تمهيد بقلم محرري السلسلة
شكر وتقدير
1 - الدخول إلى دائرة الإقليم
2 - الإقليم داخل الإطار المعرفي وخارجه
3 - الإقليمية البشرية وحدودها
4 - تحليل مصطلح فلسطرائيل
5 - استكشافات إضافية
المراجع
تمهيد بقلم محرري السلسلة
شكر وتقدير
Unknown page
1 - الدخول إلى دائرة الإقليم
2 - الإقليم داخل الإطار المعرفي وخارجه
3 - الإقليمية البشرية وحدودها
4 - تحليل مصطلح فلسطرائيل
5 - استكشافات إضافية
المراجع
الإقليم
الإقليم
مقدمة قصيرة
تأليف
Unknown page
ديفيد ديلاني
ترجمة
شيماء طه الريدي
مراجعة
هاني فتحي سليمان
تمهيد بقلم محرري السلسلة
سلسلة «مقدمات قصيرة لعلم الجغرافيا» هي مجموعة كتب متوافرة، من تأليف علماء بارزين، أعدت لتقديم أفكار جغرافية أساسية للطلاب وغيرهم من القراء المهتمين بالموضوع. تسعى السلسلة، التي تخرج عن إطار معالجة تقليدية لفرع معرفي، إلى توضيح المفاهيم الجغرافية والمكانية الرئيسية واستكشافها. تنقل هذه المقدمات الموجزة جانبا من الحيوية الفكرية، ووجهات النظر المتباينة، ومناقشات مهمة نشأت حول كل مفهوم. وتشجع القراء أيضا على التفكير بطرق جديدة وناقدة بشأن المفاهيم الجوهرية بالنسبة إلى دراسة الجغرافيا. وتؤدي السلسلة مهمة تربوية أساسية بتشجيع الطلاب على إدراك كيفية تطور المفاهيم والتحليلات التجريبية مجتمعة وفيما بينها، وسوف يطمئن المعلمون في غضون ذلك إلى أن الطلاب لديهم نقطة مرجعية مفاهيمية أساسية بإمكانهم إضافتها إلى أمثلتهم ونقاشهم. ويمنح الشكل القياسي الموجز للسلسلة المعلمين إمكانية دمج اثنين أو أكثر من هذه النصوص في فصل دراسي واحد، أو استخدام النص عبر الفصول الدراسية بنقطة تركيز فرعية مختلفة.
جيرالدين برات
نيكولاس بلوملي
إلى أولئك الذين تعرضوا للإقصاء أو الطرد أو الاحتجاز أو العدوان ظلما.
Unknown page
شكر وتقدير
أود أن أتوجه بالشكر إلى نيك بلوملي وجيري برات لدعوتهما إياي للمشاركة في سلسلة «مقدمة قصيرة». أود أيضا أن أشكر سايمون ألكسندر، وتيم كريسويل، وميشيل إيمانيشن، وباروخ كيمرلينج، وكيلفن ماثيوز، وجانيت موث، وأنسي باسي، وبوب ساك، ودميتري سيدوروف، وستيف سيلفرين، وكارين أندروود، وجاستن فون؛ لما قدموه من دعم أو إلهام على طول الطريق. •••
يعبر المحرر والناشر عن وافر تقديرهما وامتنانهما لحصولهما على تصريح بإعادة نسخ مواد حقوق الطبع والنشر التالية في هذا الكتاب:
إي أندرسون، «تقسيم سايكس بيكو »، من كتاب «الشرق الأوسط: الجغرافيا والسياسة الجغرافية» الطبعة الثامنة (لندن: روتليدج، 2000)، ص104. مستخدم بتصريح من روتليدج.
إيه بورنشتاين، «خط الهدنة لعام 1949» و«الاتفاقية الإسرائيلية الفلسطينية المؤقتة، 1994» من كتاب «عبور الخط الأخضر ما بين الضفة الغربية وإسرائيل» (فيلادلفيا: مطبعة جامعة بنسلفانيا، 2002)، ص31-32. مستخدم بتصريح من مطبعة جامعة بنسلفانيا.
إيه بريجمان، «مناطق الاحتلال الإسرائيلي، 1967»، من كتاب «حروب إسرائيل: تاريخ منذ عام 1947» (لندن: روتليدج، 2000)، ص94. مستخدم بتصريح من روتليدج.
بي كيمرلينج، وجيه ميجدال، «فلسطين تحت الحكم العثماني» و«توصية الأمم المتحدة بحل لإقامة دولتين في فلسطين، 1947» من كتاب «الشعب الفلسطيني: تاريخ» (كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفرد، قسم الخرائط، الجامعة العبرية، 2003)، ص33، 139. مستخدم بتصريح من مطبعة جامعة هارفرد والمؤلفين. •••
لقد بذل كل جهد ممكن من أجل تتبع مالكي حقوق الطبع والنشر، والحصول على تصريح منهم لاستخدام مواد حقوق الطبع والنشر. ويعتذر الناشر عن أي أخطاء أو محذوفات في القائمة السابق ذكرها، وسوف يكون ممتنا حال إخطاره بأي تصحيحات ينبغي إدخالها في إعادة الطبع والطبعات المستقبلية من هذا الكتاب.
الفصل الأول
الدخول إلى دائرة الإقليم
Unknown page
(1) مقدمة
ليس ثمة طريقة أفضل للحكم على أهمية شيء ما وجدواه من تعطيل هذا الشيء أو غيابه، وليس الإقليم استثناء من ذلك؛ فمفهوم الإقليم، وفقا للتفسيرات المشتركة، يعزز السلم من خلال اليقين عن طريق وضع تعريف واضح للسلطة ورسم آليات عملها بوضوح؛ ففي مجال العلاقات الدولية تكون لنا «السيادة» على هذا الجانب من الحاجز، ولهم السيادة على الجانب الآخر. وفيما يتعلق بحيازة أرض أو ملكيتها، قد أزرع ذرة على هذا الجانب من السياج وقد تقوم أنت برعي قطعان الماشية على الجانب الآخر. وفي سياق الخصوصية قد أغلق بابي وألعب بدمياتي الباربي وعلى العالم بأكمله التزام البقاء بالخارج؛ ففي وجود حدود جلية، لا تتحول حالات الالتباس وسوء الفهم إلى نزاعات، ولا تتصاعد النزاعات إلى معارك. وكما نعلم جميعا، الجدران الجيدة تصنع جيرانا طيبين.
في أواخر شتاء/أوائل ربيع 2003، احتشد ما يزيد على 100 ألف جندي أمريكي وبريطاني - بعتادهم من المدافع، والطائرات، والمؤن ، ومعهم الصحفيون - على الجانب الكويتي من الحدود العراقية الكويتية استعدادا لغزو العراق، الذي أطاح بصدام حسين من السلطة وأسفر عن احتلال طويل الأمد للبلاد. إن سلطة منح أو حجب الإذن للولايات المتحدة لاستخدام الحيز الإقليمي للكويت وقطر والدول القومية الأخرى كمواقع لانطلاق الغزو؛ هي في حد ذاتها امتياز سيادي. في الواقع، كانت خطة المعركة الأصلية هي غزو العراق على نحو متزامن من جهة الشمال، إلا أنه في اللحظة الأخيرة رفض البرلمان التركي السماح باستخدام أراضيه لهذا الغرض (بوردوم وآخرون 2003)، وكذلك فعلت السعودية، ولو شكليا على الأقل. ويعد مبدأ السلامة الإقليمية - الذي يقصد به غياب الانتهاك الإقليمي - واحدا من أهم المبادئ الأساسية للقانون الدولي، وهو أيضا، كما هو معروف تماما، من المبادئ التي لا تحترم دوما. ثمة عدة طرق يمكن من خلالها أن تتعرض السلامة الإقليمية للخطر، إلا أن أكثرها وضوحا وتدميرا تلك التي تتضمن وسائل الدمار المرتبطة بالحرب الحديثة. وبصرف النظر عن المشاعر التي ربما تكون قد انتابت المرء حين بثت صور حملة «الصدمة والترويع» الأمريكية في جميع أنحاء العالم، ومهما كانت التبريرات الخطابية المنمقة التي صاحبت ذلك، فإن غزو العراق واحتلالها مثال واضح نوعا ما على عدم تطبيق مبدأ الإقليم - أو الإقليم من نوع خاص - على النحو المفترض.
ولكن ذلك الغزو، حسب ما قد يعلله البعض، كان ببساطة النتيجة التي لا مناص منها لغزو الكويت قبل 12 عاما من قبل القوات العراقية؛ ففي حرب الخليج الأولى دحرت الولايات المتحدة المعتدين، وكجزء من تسوية تلك الحرب ألزمت حكومة العراق بالسماح بدخول مفتشي الأسلحة التابعين لهيئة الأمم المتحدة، الذين كانوا مخولين بالتحقيق في وجود أسلحة دمار شامل (سيفري وسيرف 2003). كذلك فرضت عقوبات اقتصادية قاسية على «العراق»؛ أي شعب العراق، وأسفرت هذه العقوبات عن وفاة عشرات الآلاف، الكثير منهم أطفال (هيرو 2001؛ الوحدة البحثية للاقتصاد السياسي 2003). كذلك فرض المنتصرون في حرب الخليج الأولى «مناطق حظر جوي» في الأجزاء الشمالية والجنوبية من البلاد، وكانوا يعمدون على نحو دوري إلى إسقاط طائرات عراقية انتهكت تلك المناطق الإقليمية المحظورة؛ ففي بداية حرب 2003 انتزع الجانب الأكبر من سيادة العراق، وكانت سلامتها الإقليمية - على أفضل تقدير - نظرية.
أسبغ صدام حسين تبريرا خطابيا منمقا على الغزو العراقي للكويت عام 1991، من خلال الإشارة إلى انتفاء الشرعية المفترض لتقسيم ولاية البصرة العثمانية من قبل البريطانيين، حين استحدثوا «العراق» و«الكويت» في مطلع القرن العشرين (دودج 2003؛ فيني 1992). ولم تكن «تلك» الحلقات من الاستحداث الإقليمي سوى عروض جانبية للجغرافيا السياسية للقوة العظمى التي واكبت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرار الإمبراطورية، والعداءات الناشئة فيما يتعلق بالتحكم في النفط في ظل نظام صناعي صار النفط بالنسبة إليه شريان حياة. قبل غزو الكويت، خاض العراق، مدعوما هذه المرة من الولايات المتحدة، حربا شرسة ضد إيران؛ إذا فغزو 2003 لم يقع عبر خط حدودي رسم على الرمال فحسب، بل في السياق التاريخي لسلسلة متوالية من عمليات الأقلمة وإعادة الأقلمة فيما يتعلق بالتحكم في النفط، وما يتمخض عن ذلك من ثروة وسلطة؛ فالنظر إلى الأحداث بمزيد من التعمق التاريخي، دون أن يعني ذلك تسويغها بأي حال، يخدم الغرض المتمثل في تسليط الضوء على الإقليمية باعتبارها «عملية» اجتماعية (وسياسية، واقتصادية، وثقافية) لا تتطور وتتكشف في المكان فحسب، بل عبر الزمن أيضا؛ ومن ثم فهو يمنحنا مزيدا من السهولة في رؤية الأقاليم بوصفها «نواتج» اجتماعية. وتعلم النظر عبر الإقليم له قيمته في تعلم فهم العالم: العالم ككل والعوالم التي نعيش فيها حياتنا.
من أكثر التفسيرات شيوعا للإقليم - أو على الأقل الدولة الإقليمية - أنه وسيلة لتوفير الأمن لأولئك القابعين في «الداخل» من تلك الأخطار الدائمة الموجودة ب «الخارج». والإقليم، بلا شك، غالبا ما يخدم هذا الغرض، ولكن حين يتأمل المرء تجارب مئات الآلاف من الناس الذين أزهقت أرواحهم بكل قسوة وعنف، استنادا إلى مزاعم متأصلة داخل مبدأ السلامة الإقليمية في هذا الجزء من العالم خلال الثلاثين عاما الماضية (وهو رقم يضم مئات الآلاف من الخسائر في الأرواح من جراء حرب العراق وإيران خلال الفترة من 1980 إلى 1988، والإبادة الجماعية للشعب الكردي من قبل الدولة العراقية)، ويضيف هؤلاء إلى الملايين الآخرين الذين قتلوا استنادا إلى تبريرات مماثلة؛ تصبح تلك التفسيرات الشائعة محل شك ولو جزئيا على الأقل. فإذا كان هذا هو «الأمان»، فقد يكون من المنطقي أن يتساءل المرء كيف يكون عدم الأمان. وفي القرن العشرين، وهو فترة حققت فيها الدول القومية الإقليمية هيمنة عالمية بوصفها المؤسسة السياسية الشرعية «الوحيدة»، قتل ما يزيد على 100 مليون شخص في الحروب، التي تعلق الكثير منها على نحو مباشر بالإقليم، أو منحت على الأقل تبريرا خطابيا مع الإشارة إلى الإقليم.
أو تأمل الأحداث على حدود أخرى، كتلك التي تفصل الأراضي السيادية للولايات المتحدة عن المكسيك؛ إن لهذه الحدود وهذه الأراضي تاريخا معقدا أيضا. كانت هذه الحدود قد منحت صيغة قانونية رسمية في معاهدة جوادالوبي هيدالجو عام 1848 (فريجر 1998). وقد أنهت تلك المعاهدة ما يطلق عليه الأمريكيون الحرب المكسيكية؛ ومثل الغزو العراقي للكويت، كانت هذه الحرب التي وقعت قبل 150 عاما مجرد وسيلة حاولت بها حكومة دولة قومية أن تضم إليها أراضي دولة أخرى، ودون مبرر مقنع. ولكن خلافا لمجريات هذا الغزو الذي وقع بالأمس القريب، لم تكن الدولة المعتدى عليها (المكسيك) تلقى مساعدة أو دعما من أي قوة عظمى عالمية، وكانت الدولة المعتدية (الولايات المتحدة) لها الغلبة. وتأكد مصيرها الواضح، الذي تمثل في تفوقها المفروغ منه، على أرض المعركة، وأعيد رسم خريطة السيادة؛ فتحركت الحدود آلاف الأميال جنوبا، ووجد الأشخاص والأشياء الذين كانوا «داخل» المكسيك أنفسهم «داخل» الولايات المتحدة. وكان المنضمون حديثا يتمثلون في آلاف المواطنين المكسيكيين، وكما يقول النشطاء المكسيكيون الأمريكيون: «نحن لم نعبر الحدود، الحدود هي التي عبرتنا» (أكونا 1996، 109). وضمت الحدود كذلك عشرات الشعوب الأصلية، مثل الأباتشي والهوبي ونافاجو وشعب الشوشون، الذين خضعوا رغما عنهم - وإن كان ذلك جزئيا فقط - لآليات السيادة الأمريكية؛ نظرا لموقعهم المواجه لهذه الحدود المتغيرة. كما ضمت أيضا ذهب كاليفورنيا وخشبها وعقاراتها.
فيما يتعلق بالحدود المعاصرة، يوجد ما يصفه العديد من الناس بأن «غزوا» آخر، ربما يكون أكثر خبثا، يحدث؛ فيكتب ويليام جريجز يقول: «بينما تشتبك القوات الأمريكية مع تنظيم القاعدة في خلايا إرهابية في ميادين حرب نائية في أنحاء آسيا، وتستعد قيادتنا العسكرية لمواجهات جديدة في العراق، تعتدي «صديقتنا» و«جارتنا» من الجنوب على وطننا بلا هوادة» (2002، 21)، وفي رأيه أن «الحكومة المكسيكية، والانفصاليين الراديكاليين من المكسيكيين الأمريكيين، وإدارة بوش؛ يتفقون جميعا على شيء واحد، هو أن الحدود التي تفصل دولتنا عن المكسيك ينبغي أن تعامل وكأنها ليس لها وجود» (2002، 21). ويعبر مئات الآلاف من العمال الحدود من الجنوب إلى الشمال كل أسبوع في ظل حظر رسمي لذلك، ولكن يتم تشجيع عبورهم أو التجاوز عنه بطرق أخرى. ولكن لا بد أن يفعلوا ذلك في سرية تامة، إذ يتسللون أو يعبرون أنفاقا تحت الحدود (مارتينيز 2001). وبينما ينجح آلاف في العبور، أو العثور على عمل، أو الاجتماع مع أسرهم مرة أخرى، فإن ثمة كثيرين يتم توقيفهم وترحيلهم مرة أخرى إلى الجانب الآخر ليعاودوا الكرة مرارا. والكثير من الرجال والنساء والأطفال يموتون عطشا أو من جراء التعرض للظروف القاسية في الصحاري، أو الاختناق في الشاحنات أو عربات القطارات التي تستخدم لتهريبهم إلى الداخل (إيجان 2004). بل إنه خلال الفترة 2002-2003، كان عدد العمال المكسيكيين الذين قضوا نحبهم إثر محاولتهم عبور الحدود مساويا على نحو تقريبي لعدد الجنود الأمريكيين الذين قتلوا قبل إعلان الانتصار في الحرب ضد العراق (وزارة الخارجية الأمريكية). وقد أسست منظمات دينية، مثل منظمة هيومان بوردرز، برامج لترك مياه في أماكن يستطيع الزوار المؤقتون من المكسيك وأمريكا الوسطى العثور عليها (
www.humaneborders.org ). وفي الوقت نفسه، قامت منظمات مثل رانش ريسكيو بتأسيس مجموعات حراسة مسلحة تنفذ عمليات شبه مسلحة لاستطلاع الحدود، دفاعا عن الممتلكات والسيادة (
www.ranchrescue.com ). إن الحدود ليست مجرد خط على خريطة؛ فهي والأراضي التي تميزها وتفصلها بمنزلة مسائل حياة وموت.
Unknown page
لا يمكن إنكار أن هذه الأمثلة التوضيحية أمثلة متطرفة نوعا ما؛ ففي حين يوجد دوما عدد معين من الحروب والنزاعات الحدودية التي تحدث على الكوكب، فإن الغارات العسكرية للحرب الأمريكية الضخمة في العراق نادرة نسبيا. بالمثل، قليل من المناطق الحدودية يوجد به المزيج المتقلب من الخصائص التي تميز مناطق الحدود الأمريكية المكسيكية. ولكن، بقدر ما قد تكون هذه المواقف متطرفة، فإنها توضح على الأقل أن أهمية الإقليم في العالم الحديث لا يمكن التقليل منها، وتشير كذلك إلى أن هذه الأهمية تتعلق بكل من كيفية تنظيم العلاقات الاجتماعية على مستوى الكوكب، وكيف أن حياة عدد لا حصر له من الأفراد تأثرت سلبا، بطريقة ما أو بأخرى، بآليات الإقليمية الحديثة. وهذا بالطبع يسري على الجميع.
إن هذين المثالين يعالجان الموضوع على نحو سطحي فقط؛ فكل منهما يتعلق بشكل واحد فحسب من الإقليم، ارتبط بالمؤسسة السياسية للدولة القومية الحديثة. وتشمل وسائل التواصل الأساسية، التي يوضح على أساسها هذا النوع من الإقليم، العلاقات الدولية، والقانون الدولي، والجغرافيا السياسية. ولكن المساحات الإقليمية البالغ عددها 200 أو نحو ذلك، التي تشكل المنظومة الدولية للدول، لا تستنزف الأشكال التي يتخذها الإقليم في العالم الحديث. في الواقع، اعتمادا على المنظور النظري للمرء ودقة تحليله، يوجد على الأرجح مليارات الأقاليم، ما بين كبيرة وصغيرة، وهناك تكوينات وتجمعات إقليمية لا حصر لها تشكل الحياة الاجتماعية والعلاقات والتفاعلات البشرية؛ ففي «داخل» الدول توجد تقسيمات سياسية وإدارية، ومحميات، ومناطق، ومقاطعات، وضواح، وأبرشيات، ونواح عديدة؛ وتوجد أيضا قطع أراض، وشقق، وغرف، ومكاتب، وزنزانات، ومعسكرات لا حصر لها ... والقائمة لا تنتهي. وتشمل إقليمية الدول القومية أقاليم فوق وطنية، ومتعددة الجنسيات، ودولية عديدة ظهرت بفعل معاهدات أو اتفاقيات مثل الاتحاد الأوروبي أو منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وقد يتمثل الإقليم في المساحة التي تشمل عضوية الناتو، وفي المنطقة التي يحظر فيها وقوف السيارات أمام محل البقالة؛ كما قد يتمثل في المتنزهات، والسجون، ومباني الأندية؛ وفي أماكن العمل، والأماكن التي تهيمن عليها العصابات، والمؤسسات التجارية المتعددة الجنسيات. وفيما يتعلق بكل مكان من هذه الأماكن، من المهم معرفة إن كنت ب «الداخل» أم ب «الخارج». وقد تكون الأقاليم المصغرة للحياة اليومية أهم بالنسبة إلى معظم الناس على الأرجح، أو على الأقل أكثر بروزا ووضوحا من الأقاليم الكبيرة الواسعة للسياسة العالمية.
دعنا نفكر على نطاق مصغر لبرهة، ولتبدأ من حيث أنت؛ انظر حولك إلى الطرق التي تتشكل بها أيامك بناء على الحيز الاجتماعي الذي تشغله، تأمل الغرف المسموح لك بدخولها وتلك التي تقصى عنها، أو لا يسمح لك بدخولها إلا بإذن. في أي نظام اجتماعي تعتبر فيه الملكية الخاصة سمة جوهرية، ينغلق معظم عالم التجربة اليومية عليك، وهذا العالم مقسم إلى أقاليم أيضا فيما يتعلق بالمساحات العامة والخاصة؛ تخيل مدى تأثير التغيرات في هذا التكوين العام/الخاص على حياتك اليومية؛ تخيل، على سبيل المثال، أن الكثير من المساحات «العامة» التي تمتد خلالها مسارات يومك قد «خصخصت» وصارت شروط دخولك إليه أو إقصائك عنه تعتمد على قدرتك على الدفع، أو على أي من الشروط التي يختار «المالكون» الجدد فرضها عليك مقابل دخولك (للمساعدة في تجسيد هذه التجربة الفكرية على نحو مادي، تأمل الاختلافات بين شارع رئيسي «تقليدي» في مدينة صغيرة، ومركز تجاري حديث). تخيل أيضا أن دخولك قد صار مشروطا بهيئتك: أبيض البشرة؟ أنثى؟ شاب؟ هذا هو التجسيد العملي للإقليمية. على الجانب الآخر، تخيل أن ما اعتدت أن يكون مساحة خاصة - مكانك الخاص، منزلك، غرفة نومك - من المزمع فتحه لمراقبة حكومية مستمرة، وأن الصور التي تلتقط تبث عبر شاشة التليفزيون؛ إن هذا أيضا من شأنه تشكيل نمط مهم إلى حد ما من المراجعة الإقليمية. والآن تخيل كليهما نظاما اجتماعيا توقف فيه «العام» و«الخاص» كما نعرفهما عن أن يكونا طريقة جوهرية لأقلمة الحياة الاجتماعية.
