Irshad al-'Ibad ila Ma'ani Lum'at al-I'tiqad

Abd al-Rahman bin Nasir al-Barrak d. Unknown

Irshad al-'Ibad ila Ma'ani Lum'at al-I'tiqad

إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد

Publisher

دار التدمرية

Edition Number

الأولى

Publication Year

١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢

Genres

إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد لفضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك حفظه الله إعداد عبدالله بن محمد السحيم دار التدمرية

1 / 3

بسم الله الرحمن الرحيم

1 / 4

مقدمة المعتني الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد؛ فإن الله ﷿ خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: ٥٦]، ولأجل ذلك أرسل الله الرسل، وشرع الملل، وفطر الخلق على هذا الأصل العظيم، ثم إن كثيرًا من الخلق اجتالتهم الشياطين، فنكست فطرهم، وقلبت أديانهم، ونقلتهم من نور الحنيفية السمحة إلى ظلام الضلالة والبدعة، وبقي صفوة من الخلق على جادة الملة السوية، والسنة المحمدية، فدارت رحى النزاع بين من وفقهم الله وهداهم من أهل السنة والجماعة؛ وبين طوائف البدعة من أهل الكلام والضلال، فكان علماء السنة لا يألون جهدا في بيان الحق للخلق، والدفاع عنه، وتنقيته من شوائب الضلالة، وتنوعت في ذلك طرائقهم، وكان من أشهرها: تلك المصنفات العظيمة التي ملئت حكمة وعلما، وكانوا ما بين

1 / 5

مقل ومستكثر، ومطيل وموجز، وناظم وناثر، ومن تلك المتون المهمة التي غدت نبراسا في السنة والاعتقاد: المتن الموسوم بـ (لمعة الاعتقاد)، لمؤلفه الإمام الجهبذ شيخ الإسلام؛ أبي محمد، موفق الدين، عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي المولود: بجماعيل؛ سنة إحدى وأربعين وخمس مائة، وانتقل إلى رحمة ربه الكريم: يوم الفطر؛ سنة عشرين وست مائة [٥٤١ - ٦٢٠]، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ونفعنا بعلومه. وقد كان لهذا المتن حظوة عند كثير من العلماء المعاصرين، إذ توافرت شروحهم، وتنوعت تحقيقاتهم على هذا السفر الجليل، وكان من هؤلاء الذين قاموا بشرحه، وبيان مسائله، شيخنا العلامة: أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر البراك، حفظه الله وأبقاه، وأطال عمره في تقواه، وبلغه مناه، حيث شرحه في مسجده العامر (مسجد الخليفي) في حي الفاروق بمدينة الرياض، في قرابة الثلاثين مجلسا. ثم إن شيخنا الدكتور محمد بن عبد الله الهبدان وفقه الله عهد إلي بهذا الشرح، لخدمته والقيام بإخراجه، وذلك بالتنسيق مع الشيخ الفاضل: عبد الرحمن بن صالح السديس حفظه الله، فاستعنت بالله سبحانه، وكان عملي في هذا الشرح كالتالي: ١ - تفريغ الشرح الصوتي. ٢ - ترتيب الشرح وتصحيحه، وتهذيبه وتنسيقه، وتهيئة عباراته للطباعة.

1 / 6

٣ - عزو الآيات إلى أماكنها من المصحف. ٤ - تخريج الأحاديث تخريجا مختصرا، فإن كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بموضع منه، وإن كان في غيرهما اقتصرت -في الغالب- على الكتب الستة. ٥ - اعتمدت في كتابة المتن على ما كان يقرؤه القارئ على فضيلة الشيخ الشارح عبد الرحمن البراك حفظه الله، ورجعت إلى كثير من النسخ المطبوعة، وأفدت منها في مواضع. ٦ - أضفت بعض العناوين في بداية المقاطع المشروحة، ووضعتها في إطارات، وقد استفدت من بعض النسخ المطبوعة كذلك. ٧ - قرأت الشرح على فضيلة شيخنا عبد الرحمن البراك حفظه الله، ليثبت ما يراه مناسبا، أو يستدرك عليه بما يراه من تعديل أو زيادة أو نقص. وكانت النسخة الصوتية التي استلمتها فيها نقص لبعض الدروس، فقرأت المتن على الشيخ كاملا، وأتم منه ما نقص. ٨ - أثبت قائمة بالمراجع التي عزوت إليها. ٩ - وضعت فهرسا لموضوعات الكتاب. هذا؛ والله أسأل أن يهجزي شيخنا خير الجزاء، على ما كان من به وتفضل من بذل الأوقات الثمينة لنشر العلم وبثه بين طالبيه، وإعطاء الفرصة لخدمة هذا الشرح وقراءته عليه، جعله الله في ميزان حسناته، وجعله من العلم النافع الخالص الذي ينتفع به

