تمهيد بقلم محرري السلسلة
شكر وتقدير
1 - الدخول إلى دائرة الإقليم
2 - الإقليم داخل الإطار المعرفي وخارجه
3 - الإقليمية البشرية وحدودها
4 - تحليل مصطلح فلسطرائيل
5 - استكشافات إضافية
المراجع
تمهيد بقلم محرري السلسلة
شكر وتقدير
1 - الدخول إلى دائرة الإقليم
2 - الإقليم داخل الإطار المعرفي وخارجه
3 - الإقليمية البشرية وحدودها
4 - تحليل مصطلح فلسطرائيل
5 - استكشافات إضافية
المراجع
الإقليم
الإقليم
مقدمة قصيرة
تأليف
ديفيد ديلاني
ترجمة
شيماء طه الريدي
مراجعة
هاني فتحي سليمان
تمهيد بقلم محرري السلسلة
سلسلة «مقدمات قصيرة لعلم الجغرافيا» هي مجموعة كتب متوافرة، من تأليف علماء بارزين، أعدت لتقديم أفكار جغرافية أساسية للطلاب وغيرهم من القراء المهتمين بالموضوع. تسعى السلسلة، التي تخرج عن إطار معالجة تقليدية لفرع معرفي، إلى توضيح المفاهيم الجغرافية والمكانية الرئيسية واستكشافها. تنقل هذه المقدمات الموجزة جانبا من الحيوية الفكرية، ووجهات النظر المتباينة، ومناقشات مهمة نشأت حول كل مفهوم. وتشجع القراء أيضا على التفكير بطرق جديدة وناقدة بشأن المفاهيم الجوهرية بالنسبة إلى دراسة الجغرافيا. وتؤدي السلسلة مهمة تربوية أساسية بتشجيع الطلاب على إدراك كيفية تطور المفاهيم والتحليلات التجريبية مجتمعة وفيما بينها، وسوف يطمئن المعلمون في غضون ذلك إلى أن الطلاب لديهم نقطة مرجعية مفاهيمية أساسية بإمكانهم إضافتها إلى أمثلتهم ونقاشهم. ويمنح الشكل القياسي الموجز للسلسلة المعلمين إمكانية دمج اثنين أو أكثر من هذه النصوص في فصل دراسي واحد، أو استخدام النص عبر الفصول الدراسية بنقطة تركيز فرعية مختلفة.
جيرالدين برات
نيكولاس بلوملي
إلى أولئك الذين تعرضوا للإقصاء أو الطرد أو الاحتجاز أو العدوان ظلما.
شكر وتقدير
أود أن أتوجه بالشكر إلى نيك بلوملي وجيري برات لدعوتهما إياي للمشاركة في سلسلة «مقدمة قصيرة». أود أيضا أن أشكر سايمون ألكسندر، وتيم كريسويل، وميشيل إيمانيشن، وباروخ كيمرلينج، وكيلفن ماثيوز، وجانيت موث، وأنسي باسي، وبوب ساك، ودميتري سيدوروف، وستيف سيلفرين، وكارين أندروود، وجاستن فون؛ لما قدموه من دعم أو إلهام على طول الطريق. •••
يعبر المحرر والناشر عن وافر تقديرهما وامتنانهما لحصولهما على تصريح بإعادة نسخ مواد حقوق الطبع والنشر التالية في هذا الكتاب:
إي أندرسون، «تقسيم سايكس بيكو »، من كتاب «الشرق الأوسط: الجغرافيا والسياسة الجغرافية» الطبعة الثامنة (لندن: روتليدج، 2000)، ص104. مستخدم بتصريح من روتليدج.
إيه بورنشتاين، «خط الهدنة لعام 1949» و«الاتفاقية الإسرائيلية الفلسطينية المؤقتة، 1994» من كتاب «عبور الخط الأخضر ما بين الضفة الغربية وإسرائيل» (فيلادلفيا: مطبعة جامعة بنسلفانيا، 2002)، ص31-32. مستخدم بتصريح من مطبعة جامعة بنسلفانيا.
إيه بريجمان، «مناطق الاحتلال الإسرائيلي، 1967»، من كتاب «حروب إسرائيل: تاريخ منذ عام 1947» (لندن: روتليدج، 2000)، ص94. مستخدم بتصريح من روتليدج.
بي كيمرلينج، وجيه ميجدال، «فلسطين تحت الحكم العثماني» و«توصية الأمم المتحدة بحل لإقامة دولتين في فلسطين، 1947» من كتاب «الشعب الفلسطيني: تاريخ» (كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفرد، قسم الخرائط، الجامعة العبرية، 2003)، ص33، 139. مستخدم بتصريح من مطبعة جامعة هارفرد والمؤلفين. •••
لقد بذل كل جهد ممكن من أجل تتبع مالكي حقوق الطبع والنشر، والحصول على تصريح منهم لاستخدام مواد حقوق الطبع والنشر. ويعتذر الناشر عن أي أخطاء أو محذوفات في القائمة السابق ذكرها، وسوف يكون ممتنا حال إخطاره بأي تصحيحات ينبغي إدخالها في إعادة الطبع والطبعات المستقبلية من هذا الكتاب.