أو تأمل هذا: كان راي أوليفر يمتلك مزرعة بالقرب من جيمستاون بولاية كنتاكي، ووفقا للويس بول القاضي بالمحكمة العليا الأمريكية، فقد «علق لافتات «ممنوع التجاوز» على مسافات متساوية، وأوصد البوابة عند المدخل المؤدي إلى وسط المزرعة» (466 الولايات المتحدة، 170 1983، 173). في أحد الأيام تحرك شرطيان من ولاية كنتاكي، بناء على بلاغ ورد إليهما، بالسيارة إلى أرض أوليفر، متجاوزين منزله ومتجهين إلى البوابة الموصدة. ووسط تجاهلهما لكل من لافتة «ممنوع التجاوز» وصيحات أحد الأشخاص التي انطلقت من بعيد تأمرهما ب «الخروج»، تجولا حول البوابة ودخلا إلى منطقة شجرية على أرض أوليفر، وعلى بعد نحو ميل من منزل أوليفر، في بقعة محاطة بالأشجار من جميع الجوانب، عثرا على ماريجوانا مزروعة. غادر الشرطيان، عائدين إلى المدينة لاستصدار أمر تفتيش من أحد القضاة، ثم عادا إلى مزرعة أوليفر للقبض عليه. في القانون الأمريكي لم ترتكب الشرطة تجاوزا فحسب، بل انتهكت حقوق الخصوصية المحمية دستوريا لأوليفر، أو على الأقل كان هذا ما دافع به محاميه في محاكمته. ويحظر التعديل الرابع للدستور الأمريكي على الجهات الفاعلة الحكومية إجراء عمليات تفتيش دون مذكرة، أو على الأقل هذا ما يبدو، وأعلنت المحكمة العليا في مناسبات عدة أن الأدلة التي يتم الحصول عليها على نحو غير قانوني (أي أدلة على جريمة يتم التحصل عليها بالمخالفة للتعديل الرابع) يتم استبعادها من المحاكمات الجنائية؛ وهذا ما يسمى بمبدأ ثمرة الشجرة المسمومة. واتفقت المحكمة في الرأي مع محامي أوليفر. إن أوليفر «فعل كل ما أمكن توقعه منه للتأكيد على خصوصيته في الجزء الذي جرى تفتيشه من المزرعة» (ص173)، والشرطة تصرفت على نحو غير قانوني بقيامها بالتفتيش أولا، ثم استصدار مذكرة فقط بعد أن ثبت نجاح التفتيش؛ وتم رفض الدعوى رسميا.
غير أن الحكومة استأنفت على الحكم وقضت محكمة أعلى بإلغائه، ووافقت المحكمة العليا الأمريكية على الاستماع إلى الدعوى، وقررت أن الشجرة لم تكن مسمومة في النهاية. فأوجه الحماية القانونية التي كفلها التعديل الرابع، مثلما علل جمهور المشرعين، تسري فقط على منزل الفرد والمنطقة المحيطة به مباشرة (وهي مساحة تسمى النطاق المباشر). وأكد الجمهور على أن «جيوبا معينة فقط هي التي ينبغي أن تكون متحررة من أي تدخل حكومي تعسفي» (ص178). وعلى الرغم من الأقفال واللافتات، فإن أجزاء أخرى من حيازة الشخص تكون عرضة للتدخل الحكومي التعسفي، والتفتيش في هذه الأماكن لا يستلزم إذنا، ويطلق على هذه الأجزاء «النطاقات المفتوحة»، بالرغم مما أوضحه القاضي لويس بول من أن «النطاق المفتوح لا يحتاج لأن يكون «مفتوحا» ولا «نطاقا» مثلما يستخدم هذان المصطلحان في الحديث الدارج» (ص180). ونظرا لأن هذا الموقع المعزول المحاط بالأشجار كان «نطاقا مفتوحا»، لم يكن من الممكن حجبه عن مرأى العامة، ولم يكن لدى مالك الأرض توقع منطقي بالخصوصية هناك؛ وعليه، لم يكن ينبغي استبعاد الدليل على الجريمة ولا رفض الدعوى.
غير أن قضاة آخرين من قضاة المحكمة العليا لم يروا الأمر على هذا النحو؛ فقد تعرضت المساحة الخاصة بأوليفر (وحقوقه)، في رأيهم، لاعتداء من قبل الحكومة، وكانت الشرطة مدانة بالتعدي الجنائي. وقد كتب القاضي ثرجود مارشال مستشهدا بملاحظات القاضي بول من قضية أخرى يقول:
من بين الحقوق الأساسية المرتبطة بالملكية حق إبعاد الآخرين؛ فالشخص الذي يمتلك حيازة سوف يكون لديه توقع مشروع بالخصوصية بمقتضى هذا الحق في الإبعاد، والجهات الفاعلة الممثلة للحكومة التي لا تحمل إذنا - باستثناء حالات الطوارئ - ليست أقل قابلية للإبعاد من أي شخص آخر، ويزيد من قوة هذه الحقوق والتوقعات اللافتات والأقفال. ومن خلال تعيين حدود الأرض بالتحذيرات بوجوب عدم دخول العامة، يكون المالك قد أزال أي غموض فيما يتعلق برغباته. (ص195)
إن كلمة «ابتعد»، بالنسبة إلى المعارضين، وبالنسبة إلى قاضي المحاكمة تعني ابتعد. ولكن لسوء حظ أوليفر وغيره ممن لا حصر لهم، المعرضة حيازاتهم الآن لعمليات تفتيش دون إذن استنادا إلى هذه القضية؛ كان القاضي مارشال يكتب رأيا معارضا، وليس رأيا للأغلبية.
سوف يكون من الضروري لنا العودة إلى قضية راي أوليفر في موضع لاحق من هذا الفصل. أما النقطة موضع التركيز الآن فهي أن الإقليم والإقليمية لا يتعلقان فقط بقضايا الحدود الدولية والعلاقات الدولية؛ ففي قضية أوليفر توجد أقاليم متعددة على نحو عملي؛ فإذا نظرنا إلى القضية من ناحية ما، نجدها تتعلق ب «إعادة» أقلمة العام والخاص، وعند النظر إليها من ناحية أخرى، نجدها تتعلق ب «إعادة» أقلمة العلاقة بين الحيازة والفيدرالية الدستورية في الولايات المتحدة. أما عند تناولها تفصيلا، فنجدها تتعلق بإعادة تشكيل العلاقات الإقليمية بين «المنزل»، و«النطاق الملحق»، و«النطاقات المفتوحة» - أو بالأحرى استخدام هذه المفاهيم لإعادة هيكلة العلاقة بين الإقليم، والسلطة، والتجربة. ومهما حاولنا تشريحها، فإن طريقة فهم هذه الأقاليم (من جانب الملاك، ورجال الشرطة، والقضاة) ضرورية؛ فربما، بالنسبة إلى راي أوليفر، شكلت الفارق بين إيداعه السجن أو عدم إيداعه إياه.
لنتأمل قضية حيازة أخرى. كان والاس ماسون يحتفظ بحمام زاجل بحظيرة في فناء منزله، ولكن أحدهم كان يقتحم الحظيرة ويسرق حماماته؛ لذا، في «ليلة مظلمة ممطرة»، ولدى رؤيته ظلالا قاتمة لأشخاص في فنائه، أطلق نيران بندقيته على المعتدين (159، محاضر جلسات جنوبية، مجموعة 2، 7001964 و701)؛ فأصاب مايكل ماكيلر البالغ من العمر 14 عاما، وصديقه ليو شنيل البالغ من العمر 13 عاما. أصيب مايكل في ظهره وقضى بقية حياته مشلولا. لم يلق القبض على ماسون أو يتهم بجريمة، إلا أن والد مايكل قام بمقاضاة ماسون، ورفضت محكمة الموضوع الدعوى، واستأنف ماكيلر أمام محكمة لويزيانا العليا، وأعلنت أغلبية هيئة المحكمة أن:
Unknown page
ما أقدم عليه ماسون من إطلاق النار على اللصين، على الرغم من عدم وجود ما يبرره على نحو تام، لا يعاقب عليه. نحن لسنا على استعداد لأن نقول إنه قد تجاوز حقوقه في حماية أملاكه؛ فدستور الولايات المتحدة ودستور لويزيانا يمنحاننا الحق في حيازة الأسلحة وحملها؛ وهذا يستتبع منطقيا أن حيازة وحمل الأسلحة يمنحاننا الحق في استخدامها للغرض الذي صنعت من أجله. لقد كان منزل الفرد دائما هو حصنه، ومن يدخله مبيتا نية إجرامية، فإنما يعرض نفسه للخطر بإقدامه على هذا. (ص703-704)
لقد كان ماسون يحمي أملاكه لا أكثر، وبوضع «تاريخ الاعتداءات السابقة على ممتلكاته» في الاعتبار (ص703)، فإنه لا يلام مطلقا على إطلاق النار على المعتدين ... ولكن، كما هي الحال بالنسبة إلى قضية أوليفر، رأى قاض آخر الأمور على نحو مختلف وعارض الحكم؛ فقد تنبه القاضي إلى حقائق أخرى. لقد كان ماسون صيادا محنكا ورجحت الأدلة أنه كان متربصا، الأهم من كل ذلك أنه «لم يكن يوجد أي شك في أن الصبيين كانا يحاولان الهرب حين أطلقت عليهما النيران»؛ فكلا الصبيين أصيب في ظهره. «كان ماسون على علم بأنهما يركضان بعيدا عن المنزل»، وكان شنيل «يقفز من على السور حين أطلق عليه ماسون النار» (ص706).
ومثلما صار للإقليم معنى في قضية أوليفر فيما يتعلق بالمفاهيم القانونية مثل «النطاقات المفتوحة» و«النطاق الملحق»، كانت هذه القضية مدعومة بمفاهيم قانونية مثل «مبدأ الحصن» (بمعنى أن استخدام القوة مبرر في الدفاع عن «حصن» الفرد)، ووجوب التراجع؛ فحين يكون الشخص مهددا بعنف جهارا يجب التراجع قبل أن يرد العنف بالعنف دفاعا عن نفسه؛ ولكن حين يكون الفرد على أملاكه يطغى مبدأ الحصن على وجوب التراجع. ولو أن ماسون قد أطلق الرصاص على الصبيين قبل أن يتسلقا سوره، لكان الاحتمال الأرجح أن يتهم بارتكاب جنحة تشويه متعمد، أو تهمة أسوأ. ولكن اجتياز الحد الفاصل يغير المدلول القانوني للحدث؛ ومن ثم يغير المدلول العملي له؛ أي معناه بالنسبة إلى الطفلين، وإلى ماسون، وإلى المفسرين الثقات لمعنى الإقليم. مرة أخرى، «هذا هو الفارق الذي يصنعه الإقليم»، وكما هي الحال مع بعض من أمثلتي التوضيحية السابقة، يعد هذا ديمقراطيا نوعا ما. ولكن، حتى إذا كانت مثل هذه الأحداث شائعة بما يكفي، فهي ليست وقائع يومية بالنسبة إلى غالبيتنا؛ فالمنظور العام يتعلق بأحداث أكثر شيوعا بكثير، مثل الإخلاءات والاعتقالات العادية، وكذا قوانين عدم الاعتقال وعدم الإخلاء. وكلتا القضيتين المتعلقتين بالملكية تكشف عن جوانب مهمة للكيفية التي يعمل بها الإقليم في عالم التجربة.
يمكن إعطاء أمثلة لا حصر لها عن الأهمية العملية للإقليم فيما يتعلق بالكيفية التي تعاش بها الحياة اليومية، وهذا من شأنه أن يثير عددا من القضايا التي تسعى هذه «المقدمة القصيرة» إلى معالجتها. ثمة سؤال يطرح نفسه على الفور: في ظل المجموعة الهائلة من الأشكال التي يتخذها الإقليم - والتي أشير إليها مجرد إشارة فقط من خلال الأمثلة التي عرضت حتى الآن - هل يمكن قول أي شيء مفيد عن الإقليم والإقليمية «في حد ذاتهما» خلاف الأشكال غير المعدودة التي يتخذانها، والغايات غير المحدودة التي يعدان وسيلة لها؟ بمعنى آخر، هل الممارسات الاجتماعية المتنوعة المرتبطة بالإقليمية فيما يتعلق مثلا بالحروب بين الدول القومية، أو حقوق الخصوصية لملاك الأراضي والعقارات، أو تخصيص مساحات للحدائق في سوازيلاند، أو القواعد الخاصة بالوصول إلى أحد مهاجع الطلاب؛ كلها أمثلة للظاهرة نفسها لدرجة أن من الممكن إصدار تعميمات تسري على سياق ما بالسهولة نفسها التي تسري بها على سياقات أخرى؟ أو هل قد يكون الأمر متمثلا في أن «الكلمة» نفسها تستخدم ببساطة لما يفضل النظر إليه باعتباره أنواعا مختلفة تماما من الأشياء؟ إذا كان الأخير هو الحال، إذا فربما تكون محاولة معاملتها وكأنها الشيء نفسه، على أفضل تقدير، تجريدا غير ملائم وغير مجد. وفي الطرح التالي سوف أبدأ بمحاولة ترك السؤال مفتوحا (والاعتراف بأن الإقليم فيما يتعلق بغزو العراق، والإقليم فيما يتعلق بغرفة نوم مراهق، بينهما أشياء مشتركة أقل مما قد يوحي به استخدام الكلمة نفسها) والافتراض، لأهداف عملية، أنه يوجد شيء مفيد لأن يقال بشأن الإقليم «في حد ذاته». جانب من أسبابي لتبني هذا الأسلوب يكمن في وجود نزعة قوية، مع استثناءات بارزة قليلة، لمناقشة الإقليم وتنظيره كما لو أن المظاهر والأشكال المختلفة له ليست حتى ظواهر مترابطة؛ فالدراسات الخاصة بالهياكل والتشكيلات الإقليمية الكبيرة والصغيرة، وتلك التي تقع «بين هذه وتلك»، غير معلومة إحداها للأخرى.
وكما سأتناول بمزيد من التفصيل في الفصل الثاني، كانت فروع معرفية أكاديمية بالدرجة الأولى تميل، حتى عهد قريب، إلى دراسة الإقليم كجانب بسيط نسبيا من الموضوعات الأكثر محورية لتلك الفروع المعرفية؛ فنجده، على سبيل المثال، ينظر إليه على نحو شائع كجانب من جوانب السيادة في نظرية العلاقات الدولية، وكتعبير عن الهوية الجمعية في الأنثروبولوجيا، وكوسيلة نحو تعزيز الخصوصية أو الأمان العاطفي في علم النفس البيئي. حتى في الجغرافيا البشرية، ذلك المجال الذي قد نتوقع فيه أن يقيم الإقليم أكثر كظاهرة في حد ذاته، كان في الأغلب الأعم يبحث ضمن الحقل المعرفي الفرعي للجغرافيا السياسية؛ ومن ثم أحيل إلى أسئلة بشأن آليات عمل الدول القومية. وقد كان للنزعة الأكاديمية نحو «تقسيم» الإقليم - وإخضاعه لما يعد تقليديا الموضوعات الجوهرية الحقيقية لكل فرع معرفي - تأثير متناقض تمثل في تهميشه كموضوع في حد ذاته، وهذا التقسيم (والتهميش) المعرفي للإقليم مفهوم إلى حد كبير؛ غير أنه كان له أثره في وأد عدد من التساؤلات في مهدها، وإضفاء هالة من الغموض حول عدد من الروابط ربما يلفت منهج أكثر تقليدية الأنظار إليها. والأهم من ذلك أن معظم المعالجات المعرفية للإقليم «تفترض» - ببساطة وبفعالية - أن الأسئلة مغلقة؛ ومن ثم لا تعالج مسألة الإقليم كإشكالية بالقدر الكافي؛ لذا سوف أفترض في الصفحات التالية أن ثمة بعض الأشياء العامة والمفيدة التي يمكن قولها بشأن الإقليم، ولعل من أهمها أن الإقليم يشيع فهمه كأداة لتبسيط وتوضيح شيء آخر، مثل السلطة السياسية، أو الهوية الثقافية، أو استقلالية الفرد، أو الحقوق. ولكي يكون للإقليم مثل هذا التأثير، لا بد أن يعامل «في حد ذاته» كظاهرة بسيطة وواضحة نسبيا؛ ولكن الإقليم، مثلما سأشير عبر صفحات هذا الكتاب الذي بين يديك، أبعد ما يكون عن البساطة والوضوح؛ فهو - كما توحي الأمثلة التوضيحية التي عرضتها حتى الآن - عنصر بالغ التعقيد، وغالبا ما يكون شديد الغموض من عناصر الحياة الاجتماعية، والعلاقات، والتفاعلات البشرية؛ ومن ثم، فإن الوسيلة المثلى لتوضيح الطبيعة العملية لمفهوم الإقليمية هي تعقيد أساليب فهمنا القائم على الحس العام مبدئيا. (2) الحياة الاجتماعية للإقليم
الأقاليم كيانات اجتماعية بشرية، وعلى الرغم من أن الإقليمية، شأنها شأن اللغة، قد تكون من منظور شديد التعميم عنصرا عالميا بشريا، فإن الأشكال المحددة التي تتخذها الإقليمية شديدة التنوع، شأنها شأن اللغة أيضا. والإقليمية عنصر مهم في كيفية قيام الجماعات - الثقافات، والمجتمعات، والكيانات الجمعية الأصغر - والمؤسسات بتنظيم نفسها مكانيا. إنها جانب من جوانب الكيفية التي يقوم بها الأفراد من البشر ككائنات مادية بتنظيم أنفسهم بالنسبة إلى العالم المادي والاجتماعي؛ لذا فالأقاليم أدوات بشرية ثقافية مهمة من نوعية خاصة نوعا ما. وكما هي الحال مع أي أدوات من صنع الإنسان - مثل الرءوس المقلصة، والصولجانات، وكرات البولينج، والقنابل العنقودية - تعكس الأقاليم وتضم سمات من النظام الاجتماعي الذي يوجدها؛ فقد كانت مظاهر الإقليمية في العصر الحجري مختلفة بالتأكيد عن مظاهر الإقليمية في العصر الإلكتروني، وأقاليم المجتمعات المثقفة تختلف عن أقاليم المجتمعات الأمية لدرجة أن هذه الأقاليم تتضمن أشكالا متباينة تباينا قويا من الحياة الاجتماعية، وصنوفا مختلفة من ممارسات التواصل. والكيفية التي يعبر بها الإقليم عن نفسه بين أشخاص ينحصر نشاطهم الاقتصادي الأساسي في الصيد المحلي وجمع الثمار بطرق مهمة؛ تختلف عن تلك الخاصة بالمشتغلين بالزراعة، بينما تختلف هذه، بدورها، عن مظاهر الإقليمية في نظام اجتماعي صناعي رأسمالي عالمي. والليبرالية السياسية تنظم في أقاليم على نحو مختلف عن الدول البوليسية الفاشية. وكل هذا يعني أن الأقاليم ليست أدوات بسيطة بأي حال، بل الأقاليم في الأساس «مقوم بنيوي» للنظام الاجتماعي تعبر عن سماته. وقد يذهب المرء إلى أبعد من ذلك بالقول بأن أي بنية ثقافية، أو نظام اجتماعي، تكون مبهمة دون وجود إشارة (ولو ضمنية) إلى كيفية التعبير عنها إقليميا؛ ولما كان الموقف هكذا، فإن أي مراجعة ذات أهمية لبنود الإقليمية (كتلك المتعلقة بالعام والخاص) تستتبع تحولا اجتماعيا كبيرا على نحو مساو (والعكس صحيح).
ويمكن النظر إلى هذه الفكرة العامة بتأمل أي من العمليات التاريخية المرتبطة بالظهور، والتغير المتواصل، والانتشار العالمي لأشكال حديثة على نحو خاص للإقليم. وعند النظر إليها من منظور عالمي، وإن كان على نحو بالغ التجريد، نجد أن الانهيار الطويل المتقطع للإقطاعية الأوروبية، وعمليات الإمبريالية والاستعمار المستوحيين من أوروبا، وعمليات تصفية الاستعمار والقوميات المتصلة به، والتشبع العالمي من الدولة القومية الإقليمية، وصعود وهبوط اشتراكية الدولة، والحروب وحركات المقاومة التي منحت من خلالها الحروب قوة مادية ... إلخ؛ كل ذلك استتبع إعادة الأقلمة المتواصلة (وإن كانت متقطعة) للحياة الاجتماعية. وهذه «العمليات» و«القوى» المجردة تكشفت جميعا على الأرض بطرق شكلت إيقاعات، وخبرات، وعلاقات، ووعي الأشخاص العاديين على مستوى عميق. والكثير من أكثر أشكال الهوية وطرق الوجود وضوحا التي تميز الحداثة ترتبط ارتباطا مباشرا بعمليات الإقليمية المتواصلة هذه على ما يبدو؛ فالمواطن، والمستوطن، والأجنبي، والمواطن الأصلي، والمالك، والمستأجر، والسجين، والمدير، واللاجئ، وواضع اليد، وآخرون لا حصر لهم؛ من ضمن الأدوار والشخصيات الاجتماعية ذات الطابع الإقليمي التي تقطن عالمنا، وهؤلاء ضمن الأدوار والشخصيات الاجتماعية التي «تمثلنا». ولما كانت هذه الشخصيات «ارتباطية» - نظرا لكونها تمثل شخصيتنا بالنسبة إلى الآخرين - فإنها تعكس التنظيم الإقليمي المعقد لشبكات العلاقات الاجتماعية؛ لذا فبينما قد يستطيع المرء أن يضع تعميمات بشأن الإقليم «في حد ذاته»، لا ينبغي أن يتصور أنه منفصل بأي حال عن تاريخ الجانب الاجتماعي، على الأقل بقدر طبيعة الجانب الاجتماعي، على نحو جزئي، من خلال الطريقة التي نظم بها من منظور إقليمي. وإذا كان من المنطقي أن نقول إن الثقافات تخلق «أو تفرز» أقاليم، فإنها تفعل هذا من خلال عملية استنساخ وإعادة تكوين نفسها (أو قد تتغير بالطبع من جراء فرض أشكال جديدة للإقليم من قبل الآخرين).
وكما أشرت سابقا، فإن أحد الجوانب المهمة للكيفية التي تعمل بها الإقليمية عموما يتيسر من خلال اعتبارها، على نحو مسلم به نوعا ما، ظاهرة شبه طبيعية. وبقدر ما يبدو الإقليم (مثل الإقليم القومي، أو الملكية الخاصة) شيئا بديهيا، أو ضروريا، أو لا يقبل الشك، فقد يضفي غموضا على دور السلطة والسياسة في تكوينه والحفاظ عليه. قد يكون من السهل تبرير الأفعال القائمة على الإقليم أو الرامية إلى ترسيخه بمزاعم «عامة» أو شمولية، ولكن لما كان الإقليم - أو أي مظهر معين له - يعد مشروطا، ومبنيا اجتماعيا، ومدعوما منطقيا، وكانت الأمور تحتدم بفعل العنف البدني؛ فحينئذ قد تصبح أشكال السلطة المرتبطة جوهريا بالإقليم أكثر وضوحا، والمبررات أكثر تحيزا أو تحزبا.
بالطبع تعد عمليات الأقلمة الخاصة موضع تنازع عادة؛ فالنزاعات الحدودية الدولية، والمناقشات بشأن ما إذا كان إجراء بعينه يعد تجاوزا، أو ما إذا كانت عملية إخلاء معينة تبرر بالقوانين، والمعارك بشأن تخصيص الرقع الزراعية بين القرويين، وما إلى ذلك، تعد وقائع يومية. ولكن لكي «تعمل» الإقليمية بفاعلية، لا يمكن التشكيك في «المبادئ الأساسية» للإقليمية؛ فحين تصبح في موضع تساؤل، مثلما يحدث عند التشكيك في الملكية الخاصة للأراضي، أو حين تقوم القوى الاستعمارية بتهجير الشعوب الأصلية، أو حين يتم تقسيم المجتمعات السياسية القائمة، أو حين تهاجم الأقاليم ذات الطابع العنصري كتلك المتصلة بجيم كرو أو التمييز العنصري؛ حينئذ تتبين الأرجحيات والاحتمالات الخاصة بالإقليم على نحو أكثر جلاء، ويسقط من الحسبان بسهولة أكبر تلك المزاعم التي تذهب إلى أن عمليات الأقلمة هذه ضرورية أو سمات طبيعية لعوالمنا الحياتية؛ فالتشكيلات الإقليمية ليست مجرد أدوات ثقافية؛ إنها إنجازات سياسية.
