذَ بالله من مَرَدَةِ الجِنِّ ذكورِهم وإناثهم. فأمَّا الخُبْثُ، ساكنةُ الباءِ، فمصدرُ خَبُثَ الشيءُ يخبُثُ خبُثًْا، وقد يُجعلُ اسمًا. قالَ ابنُ الأعرابيّ: أصلُ الخُبْثِ في كلامِ العَرَبِ: المكروه فإنْ كانَ من الكلامِ فهو الشّتْمُ، وإنْ كانَ من الملِلِ فهو الكُفْرُ، وإنْ كانَ من الطعام فهو الحرامُ، وإنْ كانَ من الشرابِ فهو الضَّارُّ. وأمَّا الخَبَثُ، مفتوحةُ الخاءِ والباءِ، فهو ما تنفيه النارُ من رَدِئِ الفِضَّةِ والحديدِ ونحوهما. فأمَّا الخِبْثَةُ فالرِّيبةُ (٣ ب) والتُهَمَةُ. يُقالُ: [هو] ولدُ الخِبْثَةِ، إذا كانَ لغيرِ رِشْدَةٍ. ويُقالُ: بِعْ وقُلْ: لا خِبْثَةَ، أي لا تُهَمَةَ فيه من غَصْبٍ أو سَرِقَةٍ أو نحوهما.
٧ - قَوْلُهُ، ﷺ، [في الاستنجاء]: (وأَعِدُّوا النُّبَلَ)
1 / 22
يُروَى بضَمِّ النونِ وفَتْحِها، وأكثرُ المحدِّثين يرويها: النّبَل، مفتوحة النونِ، وأجودُهُما الضمّةُ. قالَ الأصمعيّ: إنّما هو النُّبَلُ. بضَمِّ النونِ وفتحِ الباءِ، واحدُها نُبْلَة. وقالَ غيرُهُ: إنَّما سُمِّيَتْ نُبْلَ نُبْلَة بالتناوب من الأرضِ. يُقالُ: انتبَلْتُ حَجَرًا من الأرضِ، إذا [أنتَ] أخذتَهُ، وأنبلْتُ غيري حجرًا، ونَبّلْتُهُ: إذا أنتَ أعطيتَهُ إيّاه. واسمُ الشيء الذي تتناوَلُهُ: النُّبْلةُ. كما تقولُ: اغترَفْتُ بيدي ماءً، واسمُ ما في كَفِّكَ: غُرْفَةٌ.
٨ - قَوْلُهُ، ﷺ، لأَمِّ سَلَمَةَ حينَ حاضَتْ: (أَنَفِسْتِ). إنَّما هو بفتحِ النونِ وكسرِ الفاء، معناه حِضْتِ. يُقالُ: نَفِسَتِ المرأةُ [إذا حاضَتْ]، ونُفِسَتْ، مضمومةُ النونِ، من النِّفاسِ.
٩ - (٤ أ) وحديثُهُ [صلّى الله عليه] الذي يرويه عليٌّ، ﵁، في (المَذْي). العامةُ يقولونَ: المَذِيُّ، مكسورةُ الذالِ مُثَقّلة [الياء]. وإنّما هو المَذْيُ، ساكنةُ الذّالِ، وهو ما يخرجُ من قُبُلِ الإنسانِ عندَ نشاطٍ، أو مُلاعبةِ أَهْلٍ أو نحوهما.
1 / 23
والوَدْيُ، ساكنة الدالِ غير معجمة، ما يخرجُ عَقِبَ البَوْلِ. وأمَّا المَنِيُّ، ثقيلةُ الياءِ، فالماءُ الدافِقُ الذي يكونُ منه الولدُ، [ويجبُ] فيه الاغتسالُ. ويُقالُ: وَدَي [الرجلُ] ومَذى، بغير ألفٍ، وأمْنَى، بالألفِ. قالَ اللهُ تعالى: " أَفَرأَيتُم ما تُمنُونَ ". [وهذا قولُ أبي عُبَيد وأكثر أهلِ اللغةِ. وهو اختيارُ ابن الأنباريّ. وقد حُكِيَ عن بعضهم: الوَدِيّ والمَذِيّ، مُشَدَّدَيْن].