الفصل الأول
الدخول إلى دائرة الإقليم
(1) مقدمة
ليس ثمة طريقة أفضل للحكم على أهمية شيء ما وجدواه من تعطيل هذا الشيء أو غيابه، وليس الإقليم استثناء من ذلك؛ فمفهوم الإقليم، وفقا للتفسيرات المشتركة، يعزز السلم من خلال اليقين عن طريق وضع تعريف واضح للسلطة ورسم آليات عملها بوضوح؛ ففي مجال العلاقات الدولية تكون لنا «السيادة» على هذا الجانب من الحاجز، ولهم السيادة على الجانب الآخر. وفيما يتعلق بحيازة أرض أو ملكيتها، قد أزرع ذرة على هذا الجانب من السياج وقد تقوم أنت برعي قطعان الماشية على الجانب الآخر. وفي سياق الخصوصية قد أغلق بابي وألعب بدمياتي الباربي وعلى العالم بأكمله التزام البقاء بالخارج؛ ففي وجود حدود جلية، لا تتحول حالات الالتباس وسوء الفهم إلى نزاعات، ولا تتصاعد النزاعات إلى معارك. وكما نعلم جميعا، الجدران الجيدة تصنع جيرانا طيبين.
في أواخر شتاء/أوائل ربيع 2003، احتشد ما يزيد على 100 ألف جندي أمريكي وبريطاني - بعتادهم من المدافع، والطائرات، والمؤن ، ومعهم الصحفيون - على الجانب الكويتي من الحدود العراقية الكويتية استعدادا لغزو العراق، الذي أطاح بصدام حسين من السلطة وأسفر عن احتلال طويل الأمد للبلاد. إن سلطة منح أو حجب الإذن للولايات المتحدة لاستخدام الحيز الإقليمي للكويت وقطر والدول القومية الأخرى كمواقع لانطلاق الغزو؛ هي في حد ذاتها امتياز سيادي. في الواقع، كانت خطة المعركة الأصلية هي غزو العراق على نحو متزامن من جهة الشمال، إلا أنه في اللحظة الأخيرة رفض البرلمان التركي السماح باستخدام أراضيه لهذا الغرض (بوردوم وآخرون 2003)، وكذلك فعلت السعودية، ولو شكليا على الأقل. ويعد مبدأ السلامة الإقليمية - الذي يقصد به غياب الانتهاك الإقليمي - واحدا من أهم المبادئ الأساسية للقانون الدولي، وهو أيضا، كما هو معروف تماما، من المبادئ التي لا تحترم دوما. ثمة عدة طرق يمكن من خلالها أن تتعرض السلامة الإقليمية للخطر، إلا أن أكثرها وضوحا وتدميرا تلك التي تتضمن وسائل الدمار المرتبطة بالحرب الحديثة. وبصرف النظر عن المشاعر التي ربما تكون قد انتابت المرء حين بثت صور حملة «الصدمة والترويع» الأمريكية في جميع أنحاء العالم، ومهما كانت التبريرات الخطابية المنمقة التي صاحبت ذلك، فإن غزو العراق واحتلالها مثال واضح نوعا ما على عدم تطبيق مبدأ الإقليم - أو الإقليم من نوع خاص - على النحو المفترض.
ولكن ذلك الغزو، حسب ما قد يعلله البعض، كان ببساطة النتيجة التي لا مناص منها لغزو الكويت قبل 12 عاما من قبل القوات العراقية؛ ففي حرب الخليج الأولى دحرت الولايات المتحدة المعتدين، وكجزء من تسوية تلك الحرب ألزمت حكومة العراق بالسماح بدخول مفتشي الأسلحة التابعين لهيئة الأمم المتحدة، الذين كانوا مخولين بالتحقيق في وجود أسلحة دمار شامل (سيفري وسيرف 2003). كذلك فرضت عقوبات اقتصادية قاسية على «العراق»؛ أي شعب العراق، وأسفرت هذه العقوبات عن وفاة عشرات الآلاف، الكثير منهم أطفال (هيرو 2001؛ الوحدة البحثية للاقتصاد السياسي 2003). كذلك فرض المنتصرون في حرب الخليج الأولى «مناطق حظر جوي» في الأجزاء الشمالية والجنوبية من البلاد، وكانوا يعمدون على نحو دوري إلى إسقاط طائرات عراقية انتهكت تلك المناطق الإقليمية المحظورة؛ ففي بداية حرب 2003 انتزع الجانب الأكبر من سيادة العراق، وكانت سلامتها الإقليمية - على أفضل تقدير - نظرية.