إذا، فالإقليمية أكبر بكثير من كونها استراتيجية للسيطرة على المكان، فيفضل فهمها باعتبارها مرتبطة بطرق التفكير والتصرف والوجود في العالم ومنطوية فيها؛ أي وسائل جعل العالم ملما بالمعتقدات والرغبات ووسائل المعرفة العرضية ثقافيا وتاريخيا. إنها ظاهرة مجازية بقدر ما هي مادية. والإقليمية، بدورها، تنقل جوانب أساسية للهويات الفردية والجمعية، وهي تشكل الوعي الذاتي وتتشكل به. وفي النظم الاجتماعية القائمة على الصراع والتناقض، والتي تتميز بدرجة كبيرة نسبيا من التفكير الانعكاسي، لا تنعكس هذه الصراعات والتناقضات في التشكيلات الإقليمية لذلك المجتمع فحسب، بل تكون خاضعة أيضا لمجموعة متنوعة من التعديلات التخيلية، ولسياسة متعددة الأوجه للإقليم؛ فبعض جوانب سياسة الإقليم قد تتعلق على نحو مباشر بالدولة الإقليمية أو تقسيماتها الفرعية، والكثير منها ليس كذلك، أو يكون كذلك على نحو أقل مباشرة. وتتضمن هذه الجوانب الصراعات الإقليمية ل «الحياة الخاصة» التي تشمل قضايا العرق، والنوع، والسن، وما إلى ذلك، أو تلك القائمة بين العائلات، والمجتمعات، والمؤسسات، وأماكن العمل.
Unknown page
إن من بين أهداف كتاب «مقدمة قصيرة» رسم مخطط أولي لبعض من تعقيدات الإقليمية، وتكريس ما هو أكثر من الانتباه المألوف لطبيعتها الاحتمالية. وهذه عملية من أربع خطوات؛ أولا: نحتاج إلى أن «ننظر إلى» الإقليم والآليات الشائعة للإقليمية من حولنا. ثانيا: نحتاج إلى أن «ننظر حول» الإقليم، وأن نوفر سياقا له، وأن نرجع صلاته وروابطه إلى ظواهر اجتماعية أخرى. ثالثا: نحتاج إلى أن «ننظر عبر» الإقليم للكشف عما يشوبه الغموض عادة بفعل الخطابات التطبيعية المفترضة، كتلك المتركزة على السيادة والاختصاص القضائي والملكية. وأخيرا، ثمة خطوة رابعة تتمثل في: «النظر فيما وراء» الأنماط الموجودة للإقليم وتخيل طرق أخرى، ربما أفضل - أو ربما أسوأ - لخلع الطابع الإقليمي على الحياة الاجتماعية على ظهر هذا الكوكب.
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، يعد هذا الفصل مقدمة أخرى لفكرة الإقليم، تركز على السمات التي، في اعتقادي، تكتسب غموضا في العادة بفعل أساليب فهم أكثر تقليدية. وفي بقية الفصل أعرض في البداية ما سوف أطلق عليه «لغويات الإقليم»، وهو عبارة عن تحليل سوف يتيح لنا النظر إلى الأقاليم باعتبارها أكثر من أشياء ثابتة جامدة، ويركز بدلا من ذلك على العمليات والممارسات الاجتماعية الديناميكية التي تظهر أو تتغير من خلالها، أو بالنسبة إليها، الأنماط الإقليمية. وتتبع هذا مناقشة موجزة للوظائف المفترضة للإقليم؛ أي ما يقوم به الإقليم أو يتخيل أنه يحققه. والهدف الأساسي لهذا هو اكتساب القدرة على التفكير على نحو ناقد بشأن أساليب تناول ومعالجة فكرة الإقليم، التي تفترض أو تصوغ ببساطة عددا صغيرا من الوظائف شبه الطبيعية، واقتراح مفهوم أكثر عملية وواقعية. وبعيدا عن كونه سمة أزلية عامة للوجود الاجتماعي للإنسان، يعد الإقليم ذا طابع تاريخي عميق (ومرتبطا ارتباطا وثيقا بالتاريخ) على نحو عميق من نواح عدة. والجزء التالي يضيق نطاق المناقشة ليقتصر على العلاقة بين الإقليم وحقبة الحداثة التاريخية، وثمة تركيز على الطبيعة الديناميكية للحداثة وطابعها الذي يغلب عليه التغير المستمر. كذلك يطرح نقاشا حول عامل ذي صلة، وهو الزيادة في حركة الأشخاص والأشياء والأفكار التي تميز حقبة الحداثة. أتطرق بعد ذلك إلى قابلية مفهوم الإقليم للتفسير والتأويل؛ فالإقليم بالضرورة ينقل معاني، إلا أن هذه المعاني غالبا ما تكون قابلة لتفسيرات وتأويلات متعددة. والإقليم الحديث، بصفة خاصة، غالبا ما يكون موصوفا نصيا (كما اتضح من الطرح الخاص بقضيتي أوليفر وماكيلر)، وحتى أكثر المعاني وضوحا («ابتعد»، «للبيض فقط») يمكن «إعادة» تفسيرها في ضوء ما يؤخذ كنصوص رقابية مثل التشريعات القانونية أو الدساتير، أو في ضوء الأطر التأويلية المتنافسة. ويرتبط جزء كبير من ديناميكية الإقليم الحديث بهذه النصية والقابلية للتأويل. وأخيرا سوف أناقش في اقتضاب «عمودية» الإقليم، أو العلاقات المعقدة بين الكيانات الإقليمية المتشابكة. ومن خلال الاستعارة المجازية الممثلة في العمودية، عادة ما يطلب منا تخيل أننا نحتل مجموعة متداخلة من الأقاليم المتمايزة على نحو متزامن (غرف، مبان، مجتمعات محلية، دول أو مناطق، دول قومية). ولكن غالبا ما تكون «المعاني» الخاصة بعنصر إقليمي واحد في صراع (أو يمكن إدخالها في صراع) مع معاني عنصر آخر، وتتبع ذلك نقاشات حول الحد الفاصل الذي يميز واحدا عن الآخر، ونقاشات حول أي مجموعة من المعاني لها الأفضلية حال حدوث صراع. والكيفية التي تتطور بها هذه «النزاعات الحدودية» المجازية بين مناطق متصلة عموديا تعد أيضا جانبا بالغ الأهمية من سياسة الإقليم الحديث. (3) تعريفات عملية وقواعد لغوية للإقليم
من بين التدريبات المفيدة لتعلم النظر عبر الإقليم دراسة لغوياته، أو القواعد النحوية، والدلالات، والاستعمالات اللغوية لمجموعة الكلمات المتمركزة على كلمة «الإقليم». إن كلمة إقليم بالطبع اسم، ولكن قصر الانتباه على الإقليم كاسم قد يترتب عليه تركيز مبالغ فيه على «واقعه» الظاهري؛ ومن ثم التغاضي عن علاقته بمجموعة من الظواهر الاجتماعية الأخرى، وعلى الأخص الأنشطة، والممارسات، والعمليات الاجتماعية المتضمنة في عملية إنتاجه وتحوله. ويهدف هذا التدريب اللغوي إلى تصحيح هذا الخلل الشائع؛ ولكن قبل ذلك، قد يكون من المفيد أن نقول شيئا عن الأصل الاشتقاقي للمصطلح. يشتق أحد الأصول الشائعة لكلمة «إقليم»
territory
من الكلمة اللاتينية
territorium
بمعنى «الأرض المحيطة بمدينة ما»، وكلمة
terra
وتعني الأرض. غير أن أصول كلمة «إقليم»، حسبما يشير ويليام كونولي (1996)، قد تكون أكثر إثارة.
تعني كلمة
Unknown page
terra
الأرض، التربة، التغذية، الإعاشة؛ فهي تحمل معنى وسيلة إعاشة، أو الاستقرار، أو التلاشي في اللاوضوح. ولكن شكل الكلمة، مثلما ورد في قاموس أكسفورد للإنجليزية، يشير إلى أنها مشتقة من كلمة
terrere ، بمعنى يخيف، أو يرهب. و
territorium
هي «مساحة يحذر منها الناس». ربما يكون هذان الاشتقاقان المختلفان لا يزالان يحتلان كلمة إقليم اليوم. واحتلال إقليم إنما يعني الحصول على الاستقرار وممارسة العنف؛ فالإقليم أرض احتلها العنف. (ص144)
وفي هذا إشارة إلى أن الإقليم مثير للنزاع في جذوره.
كمقاربة أولى، يعرف الإقليم - عند تأمله بمعزل، كما هي الحال في التعريفات غالبا - بأنه مساحة اجتماعية محدودة تنقش معنى من نوع معين على أجزاء محددة من العالم المادي. ومن شأن إقليم بسيط أن يميز اختلافا بين «جانب داخلي» و«جانب خارجي»؛ فتشير المعاني، في المثال الأول، إلى المدلول العملي للوجود ب «الداخل» أو ب «الخارج» أو تجاوز الحد الفاصل الذي يميز جانبا عن الآخر. ربما يميز الحد الفاصل عابر سبيل عن معتد، أو أجنبيا عن مواطن؛ إذا فأساسيات الإقليم واضحة إلى حد ما: مساحة، حد، معنى ما، وضع ما. غير أنه على الرغم من ذلك، توجد متغيرات لا حصر لها تطرح نفسها؛ فبعض الأقاليم باقية ومستقرة نوعا ما، والبعض الآخر زائل إلى حد كبير؛ البعض رسمي، بينما البعض الآخر غير رسمي. فالأقاليم مثل الدولة القومية الإقليمية تطمح للاقتراب من المرجعية الكاملة أو الارتباط بما يوجد ب «الداخل»، بينما ثمة أقاليم أخرى، مثل مناطق البيع الخاصة بشركة للسلع الرياضية، قد تكون ذات ارتباط محدود للغاية أو ذات مدلول لعدد محدود نوعا ما من الأشخاص؛ فقد يكون هيكل الكنيسة الكاثوليكية المكون من الأبرشيات والأسقفيات والمطرانيات ذا أهمية كبيرة للأساقفة والقساوسة والأبرشيين، ولكنه يحمل صلة محدودة للغاية لغير الكاثوليكيين.
قد يأتي التعبير عن حدود إقليم ما بهياكل مادية؛ مثل أسوار، أو جدران، أو بوابات، أو أبواب. أو قد يعلن عنها بلافتات لغوية من قبيل: «مرحبا بكم في كيبيك»، «للموظفين المخولين فقط»، «للرجال»، «ابتعد عن الحشائش». ولكن هذه الأشياء ليست أساسية، بل إنها قد تكون مستحيلة، أو على الأقل غير عملية بالنسبة إلى الأقاليم غير الرسمية أو الزائلة. الفكرة هنا هي أن أي إقليم وحدوده «لهما معنى»؛ فهما ذوا مدلول بقدر ما يدلان عليه. وما يعنيه إقليم بعينه - مثل المصطلحات الخاصة بالاختلاف، والحدود، وإمكانية الدخول، والمنع، والعواقب المرتبطة بتجاوز حد ما - يعتمد على نوعية العلاقات الاجتماعية المرتبطة به؛ على سبيل المثال: تحمل خطوط الحدود الدولية أنواعا مختلفة من المعاني أكثر من خطوط الملكية (حتى إن توافقت في الموقع)، أو عتبات وحدات العمل المكتبية، أو حدود منطقة مبيعات؛ فالتوغلات غير المصرح بها داخل وحدة عمل أحد الزملاء قد تكون سببا لاتخاذ إجراء تأديبي، ولكن ليست سببا لعمل انتقامي عسكري. ومن نواح مهمة، بالطبع، يحمل كل خط حدودي خاص مجموعة فريدة من المعاني؛ فالحدود السورية الإسرائيلية تعبر عن معنى لا تعبر عنه الحدود النرويجية السويدية. الفكرة هي أننا قبل أن نتمكن من مناقشة «ما» يعنيه الإقليم، أو «كيف» يصبح ذا معنى، ينبغي التركيز على وجود معنى له؛ فإذا كان الإقليم شيئا، أو أداة، فهو شيء ذو معنى، أداة معروفة بأنها «تحوي» و«تعبر عن» أنواع متعددة من المعاني؛ فالأقاليم ليست كيانات مكانية فحسب، بل أدوات تواصلية أيضا.
والإقليم مساحة محدودة ذات معنى، سواء سميت هذه المساحة الصين، أم مساحة مشتركة من عقار سكني، أم «أسقفية ألباني». وتشير «الإقليمية» أكثر إلى العلاقة بين الأقاليم و«بعض الظواهر الاجتماعية الأخرى»؛ فهي تلفت الانتباه إلى الجوانب الإقليمية، أو ظروف ما، أو تداعيات شيء آخر؛ لذا تركز إقليمية سلطة الدولة على الجانب المكاني للسلطة السياسية الرسمية. والإشارة إلى إقليمية العنصرية، مثلما تم التعبير عن هذا في عهد التمييز العنصري أو في الكثير من المواقع الحضرية المعاصرة، تتيح لنا إدراك التدخل الجوهري للهياكل الإقليمية في طبيعة العنصرية التي تعمل بها العنصرية وكيفية معايشتها؛ ففحص واستكشاف إقليمية العمالة من شأنه تسليط الضوء على عمليات تقسيم أو دمج العمالة بواسطة إعادة التكوينات الإقليمية. والإقليمية، من منظور هذا المعنى «الارتباطي»، تتعامل مع الإقليم باعتباره شيئا «ساكنا» أكثر من تعاملها معه باعتباره جانبا من جوانب الأبعاد المتعددة للحياة الاجتماعية. ومن المفيد لنا تحويل انتباهنا إلى الظواهر الاجتماعية ذات الأهمية؛ لذا يمكننا تحليل إقليمية المؤسسات (المدارس، السجون، المستشفيات)، أو المنظمات (الشركات، الجيش، الأديان)، أو الأنشطة (لهو الأطفال، غسيل الأموال، إدمان المخدرات)، أو جوانب الهوية أو الكائن الاجتماعي. علاوة على ذلك، يمكن أيضا تعديل مصطلح «الإقليمية» ليركز على علاقات أو عمليات أكثر تحديدا: إقليمية لهو الأطفال القائمة على أساس النوع الجنسي، والإقليمية العرقية للتمثيل السياسي؛ وهذا يتيح لنا استكشاف كيفية إقحام الإقليمية في التعبير الاجتماعي عن هذه الأنواع من العلاقات؛ على سبيل المثال: كيف يتوسط الإقليم في التفاعل بين النوع الجنسي والسن، أو العرق والسلطة السياسية.
ومثلما يبرز التحول من «الإقليم» إلى «الإقليمية» علاقات مختلفة على نحو أوضح، كذلك يبرز التحول ذو الصلة من الأسماء إلى أشكال الفعل المشتقة من كلمة إقليم العمليات والممارسات الاجتماعية على نحو أوضح؛ ففي السنوات الأخيرة كتب عدد من الباحثين عن «لاأقلمة»
Unknown page
de-territorialization
و«إعادة أقلمة»
re-territorialization
سلطة الدولة بمقتضى ظروف «العولمة»
globalization ، وهذه المصطلحات أسماء أيضا، إلا أنها تشكلت من الأفعال الأدائية
territorialize
و
globalize . وبينما يعد ذلك أمرا صعب التناول إلى حد ما، فإن هذين الفعلين يلفتان الانتباه إلى الإقليمية كنشاط، وإلى الأقاليم باعتبارها «نواتج» ممارسات وعمليات اجتماعية؛ وبوصفهما أفعالا متعدية، فإنهما يشيران ضمنا إلى وجود مفاعيل. وهكذا نستطيع أن نتفهم ظهور قوانين جيم كرو للفصل العنصري في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر كأقلمة خاصة للعرق (أو بمعنى أدق، أقلمة السلطة على أساس العرق)، وإزالة التمييز العنصري في الخمسينيات حتى السبعينيات من القرن العشرين باعتباره الحل النسبي لأقلمة السلطة على أساس العرق.
غالبا ما تتضمن هذه الأفعال أيضا فاعلا، أي وسيطا فرديا أو جمعيا ينخرط في ممارسات إقليمية فيما يتعلق بالآخرين. وغالبا ما يستتبع هذه الأنشطة تعمد، أو قصدية، أو استراتيجية، ولكن هذا ليس ضروريا لأن بعض التشكيلات الإقليمية قد تكون هي النتائج غير المقصودة أو غير المتوقعة للقوى أو العمليات الاجتماعية الأخرى أو مجمل الأثر لعمليات الأقلمة العديدة الخاصة. وعلى أي حال، فإن «الأقلمة» تعني توظيف الإقليم في سياق معين عن طريق ربط ظاهرة أو كيان ما بمساحة محددة ذات معنى؛ على سبيل المثال: يمكن أقلمة التمثيل السياسي من خلال إنشاء دوائر انتخابية، أو إزالة أقلمتها من خلال التمثيل النسبي أو أنظمة التصويت الكتلي. ولكن مثل هذه الإجراءات غالبا ما تكون نسبية؛ نظرا لأن اللاأقلمة على نطاق ما تترتب عليها إعادة أقلمة على نطاق آخر (على سبيل المثال : يظل التحول من نظام تمثيلي قائم على الدوائر الانتخابية إلى نظام قائم على التقسيم الكتلي إقليميا). والتأكيد على «ممارسات» الأقلمة من شأنه أن يثبت الإقليم على نحو أكثر إحكاما وقوة داخل مجال العمل الاجتماعي؛ فالقليل من الأقاليم البشرية، إن وجد، يظهر ببساطة خارج لعبة العمليات الاجتماعية العامة والممارسات الاجتماعية الخاصة. إن الدول القومية الإقليمية لا تولد وتزول ببساطة هكذا؛ فإعادة الأقلمة المتواصلة للعمل ليست عملية طبيعية مثل التطور أو التغيرات الموسمية. وإذا كانت الأقاليم أدوات، فقد نتجت تحت ظروف تاريخية واجتماعية خاصة. وهذه الحقيقة البديهية الواضحة يمكن حجبها والتعتيم عليها بسهولة من خلال قصر التحليل على «الإقليم» في حد ذاته.
إن هذا الاستكشاف اللغوي للمجال المفاهيمي للإقليم مفيد من أجل تذكر بعض من تعقيدات الموضوع. وما يحمل تأكيدا هنا في محاولتنا للنظر إلى ما وراء الإقليم وحوله وداخله؛ هو عدم إمكانية اعتبار الإقليم منفصلا عن جانبين أساسيين من الكائن الاجتماعي البشري: المعنى والسلطة، واحتمالات العلاقة بينهما. وأيا كان ما قد يقوله أحدهم بشأنه، يتضمن الإقليم بالضرورة آليات شكل ما من أشكال السلطة الاجتماعية، غير أن السلطة ذاتها ظاهرة اجتماعية معقدة إلى حد كبير (ليوكس 1986)؛ فقد تكون جائرة، وقهرية وغير متناسقة، ومقيدة أو محررة أو معتدلة أو تمكينية؛ وقد تكون صيغتها شخصية ومحلية للغاية، أو عالمية ومجردة؛ وقد تكون أسباب استخدامها خبيثة، أو إيثارية، أو حيادية؛ وقد تكون متناقضة ومشحونة بالتوتر أو تعاونية. الفكرة هي أنه عند النظر «عبر» الإقليم سيكون ما سنراه دوما تمركزات من السلطة الارتباطية الاجتماعية. وقد يسهل الإقليم أو يعوق آليات السلطة، أو التحكم، أو تقرير المصير، أو التضامن. وعمليات الأقلمة هي صيغ التعبير عن السلطة، وعن كيفية تجسد السلطة في العالم المادي. وهذه العلاقة الجوهرية بالسلطة الاجتماعية تعد واحدة من السمات التي تميز الإقليم عن الأشكال الأخرى للمساحة الاجتماعية. وعبر صفحات هذا الكتاب تتسم العلاقات المعقدة والمتشابكة والمتغيرة بين الإقليم والسلطة بالبديهية.
Unknown page
والإقليمية مشمولة أيضا في تشكيل المعنى وتداوله وتأويله، وسيكون لنا عودة إلى هذه الفكرة في موضع لاحق من هذا الفصل. أما الآن فنكتفي بالقول إن الإقليم دائما ما يدل على شيء ما، و«المعنى» بالطبع ليس أقل تعقيدا كظاهرة اجتماعية من السلطة. وإعطاء اعتبار كاف للسلطة والمعنى والمساحة مجتمعة يبدأ في إضفاء لمحة عن التعقيد الذي يتسم به حتى أبسط الأقاليم. كذلك تميز هذه العلاقة الجوهرية بالمعنى الأقاليم عن الأشكال المكانية الأخرى؛ فليست كل مساحة مغلقة إقليما؛ فما يجعل مساحة مغلقة إقليما: أولا أن يدل على شيء، وثانيا أن يكون المعنى الذي يحمله أو يعبر عنه يشير إلى سلطة اجتماعية أو يتضمنها. ولكن المعنى والسلطة ليس أحدهما بمعزل عن الآخر؛ ففي إطار تقييم إدخال معنى على مساحة ما - أو على الحد الفاصل الذي يحدد المساحة ويميزها عن المساحات الأخرى - قد يتساءل المرء على نحو يقبله العقل عن سلطة خلق وتعيين هذه المعاني في المقام الأول؛ على سبيل المثال: تبدو لافتة معلقة على أحد الأبواب كتب عليها «للبيض فقط» أنها تحمل معنى واضحا يخلو من الغموض، ويبدو أنها تشير ضمنا إلى عواقب خطيرة لمن سيتغاضون عن هذه المعاني؛ ففي الولايات المتحدة، كان هذا التجاوز سيسفر عن إيقاع ألم بدني، وامتهان، وغضب على مدى أجيال. وإحدى طرق فهم حركات الحقوق المدنية التي ظهرت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين هي اعتبارها محاولة ليس فقط لتحدي «معاني» الأقاليم ذات الطابع العنصري، بل أيضا لتحدي «شرعية» السلطة المفترضة لفرض مثل هذه المعاني على مساحة وعلاقات اجتماعية.
ثمة بعد آخر للعلاقة بين السلطة والمعنى فيما يتعلق بالإقليم استحوذ على اهتمام متزايد يتصل بالعلاقة بين الإقليم وأسلوب الخطاب على نحو أكثر شمولا. سوف أعود إلى هذا الموضوع في الفصول التالية، أما في الوقت الحالي، فيكفينا القول إن التركيز هنا لن يكون منصبا في الأساس على هذه المساحة أو تلك، ولكن على افتراضات أو رؤى العالم الأيديولوجية أو المجازية أو الميتافيزيقية، التي تجعل صنوفا معينة من الأقاليم واضحة وملموسة وينصب كذلك على الطرق التي توظف بها هذه التمثيلات في إطار محاولات تبرير (أو انتقاد) آليات السلطة. ثم مثال سوف يناقش على نحو أكثر استيفاء في الفصل الثاني، هو خطاب السياسة الجغرافية. وهذه طريقة خاصة لفهم ومناقشة العلاقة بين المساحة والسلطة في سياق العلاقات الدولية؛ إنها تركيبة أيديولوجية ميتافيزيقية تجعل هذا النوع من التشكيلة الإقليمية المتنوعة ذا معنى بطريقة خاصة. ومما يشكل أهمية للأفكار الأساسية ل «العلاقات الدولية» و«السياسة الجغرافية»، مجموعة من الصور والافتراضات السابقة (المعاني) التي تتعامل مع «الدول السيادية» وكأنها موضوعات موحدة مستقلة بذاتها. ويدين خطاب السيادية، بدوره، بالكثير من قدرته على إضفاء المعنى لصورة ضمنية للشخصانية والحقوق؛ فالخطابات التي تجعل الأشكال الحرة للملكية الخاصة تبدو منطقية تسقط معاني مشابهة على المساحة الاجتماعية. وبالمثل، كانت عمليات أقلمة التبعية العنصرية غير قابلة للانفصال عن خطابات تفوق البيض والنقاء العرقي. والطرق التي تتم بها أقلمة أماكن العمل لا تنفصل، على سبيل المثال، عن أيديولوجيات الكفاءة، والملكية، والعمالة، والنوع الجنسي. وفي الفصل الرابع سوف نتناول بشيء من التفصيل العلاقة بين الإقليمية وخطابات القومية والصهيونية في إسرائيل/فلسطين. الفكرة هنا أن الخطابات التبريرية (والناقدة) التي تقف خلف العمليات والممارسات الإقليمية تشكل إلى حد كبير جزءا من «المعاني» الخاصة بمساحة بعينها، مثلما تشكل جزءا من التعبيرات الأكثر وضوحا؛ مثل: «ابتعد عن الحشائش»، أو «للموظفين المخولين فقط»، أو «مرحبا بكم في كيبيك». هذه الجولة اللغوية داخل عالم الإقليم ومشتقاته اللغوية مثل الإقليمية، والأقلمة ... إلخ، إنما يقصد بها مساعدتنا على وضع الموضوع ضمن إطار العلاقات والعمليات الاجتماعية؛ إذ يفضل أن ننظر إليه كظاهرة اجتماعية- تاريخية-سياسية.