١٠ قولُ عائشةَ، ﵂: (كانَ رسولُ اللهِ، ﷺ، أَمْلَكَكُم لأَرَبِهِ). أكثرُ الرواةِ يقولونَ: لإِرْبِهِ. والإرْبُ: العُضْو، وإنّما هو لأرَبَه، مفتوحة الألف والراء، وهو الوَطَرُ وحاجةُ النّفْسِ. وقد يكونُ الإرْبُ الحاجةَ أيضًا، والأًوَّلُ أَبْيَنُ.
١١ - قولُهُ، ﷺ: (٤ ب) (مَنْ تَوَضَّأَ للجُمعةِ فبِها ونِعْمَتْ): مكسورة النونِ ساكنة العينِ والتاء، أي نِعْمت الخلّة.
1 / 24
والعَوامُّ يروونَهُ: ونَعِمَتْ، يفتحونَ النونَ ويكسرونَ العينَ، وليسَ بالوجْهِ. ورواهُ بعضهُم: [و] نَعِمْتَ، أي نَعَمَكَ اللهُ.
١٢ - قُولهُ، ﷺ، [في الجُمعةِ]: (مَنْ غَسَلَ واغْتَسَلَ). يرويه بعضهُم: غَسّلَ، بتشديدِ السينِ، وليس بجيّد، وإنّما هو غَسَلَ، بالتخفيف. ويُتأوَّلُ على وجهين: أحدهما أَنْ يكونَ أرادَ بهِ اتباع اللفظِ، والمعنى واحدٌ. كما قالَ في [هذا] الحديث: (استمع وأنصت، ومَشَى ولم يركبْ). والوَجْهُ الآخر: أنْ يكون قَوْلُهُ: غَسَلَ، إنَّما أرادَ غَسْلَ الرأسِ، وخَصَّ الرأسَ بالغَسْلِ لما على رؤوسِهم من الشعر، ولحاجَتهِم إلى معالجتِهِ وتنظيفِهِ. وأمَّا الاغتِسالُ فإنَّهُ عامٌّ للبَدَنِ كُلِّه.
١٣ - قولُهُ، ﷺ: (٥ أ) في حديثِ لَقِيط ابنِ صَبِرَة وافدِ بني المُنْتَفِقِ: (أراحَ الراعي غَنَمَهُ ومعه سَخْلةٌ تَيْعَرُ. فقالَ النبيُّ، ﷺ: ما وَلَّدْتَ يا غُلام؟ قالَ: بَهْمَة. قالَ: فاذبحَ لنا مكانَها شاةً، ثمَّ قالَ: لا تحسَبَنَّ أَنَّا من أجلِك ذَبَحْناها). [ولَّدْتَ] الرواية: بتشديد اللام، على وزن فَعَّلْت خِطاب المُواجَهِ. وأكثرُ المُحَدِّثين يقولونَ: [ما] وَلَدَتْ، يريدونَ: ما وَلَدَتِ الشاةُ، وهو غَلَطٌ.
1 / 25
تقولُ العربُ: وَلَّدْتُ الشاةَ، إذا نُتِجَتْ عندكَ [فوليتَ أَمْرَ ولادها]. وأَنْشدَنَا أبو عُمرَ قالَ: أَنْشدَنَا أبو العبّاسِ ثَعْلَبٌ: إذا ما وَلَّدوا يومًا تَنَادَوْا أَجَدْيٌ تحتَ شاتِكَ أَمْ غُلامٌ ويُقالُ: وَلَدَتِ الغَنَمُ وِلادًا. وفي الآدمِيّاتِ: وَلَدَتِ المرأةُ وِلادةً. ومنِ الناسِ مَنْ يَجْعَلُهُما شيئًا واحدًا. وقولُهُ، ﷺ: لا تحسبَنَّ (٥ ب) أَنَّا ذبحناها من أجلِكَ: معناهُ نفيُ الرِّياءِ وتركُ الاعتدادِ بالقِرَى على الضيف.
١٤ - حديثُ ابنِ أُمِّ مكتوم [﵁]: (إنَّ لي قائدًا لا يُلاوِمُني). هكذا يرويه المُحَدِّثونَ، وهو غَلَطٌ، والصوابُ: لا يُلائِمُني، أي لا يُوافقني ولا يُساعدني على حضور الجماعةِ. قالَ أبو ذؤَيب: أمْ مالجَنْبِكَ لا يُلائِمُ مَضْجَعًا إلاّ أقَضَّ عليكَ ذاكَ المَضْجَعُ
1 / 26
فأمّا المُلاومَةُ فإنَّما تكونُ من اللّوْمِ. ومنه قولُهُ تعالى: " فأَقْبَلَ بَعْضُهَم على بَعْضٍ يتلاوَمُونَ ".