أسبغ صدام حسين تبريرا خطابيا منمقا على الغزو العراقي للكويت عام 1991، من خلال الإشارة إلى انتفاء الشرعية المفترض لتقسيم ولاية البصرة العثمانية من قبل البريطانيين، حين استحدثوا «العراق» و«الكويت» في مطلع القرن العشرين (دودج 2003؛ فيني 1992). ولم تكن «تلك» الحلقات من الاستحداث الإقليمي سوى عروض جانبية للجغرافيا السياسية للقوة العظمى التي واكبت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرار الإمبراطورية، والعداءات الناشئة فيما يتعلق بالتحكم في النفط في ظل نظام صناعي صار النفط بالنسبة إليه شريان حياة. قبل غزو الكويت، خاض العراق، مدعوما هذه المرة من الولايات المتحدة، حربا شرسة ضد إيران؛ إذا فغزو 2003 لم يقع عبر خط حدودي رسم على الرمال فحسب، بل في السياق التاريخي لسلسلة متوالية من عمليات الأقلمة وإعادة الأقلمة فيما يتعلق بالتحكم في النفط، وما يتمخض عن ذلك من ثروة وسلطة؛ فالنظر إلى الأحداث بمزيد من التعمق التاريخي، دون أن يعني ذلك تسويغها بأي حال، يخدم الغرض المتمثل في تسليط الضوء على الإقليمية باعتبارها «عملية» اجتماعية (وسياسية، واقتصادية، وثقافية) لا تتطور وتتكشف في المكان فحسب، بل عبر الزمن أيضا؛ ومن ثم فهو يمنحنا مزيدا من السهولة في رؤية الأقاليم بوصفها «نواتج» اجتماعية. وتعلم النظر عبر الإقليم له قيمته في تعلم فهم العالم: العالم ككل والعوالم التي نعيش فيها حياتنا.
من أكثر التفسيرات شيوعا للإقليم - أو على الأقل الدولة الإقليمية - أنه وسيلة لتوفير الأمن لأولئك القابعين في «الداخل» من تلك الأخطار الدائمة الموجودة ب «الخارج». والإقليم، بلا شك، غالبا ما يخدم هذا الغرض، ولكن حين يتأمل المرء تجارب مئات الآلاف من الناس الذين أزهقت أرواحهم بكل قسوة وعنف، استنادا إلى مزاعم متأصلة داخل مبدأ السلامة الإقليمية في هذا الجزء من العالم خلال الثلاثين عاما الماضية (وهو رقم يضم مئات الآلاف من الخسائر في الأرواح من جراء حرب العراق وإيران خلال الفترة من 1980 إلى 1988، والإبادة الجماعية للشعب الكردي من قبل الدولة العراقية)، ويضيف هؤلاء إلى الملايين الآخرين الذين قتلوا استنادا إلى تبريرات مماثلة؛ تصبح تلك التفسيرات الشائعة محل شك ولو جزئيا على الأقل. فإذا كان هذا هو «الأمان»، فقد يكون من المنطقي أن يتساءل المرء كيف يكون عدم الأمان. وفي القرن العشرين، وهو فترة حققت فيها الدول القومية الإقليمية هيمنة عالمية بوصفها المؤسسة السياسية الشرعية «الوحيدة»، قتل ما يزيد على 100 مليون شخص في الحروب، التي تعلق الكثير منها على نحو مباشر بالإقليم، أو منحت على الأقل تبريرا خطابيا مع الإشارة إلى الإقليم.
أو تأمل الأحداث على حدود أخرى، كتلك التي تفصل الأراضي السيادية للولايات المتحدة عن المكسيك؛ إن لهذه الحدود وهذه الأراضي تاريخا معقدا أيضا. كانت هذه الحدود قد منحت صيغة قانونية رسمية في معاهدة جوادالوبي هيدالجو عام 1848 (فريجر 1998). وقد أنهت تلك المعاهدة ما يطلق عليه الأمريكيون الحرب المكسيكية؛ ومثل الغزو العراقي للكويت، كانت هذه الحرب التي وقعت قبل 150 عاما مجرد وسيلة حاولت بها حكومة دولة قومية أن تضم إليها أراضي دولة أخرى، ودون مبرر مقنع. ولكن خلافا لمجريات هذا الغزو الذي وقع بالأمس القريب، لم تكن الدولة المعتدى عليها (المكسيك) تلقى مساعدة أو دعما من أي قوة عظمى عالمية، وكانت الدولة المعتدية (الولايات المتحدة) لها الغلبة. وتأكد مصيرها الواضح، الذي تمثل في تفوقها المفروغ منه، على أرض المعركة، وأعيد رسم خريطة السيادة؛ فتحركت الحدود آلاف الأميال جنوبا، ووجد الأشخاص والأشياء الذين كانوا «داخل» المكسيك أنفسهم «داخل» الولايات المتحدة. وكان المنضمون حديثا يتمثلون في آلاف المواطنين المكسيكيين، وكما يقول النشطاء المكسيكيون الأمريكيون: «نحن لم نعبر الحدود، الحدود هي التي عبرتنا» (أكونا 1996، 109). وضمت الحدود كذلك عشرات الشعوب الأصلية، مثل الأباتشي والهوبي ونافاجو وشعب الشوشون، الذين خضعوا رغما عنهم - وإن كان ذلك جزئيا فقط - لآليات السيادة الأمريكية؛ نظرا لموقعهم المواجه لهذه الحدود المتغيرة. كما ضمت أيضا ذهب كاليفورنيا وخشبها وعقاراتها.