في هذه «المقدمة القصيرة»، لا يسعني سوى سرد القليل عن تركيبة المساحة- السلطة-المعنى (والتجربة) التي يطلق عليها «الإقليم»، وما يمكن تكراره هو أن هذه العلاقات المتداخلة وأوجه التوافق لا يمكن حذفها ببساطة من الاعتبارات الخاصة بالإقليم، وأن آليات السلطة والمعنى داخل وعبر المساحة الاجتماعية لا يمكن ببساطة افتراض أنها مسلم بها، ولا إسقاطها من الاعتبار باعتبارها غير ذات صلة؛ والسبب في ذلك، مرة أخرى، هو أن «الإقليم على نحو عام يعمل تحديدا من خلال الميل نحو اعتبار السلطة والمعنى، والعلاقة بينهما، أمورا بديهية وغير إشكالية نوعا ما». وبهذه الطريقة، يجسد الإقليم في شكل مادي ويصبح بسيطا وواضحا نسبيا؛ وبذلك يؤدي الإقليم جزءا كبيرا من عملية التفكير نيابة عنا، ويغلق أو يضفي غموضا على التساؤلات الخاصة بالسلطة والمعنى، الأيديولوجية والشرعية، السلطة والالتزام، وكيف تتشكل عوالم الخبرة ويعاد تشكيلها على نحو متواصل. (4) ما أهمية الإقليم؟
من بين الأسئلة التي عادة ما تطرح بشأن الإقليم (أو بشأن أقاليم بعينها): ما أهمية الإقليم؟ ما وظائفه؟ ماذا يفعل؟ ثمة مجموعة شائعة من الإجابات تنبثق من فرضية أن الإقليمية البشرية طبيعية على نحو ما، بل إنها ضرورة بيولوجية. وفي هذا الإطار تكون أوجه الاختلاف بين الصيغ المتعددة للإقليمية، التي تظهرها الطيور الزرقاء والدبابير والبشر، أقل أهمية من أوجه التشابه؛ لذا، مثلما تكمن وظيفة الجنس - مهما كان اختلاف أدائها من قبل الأنواع المختلفة - في التكاثر وتوارث الجينات، تلبي الإقليمية ببساطة حاجة أكثر بساطة وعمومية، أو تعمل كوسيلة لإشباعها. وغالبا ما تكون الحاجة المفترضة هي السيطرة على حرية الوصول إلى الموارد، سواء أكانت هذه الموارد بلوطا، أم أعشاشا، أم حقول نفط، أم شركاء جنس. وهذه النظرة الوظيفية للإقليم يمكن أن تشير ضمنا إلى حاجات أخرى مفترضة مثل السيطرة (سواء أكانت تكاثرية أم بأشكال أخرى)، أو حفظ النفس. غير أن هذا النهج ليس مفيدا للدرجة فيما يتعلق بهدفنا؛ نظرا لأنه يختزل مجموعة ضخمة من الظواهر والتجارب إلى عدد محدود جدا من الوظائف المفترضة؛ وفي قيامه بذلك، يهمش التساؤلات المحورية الخاصة بالمعنى والسلطة. كذلك يبدو من الصعب استخدام نظرية الطائر الأزرق للإقليمية هذه (استنادا إلى تفضيل هذا الطائر العيش في أقاليم بعينها) لتفسير التنوع الضخم في الأشكال التي اتخذتها الإقليمية البشرية على مدار التاريخ، وعبر الثقافات، وربما تحت ظروف الحداثة على نحو خاص. ربما يكون الإقليم من العموميات، ولكن مثل العموميات الأخرى - كالجنس، أو العمل، أو الأسرة، أو الموسيقى - تتنوع الأشكال التي يتخذها في النظم الثقافية أو الحقب التاريخية المختلفة تنوعا هائلا.
غير أنه توجد روايات أخرى أكثر أو أقل وظيفية تقر بأن الإقليمية البشرية تختلف جذريا عن المظاهر غير البشرية؛ فالإقليم لا يتعلق ببساطة بتصنيف الأشياء لأجل التصنيف، ولكنه دائما وسيلة لغايات أخرى، وهذه الغايات لا تقتصر بأي حال على الحاجات العامة؛ فقد يكون الإقليم حلا لمشكلة ما، وقد يكون نوعا من الاستراتيجية. ولما كان الإقليم دائما ما يتضمن توصيل معنى من نوع ما ويعد تصنيفيا في الأساس، فقد يكون من وظائفه (أو على الأقل نتائجه) تجسيد أشكال الهوية والاختلاف ماديا. وفي أغلب الأحيان يكون وسيلة للسيطرة على ما «بداخل» الحدود الفاصلة، من خلال تحجيم إمكانية الوصول إليها أو إبعاد الآخرين. وبمقارنته بالوسائل الأخرى لتأكيد السيطرة، قد يعزز الإقليم الوضوح والبساطة، ومن ثم اليقين وإمكانية التنبؤ، ومن ثم السلام، والأمن، والنظام، ومن ثم الكفاءة والتقدم. وسوف نستعرض بعض هذه الأفكار في الفصل الثالث.
بينما قد يكون التفكير في الميزات الوظيفية للإقليم مفيدا، فإن وجود حساسية أكبر إزاء آليات السلطة من شأنه تعقيد الصورة؛ فبعض جوانب الواقع الاجتماعي يمكن أقلمته بطرق تعمل على تفاقم انعدام الكفاءات، أو تغذي الاستياء والسخط، أو تخلق أنماطا للتبعية والانقياد. وعلى نحو أكثر عمومية، في كثير من الحالات يكون التأثير الأبرز للإقليم هو تحجيم سلطة الآخرين: التفريق والتسيد، التضييق أو التجميد، الإقصاء، خلق التبعيات، تخفيف السلطة، التفتيت والعزل. قد يستنتج المرء من ذلك على نحو مبرر أن وظيفة الإقليم في حالات كثيرة هي «خلق الصراع»، أو مفاقمة تباينات وازدواجيات السلطة بدرجة ما أو بأخرى، واعتبار ذلك هدفا في حد ذاته، أو لأجل هؤلاء ممن يجدون في الصراع أو القمع خادما لمصالحهم؛ فالأقلمة المفرطة للعنصرية، بينما تجمعها صلة بالسيطرة على الموارد مثل الأرض والعمالة، فإنها قد أضفت على «العرق»، على الأقل بالقدر نفسه، صيغة أكثر مادية من خلال تعزيز مصطلحات الهويات المتمايزة. وإلى حد كبير كان المقصود بأن تكون «أبيض اللون» في عهد أنظمة جيم كرو المكانية أو التمييز العنصري؛ هو أن تمتلك السلطة التي تقول بها «للبيض فقط»، وأن تثق بأن هذا التفويض سوف يدعمه عنف الدولة؛ فالتفاهمات النفعية التي تفترض أن عمليات الأقلمة لا ينبثق عنها سوى أشياء جيدة فقط تضفي غموضا على أبرز تأثيرات الإقليم.
إذا، فالأساليب الوظيفية المتبعة في تناول الإقليم «في حد ذاته» لا تخلو من الصعاب، ولعل كل ما يمكن للمرء أن يفعله على نحو عقلاني هو تقييم الوظائف - أو بالأحرى الآثار والنتائج العديدة - لنوع الإقليمية هذا أو ذاك من هذا المنظور أو ذاك. ولكن مرة أخرى، كثير من الآثار التراكمية، أو جزء كبير مما تفعله الأقاليم، قد لا يكون مقصودا من جانب أي فاعل بعينه؛ فما قد يبدو «وظيفيا» من منظور ما، قد يكون مختلا وظيفيا - أو أسوأ - من وجهات نظر أخرى. كذلك تطمح الأشكال الإقليمية مثل الدول القومية لاتخاذ موقف كلي كهذا، لدرجة أن أي قائمة طيعة من «الوظائف» المفترضة سوف تكون شديدة التجريد لدرجة لا تجعلها ذات قيمة تذكر. سوف أعود إلى هذه القضية في الفصل الثالث؛ أما الآن فيكفي أن نشير إلى أن التفكير بشأن الإقليم من حيث الآثار أو العواقب، سواء أكانت مقصودة أم استراتيجية، قد يثير تساؤلات يغلقها العديد من الآراء التقليدية. (5) النظر حول الإقليم وعبره (5-1) الإقليم والحداثة
حتى هذه النقطة، تناولت الإقليم بمصطلحات عامة للغاية مع إشارة صريحة محدودة إلى السياقات التاريخية أو الثقافية، ولكن النظر عبر الإقليم يتطلب منا أن نضع مظاهره في إطار نوعيتها التاريخية. ومن مجموعات الاختلافات التي قد تكون مفيدة هنا تلك القائمة بين الحداثة وما قبل الحداثة (وربما ما بعدها)؛ وهذا بالطبع يطرح مستوى آخر من التعقيد، على الأقل بسبب وجود نزاعات بشأن السمات التي تشكل الفوارق؛ أي بشأن ما يجعل الحداثة «حديثة» (بومان 2004). ولكن عنصر التعقيد الإضافي هذا يكون مثمرا إذا استطاع أن يساعدنا على النظر عبر التشكيلات الإقليمية التي تتطور بداخلها حياتنا، وفيما وراءها. وبداية، عادة ما يعد الفارق بين الحداثة وما قبل الحداثة فارقا زمنيا؛ فعادة ما يفهم السابق للحداثة بأنه قبل العصر الحالي. في المقابل، يدل الحديث على نوع من «الحاضر» المستمر إذا كان في تحول مستمر . قد يستمر السابق للحداثة في الوجود في جيوب منعزلة، ولكن هذه الجيوب عادة ما يفهم أنها في تناقص من حيث العدد والأهمية؛ فالحداثة، كما تبدو، مستقبل لا مفر منه. ولكن من بين الأشياء التي عادة ما تهمل في هذه المعادلة عدم التجانس الجذري لثقافات «ما قبل الحداثة». فما يجعلها منسوبة إلى «ما قبل الحداثة» هو ببساطة أنها «غير» حديثة؛ فما تشترك فيه هو ما ليست عليه. ولكن إذا نظرنا إلى الحداثة على أنها ليست مجرد حالة أو لحظة زمنية، بل نوع خاص (ومتميز) من التكوين الثقافي، فقد نرى الأشكال الحديثة المتميزة من الإقليم في ضوء مختلف.
فيما يتعلق بهدفنا الحالي من تعلم النظر عبر الأشكال والممارسات التي تؤثر على حياتنا تأثيرا عميقا للغاية، وفيما وراءها، دعني أحدد ببساطة أن «الحداثة» هنا تشير إلى أسلوب حياة خاص («إبسمتية» أو أسلوب متميز ثقافيا للتفكير، والشعور، والوجود) بدأ في الظهور كتحول ثقافي محلي نوعا ما في أوروبا الشرقية في القرون الوسطى من الألفية الثانية الميلادية. ومن خلال العمليات المعقدة للإمبريالية، والاستعمارية، والرأسمالية العالمية، ومحو الأمية، ظهرت الحداثة في العقود الوسطى من القرن العشرين، من أجل احتواء الكوكب بأكمله على نحو شامل، وإن كان متقطعا إلى حد كبير. وهي ترتبط بالشكل والتشبع العالمي للمنظومة الدولية للدول (وما يرتبط بها من ممارسات بيروقراطية للدول)، وبالفلسفات السياسية الليبرالية، وبمجموعة من الأيديولوجيات والفلسفات المتنازع عليها التي ظهرت كرد فعل لليبرالية. كذلك ترتبط بنوع حديث مميز من الذات (الفرد)، وبالرأسمالية كنظام عالمي للإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك؛ وترتبط على نحو خطير بأسلوب خاص لإنتاج المعرفة مرتبط ارتباطا وثيقا بالعلوم الطبيعية. ومن بين السمات المميزة الأخرى لهذا التكوين الثقافي المعقد المميز التغيرات التقنية المتلاحقة والسريعة، خاصة ما يتعلق بالاتصالات، والنقل، والإنتاج الاقتصادي، والاستهلاك، والرعاية الاجتماعية.
وقد خرج قدر ضخم من المعرفة العلمية والمجادلات على مر العقود حول موضوع «التحديث» (دويتش وآخرون 2002؛ لاثام 2000). وقد ظل التركيز، على مدى فترة كبيرة من القرن العشرين، ولا يزال في القرن الحالي، منصبا على عمليات «التحديث » والمفاهيم ذات الصلة مثل «التطور» التي تفهم كعمليات تاريخية قد تستطيع من خلالها شعوب وثقافات الأراضي التي كانت مستعمرة فيما سبق، أو ما يعرف ب «العالم الثالث»، اللحاق بركب الغرب الصناعي (أو «المتقدم»). وقد كان للتحديث من هذا المنظور عواقب هائلة تشير ضمنا إلى الإقليمية، وقد شملت هذه العواقب، على المستوى الأعم، تزايد الدول القومية الإقليمية وانتشارها بوصفها التعبير الشرعي الأوحد عن الهوية السياسية والسلطة. وعلى نحو متصل، أسهم إلغاء القيد المفروض على حيازة وامتلاك الأراضي - الذي ارتبط باختراق الهياكل الاقتصادية-السياسية الرأسمالية وتأسيس نظم للملكية الخاصة - في «إعادة» أقلمة جزء كبير من عالم الخبرة اليومية؛ فمن بين وجهات النظر الشائعة، لكي يصبح عالم ما قبل الحداثة، أو عالم غير حديث، حداثيا؛ لا بد أن يصبح مثل الغرب؛ وهذا يعني، من بين أشياء أخرى، المشاركة والإذعان في أشكال الأقلمة الحديثة المرتبطة بالسيادة والملكية. وقد تضمن هذا ما هو أكثر من إنشاء مساحات سيادية (الدولة الاستعمارية أولا، ثم دولة ما بعد الاستعمار)، وأنظمة حقوق الأرض (التي فرضت من قبل الأجهزة القمعية لهذه الدول). وعلى نحو لا يقل خطورة، أدى ذلك إلى ظهور عمليات الأقلمة الاجتماعية، التي أدت إلى ظهور نوع «حديث» وخاص من النفس يختلف في نواح مهمة عن مجموعة الأنفس التي حلت محلها بنجاح متقطع؛ فهذه نفس (حديثة) ينظر إليها باعتبارها غير مثقلة نسبيا بالانتماءات الطائفية أو «القبلية» (جيدنز 1991؛ تايلور 1989)؛ على سبيل المثال: كان من أهم الحلقات في أقلمة العرق، فيما يتعلق بالشعوب الأصلية للولايات المتحدة، سياسة التخصيص (جرينوالد 2002؛ رويستر 1995). كان هذا برنامجا تقسم بمقتضاه الأرض «المتروكة جانبا» للشعوب الأصلية («القبائل») إلى أجزاء منفصلة، و«تخصص» للعائلات التي يترأسها ذكور، وكان الفائض بعد ذلك يوزع على غير الهنود. كان الهدف المعلن لهذا هو إجبار أفراد الشعوب الأصلية على أن يصبحوا أفرادا عصريين يعتنقون فيما بعد عادات المجتمع الأبيض المحيط بهم وتقاليده، ويندمجون بسهولة أكبر في الثقافة السائدة ؛ ومن ثم يختفون كشعوب مميزة. كان الاستثناء المعلن أنه بمرور الزمن، مع ضعف الثقافات الأصلية، ستلغى التحفظات؛ تلك التعبيرات الإقليمية عن السيادة (ماكدونيل 1991).
Unknown page
مرة أخرى، وعلى نحو عام للغاية، ينظر إلى فكرة أن النفس الحديثة هي نفس فردية أو مستقلة على نحو قوي، تتطلع إلى ظروف الحرية وتزدهر تحتها؛ على أنها اختيارات مقيدة إلى أدنى حد. وكما هو مفهوم تقليديا، فإن النفس الحديثة هي شخص يحمل حقوقا تتشكل خبرات حياته ب «المكانة» على نحو أقل، وب «العقد» على نحو أكثر؛ بالتسلسلات الهرمية على نحو أقل، وبالاختيار على نحو أكثر؛ فالعلاقة بين الإقليم والفردية (أو عملية التفرد التاريخية) ليست مقتصرة بأي حال على آثار الملكية الخاصة، وتتجلى أيضا في الطرق التي تمنح بها الخصوصية، والحقوق المدنية، والحريات المدنية، ومفاهيم حقوق الإنسان تعبيرا مكانيا على نحو أعم. لتنظر في هذا المقام إلى القدسية الظاهرية لجسم الإنسان باعتبارها الإقليم الأساسي للنفس الحديثة والألم الذي عادة ما يصاحب المواقف التي تتجاوز فيها هذه القدسية. كذلك من التداعيات المهمة، كما سأناقش فيما يلي، لابتكار الإقليمية الحديثة في مختلف أرجاء العالم أن النفس الحديثة نسبيا نفس متحركة نسبيا.
مؤخرا عكف على فكرة الحداثة هؤلاء الذين إن لم يكونوا ناقدين لفكرة التحديث في أساسها، فعلى الأقل يجلبون نزعات وقيما مختلفة لربطها بالموضوع. ربما يترقب بعض الكتاب قدوم فترة تاريخية تحررية تنتمي إلى ما بعد الحداثة بكل لهفة وحماس، والبعض يكتب من منطلق خوف وهلع من انهيار متخيل للحداثة وبطلان لمثل عصر التنوير التي زعم أنها كانت الوقود للمسار التقدمي للحداثة. وبحكم الطبيعة الأساسية لطريقة فهم الحداثة، يستتبع ذلك بالضرورة ارتدادا إلى ظلام، وفوضى، وقيود ما قبل الحداثة. وتشكل فكرة الحداثة أهمية لأهدافنا الكبرى؛ نظرا لأن الأيديولوجيات، وأساليب الخطاب، والممارسات، والعمليات المختلفة المرتبطة بها (والتيارات المعارضة للحداثة التي أفرزتها) أسفرت عن تحولات غير مسبوقة تاريخيا للحياة الاجتماعية للإنسان على مستوى الخبرة البشرية لكل شخص يحيا على ظهر الكوكب اليوم. والإقرار بالاحتمالية التاريخية للحداثة يمكن أن يفتح الباب أمام أسئلة مهمة عن احتمالية ظهور أشكال وممارسات حديثة مميزة ومختلفة للإقليمية.
قد يميز المرء على نحو مفيد بين «أقاليم الحداثة» - أو النطاق الضخم للأشكال الإقليمية الجديدة التي تجلت من خلالها الحداثة في كل أوجهها - و«الإقليمية الحديثة». وتشمل الأمثلة على أقاليم الحداثة زنزانة السجن العالية التقنية، ومعسكر اللاجئين، والمصنع، والمنطقة المخصصة للانتظار عند بوابة المطار، وأماكن إيقاف المقطورات، وأشياء أخرى لا حصر لها. تشير «الإقليمية الحديثة» إلى العمليات والممارسات الإقليمية التي تنبثق من أساليب التفكير والتصرف المختلفة والمتميزة في عالم حديث. ولعل المثال الأبرز على هذا هو القدرة على تصور الكوكب بأكمله باعتباره مكانا واحدا قسم إلى دول يتعارض وجودها معا، وسيادية افتراضا، تشكل الكيان «الدولي». والإقليمية الحديثة تعكس وتعزز المفاهيم الخاصة بالذات، والمجتمع، والهوية، والمعرفة، والسلطة، والعلاقات بينها التي غالبا ما تكون متعارضة أو غامضة. والتأكيد على تميز الحداثة والإقليمية الحديثة، المستندتين على الإنتاج المتواصل للتجديد، يتيح لنا تكوين فهم أفضل لتاريخية التشكيلات الإقليمية القائمة، وتلك التي في طور الصيرورة. (والحق أنه في ظل ظروف الحداثة فقط يمكن للمرء أن يدرك الأقاليم بوصفها «في طور الصيرورة».) بالنظر إلى الوراء قد نستطيع تتبع أثر هذه التطورات على مستويات عديدة للتحليل؛ على سبيل المثال: وقعت عمليات «الاكتشاف»، والغزو، والاستعمار العالمية على نحو مختلف للغاية في مواقع مختلفة على الأرض؛ فشعوب وأماكن أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر، وجنوب شرق آسيا في القرن التاسع عشر، وأمازونيا في القرن الحادي والعشرين؛ قد كانت جميعا خاضعة للقوة المدمرة للاستعمارية المتمركزة حول أوروبا أو المستمدة منها، وتعرضت للأقلمة بطرق متماثلة بشدة. ولكن الاختلافات بين هذه المواقف، في الأيديولوجيات، والتقنيات، والسياقات العالمية، وتباينات القوة، وأشكال المقاومة؛ مذهلة أيضا؛ ف «الحداثة» ليست ظاهرة تناسب جميع المقاسات، ولا ظاهرة تحدث مرة واحدة فحسب؛ فالكيفية التي تتطور بها الإقليمية تحت الظروف المختلفة أكثر تعقيدا بكثير مما قد توحي به إشارة بسيطة إلى الحداثة.
حد السيادة: الحدود الكندية (كيبيك) الأمريكية (فيرمونت). تصوير: ستيفن سيلفرن.
حد السلطة القضائية: الحد الفاصل بين ماساتشوستس ونيويورك. تصوير: المؤلف.
حد الولاية المحلية: ساند ليك، نيويورك. تصوير: المؤلف.
شروط الدخول: الترسانة الفيدرالية الأمريكية، ووترفليت، نيويورك. تصوير: المؤلف. «لا عليك بالكلب»: مسكن خاص، سانتا باربرا، كاليفورنيا. تصوير: المؤلف.
