الفصل الرابع
تحليل مصطلح فلسطرائيل
(1) مقدمة «خطر. منطقة عسكرية. أي شخص يتجاوز أو يلمس الجدار يعرض نفسه للخطر» عبارة مكتوبة على اللافتة أعلى السور. آخر ابتكارات الاحتلال، تلك البوابات الحديدية الصفراء؛ نقاط العبور المغلقة بالجدار الفاصل، الذي يعزل المزارعين في هذه المنطقة عن حقولهم. إنه تدبير «إنساني» سوف يستمر، حسبما قد يغامر المرء بالتخمين، لفترة قصيرة للغاية، وبموجبه تأتي شرطة الحدود على نحو دوري لفتح البوابة للمزارعين العالقين، في لفتة تدل على حسن النوايا من أكثر القوى العسكرية إنسانية وعطفا في العالم. (ليفي 2003)
إن هدف هذا الفصل هو بحث الكثير من الموضوعات التي عرضت حتى الآن في هذه «المقدمة القصيرة» في سياق واقعي أكثر ثباتا واستمرارية. وتحقيقا لهذا الغرض قد يبدو اختيار إسرائيل/فلسطين اختيارا أرعن، خاصة بسبب تقلب وتغير الموقف؛ فقد تكون الحقائق على الأرض مختلفة تماما وقت نشر هذا الكتاب. بالإضافة إلى ذلك، ونظرا لوجود القليل مما يقترب من الإجماع على كيفية تقييم هذه الحقائق، ولأن هذا الموقف محمل بالمشاعر والانفعالات على نحو بالغ، بالنسبة إلى الكثيرين، فإن مهمتي بالتأكيد معقدة. على الجانب الآخر، وكما كتب الجغرافي الإسرائيلي ديفيد نيومان مؤخرا:
قلما تجد مختبرات حياتية أفضل من إسرائيل/فلسطين لدراسة الجغرافيا السياسية وإجراء محاولات لحل الصراع. ويتطلب الأمر دراسة الإقليم والتغيرات الإقليمية على مستويات عديدة؛ بدءا من محاولات ترسيم الحدود القومية بين الدول، ووصولا إلى التحكم في ملكية الموارد (الأرض، المستوطنات، المياه) من خلال العزل السكاني لليهود والعرب في مستوطناتهم وأحيائهم الخالصة الأحادية العرق. وعلى نحو مهم، يبين هذا مدى أهمية بقايا البعد الإقليمي لفهم التنظيم السياسي للمكان، حتى في هذا العالم «الخالي من الحدود والأقلمة» وفي أصغر الأقاليم. (2002، 632)
وكما ذهبنا في الفصل الأول، فإن جزءا من الكيفية التي يفترض أن تعمل بها أفكار وممارسات الإقليمية، يكون من خلال عمليات التوضيح والتبسيط التواصلية. وقد أشرت هناك إلى أن المعرفة العلمية ينبغي بدلا من ذلك أن تفهم الإقليمية (تنظر داخلها) للكشف عن تعقيداتها وجوانبها الغامضة الخفية؛ أو بالأحرى التعقيدات والألغاز التي تساعدها الإقليمية على التخفي. إن آليات الإقليمية في أرض إسرائيل/فلسطين معقدة وغامضة بالتأكيد. وكما أشرنا من قبل، فالموضوع (والخبرات التي جمعت تحت اسم الموضوع) جدلي على نحو بالغ وعميق. من المنطقي أن نتساءل عما إذا كان مثل هذا الموقف يمكن تحليله دون تحيز عن بعد. أظن أن من الممكن الإجابة بنعم، مع الاعتراف بأنه ما من تحليل معفى من النقد؛ فمن خلال تعريف الموقع ب «إسرائيل/فلسطين» بدلا من «إسرائيل» أو «فلسطين»، «فلسطرائيل»، ونظرا لكونه اختيارا، من الممكن بالفعل انتقاده بوصفه المكان الخاطئ للبدء به. ثمة حقيقة واحدة مثبتة بشأن الموقف - وهذا أيضا يدعمه باعتباره موقفا ملائما لدراسة تطورات الإقليمية فيه - هي المآسي الإنسانية البالغة التي ارتبطت به ارتباطا محكما. هذه ليست قصة خالية من عناصر البؤس المزعجة بشأن «السلطة» على الصعيد التجريدي؛ فالعنف الذي تفرض وتقاوم به الإقليمية، والمعاناة التي تتولد، ملموسان. وعلى الأقل فإن عمليات الأقلمة وإعادة الأقلمة العنيفة ل «إسرائيل/فلسطين» - سواء تحققت من خلال التفجيرات الانتحارية في المقاهي أو البلدوزرات في معسكرات اللاجئين - تبرز أسباب أهمية الإقليم.
