والاعتبار في اللغة تمثيل الشيء بالشيء، وإِجراء حكمه بحكمه، ولذلك يقال: عَبَّرت الدنانير والدراهم أى: قايستها بمقاديرها من الأوزان، ويقال عن الْمُفَسِّر للرؤيا، مُعَبَّر، وعَبَرْت الرؤيا أى: حكمت لها بحكم ما يماثلها، وقستها بما يُشاكلها، وعبرت عن كلام فلان إِنما جئت بألفاظ تطابق معانيه، وتماثلها، ويقاس بها دليل ثان.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: الآية ٣٨].
ونحن نجد أحكامًا كثيرة ليس لها ذكر في القرآن، ولا في سنة رسول اللَّه ﷺ.
مثل رجل له دينار وَقعت في مَحْبَرة لغيره، فلم يستطيع إِخراجه ومثل ثوب أبيض وقع لرجل في قِدْر لصَبَّاغ فكمل صَبْغُهُ، وحسن، وغير ذلك، فلا يجوز أن يراد بالآية نص على حكم حادثة القرآن، وإنما أراد به نصًّا فيه على بعض الأحكام، وأحال على سائر الأدلة فيه، فكان ذلك بمنزلة أن ينص في القرآن على جميعها.
فمن الأدلة التي أحال على الأحكام بها القياس، لأنَّا نجد أحكامًا أكثر لا طريق إلى إثباتها إلا بالقياس والرأي كالأحكام التي ذكرناها وما شاكلها، ومما يدلّ على ذلك من السُّنَّة قوله ﵇ لعمر حين سأله عن القُبْلَةَ للصَّائم: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمضمضت أَكَانَ عَلَيْكَ من جِناح؟ قال: لا ففيم إذًا؟ " (^١).
وقوله ﵇ للخثعميَّة: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكِ دَيْنُ أَكُنْتِ تَقْضِيهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قال: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضى" (^٢).
وقوله أَيضًا للذي أنكر لون ابْنِهِ: "هَلْ لَكَ من إِبَلٍ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْر قال: هَلْ فِيهَا من أَورْقَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ: عِرْقٌ نَزَعَهُ قَالَ: فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ" (^٣).
_________
(^١) أخرجه أبو داود ٢/ ٣١١، وأخرجه ابن حبان ٥/ ٢٢٣، وأخرجه الحاكم في المستدرك ١/ ٤٣١، والبيهقي في السنن الكبرى ٤/ ٢١٨، وأَحمد في المسند ١/ ٢١ و٥٢.
(^٢) أخرجه أحمد في المسند ١/ ٢٤٠، والنسائي ٥/ ١١٨، وابن عبد البر في التمهيد ١/ ٣٩٠، والطبراني في الكبير ١١/ ١٤٩.
(^٣) أخرجه البخاري في الصحيح ١٣/ ٢٩٦، ومسلم في الصحيح ٢/ ١١٣٧.
1 / 77