والدليل على ذلك أن حُجَّة الإِجماع لا تخلو بأن تثبت بالإجماع أو بانقراض العصر أو بهما، ولا يجوز أنْ تثبت بانقراض العصر، لأنه ليس بقول ولا حجة، ولأن ذلك يوجب أن يكون الاختلاف حجة مع انقراض العصر.
ولا يجوز أن يكون انقراض العصر والاتفاق جميعًا حجة، لأن كل واحد منهما بانفراده إِذا لم يكن حُجَّة، فبإضافته إِلى الآخر لا يصير حُجَّة، فلم يبق إِلا أن يكون الاتفاق حُجَّة، وذلك موجود مع بقاء العصر.
فَصْلٌ
إجماع أهل كل عصر حُجَّة، هذا قول جماعة الفقهاء غير دَاوُدَ بْنِ عَليّ الأصْبَهَانِيِّ، فإنَّه قال: إِجماع عصر الصحابة حجة دون إِجماع المُؤْمنين في سائر الأعصار.
ودليلنا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ [النساء: الآية ١١٥].
فإِذا ثبت أن غير الصحابة يشارك الصحابة في هذا الاسم، وجب أن يثبت لهم هذا الحكم إن يدل دليل على اخْتِصَاصِ الصحابة.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِجْمَاع أَهْلِ المدينة، فقد أطلق أصحابنا هذا اللفظ، وإنما عوّل مالك ﵀ ومحققو أصحابه على الاحتجاج بذلك فيما طريقه النَّقل كمسألة الأذان، والصاع، وترك الجهر بسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم في الفريضة، وغير ذَلِكَ من المَسَائِل التي طريقها النقل، واتصل العمل بها في المدينة على وجه لَا يخفي مثله، ونقل نقلًا متواترًا، وإنما خُصَّت المدينة بهذه الحجة دون غيرها من (سائر) البلاد، لأنها كانت موضع النُّبُوَّةِ، ومستقر الخلافة والصحابة بعده ﷺ ولو تهيأ مثل ذلك في سائر البلاد لَكَان حكمها كذلك أَيضًا.
فَصْلٌ
وَإِذا قال الصحابي قولًا وحَكَمَ بِحُكْم فظهر ذلك، وانتشر انتشارًا لا يخفي مثله ولم يعلم له مخالف، ولا سمع له منكر، فإنه إِجْمَاع وحجة قاطعة، وبه قال جمهور أصحابنا وأصحاب أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيّ.
وقال القَاضِي أبُو بَكْرٍ: لا يكون إِجْمَاعًا حتى ينقل قول كل واحد من الصحابة في ذلك كلهم وبه قال دَاوُدُ.
1 / 73