١٥ - حديثُ زَيدٍ بنِ ثابت [﵁]: قالَ: (رأيتُ رسولَ اللهِ، ﷺ، يقرأُ في المَغْرب بطُولَى الطُّولَيَيْن)، يعني سورةَ الأعراف. يرويه المُحَدِّثون: بطِوَلِ الطُّولَيَيْنِ. وهو خَطَأٌ فاحِشٌ، فالطِوَلُ: الحَبْلُ، وإنَّما هو بطُولَى، تأنيث أَطْول. والطُّولَيَيْن تثنيةُ الطُّولَى. يريدُ أنَّهُ كانَ يقرأُ فيها بأَطْوَلِ (٦ أ) السُّورَتَيْنِ، يريدُ الأَنعامَ والأعرافَ. قال الشاعرُ: فأعضَضْتُهُ الطُّولَى سنامًا وخَيْرَها بلاءً وخَيْرِ الخَيْرِ ما يُتَخَيّرُ ١٦ - قولُهُ، ﷺ: (إنَّما أُنَسّى لأَسُنَّ). يرويه عَوامُّ الرواةِ: أُنْسَى، خفيفة السين، على وزن أُدْعَى، وليسَ بجيِّدٍ. إنَّما معنى أُنْسَى أي يُنْسى ذكره، أو يُنْسَى عهده، وما أشبهه. والأجودُ أنْ يُقَال: أُنَسّى، أي أُدْفَع إلى النسيان.
١٧ - ومن هذا قولُهُ، ﷺ: (لا يقولن أحَدُكُم نسيتُ آيةَ كَيْتَ وكَيْتَ، إنَّما نُسِّيَ).
1 / 27
١٨ - نَهْيُهُ، ﷺ، عن الحِلَقِ قبلَ الصلاة في [يومٍ] الجمعةِ وعن التّحَلُّقِ أيضًا. يرويه كثيرٌ من المحدِّثين: عن الحَلْقِ قبلَ الصلاةِ. ويتأوّلونَهُ على حِلاقِ الشّعرِ. وقالَ لي بعضُ مشايخِنا: لم أَحْلِقْ رأسي قبلَ الصلاةِ نحوًا من أربعينَ سنةً بعدما سمعتُ هذا الحديثَ. قالَ أبو سُليمان: (٦ ب) وإنَّما هو الحِلَقُ، مكسورة الحاءِ مفتوحة اللامِ، جمعُ حَلْقَة. يَقالُ: حَلْقةَ وحِلَق مِثْلُ بَدْرَة وبِدَر وقَصْعَة وقِصَع. نهاهُم عن التّحَلُّقِ والاجتماعِ على المُذاكرة والعِلْمِ قبلَ الصلاةِ، واستحبَّ لهم ذلكَ بعدَ الصلاةِ.
١٩ - وفي حديثِهِ، سلّى اللهُ عليه وسلّم، الذي يَرْويِهِ ذو اليَدَيْنِ قال: (فخرجَ سَرَعَانُ الناسِ). يرويه العامَّةُ: سِرْعان الناسِ، مكسورة السينِ ساكنة الراءِ، وهو غَلَطٌ. والصوابُ: سَرَعَانُ [الناس]، بنصبِ السينِ وفتح الراء. هكذا يقول الكِسائيّ. وقالَ غيرُهُ: سَرْعان، ساكنة الراء، والأوّلُ أَجْوَدُ.
1 / 28
فأمَّا قولهُمُ: سرعانَ ما فَعَلْت، ففيه ثلاثُ لُغاتٍ: يُقالُ: سَرْعَانَ وسِرْعانَ، [والراءُ فيها ساكنةٌ] والنونُ نَصْبٌ أبدًا.