الإقليمية في مكان العمل. تصوير: المؤلف. (5-2) الإقليم والتنقل
إن إعطاء تركيز أكبر للعلاقة التاريخية بين الإقليم والحداثة يسلط الضوء أيضا على ديناميكية التشكيلات الإقليمية؛ أي تاريخيتها واستعدادها لإعادة التكوين المستمر، وإن كان على نحو متقطع. ثمة فكرة أخرى وثيقة الصلة ترتبط بالعلاقة بين الإقليم والأشكال المتنوعة للتنقل؛ بمعنى أن المجمعات الإقليمية ذاتها ليست وحدها التي «تتحرك» إن جاز التعبير، بل إن أفضل طريقة لرؤية جزء كبير من الكيفية التي «تعمل» بها الأقاليم (أو تؤدي وظيفتها) هي رؤيتها بالنسبة إلى الحركة عبر الحدود الفاصلة التي تحدد المساحات الإقليمية. فحتى لو ظلت خريطة الأقاليم بلا تغيير على مدى السنوات المائة الفائتة، فإن التغيرات العميقة في الاتصال والنقل وممارسات الدولة خلال تلك الفترة أدت إلى تغيير المدلول العملي للحدود؛ ومن ثم الأقاليم في حد ذاتها. كذلك تغيرت ممارسات وعمليات الإقليمية والأقلمة تغيرا مثيرا، وفي هذا المقام قد يتأمل المرء ببساطة في تاريخ جوازات السفر والنقل الجوي (توربي 2000). إن الأقاليم ليست مجرد حاويات تصنيفية مكانية ثابتة؛ فحياة الإقليم إنما ترى في المرور عبر هذه المساحات ذات المعنى، والدخول إليها، والخروج منها. ولعل من الممكن رؤية هذا بأسهل طريقة ممكنة فيما يتعلق بالحدود الدولية، إما على أطراف الدول وإما في «الحدود» المتناثرة المرتبطة بالنقل الجوي الدولي؛ ففي هذه الأماكن تفرز فئات مختلفة من الأشخاص ممن في حالة حركة وتنقل وفقا للأنشطة الإقليمية، أو المكانة، أو النوايا؛ فالمهاجرون، و«العمال الأجانب المعارون»، والسياح، والخبراء المغتربون، وعمال الإغاثة الإنسانية، والدبلوماسيون، والجنود، والمهربون، ورجال الأعمال، والمبعدون، واللاجئون، والموسيقيون والرياضيون المتجولون، وخاصة الملايين من سكان مناطق الحدود؛ يتحركون ذهابا وإيابا عبر الحدود بالوثائق الإقليمية الحديثة (أو دونها) من جوازات سفر، وتأشيرات، وأوراق عمل، وشهادات ميلاد. وهذا السياق من الحركة التي لا تتوقف هو الذي تنشط فيه أشكال الإقليمية إلى أقصى حد؛ فخلال فحص الأوراق، ودفع الرشاوى أو الرسوم، ومصادرة المهربات، وحركة القوات، واستيقاف الأجانب؛ يصبح الإقليم مدمجا في نسيج الحياة.
وليس الأشخاص فقط هم من يتحركون؛ فجوهر فكرة «التجارة» الدولية (على عكس «التبادل» المحلي) تفترض سابقا اجتياز هذه الفواصل؛ فالأشياء التجارية، أو سلسلة إنتاج السلع المجزأة التي تتضمن كل شيء من الصواريخ إلى الألعاب المرفقة بوجبات الأطفال، ومن الأخشاب الاستوائية الصلبة إلى الزهور، ومن الهيروين إلى القطع الأثرية؛ في حركة مستمرة من التداول العابر للحدود. وقد كان للتداول المتزايد على نحو سريع للأشخاص، والأشياء، ورأس المال، والصور، والأفكار؛ أثره في ظهور مزاعم بشأن النفاذية المتزايدة للحدود المفهومة على أنها إزالة أقلمة الدولة القومية و«تآكل» السيادة (كوزيمانو 2000؛ هدسون 1999). وسوف أتناول هذه المزاعم على نحو أكثر استيفاء في الفصل الثاني. الفكرة هي أن بوسعنا النظر إلى الإقليم المعاصر بنظرة أكثر اكتمالا إذا استوعبناه أكثر من حيث علاقته بهذه التحركات والتدفقات، وليس كمجرد صناديق ثابتة لا تتحرك.
Unknown page
وهذا ليس فقط في سياق عمليات الأقلمة الدولية؛ فالحداثة ذاتها عادة ما تتميز عن الصياغات الاجتماعية الأخرى بوجود أشكال أخرى أكثر تعميما من التنقل، والحركة، والتداول. وحركات التنقل الداخلية بين المدن المرتبطة بتغيير المسكن، وتقسيمة العمل/المنزل/الاستهلاك التي تلزم معظم الناس في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، بخوض حياتهم اليومية ممزقين بين عدد من الاختصاصات والولايات السياسية؛ تجعل علاقتهم بالإقليم على العكس تماما من هؤلاء الذين تسير حياتهم داخل هياكل إقليمية أقل تعقيدا وتشرذما. وقد يسرت توليفة التجزئة الاجتماعية، والتشرذم الإقليمي، والتحول التقني ظهور نظم «فرط التنقل» التي أسفرت، بدورها، عن علاقات مختلفة جوهريا مع الإقليم؛ فقد لا يكون للفرد حق التصويت إلا في مجموعة فرعية محدودة من الوحدات المحددة إقليميا التي توزع بينها لحظات الحياة اليومية أو الأسبوعية للفرد، وربما لا تكون هذه الحقوق في الإقليم هي الأكثر أهمية؛ فملايين الأمريكيين، على سبيل المثال، يعيشون ويعملون في ولايات مختلفة، وثمة بلديات كثيرة بها أشخاص يعملون أو يتسوقون فيها أكثر ممن يعيشون داخلها. في الوقت ذاته، قد تكون الحكومات المحلية المحددة إقليميا قد قلصت على نحو كبير من السلطة أو الرقابة على ما يحدث داخل حدودها. والبلدات أو القرى الريفية، التي تمر بها طرق حرة، قد يكون ب «داخلها»، في أي لحظة، أشخاص لم يسمعوا قط عن المكان الذي يوجدون فيه أكثر ممن لديها من سكان مقيمين. (5-3) الإقليم والتأويل
كما ناقشت فيما سبق، تتضمن الإقليمية بالضرورة إضفاء معان - من أنواع مختلفة - على المساحات المحددة، على الحدود والتخوم، على اجتياز الخطوط الفاصلة. وهذه المعاني قد لا تكون محددة بوضوح؛ فغالبا ما تكون ضمنية أو مفترضة؛ فالفرد ليس مضطرا لتعليق لافتة «ابتعد» على باب شقته ليكون لديه توقع منطقي بأن الغرباء - أو أقرب المقربين - لن يدخلوا دون دعوة. وفي السياقات الشخصية قد يعبر عن المعاني الخاصة بإقليم ما (بمعناه المستخدم من قبل علماء الاجتماع وعلماء النفس البيئي؛ انظر الفصل الثاني) شفهيا، أو ربما من خلال وضعية الجسد، غير أن المعاني المرتبطة بالعديد من أشكال الإقليم الحديث غالبا ما تكون مبنية على النص؛ فالثقافة الحديثة - أي الثقافة الكتابية، أو الثقافة القانونية - تتسم بأنها ثقافة «لافتات». وكما ستثبت الخبرة المشتركة بسهولة، فإن العديد من اللافتات غير التجارية التي يصادفها المرء يكون علامات مميزة للإقليم؛ فاللافتة تنقل أوامر السلطة بشأن ما قد نفعله، أو لا بد أن نفعله، أو لا بد ألا نفعله في المساحات اللامتناهية التي تشكل بيئاتنا الاجتماعية المادية.
ممنوع التجاوز.
ممنوع الانتظار.
الدخول إلى مدفيل: مطلوب رخصة بائع متجول.
منطقة مدارس: يحظر استخدام منتجات التبغ.
لا تقدم الخدمة في حالة عدم ارتداء القميص والحذاء.
وما إلى ذلك. أحيانا ما تكون عواقب إغفال اللافتة مشارا إليها أيضا («غرامة 50 دولارا»)، وأحيانا ما يحمل الأمر معه لمحة من جوازه («قوانين ماساتشوستس العامة، صفحة 266، الفقرة 120»). هل هناك ما هو أوضح من ذلك؟ إن لافتة «ابتعد» تعني ابتعد وإلا ف «ستعاني عواقب سيئة». ولافتة «للموظفين المخولين فقط» تجعلك على علم بأنك إذا لم تكن تعد من بين «المخولين»، فمحظور عليك أن تتجاوز عتبة المكان. وبالتأكيد لا يوجد ثمة غموض في المعاني والمدلول العملي للافتة «للبيض فقط» أو «الدخول إلى الولايات المتحدة». وإذا كانت إحدى الوظائف المفترضة للإقليم هي توضيح وتبسيط المعاني الاجتماعية للمكان، فهذه الأمثلة تفي بالغرض على ما يبدو.
علاوة على ذلك، يكون للعديد من المعاني المرتبطة بالإقليم الحديث مرجعية في نصوص أخرى؛ فقد يكون كم المعنى الذي تحمله له جذور في وثائق قانونية من نوعيات متعددة، وهذه الوثائق بدورها قد يعود مرجعها إلى القواعد التي تفسر بمقتضاها النصوص القانونية المختلفة. ونظرا لكونها نصوصا «قانونية»، فإن مرجعها هو الدولة وقدراتها الإلزامية. وقد تستمد معاني الإقليم، أو أقاليم بعينها، من المعاهدات، والاتفاقيات الدولية، والدساتير، والتشريعات القانونية، واللوائح، ومراسيم السلطة، والمستندات، وقوانين العمل، ونصوص أخرى لا تحصى. وأي إقليم يمكنه الاعتماد على هذه النوعيات من النصوص لاشتقاق جزء من معناها. ولمزيد من الدقة، يمكن اشتقاق معاني أي إقليم حديث أو مجمع إقليمي من عدة نصوص. وفي منتصف القرن العشرين كان شائعا للغاية لدى ملاك العقارات والأراضي من البيض في الولايات المتحدة إنشاء مناطق عرقية مستثناة باستخدام عقود خاصة؛ فكان المشاركون يوافقون على عدم تأجير أو بيع أملاكهم ل «الزنوج» لفترة زمنية محددة؛ 25 أو 50 عاما في العادة (ديلاني 1998). وقد كانت هذه الأقاليم القائمة على الإقصاء (والطرد) أيضا تمنح كل مالك «حقوقا» فيما يتعلق بالممتلكات الأخرى في الإقليم، وقد أقيمت عشرات الدعاوى القضائية التي تتحدى وتدافع عن هذه المساحات ذات الطابع العنصري. وقد اعتمدت التأويلات المتنازعة على حالات سابقة ومبادئ وأحكام دستورية وبيانات سياساتية لإضفاء معنى قانوني على الأقاليم. ووفقا لما ساد من بين هذه التأويلات المتناقضة (بين القضاة البيض)، من الممكن تعزيز، أو تعديل، أو محو الأقاليم تأويليا. وفي الولايات المتحدة، يستخدم قانون الملكية، والقانون البيئي، وقانون التفتيش والمصادرة، والقانون الهندي، والقانون الجنائي، وقانون اللجوء، وقانون السجون، وما إلى ذلك، في تفسير الأقاليم لعدد لا يحصى من المرات كل يوم. وثمة دول قومية أخرى لديها مؤسسات وممارسات مشابهة تخضع من خلالها الأقاليم للتأويل؛ فقد يكون إقليم بسيط ظاهريا هو المرجعية المكانية لمجموعة بالغة التعقيد من «المعاني» القائمة على النص. ونظرا لهذا التعقيد، قد تكون حتى ما يبدو أنها المعاني الأكثر وضوحا مفتوحة لعمليات تأويل وإعادة تأويل متباينة. وإذا كانت الأقاليم تنقل معاني، فلا بد أن تكون هذه المعاني «مقروءة»، والأهم من ذلك أنه في العديد من السياقات الاجتماعية الحديثة، قد تكون إعادة التأويل أو إعادة القراءة الاستراتيجية للمعاني المتضمنة داخل الأقاليم استراتيجية خطيرة للغاية لإعادة هيكلة آليات السلطة. وقد ذكرت في موضع سابق من هذا الفصل قضية الولايات المتحدة ضد أوليفر، التي أعاد فيها أغلبية قضاة المحكمة الأمريكية العليا تأويل مساحة معزولة ذات ملكية خاصة ك «نطاق مفتوح» لأغراض عمليات التفتيش المصرح بإجرائها دون الحصول على إذن من جانب الشرطة. يمكن فهم القضية باعتبارها نتاجا لصراع بين مؤيدي «القانون والنظام» والتحرريين المدنيين؛ ونتيجة للقرار، تقلصت إقليمية الخصوصية وتعزز النطاق المكاني للعمليات الشرطية؛ فإعادة توزيع السلطة محسومة، سواء أكان مالك العقار أو الأرض مسجونا أم لا.
والإشارة إلى نصوص قانونية ومعان محددة تربط الأماكن محل النقاش بشكل إقليمي ذي طابع مؤسسي للسلطة؛ ذلك الشكل المرتبط بالدولة. فالكثير من أقاليم الحياة الاجتماعية الحديثة ذات الشكل النصي - من مناطق التجارة الحرة نصف الكروية، إلى أراضي المعسكرات في المتنزهات المملوكة للدولة، إلى مناطق سحب السيارات المخالفة بالأوناش - يتم إنشاؤه على نحو مباشر عن طريق الجهات الفاعلة التابعة للدولة. ثمة أقاليم أخرى عديدة، كتلك التي تعود جذورها إلى امتيازات الملكية الخاصة، على الرغم من كونها منشأة على يد عناصر «خاصة» مفترضة مثل الملاك أو المديرين، فإنها بحاجة إلى التصريح لها، والتصديق عليها، وتنفيذها من قبل الجهات الفاعلة التابعة للدولة. وهكذا فإن لافتة «ممنوع التجاوز» تحمل معاني أكثر بكثير من مجرد الابتعاد؛ إنها تحمل معها المعنى الضمني الأساسي الذي يفيد بأنه في حالة عدم امتثال أحد للرسالة، فإن المالك أو المدير قد يستفيد من ميزة عنف الدولة لتنفيذ مزاعمه بالخصوصية واقتصار ملكية المكان عليه. وجميع الأقاليم الحديثة تقريبا، بطريقة ما أو بأخرى، تشير ضمنا إلى علاقات معقدة للسلطة تشمل - أو يمكن إعادة تأويلها لتشمل في مرحلة ما - تلك المرتبطة بالدولة البيروقراطية (المحلية، أو دون القومية، أو القومية). وأي إقليم تقريبا يحتل موضعا في نقطة التقاطع لعدد مفتوح من النصوص القانونية فيما يتعلق بما يضفي عليه «معنى»؛ لذا فإن أي إقليم حديث قابل للتأويل والتفسير، وربما يكون مفتوحا لمجموعة من التأويلات المتباينة. ولن تكون جميع هذه التأويلات منطقية أو مقبولة بالقدر نفسه لدى المفسرين المعتمدين، ولكن هذه أيضا قضية تتحدد وفقا لتوزيع السلطة. (5-4) الإقليم والعمودية
Unknown page
ثمة بعد أخير للإقليم قليلا ما يمنح الانتباه المستحق، ولكنه يتيح لنا رؤية مدى تعقيده على نحو أوضح وهو «العمودية». إن أكثر السبل شيوعا التي يناقش بها الإقليم هي تلك التي تتعامل معه «أفقيا» فقط؛ أي كمساحة محدودة ذات بعدين أو مجموعة من المساحات «المتشابهة»، كتلك التي تشكل المنظومة الدولية للدول أو أنماط الحيازات العقارية، أو أقلمة أماكن العمل الداخلية. والإقليم في هذه السياقات إنما يشير إلى طرق تمييز «دواخل» و«خوارج» متعارضة، مثل: محلي/أجنبي، أو خاص/عام، أو مسموح/ممنوع، أو ملكنا/ملكهم، أو ملكي/ليس ملكي. ولكن كما يشير الطرح السابق حول قابلية الإقليم للتأويل، فإنه في نظام اجتماعي حديث يتسم بالأنظمة العالمية الشاملة لسيادة الدولة (وكذا بنظم تأجير أو امتلاك الأراضي)، يتمركز كل مكان مادي - كالمكان الذي تجلس فيه وأنت تقرأ هذه الكلمات - داخل مصفوفة كثيفة من الأقاليم والتشكيلات الإقليمية «المتعددة المتداخلة»، و«المعاني» الخاصة بكل واحد من هذه الأقاليم (وعلاقات السلطة التي تتضمنها هذه المعاني) تتشكل بالنسبة إلى الأقاليم الأخرى عبر «المستويات» المتباينة.
تتعلق «العمودية» بالتوزيع الإقليمي للسلطة بين كيانات متمايزة مفاهيميا فيما يتعلق بجزء ما منفصل من الحيز الاجتماعي. وهكذا فإن المناقشات أو المجادلات بشأن نطاق أو حدود الحكومات القومية - وأبرزها الأنظمة الفيدرالية - والدول التأسيسية، أو المقاطعات، أو المناطق؛ تشير ضمنا إلى عمودية الأقاليم، وكذلك تفعل الحجج المتعلقة ب «الاستقلال المحلي» في مقابل مستويات «أعلى» من الحكومة أو التنظيمات الهرمية الأخرى. ربما يجدر بنا أن نشير إلى أن الحديث عن «العمودية» وعن المستويات «الأعلى» و«الأدنى» من الإقليم حديث مجازي، وهذه طرق تقليدية للحديث عن العلاقات داخل الأقاليم (وعلاقات السلطة التي تتضمنها) من مختلف النوعيات. وبصرف النظر عن التفاصيل الخاصة بالكيفية التي تعمل بها الفيدراليات المتعددة مثل الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية، على سبيل المثال، لا يوجد شيء «أعلى» بالمعنى الحرفي للكلمة بشأن هذه الفيدراليات في مقابل الوحدات «الأدنى» التي تتألف منها؛ فشيء يسمى «كندا» ليس أقرب إلى الشمس من شيء يدعى «جزيرة الأمير إدوارد». ويجذب مفهوم العمودية وأساليب الخطاب الشائعة الخاصة فيما يتعلق ب «مستويات» الانتباه (أو ربما يكون مصطلح «استحضار» أفضل من «الانتباه») إلى «الحدود» التنظيمية المجازية المفاهيمية التي تفصل وتميز الأقاليم المتمايزة التي ترى بالنسبة إليها. وإذا كان المعنى والمدلول العملي لإقليم ما - سواء أكان غرفة، أم شقة، أم مجمعا سكنيا، أم بلدية، أم مقاطعة، أم دولة قومية - مفتوحا على الأرجح لتأويلات متباينة، وإذا كانت معاني الحدود المحددة ماديا بين الأمثلة المختلفة لنوع الإقليم نفسه قابلة للنقاش والجدل؛ فإن «الخطوط» العديدة المجازية التي تفصل مختلف أنواع الأقاليم لا يمكن أن تكون أقل من ذلك. والواقع أن سياسات الإقليمية في هذه السياقات قد تكون ذات أهمية، شأنها شأن السياسات المعترف بها على نحو أكثر شيوعا للأقاليم «الأفقية» والمتشابهة. وعادة ما تكون النقاشات بشأن العمودية قاسما مشتركا بين الاستعارات المجازية الخاصة ب «الغزو» و«الانتهاك» المستخدمة في فهم الإقليم «الأفقي».
على القدر نفسه من الأهمية، على الأقل في بعض الأماكن، يأتي الحد المفاهيمي الذي يميز السيادة والحيازة، أو الحكم والملكية؛ إذ يعتقد أن هذه الأمور تشير إلى أنظمة أو مساحات إقليمية متمايزة؛ فجزء كبير من قانون العقارات في النظم القانونية الليبرالية يختص بالعلاقات الأفقية، مثل تلك التي يتخللها ملاك أراض مجاورون، ولكن جزءا كبيرا منه أيضا يتركز على العلاقات المنظمة على أساس أقلمة حقوق الملكية وأقلمة الحكومات، أو البلدية المحلية، أو الدولة، أو المواطن، التي تكون الملكية مدمجة فيها. تأمل مرة أخرى قضية الولايات المتحدة ضد أوليفر، التي صدقت فيها المحكمة العليا الأمريكية على تفتيش دون إذن لعقار خاص من قبل الشرطة. كان من الأمور محل النزاع في هذه القضية معرفة ما إذا كان ينبغي اعتبار المواقع البعيدة نسبيا عن منزل المالك مواقع «خاصة» (ومن ثم تستحق الحماية المشددة التي تتوافر من خلال استصدار إذن)، أم «عامة» بصرف النظر عن الملكية. ولكن الحالات التي تشبه هذه الحالة تتضمن عمودية أيضا لأنها تستلزم تقليصا للسلطة (الحقوق) المرتبطة بنوع من الأقاليم (العقار)، وتعزيزا للسلطة (سلطة الشرطة) المرتبطة بإقليم مختلف مفاهيميا (الدولة) ولكنه متداخل. علاوة على ذلك، فقد حسمت هذه القضية على أساس فهم للعلاقة بين سلطة الولاية (التي كانت في هذه القضية ولاية كنتاكي)، والقانون الدستوري الفيدرالي (التعديل الرابع الذي فسر تاريخيا ليسري على حكومات الولايات). والحدود بين نظام الملكية المؤقلم ونظام الحكومة تقحم في عدد لا حصر له من المواقف المتنوعة، مثل: قوانين الإسكان، وحرية التعبير، وتنظيم النشاط الجنسي، وقوانين الأسرة، وحماية البيئة. وكما سنرى في الفصل الرابع فيما يتعلق بالنسب الإقليمي لإسرائيل/فلسطين، فإن الحد المجازي بين «السيادة» و«الملكية» - وسياسة وضعه وتعديله - من ضمن العناصر الأهم والأكثر نشاطا للإقليمية على نحو أعم. ويمكن طرح الفكرة نفسها فيما يتعلق بسياقات أخرى عديدة، مثل خصخصة أو تفكيك الملكية الجماعية للأرض في المجتمعات الاستعمارية أو ما بعد الشيوعية، أو إلغاء القيود في دول أخرى. وسواء أكان التصور الموضوع للسلطة يتمثل في كونها توزع «إلى أسفل» أو «إلى أعلى»، فإن العملية إقليمية نظرا لأن الأفراد المشاركين ذوي الصلة هم أنفسهم خاضعون للأقلمة. وعمودية الإقليم محل نزاع أيضا في تلك الهياكل المؤقلمة التي تضم عددا هائلا من الدول القومية؛ فالمناطق التجارية، مثل منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، ومنظمات التنسيق العسكري المحددة إقليميا مثل منظمة حلف شمال الأطلسي، والأنظمة والمنظمات الدولية المتعددة الأطراف التي لا تحصى؛ كثيرا ما تثير الجدل بشأن «تآكل السيادة» للدول الأعضاء فيها. وأي طرح عام للإقليم يتجاهل العمودية إنما يغلق ما قد يكون من ضمن أهم أبعاد الإقليم؛ لأن أي إقليم حديث راسخ داخل التشكيلات المعقدة من المساحات المتمايزة والبنيوية في ذات الوقت على نحو تبادلي، التي توزع من خلالها السلطة ويعاد توزيعها. وبمجرد إدراك هذا، تصبح «البواطن» و«الظواهر» البسيطة والتبسيطية للإقليم أكثر صعوبة في تقبلها. (6) ملاحظات ختامية
كان الهدف من هذا الفصل هو فتح موضوع الإقليم عن طريق تمييز جوانب الإقليم - كظاهرة اجتماعية، وتاريخية، وثقافية، وسياسية، ومفاهيمية - التي عادة ما تهمش أو تقصى كليا. وكما ذكرت مرارا، عادة ما يفهم الإقليم كأداة لتبسيط وتوضيح دور السلطة في العلاقات الاجتماعية. ولا شك أنه غالبا ما يكون له هذا التأثير؛ فعبارة «ابتعد» غالبا ما تعني ابتعد. ولكن ثمة مهمة أكثر إيجابية تتمثل في تجاوز هذه الرؤية البسيطة لنرى ما قد يكون غامضا، وفي الفصل التالي نتناول هذا الهدف بأسلوب مختلف نوعا ما، من خلال إجراء عملية استكشاف للإقليم مع ظهوره في فروع معرفية أكاديمية متعددة.
الفصل الثاني
الإقليم داخل الإطار المعرفي وخارجه
(1) مقدمة
يمكن مراجعة الممارسات الإقليمية البشرية في فترات الانحسار والتراجع من التاريخ الإنساني، والحق أن الإقليمية في أشكالها المتنوعة عادة ما يتم تطبيعها كضرورة بيولوجية (أردلي 1966)، وكغريزة بدائية (جروسبي 1995)، وكظاهرة مستمرة بالأساس في ظل إظهار الرئيسيات وجميع الفصائل الحيوانية للإقليمية (تايلور 1988). وبالتأكيد يمكن، داخل السجل التاريخي للغرب، تحديد بقايا تمتد من أفلاطون إلى مونتسكيو تدعم فكرة وجود جوهر راسخ لماهية الإقليمية في الأساس؛ وأنها أساسية من ناحية ما (انظر، على سبيل المثال، المختارات لدى كاسبرسون ومينجي 1969). غير أن التنظير الصريح للإقليم والإقليمية هو ظاهرة حديثة نسبيا ظهرت في ظل مجموعة محددة من الظروف السياسية (الجغرافية) والتاريخية. علاوة على ذلك، فإن الاعتراف بالإقليمية كمفهوم موضع نزاع (وغير جوهري)، أو كمجموعة من الأفكار، والصور، والممارسات البالغة الإشكالية والجديرة بالتدقيق النظري؛ يعد إلى حد كبير تطورا نشأ بالأساس طوال الثلاثين عاما الماضية.