بالنظر إلى تعقيدات الحقائق ووجهات النظر المتعددة حول هذه الحقائق، وبالنظر إلى النطاق المحدود لهذه «المقدمة القصيرة»؛ سوف يكون ما هو قادم، بحكم الضرورة، مقتضبا وسطحيا إلى حد ما؛ فهذا ليس كتابا عن إسرائيل/فلسطين، بل كتاب عن الإقليم، وهدفي المحدود والمباشر هو تقديم توضيح أكثر استمرارية لبعض من الموضوعات الرئيسية التي التقيناها بالفعل، لا تقديم فهم شامل للموقف ككل. سوف أتتبع كيف تتجلى أشكال السلطة من خلال الإقليمية، وكيف تهيئ الإقليمية الكيفية التي تعاش بها الحياة. وسوف أركز على جوانب تكشف وتطور التعقيدات الإقليمية عبر الزمن، لا كآليات ليس لها وجود مادي، بل كظروف وتأثيرات لجهات فاعلة قائمة وثابتة تجعل من عوالم خبرتها عوالم ذات معنى. ولن يكون التركيز على الأقاليم كحاويات كتومة، ولكن كمكونات لمجموعات معقدة وانسيابية. وتقدم الأجزاء الأولى رسما تخطيطيا تقريبيا لأصل الإقليم بأسلوب لا يختلف عن أمثلة ساك التوضيحية الأكثر امتدادا. وفي هذا المقام أتطرق لعناصر أساسية من المجموعة وحلقات مهمة أو عمليات إعادة الأقلمة، وسوف يتبع هذا استعراض أكثر تفصيلا إلى حد ما - ولكن يظل عاما - للتحولات التي طرأت على عمليات حيازة الأرض وعلاقات الملكية كعناصر مهمة للمجموعة الأكبر. ومن الأمور المهمة هنا المشروعات والممارسات المرتبطة ب «تهويد» الإقليم داخل «الأرض الإسرائيلية»، وبعد عام 1967، داخل «الأراضي المحتلة». بعد ذلك أقدم استعراضا أكثر تزامنا لبعض من أهم مكونات ما أطلق عليه «منظومة السيطرة الإسرائيلية» (كيمرلينج 1989)، وما سوف أشير إليه بمنظومة السيطرة «الإقليمية» الإسرائيلية. وهذه آلية يتم من خلالها تداول السلطة - خاصة، ولكن ليس على نحو خالص، القوة المادية - وتوزيعها، ومعايشتها. ومن بين مكونات هذه المنظومة معسكرات اللاجئين، والمستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، وآليات التعبئة مثل نقاط التفتيش، وحظر التجوال، و«عمليات الإغلاق» المتدرجة. وأحدث إضافة إلى هذه المنظومة الإقليمية جدار عازل يتم بناؤه داخل الأراضي المحتلة لعزل (بعض) الإسرائيليين عن (غالبية) الفلسطينيين. وبعد عرض هذه العناصر سوف أناقش إقليمية إسرائيل/فلسطين بوضعهما المعاصر في إطار بعض من موضوعات وأفكار الكتاب الرئيسية.