1 / 7

بعده، كما أثني بالشكر لكل من كان له فضل ومساهمة في إخراج الشرح وظهوره، داعيا الله تعالى لهم بجزيل الأجر والمثوبة. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين. عبد الله بن محمد السحيم الرياض

1 / 8

خطبة الكتاب قال الشيخ الإمام العالم الأوحد أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي الصالحي ﵀: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزَّه عن الصاحبة والأولاد، ونَفُذَ حكمه في جميع العباد، لا تُمَثِّلُه العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥]، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:٦ - ٧]، أحاط بكل شيء علمًا، وقهر كل مخلوق عزة وحكمًا، ووسع كل شيء رحمة وعلمًا، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:١١٠].

1 / 9

الشرح قوله: «الحمد لله»: استهل المؤلف -رحمه الله تعالى- هذه الرسالة الحسنة المعروفة بـ «اللمعة في الاعتقاد»، بالحمد لله تعالى، وهو أهل الثناء والحمد، والُّلمعة في اللغة: هي القدر الذي فيه بُلغة (١). قوله: «المحمود بكل لسان»: يعني محمود بجميع اللغات، وهو -سبحانه- يحمده أهل السماوات وأهل الأرض ويسبحونه، فتسبحه الملائكة، وتسبحه العوالم كلها، بلسان المقال، وبلسان الحال. قوله: «المعبود في كل زمان»: أي: المستحق للعبادة في جميع الأزمنة، وهو معبود بالفعل؛ فإن كفر به الجن والإنس، فعنده ملائكة تعبده، ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت:٣٨]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف:٢٠٦]، وقال ﷾: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء:١٩]، وغيرها من الآيات. قوله: «الذي لا يخلو من علمه مكان»: فعلمه محيط بكل شيء، بالسماوات والأرض، وما فيهما وما بينهما، ﴿وَهُوَ

(١) قال الزبيدي في تاج العروس (٥/ ٥٠٤): «ومن المجاز: اللمعة: البلغة من العيش يُكتفى به».

1 / 10

عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الحديد:٦]، والآيات التي تفصل ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:٥٩]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة:٧]، وقال تعالى: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [فاطر:١١]، وقال على لسان لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَاتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان:١٦]. قوله: «ولا يشغله شأن عن شأن»: فهو سبحانه يدبر أمر هذه العوالم، ولا يشغله شأن عن شأن، يخفض ويرفع، يعز ويذل، ويعطي ويمنع، ويهدي ويضل، ويميت ويحيي، ويتصرف في هذه العوالم، ولا يشغله شأن عن شأن. يسمع دعاء الداعين، ولا تختلط عليه المسائل مع كثرة اللغات، وتفنن السائلين في طلب الحاجات، فلا يشغله سماعه لهذا عن سماعه للآخر، يسمع كلام أولياءه، وكلام أعداءه، ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه:٤٦]، فيسمع كلام هؤلاء وهؤلاء، وسمعه واسع لجميع الأصوات.

1 / 11

قوله: «جل عن الأشباه والأنداد»: جل: يعني: عظم وارتفع ﷾، وهي كلمه تنزيه، مثل كلمة: (تعالى)، وكلمة: (تبارك). فهو منزه عن الأشباه والأنداد، فليس له شبيه ولا ند، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٢]، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة:١٦٥]، وقال سبحانه: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥]، وقال جل وعلا: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤]. جل عن الأشباه والأنداد، فلا شبيه له، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، فلا كفؤ له، ولا ند له، ولا شبيه له. قوله: «وتنزه عن الصاحبة والأولاد»: تنزّه وجلّ كلمتان متقاربتان في المعنى. وقال الله تعالى عن الجن: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ [الجن:٣]، وقال ﷾: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ﴾ [الأنعام:١٠١]، وقال جل وعلا: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص:٣]، وقال تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ﴾ [المؤمنون:٩١]، والآيات الدالة على تنزيهه سبحانه كثيرة. وقد رد الله تعالى على اليهود والنصارى والمشركين في نسبة الولد إليه، ووصف ما قالوه بأنه إفك، وأن إثبات ذلك مخالف للعقل والشرع، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ

1 / 12

يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة:٣٠]، وقال سبحانه: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَاتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٥٧)﴾ [الصافات]. قوله: «ونَفُذَ حكمه في جميع العباد»: فحكمه سبحانه نافذ، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضاءه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والحكم المضاف إليه قسمان: - الحكم الشرعي، وهو أمره ونهيه، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله. - الحكم الكوني، وهذا القسم هو النافذ الماضي، كما جاء في الحديث من دعاء النبي ﷺ: «ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك» (١). قوله: «لا تُمَثِّلُه العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير»: وهاتان الجملتان معناهما متقارب، فالقلوب بمعنى العقول، والتصوير بمعنى التصور.

(١) رواه أحمد في مسنده (٣٧١٢)، وابن حبان في صحيحه (٣/ ٢٥٣ - ح ٩٧٢)، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (١/ ٣٨٧ - ح ١٩٩): «وجملة القول: أن الحديث صحيح من رواية ابن مسعود وحده، فكيف إذا انضم إليه حديث أبي موسى ﵄. وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم».

1 / 13

فلا يمكن للعقول أن تصفه، ولا أن تكيِّفَه بالتفكير، بل لا يجوز التفكر في ذاته، ولا في كيفية صفاته، لأن الكيفية محجوبة، ولا سبيل إلى معرفة كيفية ذاته ولا صفاته، فلا يجوز التفكير فيها، وقد جاء في الأثر عن ابن عباس ﵁: «تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذات الله» (١)، تفكروا في مخلوقات الله: من آياته الكونية، لتهتدوا بها إلى معرفة الله، ولكن يجوز التفكير في كيفية صفاته، من أنه ﷾ موصوف بالعلم والقدرة ونحوها، فنتفكر في كمال قدرته، والتفكر في المخلوقات: يتضمن التفكر في صفاته، وفي معانيها. والتفكر في ذات الله أو صفاته: لن يوصل إلى شيء، لأن العقول لا تبلغ ولا تصل إلى معرفة كيفية ذاته، أو كيفية صفاته. قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]: هذه الآية من كتاب الله تعالى تضمنت الدلالة على الحق، ورد الباطل، ففي قوله: ﴿ليس كمثله شيء﴾ رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: ﴿وهو السميع البصير﴾ رد للإلحاد والتعطيل، ففيها رد على المشبهة، وعلى المعطلة. وفيها الدلالة على المذهب الحق، وهو: إثبات الصفات لله ﷾ على ما يليق به، إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيهًا

(١) رواه أبو الشيخ في كتابه العظمة (١/ ٢١٠) مرفوعًا وموقوفًا، والبيهقي في الأسماء والصفات (٢/ ٤٦) وأطال محققه في تخريجه وضعفه، قال ابن حجر في الفتح (١٣/ ٣٩٤): «موقوف وسنده جيد»، وراجع السلسلة الصحيحة للألباني (٤/ ٣٩٥ - ح ١٧٨٨).

1 / 14

بلا تعطيل، وهذه الآية -وما في معناها- هي محور ومرتكز مذهب أهل السنة والجماعة، فمذهبهم يرتكز على: - إثبات الصفات، - ونفي التمثيل، - ونفي العلم بالكيفية. قوله: «له الأسماء الحسنى»: كما قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [طه:٨]، ويقول سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف:١٨٠]، وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء:١١٠]. قوله: «والصفات العلى»: وهو الموصوف بالصفات العلى الكاملة، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [النحل:٦٠]. ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥]: هذه الآية دلت على أنه تعالى مستوٍ على عرشه، والاستواء معناه: العلو والارتفاع والاستقرار (١)، فهي من أدلة الاستواء، وأدلة العلو، وجاء ذكر الاستواء في سبعة مواضع من القرآن (٢)، وأهل السنة

(١) نظمها ابن القيم في نونيته [بيت رقم: ١٣٥٣] بقوله: فلهم عبارات عليها أربع * قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ار * تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع * ........................ . (٢) سردها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الوسطية (ص ١٢٣): حيث قال: «في سورة الأعراف قوله: ﴿إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش﴾، وقال في سورة يونس ﵇: ﴿إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش﴾، وقال في سورة الرعد: ﴿الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش﴾، وقال في سورة طه: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾، وقال في سورة الفرقان: ﴿ثم استوى على العرش الرحمن﴾، وقال في سورة آلم السجدة: ﴿الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش﴾، وقال في سورة الحديد: ﴿هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش﴾ ا. هـ.