كان موضوع الإقليم مسألة جوهرية نوعا ما في مجموعة من الاختصاصات الأكاديمية، وقد كان بالنسبة إلى البعض منها، مثل مجال العلاقات الدولية والجغرافيا البشرية، في غاية الأهمية؛ وكان بالنسبة إلى البعض الآخر، مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس، محور اهتمام أكثر تخصصا لمجالات فرعية مثل الأنثروبولوجيا السياسية، وعلم الاجتماع الحضري، وعلم النفس البيئي. وقد كان معنى الإقليم وأهميته بالنسبة إلى كل مجال مشروطين بشكل قوي بمحاور الاهتمام الخاصة بمجال الدراسة التابع لكل فرع معرفي، مثل: السيادة (العلاقات الدولية)، أو الثقافة (الأنثروبولوجيا)، أو الخصوصية (علم النفس)؛ لذلك قد تبدو للوهلة الأولى الصلة التي تربط بين الأدوار التي يلعبها الإقليم في أساليب الخطاب التخصصية محدودة. غير أنه عند النظر إليها عبر مجموعة من مثل أساليب الخطاب هذه، نجد أن المفاهيم المتعددة للإقليم مدعومة بمجموعة مشتركة من الافتراضات السابقة الجوهرية.
ينقسم هذا الفصل إلى جزأين؛ في الجزء الأول أعرض دراسة لكيفية معالجة الإقليم في مجموعة من أساليب الخطاب التخصصية، وفي ظل العدد الكبير من الفروع المعرفية وقيود المساحة لهذه «المقدمة القصيرة»، لا أدعي أنني سأعرض أي شيء يقترب بأي حال لأن يكون دراسة شاملة؛ فبحكم الضرورة ثمة جزء كبير لم يتطرق إليه وكان ينبغي إدراجه بلا شك، وما هو مدرج معالج معالجة سريعة نوعا ما. والأهداف من وراء ذلك هي إبراز بعض الإنجازات الأساسية التي جلبها كل مجال إلى فهمنا للموضوع، واستكشاف الدور الذي تلعبه المفاهيم الخاصة بالإقليم فيما يتعلق بالمسائل الأساسية التي تعالجها هذه الفروع المعرفية. كذلك أشير إلى ثغرات وأوجه تفكك مهمة تميز هذه المناهج المعرفية. والحق أن أفضل شكل يمكن أن ننظر به إلى هذا الجزء هو أن نعتبره استكشافا ل «الأقلمة الأكاديمية للإقليم»؛ لأن الاختصاصات المعرفية المختلفة استخدمت المفاهيم الخاصة بالإقليم استخداما تقليديا من أجل تعيين حدود لمحاور اهتمامها الأكثر محورية، وتمييز أنفسها عن الفروع والمجالات الأخرى.
Unknown page
في الجزء الثاني أستكشف مجموعة من المشروعات المتعددة الاختصاصات المعرفية (كلاين 1990)، التي ترفض صراحة هذه الأقلمة للإقليم، وتسعى لتوضيح بعض مما أضفي عليه غموض بفعل أساليب الخطاب التخصصية الأكثر تقليدية؛ بل إنه من الممكن إثبات أن هذه المشروعات المتعددة الاختصاصات هي في حد ذاتها، جزئيا، نواتج للتفكير في عمليات إعادة التشكيل الإقليمي في العالم، مثل تلك المرتبطة بالخصخصة وما بعد الاستعمارية. (2) الإقليم ومجالاته المعرفية (2-1) العلاقات الدولية
لا شك أن الدولة الإقليمية، وتكتلات الدول، وحدودها المرتبطة بها التي تغطي الأرض المأهولة على نحو شامل؛ هي من بين التعبيرات الأهم للإقليمية في العالم الحديث؛ فهذه المصفوفة المكانية، بطرق عدة، تدعم أو تعتبر محط انتباه معظم التخصصات المعرفية الاجتماعية (أجنيو 1993). فالدولة، التي ينظر إليها تقليديا باعتبارها «حاوية» شبه طبيعية ل «مجتمعها» المقترن بها، «عملت بمنزلة دوامة تمتص العلاقات الاجتماعية لتشكلها من خلال إقليميتها» (تايلور 1994، 152).
من بين التخصصات المعرفية، التي يعد الإقليم محور اهتمام جوهري لها، العلاقات الدولية. ولكن حتى في هذا الصدد، كما يدعي روجي، «من المدهش حقا أن مفهوم الإقليمية قد درس دراسة محدودة من قبل طلاب السياسة الدولية؛ فإهماله أشبه بعدم النظر مطلقا إلى الأرض التي يمشي عليها المرء» (1993، 174). والمقصود بهذا هو أنه بينما يعد الإقليم محور اهتمام جوهري لمجال العلاقات الدولية، فإن «ماهية» الإقليمية و«كيفية» عملها عادة ما تفترضان فقط دون أن تستكشفا؛ سواء على نحو نقدي أو على أي نحو آخر؛ فالإقليم يعين حدود «الداخل» و«الخارج» المؤسسين للدول؛ فهو يعمل على تمييز المحلي عن الأجنبي، والقومي عن العالمي. ولكن هذه الاختلافات بدورها تعمل على دعم هوية العلاقات الدولية في مقابل العلوم السياسية؛ فكما كتب أجنيو: «لقد كان التقسيم الجغرافي للعالم إلى دول إقليمية متعارضة هو ما عمل على تحديد مجال الدراسة» (أجنيو وكوربريدج 1995، 78). والفكرة المعلنة في الغالب هي أن «السياسة»، على وجه التحديد، يمكن أن تظهر فقط «داخل» مجتمع سياسي محدد إقليميا؛ ف «العلاقات» المتنوعة بين الدول ذات السيادة (بين الأماكن) لا يمكن وصفها وصفا دقيقا بأنها «سياسة»، بل حنكة سياسية. بتعبير أبسط، «النظام داخل حدود الدولة دراسته متاحة للآخرين» (أجنيو وكوربريدج 1995، 81). وهذا ببساطة تأكيد على أن مفهوما معينا للإقليم يعد موضعا محوريا للاهتمام المعرفي، ومقوما للعلاقات الدولية كتخصص مستقل.
تعد الدولة الإقليمية و«منظومة» الدول الشاملة عالميا تطورا حديثا نسبيا في العالم؛ فعلى الرغم من وجود سوابق مشابهة في الماضي، ظهرت منظومة الدول الإقليمية الحديثة في أوروبا الحديثة في بدايتها كحل عملي جزئي لعدد من المشكلات المحلية والمحتملة تاريخيا، المرتبطة بالفترة الانتقالية الطويلة المدى من الإقطاعية إلى الرأسمالية. وقد صيغت الإقليمية كتعبير مكاني عن فكرة السيادة الحصرية في عدد من المعاهدات، مثل معاهدة وستفاليا (1648)، ومعاهدة أوترخت (1703) (كريسنر 2001؛ تيشة 2003). ولكن الأمر استغرق 300 عام - ثم بضعة أعوام أخرى - لتصبح الأداة المكانية المنظمة على مستوى كوكبي. وجزء من الكيفية التي يمكن بها فهم العمليات العالمية التاريخية الخاصة بالإمبريالية، والاستعمارية، وتصفية الاستعمار، والتحرير الوطني؛ هو فهمها باعتبارها الفرض التدريجي والانتقائي لهياكل الدولة ذات الطابع الإقليمي على الشعوب غير الأوروبية والمقاومة، والتكيف أو القبول الانتقائي لهذه الأمور من جانب الخلفاء القوميين. وأيا كان الأمر، فمن المهم أن نتذكر أن الدولة الإقليمية السيادية كانت ظاهرة عالمية لأقل من 60 عاما.
يرتبط الإقليم في هذا الإطار الفكري ارتباطا وثيقا بمفهوم «السيادة» كشكل خاص من أشكال السلطة (كريسنر 1999؛ ووكر ومندلوفيتش 1990). والحق أن السيادة الحديثة غير قابلة للانفصام عن الإقليم الحديث؛ فعلى الصعيد الشكلي، أن تكون «ذا سيادة» يعني أن تمتلك سلطة مطلقة داخل حيز إقليمي، ولا تعاني أي تدخل من قبل أي أطراف خارج هذا الحيز، وحدود الحيز تقرر حدود السلطة، وأي تدخل من هذا القبيل يفهم أنه يهدد سلام الدولة؛ ومن ثم يهدد استمرار وجودها؛ لذلك، من المفهوم أن أي تدخل أو اعتداء يحفز استخدام حق الدفاع بأي وسيلة تقتضيها الضرورة. ومفهوم السيادة الإقليمية، «على الصعيد الشكلي»، يستتبع المساواة بين الدول السيادية الذاتية الإعلان عن استقلالها، مثل: أوزبكستان، وسيشل، والمكسيك، والولايات المتحدة. أما «على الصعيد العملي»، فيوجد تدرج هرمي متغير تاريخيا ومتنوع إقليميا للدول، من شأنه تعقيد هذه المساواة الشكلية (كلارك 1989).
وقد وضعت العلاقات الدولية على نحو تقليدي عددا من الافتراضات بشأن الإقليم وعلاقته بالسيادة؛ ولكن، على نحو أساسي، تسلم العلاقات الدولية بأن «الشكل الحديث للإقليمية ... قائم على حدود خطية ثابتة تفصل المساحات المتصلة والمتعارضة» (روجي 1993، 168). ومن المفهوم أن هذه الحدود تميز اختلافات واضحة وغير مبهمة بين الدواخل والخوارج، والعلاقات المحلية والخارجية، والمواطن والأجنبي. وهذه الحدود، بالطبع، من بين أهم فئات الحياة الاجتماعية الحديثة. ووضوح وبساطة الإقليم والحدود يضمنان وضوح وقطعية السلطة السيادية. ولكن نظرية العلاقات الدولية تتفهم هذه الحدود أيضا بطرق خاصة نوعا ما، وفهم التداعيات التي يتخيل أنها تنبثق من هذه «الكينونة المكانية»، بحسب تعبير أجنيو (1998)، هو جل مضمون نظرية العلاقات الدولية.
في الخطاب الخاص بنظرية العلاقات الدولية يكون لحد الدولة معنى آخر أعمق؛ فهو لا يميز الحدود الخارجية للسلطة الشرعية أو النقاط الواقعة على طول أي خط تتصل عنده الدول ذات السيادية المتجاورة فحسب، بل أيضا يميز الاختلاف المطلق بين «المجتمع» و«الفوضى». والفوضى في هذا المقام مصطلح متخصص يشير ببساطة، في أبسط استخدام له، إلى «غياب» السيادة. ولكن إذا كانت «السيادة» تشير ضمنا إلى «نظام سياسي متجانس ومتماسك» (آشلي 1988، 238)، وإذا كان «مجال السياسة المحلية ... هو المجال الذي يصل فيه المجتمع إلى أقصى درجات البراعة والكمال» (آشلي 1987، 412)؛ فإن «الفوضى، في المقابل، تشير إلى مجال من الالتباس واللاتحديد، مجال من المخاطر والمخاوف قد يضع الوجود المحض للدولة السيادية في خطر» (آشلي 1988، 238). إذا، نظرية العلاقات الدولية لا تفترض فقط مفهوما بعينه للإقليم (بوصفه واضحا ومغلقا وثابتا)، ولكنها تميل أيضا إلى تحويل الإقليم بقوة إلى مصطلحات ثنائية التفرع بواسطة وضع خرائط لتعيين النظام/الفوضى، والهوية/الاختلاف، والوجود/الغياب، والسياسة/السلطة، وما إلى ذلك عبر الحدود والمساحات التي تصبح من خلالها الحياة الاجتماعية ملموسة وواضحة.
ولكن هذا التوصيف يبسط الرؤية الإقليمية لنظرية العلاقات الدولية تبسيطا مبالغا فيه؛ فهذا الرأي ينطبق بسهولة على بعض التوجهات النظرية أكثر من انطباقه على غيرها. وانتقادات ودفاعات هذا التوجه أعطت بالفعل حياة لما يسميه مؤرخو المجال «المناظرة الكبرى» بين «الواقعيين» و«المثاليين» (مجروري 1982؛ سميث 1995؛ ووكر 1989). و«الواقعية» هي أسلوب تفكير في «الجانب الدولي»، تكون فيه جميع الدول السيادية هي الجهات الفاعلة الوحيدة ذات الصلة (براون 1992؛ بوزان 1996). والشواغل الأساسية للعلاقات الدولية الواقعية وأساليب الخطاب الخاصة بالشئون الخارجية والسياسة الخارجية المرتبطة بها؛ هي السلطة والأمن والنظام. ثمة موضوعات أخرى مرجحة للعلاقات بين الدول، مثل العدالة أو الأخلاق، غير ذات صلة بدرجة ما أو بأخرى. ومرة أخرى، يعتقد أن الأفكار مثل «السياسة» أو «المجتمع»، التي ربما تشكل الأساس لعدالة أو أخلاقيات الكوكب، غائبة إلى حد كبير عن العلاقات «بين» الدول؛ وهذا هو معنى «الفوضى».
في المقابل، تعمل «المثالية» - أو كما يسمى هذا التوجه في بعض الأحيان «الليبرالية»، أو «التعددية»، أو «اليوتوبية» - على تأكيد إمكانية قيام «مجتمع دولي» للدول في غياب السيادة (ليتل 1996). ويرى المفكرون بهذا الأسلوب أن هناك على الأقل إمكانية لدعم العلاقات الدولية (بشيء أشبه) بالتزامات أخلاقية عامة ومفهوم عام وشامل للعدالة. ويصنف كريس براون الاختلاف بأنه اختلاف بين «الجماعاتيين» (الواقعيين) و«الأمميين» (المثاليين). عمليا، قد يكون بالإمكان تحقيق نظام عالمي معياري أممي من خلال تأسيس وتنشيط منظمات دولية مثل عصبة الأمم أو الأم المتحدة، ومن خلال زيادة وتقوية «الأنظمة الدولية» أو الاتفاقيات المتعددة الأطراف كتلك المتعلقة بحقوق الإنسان، والبيئة، وحظر انتشار الأسلحة النووية (هاسينكليفر وآخرون 1997؛ كريسنر 1983). بالطبع يدرك المثاليون الأهمية الجوهرية للسيادة الإقليمية ويؤكدون عليها. ولكن افتراض «مجتمع دولي» من شأنه توسيع موضوعات المناقشة لتشمل التعاون والضرورة المحتملة، المتمثلة في «التدخل» الإنساني في الشئون الداخلية للدول الأعضاء. وثمة صور أقوى لهذا التوجه قد تدعو إلى فرض قيود عملية على السيادة الإقليمية أو ترحيل بعض سمات السيادة إلى حكومة عالمية؛ فحتى النسخ الأقوى وضعها مؤيدون لقيام حكومة عالمية موحدة (جلوسوب 1993).
في سبيل تحقيق أهدافنا تصاغ هذه المناظرات داخل إطار العلاقات الدولية (والخطاب الخاص بالشئون الخارجية التقليدية من منظور أعم)، من خلال مفاهيم متباينة للإقليم؛ فيرى الواقعيون المنظومة الإقليمية العالمية باعتبارها مؤلفة من دول سيادية متعارضة ومحددة مكانيا، منظمة على أساس تخطيط مستو ثنائي الأبعاد للسلطة والنفوذ. أما المثاليون، فيتخيلون أقلمة للسلطة العالمية مقسمة تدريجيا إلى طبقات. وفي هذا الصدد، تعد الأقاليم السيادية عناصر تأسيسية لمجتمع عالمي من الدول؛ فيما يشبه إقليما ضخما. وكما سيتضح أكثر مع التوغل في هذه الدراسة، هناك الكثير من العناصر المشتركة بين هاتين الصورتين من الإقليم أكثر مما قد توحي به عبارة «المناظرات الكبرى». (2-2) الجغرافيا البشرية
Unknown page
ثمة تخصص معرفي آخر كان الإقليم محل اهتمام جوهري تقليدي له، هو الجغرافيا البشرية. ميز هذا المجال نفسه تاريخيا عن المجالات الأخرى من خلال اهتمامه المحوري بالفئات الاجتماعية للمكان، والحيز، والمنظر الطبيعي. بالطبع يعد الإقليم عنصرا مهما من عناصر العلاقات المكانية الاجتماعية البشرية، وقد شكلت هذه الموضوعات الأساس أيضا لتصور الجغرافيا كمجال معرفي «مركب»؛ أي كنوع من المجالات الأولية المتعددة الاختصاصات، وظيفته توليف المعرفة التي تنشأ في المجالات الأخرى، واستعراض العلاقات فيما بينها في العالم المادي (جيمس 1972؛ ليفينجستون 1993). على الجانب الآخر، كان ثمة شكل واضح نوعا ما من التخصصية، غالبا ما يعاد تشكيله من خلال زيادة المجالات الفرعية مثل الجغرافيا السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والحضرية، التي غالبا ما تكون أبعد ما يكون عن مستوى التوليف المرجو.
إذا كان من الممكن وصف العلاقات الدولية كتخصص معرفي يعد الإقليم أساسيا بالنسبة إليه ولكنه في الوقت نفسه نادرا ما يتم تناوله وبحثه على نحو صريح، لا يمكن أن يسري الأمر نفسه بالنسبة إلى الجغرافيا، أو على الأقل ليس بالمعنى نفسه؛ فقد خلف الجغرافيون وراءهم على مر الأجيال قدرا كبيرا من المعرفة حول الأشكال، والوظائف، والعمليات المرتبطة بالإقليمية والحدود. سوف أتناول هذه الأمور لاحقا، ولكن سوف أذكر أولا سمتين عامتين لمعالجة الإقليم في الجغرافيا تختلفان عن معالجته في العلاقات الدولية؛ الأولى: بينما ركز الكم الأكبر من الاستكشاف التاريخي للإقليم على علاقته بالدولة القومية، شرع بعض الجغرافيين في منتصف القرن العشرين في دراسة آليات الإقليم «داخل الدولة» في سياقات مثل الفيدرالية، وتكوين الحدود داخل الدولة، وتوسعة حدود المدن، وإعادة تقسيم الدوائر، وما إلى ذلك (ديكشيت 1975؛ موريل 1981). الثانية: يوجد أيضا تقليد في الجغرافيا الاجتماعية يتمثل في فحص ودراسة آليات الإقليم في السياقات «البعيدة عن الدولة»، وفي هذا المقام، يتداخل الموضوع مع موضوع الحيز الاجتماعي الأعم (لي 1983).
من ناحية القرب، كانت معالجة الإقليم في الجغرافيا شديدة الشبه بمعالجة مجال العلاقات الدولية الواقعية، وكانت «السياسة الجغرافية» من الاهتمامات الأساسية. وبحسب تعريف سول كوهين لها، «السياسة الجغرافية هي الدراسة التطبيقية لعلاقة الحيز الجغرافي بالسياسة» (1994، 17). وفي التاريخين القديم والمعاصر للجغرافيا السياسية يعرف فريدريك راتزل (1844-1904) عموما كواحد من «آبائها المؤسسين» (باركر 1998)؛ فخلال ذروة التوسع الإمبريالي الأوروبي صاغ رؤية للإقليم ربما يراها المراقبون المعاصرون غريبة الأطوار، غير أن هذه التفسيرات كانت لها أهميتها آنذاك، وظل لها نفع واستمرارية في القرن الحادي والعشرين، على الرغم من حقيقة أن عالمه وعالمنا مختلفان اختلافا جذريا من نواح عدة. ولكن ربما يكمن نفعها الدائم تحديدا في جدواها في «رفض» هذه الاختلافات، وتأكيد الرؤية الراسخة المفترضة سابقا من قبل مجال العلاقات الدولية الواقعية وخطاب إدارة الدولة لدى القوى العظمى.
عبر فريدريك راتزل، وهو صحفي متجول تحول إلى جغرافي أكاديمي، عما أطلق عليه مفهوما «عضوانيا» لإقليم الدولة (هيفرنان 2000؛ أوتواثيل 1996). فقد أكد في ورقته البحثية التي بعنوان «قوانين النمو المساحي للدول» (1896 [1969]) على «أننا نتعامل داخل الدولة مع طبيعة عضوية، ولا شيء يناقض طبيعة العضوي أكثر من التحديد الصارم» (1896 [1969]، 17). وكتب مردفا: «كل شعب، بالنسبة إلى السياسة الجغرافية، قائم على حيز ثابت بالأساس، يمثل كائنا حيا بسط نفسه على جزء من الأرض وميز نفسه عن كائنات أخرى لها حدود ممتدة على نحو مماثل، أو بحيز شاغر» (ص18). والكائن الحي هنا ليس مجرد مؤسسة - الدولة - وإنما «شعبه» المرتبط به: «ثقافة» أو «أمة». وقد وضع راتزل ما قد نطلق عليه النظرية الجلدية للحدود؛ ف «الحد هو العضو المغلق للدولة أو المحيط بها، والمنوط بنموها وكذا تحصينها، ويشارك في كل التحولات التي تمر بها الدولة ككائن» (ص23). ولما كانت الدولة أشبه بكائن حي، كانت هناك ضرورة شبه بيولوجية نحو «النمو» الحرفي والمجازي. والتوسع الإقليمي مفهوم في إطار نظرية لمراحل النضج الحضاري، وينص القانون رقم واحد من «قوانين النمو المساحي» على أن «حجم الدولة ينمو مع ثقافتها» (ص18). ولكن ما الذي يمكن أن يعنيه الحديث عن «حجم» ثقافة ما؟ يعتمد راتزل في هذا المقام على المفهوم التطوري للتاريخ أو الأنثروبولوجيا، الذي قد تتطور، أو لا تتطور، فيه الثقافات «الأدنى» أو «الأولية» إلى ثقافات أكثر أو أقل «تقدما» أو «نضجا». وبمقتضى التوسع المجازي تكون الثقافة الأكثر نضجا أكبر من ثقافة أقل نضجا؛ ومن ثم تقتضي وتستحق مساحة أكبر. والبعض من الأخيرة يرتقي إلى منزلة «الحضارات»، وعن ذلك قال: «كلما انحدرنا في مستويات الحضارة، تصبح الدول أصغر» (ص19). وقد أضفت هذه الضرورات شبه الداروينية التطبيعية مظهرا بلاغيا من العلمية على الخطاب الجغرافي السياسي في مطلع القرن العشرين. وكما ذهب أحد الجغرافيين مؤخرا: «لقد قدم فريدريك راتزل مفردات سياسية - أكثر من أي شيء آخر - تحيط بها هالة من العلم لليمين الألماني؛ مفردات عبرت عن رغبة قومية متطرفة، وبررتها، في حيز ما، وكان من شأنها أن عجلت بحربين عالميتين في القرن العشرين» (أوتواثيل 1996، 38).