فيما يتعلق بالحدود المعاصرة، يوجد ما يصفه العديد من الناس بأن «غزوا» آخر، ربما يكون أكثر خبثا، يحدث؛ فيكتب ويليام جريجز يقول: «بينما تشتبك القوات الأمريكية مع تنظيم القاعدة في خلايا إرهابية في ميادين حرب نائية في أنحاء آسيا، وتستعد قيادتنا العسكرية لمواجهات جديدة في العراق، تعتدي «صديقتنا» و«جارتنا» من الجنوب على وطننا بلا هوادة» (2002، 21)، وفي رأيه أن «الحكومة المكسيكية، والانفصاليين الراديكاليين من المكسيكيين الأمريكيين، وإدارة بوش؛ يتفقون جميعا على شيء واحد، هو أن الحدود التي تفصل دولتنا عن المكسيك ينبغي أن تعامل وكأنها ليس لها وجود» (2002، 21). ويعبر مئات الآلاف من العمال الحدود من الجنوب إلى الشمال كل أسبوع في ظل حظر رسمي لذلك، ولكن يتم تشجيع عبورهم أو التجاوز عنه بطرق أخرى. ولكن لا بد أن يفعلوا ذلك في سرية تامة، إذ يتسللون أو يعبرون أنفاقا تحت الحدود (مارتينيز 2001). وبينما ينجح آلاف في العبور، أو العثور على عمل، أو الاجتماع مع أسرهم مرة أخرى، فإن ثمة كثيرين يتم توقيفهم وترحيلهم مرة أخرى إلى الجانب الآخر ليعاودوا الكرة مرارا. والكثير من الرجال والنساء والأطفال يموتون عطشا أو من جراء التعرض للظروف القاسية في الصحاري، أو الاختناق في الشاحنات أو عربات القطارات التي تستخدم لتهريبهم إلى الداخل (إيجان 2004). بل إنه خلال الفترة 2002-2003، كان عدد العمال المكسيكيين الذين قضوا نحبهم إثر محاولتهم عبور الحدود مساويا على نحو تقريبي لعدد الجنود الأمريكيين الذين قتلوا قبل إعلان الانتصار في الحرب ضد العراق (وزارة الخارجية الأمريكية). وقد أسست منظمات دينية، مثل منظمة هيومان بوردرز، برامج لترك مياه في أماكن يستطيع الزوار المؤقتون من المكسيك وأمريكا الوسطى العثور عليها (
www.humaneborders.org ). وفي الوقت نفسه، قامت منظمات مثل رانش ريسكيو بتأسيس مجموعات حراسة مسلحة تنفذ عمليات شبه مسلحة لاستطلاع الحدود، دفاعا عن الممتلكات والسيادة (
www.ranchrescue.com ). إن الحدود ليست مجرد خط على خريطة؛ فهي والأراضي التي تميزها وتفصلها بمنزلة مسائل حياة وموت.
لا يمكن إنكار أن هذه الأمثلة التوضيحية أمثلة متطرفة نوعا ما؛ ففي حين يوجد دوما عدد معين من الحروب والنزاعات الحدودية التي تحدث على الكوكب، فإن الغارات العسكرية للحرب الأمريكية الضخمة في العراق نادرة نسبيا. بالمثل، قليل من المناطق الحدودية يوجد به المزيج المتقلب من الخصائص التي تميز مناطق الحدود الأمريكية المكسيكية. ولكن، بقدر ما قد تكون هذه المواقف متطرفة، فإنها توضح على الأقل أن أهمية الإقليم في العالم الحديث لا يمكن التقليل منها، وتشير كذلك إلى أن هذه الأهمية تتعلق بكل من كيفية تنظيم العلاقات الاجتماعية على مستوى الكوكب، وكيف أن حياة عدد لا حصر له من الأفراد تأثرت سلبا، بطريقة ما أو بأخرى، بآليات الإقليمية الحديثة. وهذا بالطبع يسري على الجميع.
إن هذين المثالين يعالجان الموضوع على نحو سطحي فقط؛ فكل منهما يتعلق بشكل واحد فحسب من الإقليم، ارتبط بالمؤسسة السياسية للدولة القومية الحديثة. وتشمل وسائل التواصل الأساسية، التي يوضح على أساسها هذا النوع من الإقليم، العلاقات الدولية، والقانون الدولي، والجغرافيا السياسية. ولكن المساحات الإقليمية البالغ عددها 200 أو نحو ذلك، التي تشكل المنظومة الدولية للدول، لا تستنزف الأشكال التي يتخذها الإقليم في العالم الحديث. في الواقع، اعتمادا على المنظور النظري للمرء ودقة تحليله، يوجد على الأرجح مليارات الأقاليم، ما بين كبيرة وصغيرة، وهناك تكوينات وتجمعات إقليمية لا حصر لها تشكل الحياة الاجتماعية والعلاقات والتفاعلات البشرية؛ ففي «داخل» الدول توجد تقسيمات سياسية وإدارية، ومحميات، ومناطق، ومقاطعات، وضواح، وأبرشيات، ونواح عديدة؛ وتوجد أيضا قطع أراض، وشقق، وغرف، ومكاتب، وزنزانات، ومعسكرات لا حصر لها ... والقائمة لا تنتهي. وتشمل إقليمية الدول القومية أقاليم فوق وطنية، ومتعددة الجنسيات، ودولية عديدة ظهرت بفعل معاهدات أو اتفاقيات مثل الاتحاد الأوروبي أو منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وقد يتمثل الإقليم في المساحة التي تشمل عضوية الناتو، وفي المنطقة التي يحظر فيها وقوف السيارات أمام محل البقالة؛ كما قد يتمثل في المتنزهات، والسجون، ومباني الأندية؛ وفي أماكن العمل، والأماكن التي تهيمن عليها العصابات، والمؤسسات التجارية المتعددة الجنسيات. وفيما يتعلق بكل مكان من هذه الأماكن، من المهم معرفة إن كنت ب «الداخل» أم ب «الخارج». وقد تكون الأقاليم المصغرة للحياة اليومية أهم بالنسبة إلى معظم الناس على الأرجح، أو على الأقل أكثر بروزا ووضوحا من الأقاليم الكبيرة الواسعة للسياسة العالمية.