٢٠ - ومما يكثرُ فيه تصحيفُ الرُّواةِ حديثُ سَمُرَة بنِ جُنْدَب في قِصَّةِ كُسوفِ الشمسِ والصلاة لها. [قالَ]: (فدُفِعْنا إلى المسجد. فإذا هو بأزَزٍ)، أي بجمعٍ كثيرٍ غَصَّ (٧ أ) بهم المسجد. رواهُ غيرُ واحدٍ من المشهورين بالروايةِ: فإذا هو بارِزٌ، من البُروزِ، وهو خَطَأٌ. ورواهُ بَعْضُهم؛ فإذا هو يتأَزَّزُ. وقد فَسّرْتُهُ في موضِعِهِ من الكتابِ وأَعَدْتُ لك ذِكْرَهُ ليكون منك ببالٍ.
٢١ - وفي حديث أبي ذَرٍّ [﵁]: (أَنَّهُ سألَ رسولَ الله، ﷺ، عن الصلاةِ فقالَ: خَيْرٌ موضوعٌ فاستكثِرْ مِنهُ). يُروى على وجهين: أحدهما أنْ يكونَ موضوعٌ نَعْتًا لمِا قَبْلَهُ. يُريدُ أَنَّها خيرٌ حاضرٌ فاستكثر منه. والوجهُ الثاني: أنْ يكونَ الخيرُ مضافًا إلى الموضوع. يريُدُ أَنَّها أَفْضَلُ ما وُضعَ من الطاعاتِ وشُرِعَ من العباداتِ.
1 / 29
ومما يُروى من هذا البابِ أَيضًا على وَجْهَيْنِ حديثُ ابن عبّاس [﵄]: (أنَّ رسولَ اللهِ، ﷺ، صَلّى على قَبْرٍ مَنْبُوذٍ). فَمَنْ رواهُ على أَنَّهُ نَعْتٌ للقبرِ أرادَ: على قَبْرٍ مُنْتَبَذٍ من القبورِ. ومَنْ رواهُ على الإضافةِ أَرادَ بالمنبوذِ اللقيط، (٧ ب) يرُيدُ أَنَّهُ صلّى على قَبْرِ لقيطٍ.
٢٣ - ومثلُ هذا قولُهُ، ﷺ: (ولَيسَ لعِرْقٍ ظالمٍ حقٌّ). من الناسِ مَنْ يرويه على إضافة العِرْقِ، إلى الظالم، وهو الغارس الذي غرس في غير حقِّه. ومنهم من يجعل الظالم من نعت العرق يريدُ الغراسَ والشّجَرَ، [و] جَعَلَهُ ظالمًا لأنَّهُ نبتَ في غيرِ حقِّهِ.
٢٤ - وفي حديثِهِ، ﷺ: (أَنَّهُ صلّى إلى جِدارٍ، فجاءَتْ بَهْمَةٌ تمرُّ بينَ يَدَيْهِ، فما زالَ يُدارِئُها حتى لَصِقَ بطنُهُ بالجِدارِ). قولُهُ: يُدارِئُها، مهموزٌ من الدَّرْءِ، ومعناه: يُدافِعُها. ومنه قولُهُ تعالى: " وإذْ قَتَلْتُم نَفْسًا فادَّارَأْتُم فيها ". ومَنْ رواهُ: يُداريها، غير مهموزٍ، أحالَ المعنى لأنَّهُ لا وَجْهَ
1 / 30
هاهُنا للمُداراةِ التي تجري مَجْرَى المُساهَلَةِ في الأمورِ. وأَصْلُ المداراةِ من قولِكَ: دَرَيْتُ الصيدَ، إذا خَتَلْتَهُ لتصطادَه.
٢٥ - قالَ أبو سُليمانَ: ومِمّا سَبِيلُهُ أنْ يُهْمَزَ لدَفْعِ الإشكالِ، وعَوامُّ الرواةِ يتركونَ (٨ أ) الهَمْزَ فيه قَوْلُهُ، ﷺ، في الضحايا: ([كُلُوا] وادَّخِروا وائْتَجِروا). أي تَصدَّقوا طلبَ الأجرِ فيه. والمحدِّثون يقولون: واتَّجِروا، فينقلبُ المعنى [فيه] عن الصدقةِ إلى التجارةِ، وبيعُ لُحومِ الأضاحي فاسِدٌ غير جائزٍ. ولولا موضعُ الإشكالِ وما يَعْرِضُ من الوَهْمِ في تأويلِهِ لِكانَ جائزًا أنْ يُقالَ: واتَّجِروا، بالإدغامِ، كما قِيلَ من الأمانةِ: اتُّمِنَ، إلاّ أنَّ الإظهارَ هاهُنا واجِبٌ، وهو مذهبُ الحجازيينَ. يُقالٌ: ائْتَزَرَ فهو مُؤتَزر، [وائْتَدَعَ فهو مؤتَدعِ]، وائْتَجَرَ فهو مُؤْتجِر. قال أبو دَهْبَل: يا ليتَ أَنِّي بأثوابِ وراحِلتي عَبْدٌ لأَهْلِكِ هذا الشهر مُؤْتَجَرُ ٢٦ - ومن هذا البابِ قولُ عُمَرَ، ﵁: (لو تمالأَ عليهِ أَهْلُ صَنْعاءَ لقَتَلْتُهُم بهِ). مهموزٌ من الملأ، أي لو صاروا كُلُّهُم ملأً واحدًا في قَتْلِهِ.