يمكننا رؤية بعض من تأثير أفكار راتزل في النص الأمريكي الذي وضعه صامويل فان فالكنبرج بعنوان «عناصر الجغرافيا السياسية» (1940)؛ فقد استخدم فان فالكنبرج نموذجا تطوريا عضويا على نحو صريح لترتيب «الأمم» على مقياس يتدرج من «الشباب» إلى «المراهقة»، إلى «النضج»، إلى «الشيخوخة». في هذا النص الذي كتبه عام 1939، لم يجد سوى ثلاث دول «ناضجة» هي: الولايات المتحدة، والإمبراطورية البريطانية، وفرنسا. أما ألمانيا وإيطاليا واليابان، في المقابل، فكانت دولا مراهقة واتسمت ب «طبيعتها الديناميكية» (ص9). ولكن بالنظر إلى طبيعة المراهقين، «لا بد من إبقائها تحت السيطرة، على أمل أن يعمل النضج على تخفيف آرائها السياسية» (ص9-10). من الجوانب المهمة لأي أمة، في رأي فان فالكنبرج، تكوينها العرقي، ولفظة العرق هنا «مستخدمة بالمعنى البيولوجي» (ص233). وفي فقرة رائعة سعى فيها للتوصل إلى «فهم أفضل لأسباب الثورة المضادة لليهود» (ص242) في جمهورية الرايخ الثالث المراهقة، أشار إلى بروز اليهود في المهن المختلفة، والقيمة النسبية للممتلكات الاقتصادية لليهود بالنسبة إلى أعدادهم. «ها هو السبب الحقيقي للمشكلة»:
قد يسميها أحدهم عداء عرقيا قائما على حقيقة أن اليهود لهم صفات غير جاذبة للآخرين ، وقد يسميها آخر غيرة اقتصادية قائمة على حقيقة أن اليهود لديهم المقدرة على السيطرة على مجالات بعينها. في حالة ألمانيا، كان الأسلوب الذي تم التعامل به مع المشكلة هو ما استفز بقية العالم أكثر من المشكلة ذاتها. لقد كان بمقدور ألمانيا بالتأكيد أن تكون أكثر كياسة. (1940، 243)
ولعل هذا هو أفضل مثال توضيحي يمكن تخيله لملحوظة كيرنز عن أن «الرؤية الجغرافية السياسية ليست بريئة على الإطلاق؛ فهي دائما رغبة تفرض تحليلا ما» (2003، 173).
وكنتيجة مباشرة لهذا النمط من التفكير، ظهرت عقبة ملموسة في الجغرافيا السياسية في منتصف القرن، تمثلت هذه المشكلة في كيفية «إزالة» الطابع السياسي عن المعرفة العلمية بشأن السياسة والحيز من أجل تحقيق شيء أشبه ب «الموضوعية»، أو شيء جدير بصفة «العلم» المشرفة. وكان من بين أكثر المصلحين تأثيرا ريتشارد هارتشورن. سعى هارتشورن، الذي ألف بحثا بعنوان «المنهج الوظيفي في الجغرافيا السياسية» (1950 [1969]) في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلى تقديم تحليل غير متحيز للإقليم، أو «حيز منظم سياسي» كما سماه.
وقد ذهب إلى أن مهمة الدولة هي «إرساء سيطرة كاملة وخالصة على العلاقات السياسية الداخلية؛ بعبارة بسيطة: وضع القانون والنظام، والحفاظ عليهما»، وبالإضافة إلى هذا «تأمين الولاء الأسمى لدى الناس في كل أقاليمها، في منافسة أي ولاءات محلية أو إقليمية، وفي معارضة مطلقة لأي دولة أو إقليم خارجي» (1950 [1969]، 35). وأكد أن «المشكلة الأولى والمستمرة التي تواجهها أي دولة هي كيفية دمج مناطق متشعبة أقل أو أكثر انفصالا في كل فعال» (ص35). إن المشكلة التي تواجه المتخصص في الجغرافيا السياسية تكمن في تقييم نقاط القوة النسبية للقوى «الجاذبة» (ص38) و«النابذة» (ص36)، التي تعمل داخل دولة إقليمية بعينها وتؤثر عليها. وهذا يستلزم تحليلا لعلاقات الأجزاء بالكل، وعلاقات الكل بالخارج. وقد يتم إجراء هذا من خلال دراسة للأقاليم القائمة، ومن خلال فحص الأقاليم المقترحة من أجل التنبؤ بالكفاءة الوظيفية. وبينما كان لهارتشورن مفهوم أكثر اجتماعية وأقل طبيعية للدولة، فإنه استعاض عن الاستعارات البيولوجية باستعارات من علم الفيزياء.
كان من بين القوى النابذة التي ذكرها هارتشورن السمات الطبيعية، مثل سلاسل الجبال والمسافة، ووجود «شعب مختلف، وبالأخص شعب غير ودود» (ص36)، وتنوع في اللغة أو الديانة أو النشاط الاقتصادي معبر عنه إقليميا. وهذه الأمور، خاصة إن كانت مجتمعة، يمكن أن تنهك السلامة الإقليمية. وأهم القوى الجاذبة التي قد تتصدى لهذه الأمور هي ما أطلق عليه هارتشورن «فكرة الدولة» (ص38)، أو سبب الوجود لدى الدولة. ربما توجد «فكرة الدولة» في عقول هؤلاء الذين يسعون لإنشائها أو الحفاظ عليها، ولكن لا توجد فكرة دولة عالمية عامة؛ بل إن فكرة دولة بعينها يمكن فقط أن تكتشف من خلال بحث مفصل. ويمضي البحث إلى الإجابة عن أسئلة على غرار: «لماذا توجد فنزويلا؟»، «لماذا توجد لبنان؟»، «أي فكرة دولة تربط الأجزاء المختلفة لأفغانستان معا؟». قد يتساءل أحدهم حينئذ عما إذا كانت «فكرة الدولة» الخاصة بدولة بعينها قوية بما يكفي لصد القوى النابذة التي من شأنها أن تفككها إقليميا، أو ما إذا كان من الممكن لفكرة دولة مضادة أن تكون قوية بما يكفي لدعم الانفصال أو التقسيم. والمثير في الأمر، في ظل الأحداث الأخيرة، أن المثال الذي ساقه لفكرة الدولة يتعلق بالعراق الذي كان «سبب وجوده» متأصلا في: (1) الاعتراف من قبل القوى العظمى ذات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية بمنطقة بلاد الرافدين، و(2) الحاجة لتوفير مكان للقومية العربية المطرودة من سوريا. وعلى أساس هذين الاعتبارين أسس إقليم (لاحظ صيغة المبني للمجهول) يضم منطقة سهول دجلة والفرات العربية المستقرة، جنبا إلى جنب مع مناطق القبائل الجبلية والصحراوية المتاخمة لها على الرغم من اختلافها، لينشأ الكل كدولة عربية منفصلة. (1950 [1969]، 40)
Unknown page
وأضاف على سبيل التنبؤ: «سوف يحتاج المرء لتحديد ما إذا كان العراقيون قد طوروا مفهوما قوميا بحق منذ ذلك الحين أم لا» (ص40).
انخرط جغرافيون آخرون من حقبة منتصف القرن في «دراسات عن الحدود»، وقدمت دراسات حالة فيما يتعلق بالنزاعات الحدودية، والتغيرات الحدودية، والمراجعات الحدودية الأخرى مثل الضم والتقسيم. بالإضافة إلى ذلك، وإن كان هذا موضوعا ثانويا بشكل قاطع، بدأ بعض الجغرافيين في تحليل الحدود «الداخلية»، كتلك التي تتضمن ولايات الولايات المتحدة والمناطق الحضرية الكبرى والحكومات المحلية، وكذا العمليات المرتبطة بإعادة تقسيم الدوائر السياسية؛ غير أن هذه الأمور كانت في العادة لا تنظر في إطار الإقليم.
قبل سبعينيات القرن العشرين كان الإقليم في إطار معالجة الجغرافيين البشريين له مجال يكاد يقتصر على الجغرافيين السياسيين، الذين كانوا بدورهم مهتمين على نحو شبه حصري بالدولة القومية. ومع أواخر عام 1973، استطاع الجغرافي البارز جون جوتمان تأليف كتاب بعنوان «أهمية الإقليم»، اهتم فيه اهتماما شبه حصري بتاريخ الإقليم التابع للدولة في أوروبا الغربية، وحاول تبرير تطوره في إطار حالة عدم الاتزان بين «الأمن في مقابل الفرصة» و«الحرية في مقابل المساواة». ولكن وقتئذ، كما سوف نرى لاحقا في هذا الفصل، كان تخصص الجغرافيا البشرية قد بدأ يتغير. (2-3) الأنثروبولوجيا
على عكس العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية، لم يكن الإقليم موضوعا محوريا لهذه الدرجة في الأنثروبولوجيا التقليدية، غير أنه كان يدرس كجانب من موضوعات أساسية مثل الثقافة والتغيير الثقافي، والعلاقات بين العرقيات المختلفة، ورابطة الدم والنسب، ومنظومات المعنى الرمزي، واستخدام الموارد وحيازة الأرض، والتنظيم السياسي في مرحلة اللادولة أو ما قبل الدولة. وبالنسبة إلينا يمثل أهمية كمصدر للتفسيرات الخاصة بالإقليم في سياقات خلاف تلك التي تركز على الدولة ذات السيادة؛ وبمقتضى ذلك، يشكل أهمية كمصدر لعمليات إعادة تنظير أكثر حداثة.
ركزت مجموعة فريدريك بارث المؤثرة بعنوان «الجماعات العرقية والحدود: التنظيم الاجتماعي للاختلاف الثقافي» تركيزا صريحا على آليات صنع الحدود الإثنوجرافية والحفاظ عليها؛ فقد أشار بارث إلى أن: «جل الاستدلال الإثنوجرافي يرتكز على فرضية أن التباين الثقافي متقطع. والاختلافات بين الثقافات وحدودها وروابطها التاريخية أوليت الكثير من الاهتمام؛ أما تكوين الجماعات العرقية، وطبيعة الحدود بينها، فلم يلقيا نصيبا مماثلا من البحث» (بارث 1969، 9). تختلف هذه المساحات الثقافية ذات الحدود من نواح مهمة عن الإقليم حسبما عولج في العلاقات الدولية والجغرافيا. والتركيز في الأنثروبولوجيا ينصب على العزلة والتنوع أكثر من الإقصاء والاستئثارية؛ على الهوية والعضوية الذاتية النسب أكثر من استخدام السلطة. تتضمن الحدود وممارسات الحفاظ على الحدود والتفاوض بشأنها قضايا تشابه واختلاف. و«التركيز الأهم» ينبغي - وفقا لبارث - أن ينصب على «الحد العرقي الذي يعرف المجموعة، وليس المحتوى الثقافي الذي يحيط به» (ص15). فالمساحات المحددة بفعل هذه الحدود قد تكون لها، أو لا تكون، صيغة مادية ثابتة؛ بل إنها، في الواقع، قد تتحرك بتحرك «المضمون الثقافي». ومثل هذه الممارسات الخاصة بالحدود، من منظور يفترض الثبات المكاني للإقليم، من شأنها أن تكون لا إقليمية بالضرورة؛ أو ربما كان «الحد» و«الإقليم» يستخدمان بمعنييهما الأكثر مجازية. غير أنه من منظور آخر، ذلك الذي لا يرى تعارضا بالضرورة بين التنقل والإقليم، تنبع الاحتمالية من التفكير في الإقليم بطرق تحيد على نحو أكثر إثارة عن نموذج العلاقات الدولية؛ على سبيل المثال: بحث بعض علماء الأنثروبولوجيا آليات الإقليم والإقليمية بين مجتمعات الصيد وجمع الثمار، والرعويين، والبدو. قد يبدو ذلك محيرا للوهلة الأولى؛ نظرا لأن هذه النوعيات من المجتمعات ربما تعد «غير» إقليمية بالضرورة مقارنة بالشعوب المقيمة المستقرة. ولكن مرة أخرى، قد يكون اللغز أقرب إلى كونه نتيجة ترتبت على مفهوم بالغ السذاجة أو متمركز حول الدولة للإقليم.
ويبحث المساهمون في كتاب منقح مهم تأليف مايكل كازيمير وأبارنا راو بعنوان «التنقل والإقليمية: الحدود الاجتماعية والمكانية بين مجتمع الصائدين البريين، وصائدي الأسماك، والرعويين، والرحالة» (1992)، في هذه المسألة تحديدا. على سبيل المثال: كان وصف آلان برنارد للإقليمية بين جامعي الثمار والصيادين في جنوب أفريقيا على النحو التالي:
إن الحدود الاجتماعية المحفوظة لدى قبائل البوشمن، أو مجتمع الصيد وجمع الثمار الجنوب أفريقي؛ محددة وفقا للغة والثقافة وعلاقات النسب والدم، وتضم هذه الحدود تلك القائمة بين البوشمن وغير البوشمن، وبين جماعة وأخرى من البوشمن، وداخل مجتمعات معينة من البوشمن، وبين تجمعات عنقودية خاصة (أي من تجمعهم روابط)، والمجموعات والعائلات. والحدود المكانية تسير في خط مواز مع هذه الحدود بدرجة ما، إلا أنها ليست دائما متطابقة؛ فهي تعتمد على حقوق الدخول إلى الإقليم ومفاهيم استخدام الحيز فيما يتعلق بأنماط السلوك الملائمة. وبعض جوانب الحفاظ على الحدود المكانية والاجتماعية تقتصر على طوائف معينة من البوشمن، بينما الجوانب الأخرى تكون مشتركة بين جميع أفراد البوشمن أو مجتمع الصيد البري وجمع الثمار عموما. وبالنظر إلى أن الإقليمية توجد في سياق مجموعة أوسع من العلاقات بين الإنسان والبيئة وبين الأفراد، فلا بد أن يكون البحث في مسألة الإقليمية داخل مجتمع الصيد وجمع الثمار مبررا لأهميتها ضمن هذه المجموعة الأكبر من العلاقات. (1992، 137-138)
قد نلاحظ أيضا أن أي حساسية إثنوجرافية من شأنها إبراز التفاصيل العملية للعوالم الحياتية على نحو يفوق ما يحدث عادة في النظريات العامة المتعلقة ب «الدولة». ويناقش مساهم آخر في هذه المجموعة، وهو أندزاي ميجرا، بعضا من الآليات الخاصة للإقليمية داخل طائفة الروما بأوروبا الشرقية:
ثمة شكل خاص للإقليمية يتصل بالوحدة الاجتماعية الاقتصادية الأساسية ل «الغجر» الرحالة المعروفين في السياق البولندي ب «تابور». لم يكن مفهوم الإقليمية هنا ينطبق على منطقة جغرافية أو إدارية واحدة، بل يطابق مجموعة من الأماكن التي وجدت فيها - أو استطاعت أن توجد فيها - مجموعة ما من التابور وجودا ماديا في أي لحظة بعينها؛ فكان يستدعى إلى الذهن كلما حدث واستقر أعضاؤها في مكان ما؛ ومن ثم كان أقرب إلى منطقة متنقلة أو متغيرة. كان أساسها هو حق الأولوية الذي كان يحترم من قبل طوائف «التابور» الأخرى، ووجود شعور بأنهم «ملاك مؤقتون»؛ إذ كان التفاوض يحدث جزئيا مع السلطات المحلية. (ميجرا، في كازيمير وراو 1992، 268)
وبقدر أدق من التحليل، يناقش جوزيف برلاند «الأقاليم المتنقلة» لشعوب باكستان الرحالة؛ فكتب يقول إنه في جميع أنحاء مجتمعات باكستان المتنقلة:
Unknown page
الوحدة الاجتماعية الأساسية هي الخيمة («بوكي»)، حيث تحدد البوكي بنية مادية فعلية بحدود مكانية قاطعة وواضحة؛ وتضم أيضا المفهوم الثقافي الأوسع للوحدة الاجتماعية الأساسية المؤلفة من أنثى وزوجها والأبناء المقيمين. وأينما استقروا، يعد الحيز الداخلي والخارجي المباشر هو المجال أو الإقليم الحصري لأفرادها. وحين ترتحل خيمتان أو أكثر معا، فإنهما تشكلان «ديرا»، وتكون «الديرا» مشتركة على نحو بحت إلى حد أن أفرادها يتعاونون من أجل الحفاظ على الحدود المكانية حول مواقع المخيم ، ويعززون الانسجام والتجانس، ويجمعون المعرفة والخبرة حول الأسواق المحلية. (برلاند 1992، 383-384، 386)
وفي بعض الأحيان قد يتركز عدد من «الديرا» في موضع ما لتكوين مخيم مؤقت:
في المساحات المفتوحة المتاحة سوف تحافظ كل «ديرا» على أقصى مسافة ممكنة بينها وبين الأخرى ... فيكون لكل مخيم محيط وحيز محددان يفصلان كل «ديرا» عن الأخرى. من الصعب على الغرباء أن يروا هذا؛ غير أن أفراد «الديرا»، وخاصة حراس الخيام، يؤسسون ويدافعون بيقظة عن حدود مناطق تقع في منتصف المسافة تقريبا بين كل منطقة تخييم. (1992، 388-389)
يبدو جليا أن رؤية الإقليم المستخدمة من قبل هؤلاء الأنثروبولوجيين تحوي عناصر عديدة لرؤى أخرى استعرضناها من قبل؛ فهي مساحات محدودة تحدد وتحدد بجوانب الهوية والاختلاف التي تقتضي دخولا تفضيليا وتتضمن الدفاع، أو آليات النفوذ والسلطة. ولكن على القدر نفسه من الوضوح، تأتي السبل التي تختلف بها هذه الأقاليم عن طرق الفهم التقليدية التي تعتمد الدولة السيادية نموذجا؛ وهذه الأقاليم زائلة نوعا ما، ويمكنها بالفعل أن تتحرك.
لعل من الأشكال الأكثر تقليدية للإقليم التي درست من قبل علماء الأنثروبولوجيا، هو ذلك الشكل المرتبط بالنظم المحلية لحيازة الأراضي والقانون العرفي بين الشعوب غير الغربية؛ فحيازة الأراضي، بما في ذلك نظم الملكية الحرة في الغرب، يتخللها بالضرورة أقلمة ما يترجم، وإن كان بصعوبة، إلى «حقوق». فقد كتب بول سيلتو في حديثه عن شعب الوولا في بابوا غينيا الجديدة قائلا: «تتعلق حقوق الأرض بالحدود ومشكلة التعريف الإقليمي، وتعد حقوق الأرض واحدا من الميادين الرئيسية التي يعبر فيها الناس عن صلات القربى والهوية، ويفعلونها في ظل سيطرة الالتزامات المحددة بصلات القرابة على قواعد الدخول» (1999، 333). ويتبين للغرب، عن طريق الدراسات الإثنوجرافية المتعلقة بالأرض، وجود مجموعة ضخمة ومتنوعة من الطرق لتخيل وممارسة الإقليم بعيدا عن تلك المفترضة سابقا من قبل تخصص العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية؛ فالقواعد والصور وممارسات الحيازة العرفية للأرض - التي تعد عناصر الإقليمية المحلية - غير قابلة للانفصال عن أساليب الحياة وأساليب التصرف في العوالم المادية والرمزية والاجتماعية. كذلك تنقل المناهج الأنثروبولوجية لتناول حيازة الأرض دراستنا بعيدا عن المفاهيم المتركزة حول الدولة، وتفتح مجموعة أوسع من المعاني لكل ما هو سياسي. ومما يحظى بأهمية أيضا الدراسات الإثنوجرافية للسياسة المحلية الخاصة بالأرض فيما يتعلق بالحصول على الحقوق أو استغلالها أو تخصيصها ونقلها إلى أماكن بعينها، وكذلك بآليات النزاعات الإقليمية (بيندا-بيكمان 1979؛ موور 1986)، والدراسات المتعلقة بالصراعات بين القانون العرفي للأراضي والقانون المحلي في عهد الاستعمار أو ما بعد الاستعمار (بيندا-بيكمان 1999؛ توكانسيبا-فالا، 2000-2001)، وعمليات التشكيل الإقليمي المرتبطة بعمليات استصلاح الأراضي، والزراعة الجماعية وتفكيك الزراعة الجماعية، واختراق الشركات المتعددة الجنسيات ومشروعات التنمية التابعة للدولة في مناطق محلية (ستراذيرن وستيوارت 1998؛ يتمان وبيركيز 1998).
بالمقارنة مع العلاقات الدولية والجغرافيا، يحرك الخطاب الأنثروبولوجي مفاهيم الإقليم في ثلاثة اتجاهات؛ الأول: أنه يقدم من خلال نقل التركيز من الغرب إلى «بقية العالم» - إلى مناطق الإمبراطورية والمستعمرات - مجموعة أوسع من الممارسات والعمليات الإقليمية البشرية. الثاني: أنه من خلال فحص الممارسات «العرفية»، ينقلنا بعيدا عن فكرة أن الدولة هي التعبير الوحيد عن الإقليم، حتى عندما يوجه الانتباه إلى العلاقة بين الأشكال الخاضعة للدولة وغير الخاضعة للدولة. الثالث: أنه بواسطة الدراسات الإثنوجرافية المفصلة، يقدم تحليلات دقيقة وعميقة للآليات الإقليمية داخل القرى والحقول والحدائق والطرق، بوسائل تشير ضمنا إلى تداخل الإقليم مع تطور الحياة الإنسانية. (2-4) علم الاجتماع
اعتمد جزء من تميز مجال علم الاجتماع في مقابل الأنثروبولوجيا تقليديا على مفاهيم مسلم بها للحيز والإقليم (هنا/هناك، الغرب/بقية العالم، عاصمة/مستعمرة)، وبالتبعية على مفاهيم مسلم بها تتعلق بالهوية. يدرس علماء الاجتماع، اصطلاحا، المجتمعات الحديثة التي ينتمون إليها، ولكن مفاهيم الإقليم في خطاب علم الاجتماع مشابهة، من نواح عدة، لنظيرتها في الأنثروبولوجيا؛ وإن كان ذلك بتعديلات مهمة مستمدة من السمات التي من المفهوم أنها تبرز تميز الحداثة؛ على سبيل المثال: التفرد والعلاقة بين الفرد والمجتمع، والتمدن، والتقسيم الطبقي، والانحراف. ومن الموضوعات الموازية الآثار الجوهرية للحدود؛ فعمل أنتوني كوهين الصادر عام 1985 - على سبيل المثال - مشابه، في التوصيف العام، لعمل فريدريك بارث؛ فقد كتب يقول: «إن وعي المجتمع محاط بإدراك حدوده، الحدود التي تتأسس في حد ذاتها إلى حد كبير بواسطة أشخاص في حالة من التفاعل» (1969، 13). والمناقشات المتعلقة بالإقليم سائدة على الأخص في معالجات علم الاجتماع لعصابات الشوارع الحضرية و «أراضيهم». وكما يذهب عالما الاجتماع ديكر وفان وينكل، فإن «توجيه تهديد لعصابة ما في حي (أرض) قريب جغرافيا، يؤدي إلى زيادة تضافر العصابة، ويدفع الشباب إلى الانضمام لعصابة حيهم، ويمكنهم من التورط في أعمال عنف ربما ما كانوا ليرتكبوها» (ديكر وفان وينكل 1996، 22). ويناقش عالم اجتماع آخر، وهو فليكس باديلا، توقع الدفاع العنيف عن الإقليم بين العصابات التي درسها، وأيضا:
الواقعية المرتبطة بأعمال العنف المستخدمة للدفاع عن الأرض؛ فجميع أفراد العصابات تقريبا يسلمون بداهة بأن أي هجمات على أرضهم سوف تقابل باستجابات عنيفة، مثلما سيحدث مع انتهاكاتهم لأرض أفراد العصابة المنافسة. والحديث عن الحاجة للدفاع عن الأرض الخاصة بالعصابة يدور على أساس منتظم ودائم بين أفراد العصابة على نحو يفوق كثيرا أعمال الدفاع الفعلية؛ وبذلك يؤدي مناخ اليقظة الرمزي ضد تهديد المتطفلين الغرباء إلى توحيد العصابة معا وإعدادهم لاستخدام العنف التعبيري (والمفرط)، المرتبط غالبا بالدفاع عن الإقليم الأم ضد العصابات المعادية. (1992، 114)
ثمة مقال لليمان وسكوت بعنوان «الإقليمية: بعد اجتماعي مهمل»، نشر في دورية «سوشيال بروبلمز» عام 1967، كان من إحدى المحاولات لصياغة مفهوم اجتماعي محدد للإقليم يركز على الإقليمية الجزئية العميقة للحياة الاجتماعية. في هذا المقال أسس الكاتبان تصنيفا نموذجيا للأقاليم يميز أمريكا الحديثة المتمدنة، وكان من بين أنماطها الأساسية: «الأقاليم العامة»، «تلك المناطق التي يحظى فيها الفرد بحرية الدخول، ولكن ليس بالضرورة حرية التصرف، بمقتضى ما يتمتع به من حق المواطنة» (1967، 237). ومع ذلك، فإن حرية الدخول هذه قرينة الهوية الاجتماعية، وعلى هذا النحو، فإن بعض الناس لا يتمتعون بعضوية كاملة في المجتمع. «وهناك فئات معينة من الأشخاص يمنحون فقط حق دخول محدود إلى الأماكن العامة ونشاط محدد داخلها» (ص238). على سبيل المثال: «لن يشاهد الزنوج يسيرون بتؤدة على أرصفة أحياء البيض، وإن كانوا قد يشاهدون وهم يقومون بتركيب مواسير الصرف تحت الشوارع.» ثم توجد «الأقاليم الأم»، وفيها «يحظى المشاركون الدائمون بحرية تصرف نسبية وإحساس بالألفة والسيطرة على المنطقة. وتضم الأمثلة نوادي الأطفال المؤقتة، ومخيمات المشردين، وحانات المثليين.» وقد أشار الكاتبان إلى أنه في هذه الأقاليم المذكورة للتو «قد ينقل على الفور نمط الملبس واللغة بين زبائن إحدى الحانات لمثلي الجنس أنه قد دخل إلى إقليم أم» (ص240). وهذا يشير إلى أن الإقليمية لها جانب أدائي أو علاماتي.