دعنا نفكر على نطاق مصغر لبرهة، ولتبدأ من حيث أنت؛ انظر حولك إلى الطرق التي تتشكل بها أيامك بناء على الحيز الاجتماعي الذي تشغله، تأمل الغرف المسموح لك بدخولها وتلك التي تقصى عنها، أو لا يسمح لك بدخولها إلا بإذن. في أي نظام اجتماعي تعتبر فيه الملكية الخاصة سمة جوهرية، ينغلق معظم عالم التجربة اليومية عليك، وهذا العالم مقسم إلى أقاليم أيضا فيما يتعلق بالمساحات العامة والخاصة؛ تخيل مدى تأثير التغيرات في هذا التكوين العام/الخاص على حياتك اليومية؛ تخيل، على سبيل المثال، أن الكثير من المساحات «العامة» التي تمتد خلالها مسارات يومك قد «خصخصت» وصارت شروط دخولك إليه أو إقصائك عنه تعتمد على قدرتك على الدفع، أو على أي من الشروط التي يختار «المالكون» الجدد فرضها عليك مقابل دخولك (للمساعدة في تجسيد هذه التجربة الفكرية على نحو مادي، تأمل الاختلافات بين شارع رئيسي «تقليدي» في مدينة صغيرة، ومركز تجاري حديث). تخيل أيضا أن دخولك قد صار مشروطا بهيئتك: أبيض البشرة؟ أنثى؟ شاب؟ هذا هو التجسيد العملي للإقليمية. على الجانب الآخر، تخيل أن ما اعتدت أن يكون مساحة خاصة - مكانك الخاص، منزلك، غرفة نومك - من المزمع فتحه لمراقبة حكومية مستمرة، وأن الصور التي تلتقط تبث عبر شاشة التليفزيون؛ إن هذا أيضا من شأنه تشكيل نمط مهم إلى حد ما من المراجعة الإقليمية. والآن تخيل كليهما نظاما اجتماعيا توقف فيه «العام» و«الخاص» كما نعرفهما عن أن يكونا طريقة جوهرية لأقلمة الحياة الاجتماعية.
أو تأمل هذا: كان راي أوليفر يمتلك مزرعة بالقرب من جيمستاون بولاية كنتاكي، ووفقا للويس بول القاضي بالمحكمة العليا الأمريكية، فقد «علق لافتات «ممنوع التجاوز» على مسافات متساوية، وأوصد البوابة عند المدخل المؤدي إلى وسط المزرعة» (466 الولايات المتحدة، 170 1983، 173). في أحد الأيام تحرك شرطيان من ولاية كنتاكي، بناء على بلاغ ورد إليهما، بالسيارة إلى أرض أوليفر، متجاوزين منزله ومتجهين إلى البوابة الموصدة. ووسط تجاهلهما لكل من لافتة «ممنوع التجاوز» وصيحات أحد الأشخاص التي انطلقت من بعيد تأمرهما ب «الخروج»، تجولا حول البوابة ودخلا إلى منطقة شجرية على أرض أوليفر، وعلى بعد نحو ميل من منزل أوليفر، في بقعة محاطة بالأشجار من جميع الجوانب، عثرا على ماريجوانا مزروعة. غادر الشرطيان، عائدين إلى المدينة لاستصدار أمر تفتيش من أحد القضاة، ثم عادا إلى مزرعة أوليفر للقبض عليه. في القانون الأمريكي لم ترتكب الشرطة تجاوزا فحسب، بل انتهكت حقوق الخصوصية المحمية دستوريا لأوليفر، أو على الأقل كان هذا ما دافع به محاميه في محاكمته. ويحظر التعديل الرابع للدستور الأمريكي على الجهات الفاعلة الحكومية إجراء عمليات تفتيش دون مذكرة، أو على الأقل هذا ما يبدو، وأعلنت المحكمة العليا في مناسبات عدة أن الأدلة التي يتم الحصول عليها على نحو غير قانوني (أي أدلة على جريمة يتم التحصل عليها بالمخالفة للتعديل الرابع) يتم استبعادها من المحاكمات الجنائية؛ وهذا ما يسمى بمبدأ ثمرة الشجرة المسمومة. واتفقت المحكمة في الرأي مع محامي أوليفر. إن أوليفر «فعل كل ما أمكن توقعه منه للتأكيد على خصوصيته في الجزء الذي جرى تفتيشه من المزرعة» (ص173)، والشرطة تصرفت على نحو غير قانوني بقيامها بالتفتيش أولا، ثم استصدار مذكرة فقط بعد أن ثبت نجاح التفتيش؛ وتم رفض الدعوى رسميا.
