والثاني: المسائل النفيية، كالكلام في أنه ليس بخالق لأفعال العباد، ولا يثيب أحدا بغير عمل منه، ولا يعاقبه بغير ذنب منه، ولا يريد المعاصي ولا يقضي بها، ولا يرضى بها ولا يكلف مالا يطاق ومالا يعلم، وهذه كلها داخلة في أنه لا يفعل القبيح، فعرفت صحة ما ذكر من كونها أم مسائل العدل، وإنما سائر مسائله تفصيل لها وعائدة إليها.
نعم: وقد وافقت المجبرة في المنع من إطلاق القول بأن الله تعالى ظالم وجائر وفاعل للقبيح، وأثبتوا المعنى فأضافوا إليه كل قبيح، وجعلوا يحتالوا للمنع من إطلاق العبارة بمالا محصول له ولا طائل فيه.
(والدليل) لنا (على ذلك: أنه تعالى عالم بقبح القبيح وغني عن فعله وعالم باستغنائه عنه، وكل من كان بهذه الأوصاف فهو لا يفعل القبيح ولا يختاره ولا يرضاه).
أما كونه تعالى عالما بقبح القبيح وغنيا عنه، وعالما باستغنائه عنه فقد تقدم في مسألة غني وعالم أنه يستحيل عليه الجهل والحاجة.
وأما أنه لا علة في حق الشاهد لفعل القبيح إلا اجتماع هذه الأوصاف؛ فلأن العلم بذلك يدور مع العلم باجتماعها ثبوتا وانتفاء، ولو كان لمؤثر غيرها لجاز أن يفعل أحدنا القبيح مع اجتماعها أو يستمر الحال في أنه لا يفعله مع زوالها أو بعضها وخلافه معلوم، ألا ترى أن الظلمة لا يغتصبون الأموال إلا لاعتقادهم أنهم محتاجون إليها أو لجهلهم بأن ذلك ظلم، إما بأن يعتقدوا بأن المغصوب عليه يستحق بأن يغصب عليه، أو أنهم يدفعون بذلك ضررا عن الرعية ويدخرونه لما ينوب الجميع، يزيد ذلك وضوحا أن العاقل لو خير بين أن يكذب ويأخذ درهما أو يصدق ويأخذ درهما مثله فإنه يختار الصدق لا محالة.
فإن قيل: إنه لا يختار الكذب لاستحقاق الذم عليه والعقوبة.
قلنا: نفرض الكلام في كافر دنيء لا يتضرر بالذم ولا يعلم استحقاق العقاب، فثبت أنه لا علة لكونه لا يفعله إلا اجتماع هذه الأوصاف، (فثبت) بهذه الطريق أن الله (عدل حكيم) كما ذكر.
Page 57