1 / 15

يثبتون ذلك، ويؤمنون بأنه تعالى فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، خلافًا للمعطلة من الجهمية ومن تبعهم. قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:٦ - ٧]: فالله ﷾ يعلم السر، وما هو أخفى السر، فعلمه محيط بما كان، وما يكون، وما يُسِرُّ العباد، وما يعلنون، والآيات الدالة على ذلك في كتاب الله كثيرة. قوله: «أحاط بكل شيء علمًا»: ولا يحيط به العباد علمًا، كما قال الله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:١١٠]، وقال سبحانه: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق:١٢]. قوله: «وقهر كل مخلوق عزة وحكمًا»: كما قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام:١٨]، فهو القاهر الذي لا شيء يعجزه، ولا غالب له، له العزة التامة، والقوة الكاملة.

1 / 16

قوله: «ووسع كل شيء رحمة وعلمًا»: كما جاء في دعاء الملائكة: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر:٧]، والله جل وعلا يقول: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:١٥٦]. وقرَن بين اسمه (الواسع) وبين اسمه (العليم): كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:١١٥]. قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:١١٠]: ضمَّن ﵀ خطبة الكتاب بعض الآيات؛ ومنها هذه الآية الدالة على اتصافه بصفة العلم، فعلمه محيط بالعباد، من قبل، ومن بعد، ويعلم ما يُسِرُّون، وما يعلنون. وأما العباد فلا يحيطون به علمًا، وإن كانوا يعلمونه، ويؤمنون به، ويعلمون صفاته، لكن لا يبلغ علمهم أن يحيطوا به علمًا، فعلمهم به لابد أن يكون محدودًا. الواجب فيما ثبت من الأسماء والصفات موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم، وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى ﵇ من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه، والتمثيل، وما أشكل من ذلك؛ وجب إثباته لفظًا، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعًا لطريق الراسخين في

1 / 17

العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله ﷾: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران:٧]. الشرح قوله: «موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم»: هذا هو الواجب في باب الأسماء والصفات، فهو سبحانه مستحق لصفات كماله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله ﷺ، فهو سبحانه مستحق لهذه الأوصاف على ما يليق بجلاله، وأهل السنة يؤمنون بهذا الأصل؛ فيصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا إلحاد في أسماءه ولا صفاته وآياته. قوله: «وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى ﵇ من صفات الرحمن وجب الإيمان به»: وهذا كلام عظيم جامع من المصنف ﵀، فكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفاته تعالى؛ مما أخبر به عن نفسه في كتابه، أو أخبر عنه نبيه ﷺ وهو أعلم الخلق به- وجب الإيمان به، وهذا هو الواجب في باب الأسماء والصفات، وهذا مقتضى الإيمان بالله، وكتابه، ورسوله. قوله: «وتلقيه بالتسليم والقبول»: وهذا من الواجب -أيضًا- في باب الأسماء والصفات، وهو تلقيها بالتسليم والقبول، على مراد الله ورسوله، والإيمان به، وبأنه الحق، دون معارضة، ولا حرج، ولا توقف، ولا تردد.