غير أن الحكومة استأنفت على الحكم وقضت محكمة أعلى بإلغائه، ووافقت المحكمة العليا الأمريكية على الاستماع إلى الدعوى، وقررت أن الشجرة لم تكن مسمومة في النهاية. فأوجه الحماية القانونية التي كفلها التعديل الرابع، مثلما علل جمهور المشرعين، تسري فقط على منزل الفرد والمنطقة المحيطة به مباشرة (وهي مساحة تسمى النطاق المباشر). وأكد الجمهور على أن «جيوبا معينة فقط هي التي ينبغي أن تكون متحررة من أي تدخل حكومي تعسفي» (ص178). وعلى الرغم من الأقفال واللافتات، فإن أجزاء أخرى من حيازة الشخص تكون عرضة للتدخل الحكومي التعسفي، والتفتيش في هذه الأماكن لا يستلزم إذنا، ويطلق على هذه الأجزاء «النطاقات المفتوحة»، بالرغم مما أوضحه القاضي لويس بول من أن «النطاق المفتوح لا يحتاج لأن يكون «مفتوحا» ولا «نطاقا» مثلما يستخدم هذان المصطلحان في الحديث الدارج» (ص180). ونظرا لأن هذا الموقع المعزول المحاط بالأشجار كان «نطاقا مفتوحا»، لم يكن من الممكن حجبه عن مرأى العامة، ولم يكن لدى مالك الأرض توقع منطقي بالخصوصية هناك؛ وعليه، لم يكن ينبغي استبعاد الدليل على الجريمة ولا رفض الدعوى.
غير أن قضاة آخرين من قضاة المحكمة العليا لم يروا الأمر على هذا النحو؛ فقد تعرضت المساحة الخاصة بأوليفر (وحقوقه)، في رأيهم، لاعتداء من قبل الحكومة، وكانت الشرطة مدانة بالتعدي الجنائي. وقد كتب القاضي ثرجود مارشال مستشهدا بملاحظات القاضي بول من قضية أخرى يقول:
من بين الحقوق الأساسية المرتبطة بالملكية حق إبعاد الآخرين؛ فالشخص الذي يمتلك حيازة سوف يكون لديه توقع مشروع بالخصوصية بمقتضى هذا الحق في الإبعاد، والجهات الفاعلة الممثلة للحكومة التي لا تحمل إذنا - باستثناء حالات الطوارئ - ليست أقل قابلية للإبعاد من أي شخص آخر، ويزيد من قوة هذه الحقوق والتوقعات اللافتات والأقفال. ومن خلال تعيين حدود الأرض بالتحذيرات بوجوب عدم دخول العامة، يكون المالك قد أزال أي غموض فيما يتعلق برغباته. (ص195)
إن كلمة «ابتعد»، بالنسبة إلى المعارضين، وبالنسبة إلى قاضي المحاكمة تعني ابتعد. ولكن لسوء حظ أوليفر وغيره ممن لا حصر لهم، المعرضة حيازاتهم الآن لعمليات تفتيش دون إذن استنادا إلى هذه القضية؛ كان القاضي مارشال يكتب رأيا معارضا، وليس رأيا للأغلبية.
سوف يكون من الضروري لنا العودة إلى قضية راي أوليفر في موضع لاحق من هذا الفصل. أما النقطة موضع التركيز الآن فهي أن الإقليم والإقليمية لا يتعلقان فقط بقضايا الحدود الدولية والعلاقات الدولية؛ ففي قضية أوليفر توجد أقاليم متعددة على نحو عملي؛ فإذا نظرنا إلى القضية من ناحية ما، نجدها تتعلق ب «إعادة» أقلمة العام والخاص، وعند النظر إليها من ناحية أخرى، نجدها تتعلق ب «إعادة» أقلمة العلاقة بين الحيازة والفيدرالية الدستورية في الولايات المتحدة. أما عند تناولها تفصيلا، فنجدها تتعلق بإعادة تشكيل العلاقات الإقليمية بين «المنزل»، و«النطاق الملحق»، و«النطاقات المفتوحة» - أو بالأحرى استخدام هذه المفاهيم لإعادة هيكلة العلاقة بين الإقليم، والسلطة، والتجربة. ومهما حاولنا تشريحها، فإن طريقة فهم هذه الأقاليم (من جانب الملاك، ورجال الشرطة، والقضاة) ضرورية؛ فربما، بالنسبة إلى راي أوليفر، شكلت الفارق بين إيداعه السجن أو عدم إيداعه إياه.
