وفي مثل هذه الفلسفة العنصرية العبودية أصبح للمرأة صورتان لا ثالث لهما، الجسد الآثم بلا عقل مثل حواء الشيطانية، أو الروح الطاهرة بلا جنس مثل مريم العذراء الملائكية.
لقد أصبحت «مريم العذراء» هي المرأة المثلى في عصرنا الحديث؛ فهي امرأة تحمل وتلد دون أن يلمسها رجل ... ويتخذها كثير من الناس رمزا للطهارة والعفة، لكنها في الحقيقة ترمز إلى القوة الخارقة للطبيعة؛ فهي قادرة على الإنجاب دون حاجة إلى رجل، وكأنما المرأة قادرة على إخصاب نفسها بنفسها، وهي قدرة خلاقة مثل قدرة الآلهة تكسر بها القيود المفروضة حولها.
وربما بسبب هذه القدرة الخلاقة لا تزال مريم العذراء حتى يومنا هذا تتراءى لكثير من الناس، وما زال طيفها حتى شهر أبريل 1986 يطل على منارات كنيسة دميانة في شبرا بالقاهرة، وآلاف الناس يتجمعون ينشدون لديها القدرة الخارقة على إنقاذهم من مشاكلهم وأمراضهم المستعصية.
وحسب منطق الدين المسيحي، فإن المسيح هو الذي كان يملك القدرة الإلهية على شفاء الأمراض المستعصية، وكان من الطبيعي أن يتراءى طيف «المسيح» للناس فوق منارات الكنائس، لكن هذا لا يحدث أبدا، ولا يتراءى للناس في أعماقهم. يؤمنون شعوريا أو لا شعوريا بأن المرأة تملك القدرة الإلهية أكثر من الرجل؟!
ولا تزال «مريم العذراء» مثل «إيزيس» مثل «حواء» شخصية تبحث عن المؤلف أو المؤلفة التي يمكن أن تكشف عن جوانب شخصيتها المتعددة التي طمسها مؤرخو العبودية وكتابها .
وقد قرأت مسرحية توفيق الحكيم «إيزيس» المنشورة (مكتبة الآداب 1976)، وشاهدت المسرحية من إخراج كرم مطاوع (عام 1986)، وفي كلتا الحالتين (القراءة والمشاهدة) لم أعثر على إيزيس التي قرأت عنها في التاريخ.
ومن المفروض أن تكون رؤية الفنان للشخصية التاريخية أكثر عمقا وأوسع أفقا من رؤية المؤرخ، لكن فلسفة توفيق الحكيم الأبوية والتي لا مكان فيها للمرأة إلا كظل لزوجها لم تساعده على رؤية الجوانب المتعددة في شخصية إيزيس.
ويشبه توفيق الحكيم في هذه الحالة الكاتب المسرحي السويسري فريدريك دورنيمات، الذي حاول أيضا أن يعيد قراءة الأساطير القديمة بعقل متحرر من الفلسفة العبودية الطبقية، ونجح في ذلك إلى حد كبير، لكنه عجز كتوفيق الحكيم عن التحرر من الفلسفة الأبوية التي لا تزال تؤمن بسمو عقل الرجل وأخلاقه ومبادئه.
وأذكر بهذا الصدد مسرحية «زيارة السيدة العجوز»، وهي من أهم أعمال دورنيمات وأكثرها تحررا من الفكر الطبقي، لكن رؤيته للسيدة «كلارا» ظلت محدودة في حدود فهمه لحواء، وعجز عن أن يرى جوانب شخصيتها المتعددة، ونسي خطيئة الرجال في القصة وعلى رأسهم «ألفريد» (آدم البريء)، وتصور أن خطيئة «كلارا» هي أصل البلاء مثل خطيئة «حواء»، مع أن المسرحية في بدايتها تثبت أن الذي بدأ الإثم والاعتداء هو الرجل.
2
Unknown page