سدوله(1)، وغارت نجومه، وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم(2)، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا دنية أبي تعرضت؟ أم بي تشوقت؟ هيهات هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد بنتك(3) ثلاثا لا رجعة لي فيها، فعمرك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، وعظم المورد.
فوكفت دموع معاوية على لحيته، فنشفها بكمه، واختنق القوم بالبكاء، ثم قال: كان والله أبو الحسن كذلك، فكيف صبرك عنه يا ضرار؟ قال: صبر من ذبح واحدها(4) على صدرها، فهي لا ترقئ عبرتها، ولا تسكن حرارتها، ثم قام فخرج وهو باك، فقال معاوية: أما انكم لو فقدتموني لما كان فيكم من يثني علي مثل هذا الثناء، فقال بعض من كان حاضرا: الصاحب على قدر صاحبه(5).
وروي أنه (عليه السلام) لما كان يفرغ من الجهاد يتفرغ لتعليم الناس والقضاء بينهم، فإذا تفرغ من ذلك اشتغل في حائط له يعمل فيه بيده، وهو مع ذلك ذاكرا لله تعالى جل جلاله(6).
وروى الحكم بن مروان، عن جبير بن حبيب قال: نزل بعمر بن الخطاب نازلة قام لها وقعد وترنح وتقطر، ثم قال: معاشر المهاجرين ما عندكم فيها؟ قالوا: يا عمر أنت المفزع والمهرع، فغضب ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} (7) أما والله أنا وإياكم لنعرف أين نجدتها والخبير بها.
Page 25