والوسيلة التي أستخدمها لعرض هذا المخطط هي الاعتماد إلى حد كبير، إن لم يكن حصريا، على كلمات المؤرخين الإسرائيليين واليهود، والجغرافيين، والأنثروبولوجيين، وعلماء الاجتماع، والمعماريين، وعلماء القانون، والنشطاء في مجال حقوق الإنسان، والصحفيين الذين درسوا عناصر المنظومة الإقليمية. ولهذه الملاحظات والتقييمات أهمية خاصة؛ ليس فقط لأن هؤلاء بعض من الأشخاص الذين أنشئت هذه المنظومة وأبقي عليها نيابة عنهم وباسمهم، ولكن أيضا لأن هذه الأصوات توفر أدلة على وجود نقد داخلي للمشروع الإقليمي الإسرائيلي. بعبارة أخرى: يتطلب الأمر منا التمييز بين أولئك الإسرائيليين الذين يؤيدون نتائج المنظومة، وأولئك الذين يعارضون هذه النتائج ويدعمون طرقا أخرى لأقلمة السلطة في هذا الجزء من العالم؛ لذلك ينبغي أن تقرأ كلماتهم ليس فقط ككلمات خبراء ثقات، ولكن ككلمات مشاركين في مشروع لإعادة التخيل. فوصف أكثر استيفاء لمنظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية سيكون من شأنه إعطاء أهمية أكبر لتبريرات واضعيها والقائمين على الحفاظ عليها. وسوف تشير هذه التبريرات إلى حق الدولة الإسرائيلية، وحاجتها، وواجبها في حماية مواطنيها من فظائع العنف الموجه ضد إسرائيل. (وهنا قد يلاحظ أن التفجير العشوائي للمدنيين من قبل المجاهدين الفلسطينيين يتسبب في قتل العرب وإصابتهم بعاهات بسهولة، شأنهم شأن اليهود.) ولكن وصفا كهذا من الممكن أيضا أن يضم حججا بأن إجراءات العقاب الجماعي الوحشية تولد «أمنا» أقل وليس أكثر. وعلى أي حال، يتبع هذا وصف لعقدة إقليمية خلقت وأبقي عليها وتخضع للتنقيح لأغراض نزع ملكيات الشعب الفلسطيني، وعزله، وطرده، والتضييق عليه. (2) تطور السيادات
في القرن التاسع عشر، كما يزعم، لم يكن هناك وجود ل «إسرائيل» و«فلسطين»؛ على الأقل بحسب مفهوم المكانين الآن، وبالتأكيد لم يكن يوجد إسرائيليون ولا فلسطينيون، ولكن، كما يزعم، كان يوجد كل من إسرائيل وفلسطين لآلاف السنين. بالطبع كان يوجد في منتصف القرن التاسع عشر مئات الآلاف من الناس يعيشون ويعملون في المنطقة القريبة من الركن الجنوبي الشرقي للبحر المتوسط بين البحر ونهر الأردن، وكان معظم هؤلاء الناس مسلمين يتحدثون العربية، والبعض منهم يهودا، والبعض عربا مسيحيين. وكان أغلبهم فلاحين يعملون في زراعة الكفاف وتربية الماشية، وكان البعض من البدو (الرعاة الأعراب). كان الأغلب منهم يعيشون في قرى صغيرة، وعاش البعض في بلدات صغيرة مثل نابلس والخليل والقدس ويافا، وكانت البنيات الاجتماعية الواسعة النطاق تنظم بواسطة العشائر أو العائلات الممتدة، وكانت مقسمة إلى طبقات على نحو ملحوظ. في هذا العالم الحياتي كانت الإقليمية بعدا مهما من أبعاد الحياة الاجتماعية؛ فكانت القواعد المعقدة للدخول تنظم استخدام وحيازة الأرض، والحياة القروية، والحياة المنزلية، والممارسة الدينية. وسوف يوصف بعض من هذا بمزيد من التفصيل لاحقا في هذا الفصل.
خريطة 1: فلسطين تحت الحكم العثماني. (المصدر: كيمرلينج وميجدال 2003. مطبعة جامعة هارفرد؛ قسم فن الخرائط، الجامعة العبرية. مستخدمة بتصريح.)
Unknown page