وبالتركيز على الإقليم على مقياس أكثر عمقا، لاحظ ليمان وسكوت أن «أي تفاعل يحيط به حد غير مرئي، أو نوع من الغشاء الاجتماعي». ومثل هذه الحدود تطوق «أقاليم تفاعلية»، وهذه الأقاليم «متنقلة وهشة على نحو مميز». وأخيرا، توجد «أقاليم الجسد، التي تشمل الحيز المحاط بجسم الإنسان أو الحيز التشريحي للجسم». ويدخل ضمن أقاليم الجسد «حقوق رؤية وملامسة الجسد»، وقد كتبا يقولان: «إن حق الوصول إلى الأنثى ينظر إليه باعتباره الحق الحصري للزوج ما دام يطبق الأصول والآداب فيما يتعلق بوضعه» (ص241). وينطوي توصيفهم ضمنا على تباين واضح للحقوق والسلطة؛ فاستخدام صيغة المبني للمجهول (في عبارة «ينظر إليه») تتعارض تعارضا مثيرا للدهشة مع ما يوصف. وقد تتساءل أيضا أي نوع من الممارسات الحدودية يستند إليه بعبارة «يطبق الأصول والآداب»، وهكذا يكون الإقليم الجسدي ل «الأنثى» هو «الإقليم الأم» ل «الزوج». «إن أي شخص يصر على انتهاك الحيز الخارج عن الحدود الإقليمية لشخص آخر من الجنس نفسه؛ قد يتهم بانعدام اللياقة ويشتبه في كونه مثليا، بينما قد تشير الاعتداءات غير المرغوبة على المخنثين إلى مألوفية لا مبرر لها» (ص241). كذلك يناقش ليمان وسكوت أشكال الانتهاكات - التعدي، والاستباحة، والتدنيس - وأساليب رد الفعل. ومما يحظى بأهمية تاريخية مفهومهما عن «الإقليم الحر»:
Unknown page
يجتزأ الإقليم الحر من المكان ويوفر فرصا للخصوصية والتميز والهوية. وترتبط فرص حرية التصرف بالقدرة على إضفاء حدود على المكان، والتحكم في الدخول إلى الأقاليم أو الإبعاد عنها. وفي المجتمع الأمريكي حيث يؤثر الانتهاك الإقليمي على جميع أفراد المجتمع تقريبا، تعاني قطاعات معينة من السكان من الحرمان على نحو خاص، تحديدا الزنوج والنساء والشباب والموقوفين من مختلف الأنماط. (ليمان وسكوت 1967، 248)
من بين ردود الأفعال تجاه غياب الإقليم الحر أو انتهاك الإقليم الأم ما يطلق عليه الكاتبان «الاختراق»، الذي يقصدان به «التلاعب في الحيز الداخلي وتعديله بحثا عن إقليم حر.» على سبيل المثال: «أحيانا يتعاطى الشباب الجامعي المعاصر عقاقير هلوسة أو عقاقير معطلة للإدراك من أجل القيام بهجرة داخل النفس (أو «الغياب عن العالم» كما يقال كثيرا)» (ص241).
ثمة منهج مشابه قد يوجد في عمل عالم الاجتماع البارز إرفنج جوفمان، الذي يضم كتابه «العلاقات في العلن: دراسات جزئية عن النظام العام» فصلا عن «أقاليم النفس». إن المفهوم الأفضل للإقليم، لدى جوفمان، هو أنه «حافظة» أو «مجال للأشياء». «إن حدود هذا المجال عادة ما يتولى حراستها والدفاع عنها المدعي لملكيتها» (1971، 29). وعلى خطى ليمان وسكوت، يقدم جوفمان تصنيفا نموذجيا للأقاليم ذات الأهمية الاجتماعية. ومن بين الأقاليم التي تعطي بنية للسياسة الجزئية للمجتمع الأمريكي الحديث:
الحيز الشخصي: «الحيز المحيط بالفرد، أي مكان يتسبب دخول فرد آخر إليه في شعور الفرد الأول بأنه قد اعتدي عليه؛ ما يؤدي به إلى إظهار الاستياء، وفي بعض الأحيان الانسحاب» (1971، 29).
المقصورة: «الحيز المؤمن جيدا الذي يمكن للأفراد ادعاء ملكية مؤقتة له، على أن تكون الحيازة على أساس مبدأ «الكل أو لا شيء». وهم يوفرون حدودا خارجية تسهل رؤيتها وحصينة من أجل تقديم ادعاء مكاني بالملكية» (1971، 32-33).
الغلاف: «الجلد الذي يغطي الجسم، والثياب التي تغطي الجسم فيما يعد النوع الأكثر جلاء من الإقليمية المتمركزة حول الذات» (1971، 38).
ناقش جوفمان أيضا أساليب تمييز الأقاليم، وطرق الانتهاك والتعدي، والجرائم.
وهذه المفاهيم الاجتماعية للإقليم مشابهة للمفاهيم الأنثروبولوجية؛ من حيث إن أولئك الذين يتصرفون بنوع من الإقليمية يضاهون بجماعات عرقية أو ثقافات فرعية. ولكن الرؤية الاجتماعية، الموضوعة على أساس شكل من الفردانية التي تميز الحداثة، تركز انتباهها على أقاليم النفس، لا سيما أن هذه الأقاليم مشروطة باختلاف العام/الخاص. (2-5) علم النفس
يتعامل مجالا علم النفس السلوكي والبيئي الفرعيان أيضا مع موضوع الإقليم على نحو جدي للغاية (ألتمان 1975؛ براون 1987). وعلى خطى ليمان وسكوت، ربما يمكن فهمهما باعتبارهما يضعان مخططا للصلات بين الإقليم ك «حيز داخلي» وأقلمة العالم الخارجي. ويعد كتاب «الأداء الإقليمي البشري»، تأليف رالف تايلور (1988)، واحدا من أكثر المؤلفات تفصيلا وأهمية عن الإقليمية النفسية. يناقش تايلور الإقليم، الذي وضع صراحة داخل «إطار تطوري» يعتبر الإقليمية البشرية متصلة مع الإقليمية غير البشرية، في إطار النظام، والحد من الصراع، وخفض الضغط التجريبي، والكفاءة النسبية للأقاليم المتنوعة من أجل أداء هذه الوظائف؛ فبعد تصميم نموذج عام للأداء الإقليمي في الفصول الستة الأولى من الكتاب، يعرض تحليلات مفصلة للأداء الإقليمي في أربعة مواقع عامة وشاملة، مخصصا فصلا لكل منها. يبحث «الموقع السكني الداخلي» («الأماكن التي يستطيع قاطنها أو قاطنوها ممارسة درجة من الخصوصية والسيطرة على الأنشطة») (ص141) سمات مثل تأثيرات مخططات الطوابق، ووضع الأثاث، والعلاقات الاجتماعية الخاصة؛ على سبيل المثال: يزعم تايلور أن «درجة أكبر من التشابه بين الأفراد الذين يتشاركون نفس الموقع السكني الداخلي؛ يفترض أن تسفر عن أداء إقليمي أكثر خلوا من المشكلات والصعاب. ومع زيادة التشابه يفترض أن يكون هناك توزيع زمني ومكاني أكثر تراضيا لأماكن بعينها داخل الموقع» (ص147). أما فئة «المساحات السكنية الخارجية القريبة من المنزل»، فتعنى بالأداء الوظيفي للإقليم في الأفنية الخلفية، والأزقة، والمربعات السكنية المحيطة بالمنزل. ومما يحظى بأهمية في هذا المقام السلوكيات المميزة، مثل «الأرصفة النظيفة، ودرجات السلم المغسولة، والحشائش والشجيرات المقلمة، وطيور الفلامنجو الوردية، والقطط الفخارية والزخارف الموسمية في عيد رأس السنة أو عيد الشكر أو الهالوين» (ص177). وهذه العلامات الإقليمية تنقل معلومات إلى الجيران والمارة واللصوص المفترضين؛ على سبيل المثال: قد يترجم التثبيت الاستراتيجي لتماثيل الخيالة على الحشائش باعتبارها تدل على أنه «ساكن يقظ في حالة ترقب دائم للتأكد من عدم عبث الناس بممتلكاته؛ فلا يمكنك الإفلات بأي شيء ترتكبه في محيط مكانه» (ص179). كذلك قد تعمل الإقليمية في هذه السياقات من أجل تيسير التفرد، وتقليل الضغوط، وتدعيم أواصر المعرفة أو الجيرة. أما «مواقع الاستخدام الدائم»، فتتضمن أداء الإقليم في سياقات مثل أماكن العمل والمكاتب والحانات، بينما تتعلق فئة «الأداء الإقليمي الأدنى» بسلوكيات إقليمية أكثر زوالا في أماكن مثل الفصول والشواطئ. يطبق تايلور نظريته للأداء الإقليمي على مشكلات اجتماعية متعددة، مثل الفوضى والجريمة والتخريب، ويجد أن زيادة في المراقبة والعلامات الإقليمية يمكن أن تحد من الاضطراب والفوضى.
تميل رؤية الإقليم، التي صاغها خبراء علم النفس البيئي أمثال تايلور، إلى تعميم وتطبيع الممارسات والشواغل الثقافية لدى العصريين؛ أو لمزيد من التحديد لدى الأمريكيين من الطبقة الوسطى الذين عاصروا أواخر القرن العشرين. وبوصفها تمثيلا متطورا لهذه الطريقة المحلية لأقلمة الحياة الاجتماعية، فإنها توضح إلى أي مدى قد يكون الخوف أساسيا لبناء هذه العوالم الحياتية. (2-6) ملخص
Unknown page
في هذا الاستكشاف الموجز والشديد الانتقائية لأساليب الخطاب التخصصية للإقليم والإقليمية، رأينا كيف أن الإقليم متضمن في مجموعة كبيرة من العلاقات الاجتماعية، من الشخصية إلى الدولية، وكيف تتغلغل أشكال وصيغ مختلفة من السلطة والنفوذ في تشكيل الأقاليم والحفاظ عليها. وتوضح هذه الرؤى، عندما تؤخذ معا ككل، مدى تعقيد وأهمية الإقليم، أو على الأقل ما «يطلق عليه» العديد من المراقبين الأكاديميين إقليما. ولكن في الواقع نادرا ما «تؤخذ معا ككل»؛ فكل خطاب تخصصي يميل إلى تشريح الإقليم «في ذاته» وإخضاعه لمحاور الاهتمام الأساسية التي تميز التخصصات أحدها عن الآخر (ثمة استثناء مهم لهذا؛ هو عمل روبرت ساك، الذي سوف يتم تناول كتابه «الإقليمية البشرية» تفصيلا في الفصل الثالث). وحين تؤخذ معا ككل، قد يعجب المرء أكثر ما يعجب بما هو مفقود، ألا وهو: كيفية تآزرها وتضافرها معا إن كانت كذلك من الأساس. إن ما نراه هو الأقلمة المتخصصة للإقليم التي تتعامل مع الدول، والمدن، والجماعات العرقية، والمجتمعات، والعصابات، والأسر، والأفراد؛ وكأن كل واحد منها يعيش في عالمه المنفصل الذي لا يمكن فحصه ودراسته إلا بمعزل عن بقية العالم. وربما تكون الاختلافات على أقوى ما تكون في المجالات المتطرفة. لقد استهللنا دراستنا بالعلاقات الدولية، التي تتخيل الأقاليم السياسية بلا أشخاص، وأنهيناها بعلم النفس البيئي الذي يتخيل الأقاليم الشخصية بلا سياسة. وعلى طول الطريق، شاهدنا كيف تحول الإطار العملي للإقليم من الأشكال الراسخة والرسمية والصارمة والعنيفة، إلى أشكال أكثر انسيابية وغير رسمية وزائلة بل متنقلة أيضا. ربما يكون من الممكن فهم الخطابات التخصصية بوصفها تقوم بتشريح العالم وفقا لمقياس بعينه، وفهم مسارنا بوصفه قد اتبع طريقا من الكلي إلى الجزئي. ولكن مرة أخرى، تم التغاضي عن السؤال بشأن ما إذا كانت هذه المقاييس معبرة والكيفية التي تعبر بها. والإقليم في حد ذاته «متضمن» من قبل المقياس، والمقياس يحدد للتخصصات المعرفية الموضع الملائم لها في المنظومات الحديثة لإنتاج المعرفة.
غير أن هذه الدراسة قد تكشف أيضا عن قواسم مشتركة مهمة بين العديد من الرؤى المختلفة، وهذه القواسم المشتركة أصبحت موضع قدر كبير من النقد مؤخرا. ومن بين القواسم المشتركة الميل نحو رؤية الإقليم في إطار متضادات «إما/أو»، و«الداخل/الخارج» الثنائية الحادة نوعا ما، مع «دواخل» موحدة ومتجانسة نوعا ما وحدود واضحة نسبيا. وفي كل واحد منها أيضا يوجد ثبات واضح؛ حيث تتميز الاختلافات والعلاقات «الأفقية» على ما سميته في الفصل الأول الاختلافات والعلاقات «العمودية». وتشدد التخصصات المعرفية على الإقليم فيما يتعلق مثلا بعلاقات الدولة/الدولة، أو المجموعة/المجموعة، أو النفس/النفس، وليس فيما يتعلق بعلاقات أكثر تعقيدا وتباينا؛ بمعنى أن هناك نزعة قوية لقراءة الإقليم كشيء مميز وسط أطر التشابه التخصصية. يوجد أيضا ثمة انحياز نحو التركيز على هذا الإقليم أو ذاك أو الحد على نحو مستقل، على حساب تحليل مجموعات إقليمية أكثر تعقيدا. علاوة على ذلك، يوجد الإطار الذي تكون فيه كل نقطة من النقاط المبالغ فيها من دراستنا مجرد نسخة من الأخرى؛ فمجال العلاقات الدولية ينظر إلى الدولة كنوع من الذات الفردية الموحدة على نطاق كبير، بينما يرى علم النفس الذات كنوع من الدولة السيادية على نطاق صغير. وبالنسبة إلى كل منهما، ترتبط الإقليمية ارتباطا محكما بأفكار حرية الإرادة، ويصاغ تصورها في إطار الخوف، والخطر، والأمن، والتعدي، والسيطرة، والدفاع، والعنف، وفقدان النزاهة. (3) لاأقلمة المجالات المعرفية
في الثلث الأخير من القرن العشرين بدأ علماء من مجالات «أساسية» متنوعة يسعون على نحو متزايد لاستكشاف وسائل للهرب من إقليمية الإقليم، من خلال مجموعة من المشروعات التي تجمع بين تخصصات متعددة. واعتمادا على مجموعة واسعة النطاق من الموارد النظرية؛ مثل: حركة ما بعد البنائية، وما بعد الحداثة، والاقتصاد السياسي، والحركة النسائية، بدأ هؤلاء الكتاب في إبداء انعكاسية أكثر صراحة فيما يتعلق بإنتاج المعرفة، والطرق التي تتبعها الرؤى التخصصية الثابتة من أجل كل من تركيز الانتباه على بعض جوانب الإقليمية وتحجيم نطاق البحث والاستقصاء. كذلك كان يوجد وعي متزايد بالعلاقة بين المعرفة (تمثيلات الإقليم) والسلطة. وفي ظل ازدياد التشكك بشأن بعض المزاعم - على الأقل - التي قدمت باسم الحداثة، إن لم يكن بشأن فكرة الحداثة في جوهرها؛ أبدى بعض هذه المشروعات أيضا حساسية متصاعدة لتأثيرات المفاهيم التقليدية للإقليم. والحق أن موضوع الإقليم قد انخرط فيه كليا الكثير والكثير من العلماء والباحثين من العديد من المشروعات المتعددة التخصصات، لدرجة أن العصر الحالي يمكن، ببعض التبرير، اعتباره عصرا ذهبيا لنظرية الإقليمية. ويعد هذا، في جزء منه، نتاجا للتغير الجيلي وتكثيف التداخل بين المجالات والتخصصات عبر العلوم الاجتماعية. وفي جزء آخر، يعد نتاجا لتغيرات ملموسة في العالم تثبت على نحو متزايد عدم كفاية طرق الفهم التقليدية. ومن الصحيح أيضا أن هذه المناهج الأحدث تميل أيضا لأن تكون ناقدة؛ فهي ناقدة لأساليب الخطاب التخصصية الموروثة، وناقدة للطرق التي تمارس وتختبر بها السلطة فعليا في مقابل الإقليمية، وناقدة لتورط الأولى في آليات الأخيرة. ونتاج كل هذا الاضطراب هو ظهور طرق جديدة لفهم الإقليم قلبت المفاهيم التقليدية ظهرا لبطن.
في هذا الجزء من الدراسة سوف نبحث بعضا من المشروعات المهمة المتداخلة الاختصاصات، بطريقة تقتفي مسار أساليب الخطاب التخصصية التي استعرضناها في الأجزاء السابقة. سوف أناقش أولا مناهج ما بعد البنائية لمعالجة العلاقات الدولية وظهور السياسة الجغرافية النقدية في الجغرافيا البشرية، وبعد ذلك سوف أتطرق إلى بعض القضايا الأساسية في الجغرافيا الجذرية والنقدية على نحو أعم؛ نظرا لارتباط هذه القضايا بالتفسيرات وطرق الفهم المتغيرة للإقليم. وسوف يتبع هذا استكشاف موجز لدور نظرية الثقافة، وعلى نحو أكثر تحديدا، نظرية الحدود في عمليات إعادة التنظير الأخيرة. وسوف يختتم هذا الجزء بمناقشة موجزة لما قد يكون الموضوع الأشد جدلا في المناقشات الحالية بشأن الإقليم: العولمة وآثارها المزعومة النازعة للأقلمة. (3-1) العلاقات الدولية الأحدث
لم يكن مجال العلاقات الدولية محصنا ضد التغيرات النظرية والعملية للعصر؛ فقد حاول العديد من الممارسين - متأثرين بالنظريات والطرق الاجتماعية التي لم تكن تشكل جوهر المعرفة العلمية لمجال العلاقات الدولية من قبل - الخروج من الصندوق المحدد ببنود «المناظرة الكبرى» بين الواقعيين والمثاليين. وكخطوة أولى أخضعوا بنود المناظرة لتحليل ونقد مستمرين، وأفضى هذا إلى فحص نقدي للأفكار الأساسية الخاصة ب «السيادة»، و«الفوضى»، و«العنصر الدولي»؛ إذ إن هذه الأفكار منتشرة في خطاب العلاقات الدولية التقليدي. ونظرا لأن هذه المفاهيم جميعا قد تم توضيحها من خلال مفاهيم الإقليمية التي لم تخضع لأي فحص أو دراسة، فليس غريبا أن تكون هذه الاستكشافات النقدية قد أسفرت عن ابتكار عمليات إعادة التصور الجديدة والمثمرة للإقليم وعلاقته بالسلطة والمعنى والخبرة. سوف أتطرق هنا لثلاثة خطوط للنقد: التأريخ، والاستطراد، والتحول في التركيز من الأقاليم كحاويات ثابتة إلى الحدود التي تحددها وقابلية تحرك الأشخاص الذين يعبرون هذه الحدود.
ولما كان خطاب إدارة الدولة في العلاقات الدولية والسياسة الجغرافية يفترض أن الدولة الإقليمية بمثابة تطويع مكاني أولي شبه طبيعي للسلطة، تكون إحدى المهام الأساسية لنظرية العلاقات الدولية النقدية هي تأكيد تاريخية هذا التكوين. وهذا لا يعني مجرد تتبع ظهور و«نشوء» الدولة الإقليمية وانتشارها عالميا، ولا يعني أيضا أن الاستقصاء مقتصر على دراسة التشكيلات المتغيرة داخل إطار دائم وقوي، كما في الجغرافيا السياسية التقليدية، بل يعني أن نظرية العلاقات الدولية النقدية تشدد على «الاحتمالية» التاريخية والثقافية والسياسية للإطار ذاته، بمعنى أنه يرمي إلى نزع السمات الطبيعية، ومن ثم إعادة تسييس واحدة من أكثر العلاقات الحديثة جوهرية بين السلطة والإقليم. ويكتب آر جيه بي ووكر، أحد الرواد في هذا المسعى، قائلا:
ظهر المبدأ الحديث لسيادة الدولة تاريخيا باعتباره الصيغة القانونية لطبيعة وشرعية الدولة ... وعلى أبسط المستويات، يعبر عن ادعاء الدول الحق في ممارسة سلطة شرعية داخل حدود إقليمية محددة تحديدا صارما. وهذا الزعم الآن يبدو طبيعيا وبارعا ... فالمزاعم بشأن سيادة الدولة توحي بالبقاء والاستمرار؛ حيز إقليمي غير متغير نسبيا ستشغله دولة تتسم بتغير زمني، أو وعاء مكاني ومؤسسي سوف تشغله تطلعات ثقافية أو عرقية لشعب ما. الحكومات والأنظمة قد تأتي وتذهب، ولكن الدول ذات السيادة تستمر للأبد. (1993، 165-166)
على النقيض من هذا يروي ووكر قصة من نوع مختلف، فيروي لنا أنه «ذات يوم»:
لم يكن العالم كما هو الآن؛ فأنماط الدمج والإقصاء التي نعتمدها الآن كمسلمات هي ابتكارات تاريخية، ومبدأ سيادة الدولة هو التعبير الكلاسيكي لتلك الأنماط؛ تعبير يشجعنا على الإيمان بأن تلك الأنماط إما دائمة (الواقعية) وإما أنه لا بد من محوها لصالح مدينة عالمية من نوع ما (المثالية). وإرساؤه للوحدة والتنوع، أو الداخل والخارج، أو المكان والزمان؛ غير طبيعي ولا حتمي، إنه جزء بالغ الأهمية من ممارسات جميع الدول الحديثة، ولكن تلك الممارسات ليست طبيعية أو حتمية هي الأخرى. (1993، 179)
إذا كانت أقلمة السلطة السياسية توصف في إطار الاحتمالية أكثر من الضرورة، فإن خطوطا جديدة من الاستقصاء والبحث تتفتح قد تتيح للمرء مزيدا من الفهم والاستيعاب للإقليمية.
Unknown page