1 / 31
ويقالُ: مالأتُ الرجلَ على الشيءِ إذا واطأتَهُ عليه. والمُحدثون (٨ ب) يقولون: [لو] تمالَى عليه، غير مهموز. والصوابُ أنْ يُهمزَ. والمَلاَ مقصورٌ [غير مهموزٍ]: الفضاءُ الواسعُ. قالَ الشاعرُ: ألا غَنيِّاني وارْفَعَا الصوتَ بالمَلاَ فإنَّ المَلاَ عندي يزيدُ المَدَى بُعْدا ٢٧ - ومن هذا الباب [أيضًا] حديثُ ثَوْبان: (اسْتَقَاءَ رسولُ الله، ﷺ، عامِدًا فأَفْطَرَ). مهموزٌ ممدودٌ، أي تَعَمّدَ القَيْءَ. ومَنْ قالَ: استَقَى، على وزن اشتكَى، فقد وَهِمَ.
٢٨ - وكذلك قوله، ﷺ: (العائِدُ في هِبَتِهِ كالعائِدِ في قَيْئِهِ). مهموزٌ. والعامَّةُ تُثَقِّلُهُ ولا تَهْمِزُهُ. .
٢٩ - ومن هذا قولُهُ، ﷺ: (يقاتِلكم فِئامُ الرُّومِ). يريد جماعات الروم، مهموزٌ بكسر الفاءِ، وأصحابُ الحديثِ
1 / 32
يقولونَ: قَيّام الرومِ، مفتوحة الفاء مشدَّدَة الياء، وهو غَلَطٌ، وإنّما هو الفِئامُ، مهموزٌ. قالَ الشاعرُ: (٩ أ) [كأنَّ] مواضِعُ الرَّبَلاتِ منها فِئامٌ ينظرونَ إلى فِئامِ ٣٠ - وفي حديثهِ، ﷺ، حينَ قالَ لنسائِهِ: (أَيَّتكُنَّ تنبحُها كلابُ الحَوْأبِ). أصحابُ الحديثِ يقولون: الحُوَّب، مضمومة الحاء مُثَقّلَة الواو. وإنّما هو الحَوْأبُ، مفتوحة الحاء مهموزة: اسْمُ بعضِ المياهِ. أنشدني الغَنَوي [قال]: أنشدني ثَعْلبٌ: ما هو إلاّ شَرْبَةٌ بالحَوْأبِ فَصَعِّدِي مِن بَعْدِها أو صَوِّبي الحوأبُ: الوادي الواسعُ: قالَ بعضُ رُجّاز الهُذَليِّين يصفُ حافِرَ فَرَسٍ: يلتهمُ الأرضَ بوَأْبٍ حوأبِ كالقُمْعُلِ المنكَبِّ فوقَ الأَثْلَبِ الوأْبُ: الخفيفُ. والقُمْعُلُ: القَدَحُ الضّخْم بُلُغَةِ هُذَيْلٍ.
1 / 33
٣١ - (٩ ب) وقولُهُ، ﷺ: (الكَمْأَةُ من المَنِّ وماؤها شِفاءٌ للعَيْنِ). الكَمْأَةُ مهموزةٌ. والعامَّةُ يقولونَ: الكَمَاة، بلا همزٍ.