لنتأمل قضية حيازة أخرى. كان والاس ماسون يحتفظ بحمام زاجل بحظيرة في فناء منزله، ولكن أحدهم كان يقتحم الحظيرة ويسرق حماماته؛ لذا، في «ليلة مظلمة ممطرة»، ولدى رؤيته ظلالا قاتمة لأشخاص في فنائه، أطلق نيران بندقيته على المعتدين (159، محاضر جلسات جنوبية، مجموعة 2، 7001964 و701)؛ فأصاب مايكل ماكيلر البالغ من العمر 14 عاما، وصديقه ليو شنيل البالغ من العمر 13 عاما. أصيب مايكل في ظهره وقضى بقية حياته مشلولا. لم يلق القبض على ماسون أو يتهم بجريمة، إلا أن والد مايكل قام بمقاضاة ماسون، ورفضت محكمة الموضوع الدعوى، واستأنف ماكيلر أمام محكمة لويزيانا العليا، وأعلنت أغلبية هيئة المحكمة أن:
ما أقدم عليه ماسون من إطلاق النار على اللصين، على الرغم من عدم وجود ما يبرره على نحو تام، لا يعاقب عليه. نحن لسنا على استعداد لأن نقول إنه قد تجاوز حقوقه في حماية أملاكه؛ فدستور الولايات المتحدة ودستور لويزيانا يمنحاننا الحق في حيازة الأسلحة وحملها؛ وهذا يستتبع منطقيا أن حيازة وحمل الأسلحة يمنحاننا الحق في استخدامها للغرض الذي صنعت من أجله. لقد كان منزل الفرد دائما هو حصنه، ومن يدخله مبيتا نية إجرامية، فإنما يعرض نفسه للخطر بإقدامه على هذا. (ص703-704)
لقد كان ماسون يحمي أملاكه لا أكثر، وبوضع «تاريخ الاعتداءات السابقة على ممتلكاته» في الاعتبار (ص703)، فإنه لا يلام مطلقا على إطلاق النار على المعتدين ... ولكن، كما هي الحال بالنسبة إلى قضية أوليفر، رأى قاض آخر الأمور على نحو مختلف وعارض الحكم؛ فقد تنبه القاضي إلى حقائق أخرى. لقد كان ماسون صيادا محنكا ورجحت الأدلة أنه كان متربصا، الأهم من كل ذلك أنه «لم يكن يوجد أي شك في أن الصبيين كانا يحاولان الهرب حين أطلقت عليهما النيران»؛ فكلا الصبيين أصيب في ظهره. «كان ماسون على علم بأنهما يركضان بعيدا عن المنزل»، وكان شنيل «يقفز من على السور حين أطلق عليه ماسون النار» (ص706).
ومثلما صار للإقليم معنى في قضية أوليفر فيما يتعلق بالمفاهيم القانونية مثل «النطاقات المفتوحة» و«النطاق الملحق»، كانت هذه القضية مدعومة بمفاهيم قانونية مثل «مبدأ الحصن» (بمعنى أن استخدام القوة مبرر في الدفاع عن «حصن» الفرد)، ووجوب التراجع؛ فحين يكون الشخص مهددا بعنف جهارا يجب التراجع قبل أن يرد العنف بالعنف دفاعا عن نفسه؛ ولكن حين يكون الفرد على أملاكه يطغى مبدأ الحصن على وجوب التراجع. ولو أن ماسون قد أطلق الرصاص على الصبيين قبل أن يتسلقا سوره، لكان الاحتمال الأرجح أن يتهم بارتكاب جنحة تشويه متعمد، أو تهمة أسوأ. ولكن اجتياز الحد الفاصل يغير المدلول القانوني للحدث؛ ومن ثم يغير المدلول العملي له؛ أي معناه بالنسبة إلى الطفلين، وإلى ماسون، وإلى المفسرين الثقات لمعنى الإقليم. مرة أخرى، «هذا هو الفارق الذي يصنعه الإقليم»، وكما هي الحال مع بعض من أمثلتي التوضيحية السابقة، يعد هذا ديمقراطيا نوعا ما. ولكن، حتى إذا كانت مثل هذه الأحداث شائعة بما يكفي، فهي ليست وقائع يومية بالنسبة إلى غالبيتنا؛ فالمنظور العام يتعلق بأحداث أكثر شيوعا بكثير، مثل الإخلاءات والاعتقالات العادية، وكذا قوانين عدم الاعتقال وعدم الإخلاء. وكلتا القضيتين المتعلقتين بالملكية تكشف عن جوانب مهمة للكيفية التي يعمل بها الإقليم في عالم التجربة.