1 / 18

قوله: «وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه، والتمثيل»: فيجب على المسلم ترك هذه المعاني الباطلة، ونبه المؤلف بهذه الجملة إلى رد المذاهب الباطلة، وأنه يجب الإيمان، والتسليم، والتلقي لها بالقبول، وترك التعرض لها بشيء من هذه الأباطيل. - والرد: هو التكذيب، كما فعلت الجهمية. - والتأويل: هو في حقيقته تحريف. قوله: «وما أشكل من ذلك»: مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ. قوله: «وجب إثباته لفظًا»: وهذا في الحقيقة يوهم أن المؤلف ﵀ يذهب إلى القول بالتفويض في بعض نصوص الصفات، وهذه الجملة صحيحة؛ إذا كانت بمعنى: أن ما أشكل وما خفي معناه يجب الإيمان به على ما أراد الله، وإثبات لفظه، وتفويض علمه إلى الله، فما اشتبه على العباد علمه: فعليهم أن يفوضوا علمه إلى الله، ويقولوا: الله أعلم، كما كان الصحابة يفعلون، وكما أمر الله بذلك في مواطن من كتابه، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ [الكهف:٢٢]، ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الكهف:٢٦]، فكل ما أشكل من المسائل الاعتقادية، أو الأحكام الشرعية وجب رده إلى الله، ونقول: الله أعلم، فإذا سئل المرء عن حكم أو علم لا يعلمه فإنه يقول: الله أعلم. ولا يلزم من هذا: كونها مجهولة المعنى مطلقًا، بحيث

1 / 19

لا يفهمها أحد، ولم يفهمها النبي ﷺ ولا الصحابة، بل القرآن كله قد أمر الله بتدبره، والله يفتح على من يشاء. قوله: «وترك التعرض لمعناه»: أي بالتفسير والتأويلات التي لا دليل عليها. قوله: «ونرد علمه إلى قائله»: وهو الله ﷾، أو رسوله ﷺ. قوله: «ونجعل عهدته على ناقله»: أي من بلَّغه، فهو المسؤول عما نقل من العلم. قوله: «اتباعًا لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله ﷾: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران:٧]»: هذا إنما يكون في الآيات المشتبهات، وقد ذكر الله ﷾ طريق الزائغين، وطريق الراسخين في العلم، فقال سبحانه في موقف الزائغين: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران:٧]، فيتبعون المتشابه والمشكل، ويعرضون عن الكلام الواضح المحكم، لأجل: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران:٧]، وإضلال الناس وتشكيكهم، ﴿وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ﴾ [آل عمران:٧]، طلبًا لتأويله، وهو الذي لا يعلمه إلا الله، ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران:٧]. وأما ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران:٧] أهل العلم والدين والإيمان، فإنهم: ﴿يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران:٧]، حتى العامي الموفق في دينه -أيضًا- يثبت على هذا الأصل، فليس بشرط أن يكون علامة، وأن يكون عنده علم، لكنه لا يدخل فيما ليس له

1 / 20

فيه علم، ويقول: الله أعلم، ويقول: آمنا بالله، ولا يخوض في المتشابه الذي لا يعلمه. ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:٧] فالآيات المحكمات والمتشابهات كله من عند الله تعالى. ثم ذكر ﷾ أن من دعائهم: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران:٨]، فهم على النقيض من أهل الزيغ، فهم يدعون الله أن يعصم قلوبهم من الزيغ. ذم التأويل وأهله وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران:٧]، فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمَّلُوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه، بقوله سبحانه: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران:٧]. الشرح قوله: «وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران:٧]»: فالله ﷾ قد ذم أهل الزيغ، لطلبهم ما لا سبيل إلى معرفته، وبقصدهم الضلال، وإضلال الناس.

1 / 21

قوله: «فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمَّلُوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه، بقوله سبحانه: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران:٧]»: فهم إذًا طلبوا المستحيل، حيث حجبه سبحانه عنهم، ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران:٧]. وهذا على قراءة الجمهور، جمهور الأمة سلفًا وخلفًا، حيث يقفون على لفظ الجلالة، فهذا التأويل لا يعلمه أحد إلا الله، فهي من حقائق الغيب، فما أخبر الله به عن نفسه، وما أخبر به عن اليوم الآخر، لا يعلم حقائقه إلا الله. ثم نقل المؤلف ﵀ نقلًا عن الإمام أحمد بن حنبل ﵀ يتضمن منهج أهل السنة والجماعة، حيث يقول ﵀: نقولات عن أئمة السلف في منهج الإيمان بالصفات وتقرير مذهبهم [أولًا]: قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ﵁ في قول النبي ﷺ: «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا»، وَ«إن الله يُرى في القيامة»، وما أشبه هذه الأحاديث: (نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئًا منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله ﷺ، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حدٍ ولا غاية، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، ونقول كما قال، ونصفه

1 / 22