٣٢ - وقولُهُ، ﷺ: (رُفِعَ عن أُمَّتي الخَطأُ والنِّسْيانُ). العامَّةُ يقولونَ: النّسَيَان، على وَزْنِ الغَلَيَان. وإنَّما هو النِّسْيانُ، بكسر النون ساكِنة السين. والخَطَأُ مهموزٌ غير ممدودٍ. يُقالُ: أَخْطَأَ الرجلُ خَطَأً إذا لم يُصِبِ الصوابَ أو جَرَى منه الذَّنْبُ وهو غير عامِدٍ. وخَطِئَ خَطيئةً، إذا تَعَمّدَ الذَّنْبَ. قالَ اللهُ تعالى: " ومَنْ يكسِبْ خطيئةً أو إثْمًا ثم يَرْمِ بهِ بريئًا فقد احتملَ بُهتانًا وإثْمًا مُبِينًا ".
٣٣ - قولُهُ، ﷺ: (لا صَدَقَةَ في أَقَلِّ من خمسِ أواقِيَّ). الأَواقيُّ: مفتوحة [الألف] مُشَدَّدَة الياءِ غير مصروفةٍ، جمعُ أُوقِيّة، مثل: أُضْحِيّة وأَضَاحِيّ، وبُخْتِيّة (١٠ أ) وبخاتِيّ، [ورُبَّما خُفِّفَ فقيلَ: أَواقٍ وأَضاحٍ]. والعامَّةُ تقولُ: خمس آواق، ممدودة الألفِ بغيرِ ياءٍ. والآواق إنّما هي جمعُ أَوْقٍ، وهو الثقلُ.
1 / 34
٣٤ - ومما يجبُ أنْ يثقّلَ وهم يخفِّفُونَهُ قولُ النبيّ، ﷺ: (العارِيَّةُ مؤدَّاةٌ). مشدَّدة الياء، ويُجمعُ على العوارِيّ، مشدَّدة كذلك. وهي اللغةُ العاليةُ. وقد يُقالُ أيضًا: هذه عاريَّة وعَارَة.
٣٥ - ومن ذلك حديثُهُ الآخر: (لمّا أَتاهم نَعِيُّ جَعْفَرٍ قالَ رسول اللهِ، ﷺ: اصنعوا لآلِ جَعْفَرٍ طعامًا). النّعِيُّ، بتشديدِ الياءِ، الاسمُ. فأمَّا النّعْيُ فمصدرُ نَعَيْتُ الميِّتَ أنَعاهُ.
٣٦ - ومن هذا البابِ: (نَهْيُهُ، ﷺ، عن لُبْسِ القَسِّيّ). وأصحابُ الحديثِ يقولونَ: القِسِيّ [مكسورة القافِ، خفيفة السينِ، وهو غَلَطٌ لأَنَّ القِسِيّ جمعُ قَوْسٍ] وإنَّما هو القَسِّيّ، مفتوحة القاف مثقلة السين، [وهي ثيابٌ] تُنسَبُ إلى بلادٍ يُقالُ لها: القَسُّ. ويُقالُ: إنَّها ثيابٌ فيها حريرٌ يُؤتى بها مِن مِصْرَ. [وقيل أيضاُ: إنّ القَسِيّةَ هي القريةُ]. فأمَّا الدراهِمُ (١٠ ب) القَسِيّة فإنَّما هي الرديئةُ. يُقالُ: دِرهمٌ قَسِيُّ، مخفّفة السينِ مشدّدة الياء، على وزنِ شَقٍ يّ، وأُراهُ مشتقًا من قولهم: في فُلانٍ قَسْوَةٌ، أي جَفَاء وغِلْظة. وإنَّما سُمِّيَ الدرهم
1 / 35
الزائف قَسِيًّا لجفائِهِ وصلابتِهِ، وذلك أنّ الجَيِّدَ من الدراهمِ يلينُ وينثني.
٣٧ - قولُ عُمَر، ﵁: (إنَّ قُرَيْشًا تريدُ أنْ تكونَ مُغَوَّيات لمالِ اللهِ). مُشدَّدة الواو مفتوحتها جمعُ مُغَوّاة، وهي كالحَفِيرةِ والوَهْدَةِ تكونُ في الأرضِ. وعَوامُّ الرواةِ يقولونَ: مُغْوِيات، ساكنة الغين مكسورة الواو، وهو خطأٌ، والصواب هو الأَوَّلُ.
٣٨ - ومما سبيلُهُ أنْ يُخَفّفَ وهم يثقِّلونَهُ قولُهُ، ﷺ، في دعائِهِ: (وأعوذُ بكَ من شرِّ المَسِيح الدَّجّال). قد أُولِعتِ العامَّةُ بتشديدِ السينِ وكسرِ الميمِ ليكونَ، [زَعَموا]، فَصْلًا بينَ مسِيحِ الضلالةِ وبينَ عيسى، صلوات الله (١١ أ) عليه، وليس ما ادعوهُ بشيءٍ، وكلاهما مَسيِح، مفتوحة الميم خفيفة السين، فعيسى، صلوات الله عليه، مسيح بمعنى ماسِح، فَعيِل بمعنى فاعِل، لأنَّه كانَ إذا مَسَحَ ذا عاهَةٍ عُوفِيَ. والَدَّجّال مَسيِح، فَعِيل بمعنى مَفْعُول، لأنَّهُ ممسوحُ إحدى العَيْنَيْنِ. [ويُقالُ: معنى المَسيحِ في صفةِ الدجّال: الكَذَّابُ. يُقالُ:
1 / 36
رجُلٌ مِمْسَحٌ وتِمْسَحٌ وماسِحٌ ومسِيِّحٌ، أي كذَّابٌ. قالَهُ ابنُ الأعرابيّ].
٣٩ - ومن هذا الباب في حديثِ الذَّكاةِ: (امْرِ الدَّمَ بما شِئْتَ). من قولك: مراهُ يَمْريه [مَرْيًا]، إذا أسألَهُ. ومَرَيْتُ عيني في البكاء، ومَرَيْتُ الناقةَ إذا حلبتَها، وناقةٌ مَرَّيةٌ. وأصحابُ الحديثِ يقولون: أَمِرَّ الدَّمَ، مشَدَّدة [الراء]، يجعلونه من الإمرارِ، وهو غَلَطٌ، والصوابُ ما قلتُهُ لكَ.
٤٠ - ومنه قولُهُ، ﷺ: (المُعْوَلُ عليه يُعَذَّبُ ببكاء أهلِهِ). ساكنة العين خفيفة الواو، من أَعْوَلَ يُعْوِلُ: إذا رفعَ صوتَهُ بالبكاءِ. والعامَّةُ تَرْويه: المُعَوَّلُ عليه، بالتشديدِ على الواو وليسَ (١١ ب) بالجَيِّدِ. إنّما المُعَوَّلُ من التّعْويل، بمعنى الاعتمادِ. يُقالُ: ما على فُلانٍ مُعَوَّل، أي مَحْمل. وقالَ بعضهُم: عوَّلَ بمعنى أَعْوَلَ.
1 / 37
٤١ - وقولُ عُمَر، ﵁: (لا ينكحَنَّ أَحَدُكُم إلاّ لُمَتَهُ من النساءِ). أي مثله في السِّنِّ. اللُمَة خفيفة. ومن الرواةِ مَنْ يُثَقِّله، وهو خَطأٌ. قالَ الشاعرُ: فَدَعْ ذِكْرَ اللُّماتِ فقد تَفَانَوْا ونَفْسَكَ فابكهِا قَبْلَ المَمَاتِ فأمَّا لِمَةُ الشّعَرِ فمكسورةُ اللام مُثَقّلُة الميمِ.
٤٢ - وأمَّا قولُهُ: (إنّ للمَلَكِ لَمّةً وللشيّطانِ لَمّة). فإنَّها مفتوحةُ اللامِ مُثَقّلُة الميمِ.
٤٣ - وقولُهُ: (إنَّ اللّبنَ يُشْبَهُ عليه). قد يُثَقِّلُهُ الرُّواةُ وهو مُخَفّفٌ. يريدُ أنَّ الطفلَ الرضيعَ رُبَّما نزعَ به الشّبَه إلى الظِّئرِ.
٤٤ - ومما يُثَقِّلونَه من الأسماءِ، وهي خفيفةٌ: سَنَةُ الحُدَيْبِيَة، وعُمْرَهُ الجِعْرانَةِ.
٤٥ - (١٢ أ) وقولُهُ في الحوضِ: (ما بَيْنَ بُصْرى وعَمَان) مفتوحةَ العينِ خفيفة الميمِ. وقالَ بَعْضُهُم: مشدَّدة الميم.
1 / 38