يمكن إعطاء أمثلة لا حصر لها عن الأهمية العملية للإقليم فيما يتعلق بالكيفية التي تعاش بها الحياة اليومية، وهذا من شأنه أن يثير عددا من القضايا التي تسعى هذه «المقدمة القصيرة» إلى معالجتها. ثمة سؤال يطرح نفسه على الفور: في ظل المجموعة الهائلة من الأشكال التي يتخذها الإقليم - والتي أشير إليها مجرد إشارة فقط من خلال الأمثلة التي عرضت حتى الآن - هل يمكن قول أي شيء مفيد عن الإقليم والإقليمية «في حد ذاتهما» خلاف الأشكال غير المعدودة التي يتخذانها، والغايات غير المحدودة التي يعدان وسيلة لها؟ بمعنى آخر، هل الممارسات الاجتماعية المتنوعة المرتبطة بالإقليمية فيما يتعلق مثلا بالحروب بين الدول القومية، أو حقوق الخصوصية لملاك الأراضي والعقارات، أو تخصيص مساحات للحدائق في سوازيلاند، أو القواعد الخاصة بالوصول إلى أحد مهاجع الطلاب؛ كلها أمثلة للظاهرة نفسها لدرجة أن من الممكن إصدار تعميمات تسري على سياق ما بالسهولة نفسها التي تسري بها على سياقات أخرى؟ أو هل قد يكون الأمر متمثلا في أن «الكلمة» نفسها تستخدم ببساطة لما يفضل النظر إليه باعتباره أنواعا مختلفة تماما من الأشياء؟ إذا كان الأخير هو الحال، إذا فربما تكون محاولة معاملتها وكأنها الشيء نفسه، على أفضل تقدير، تجريدا غير ملائم وغير مجد. وفي الطرح التالي سوف أبدأ بمحاولة ترك السؤال مفتوحا (والاعتراف بأن الإقليم فيما يتعلق بغزو العراق، والإقليم فيما يتعلق بغرفة نوم مراهق، بينهما أشياء مشتركة أقل مما قد يوحي به استخدام الكلمة نفسها) والافتراض، لأهداف عملية، أنه يوجد شيء مفيد لأن يقال بشأن الإقليم «في حد ذاته». جانب من أسبابي لتبني هذا الأسلوب يكمن في وجود نزعة قوية، مع استثناءات بارزة قليلة، لمناقشة الإقليم وتنظيره كما لو أن المظاهر والأشكال المختلفة له ليست حتى ظواهر مترابطة؛ فالدراسات الخاصة بالهياكل والتشكيلات الإقليمية الكبيرة والصغيرة، وتلك التي تقع «بين هذه وتلك»، غير معلومة إحداها للأخرى.
وكما سأتناول بمزيد من التفصيل في الفصل الثاني، كانت فروع معرفية أكاديمية بالدرجة الأولى تميل، حتى عهد قريب، إلى دراسة الإقليم كجانب بسيط نسبيا من الموضوعات الأكثر محورية لتلك الفروع المعرفية؛ فنجده، على سبيل المثال، ينظر إليه على نحو شائع كجانب من جوانب السيادة في نظرية العلاقات الدولية، وكتعبير عن الهوية الجمعية في الأنثروبولوجيا، وكوسيلة نحو تعزيز الخصوصية أو الأمان العاطفي في علم النفس البيئي. حتى في الجغرافيا البشرية، ذلك المجال الذي قد نتوقع فيه أن يقيم الإقليم أكثر كظاهرة في حد ذاته، كان في الأغلب الأعم يبحث ضمن الحقل المعرفي الفرعي للجغرافيا السياسية؛ ومن ثم أحيل إلى أسئلة بشأن آليات عمل الدول القومية. وقد كان للنزعة الأكاديمية نحو «تقسيم» الإقليم - وإخضاعه لما يعد تقليديا الموضوعات الجوهرية الحقيقية لكل فرع معرفي - تأثير متناقض تمثل في تهميشه كموضوع في حد ذاته، وهذا التقسيم (والتهميش) المعرفي للإقليم مفهوم إلى حد كبير؛ غير أنه كان له أثره في وأد عدد من التساؤلات في مهدها، وإضفاء هالة من الغموض حول عدد من الروابط ربما يلفت منهج أكثر تقليدية الأنظار إليها. والأهم من ذلك أن معظم المعالجات المعرفية للإقليم «تفترض» - ببساطة وبفعالية - أن الأسئلة مغلقة؛ ومن ثم لا تعالج مسألة الإقليم كإشكالية بالقدر الكافي؛ لذا سوف أفترض في الصفحات التالية أن ثمة بعض الأشياء العامة والمفيدة التي يمكن قولها بشأن الإقليم، ولعل من أهمها أن الإقليم يشيع فهمه كأداة لتبسيط وتوضيح شيء آخر، مثل السلطة السياسية، أو الهوية الثقافية، أو استقلالية الفرد، أو الحقوق. ولكي يكون للإقليم مثل هذا التأثير، لا بد أن يعامل «في حد ذاته» كظاهرة بسيطة وواضحة نسبيا؛ ولكن الإقليم، مثلما سأشير عبر صفحات هذا الكتاب الذي بين يديك، أبعد ما يكون عن البساطة والوضوح؛ فهو - كما توحي الأمثلة التوضيحية التي عرضتها حتى الآن - عنصر بالغ التعقيد، وغالبا ما يكون شديد الغموض من عناصر الحياة الاجتماعية، والعلاقات، والتفاعلات البشرية؛ ومن ثم، فإن الوسيلة المثلى لتوضيح الطبيعة العملية لمفهوم الإقليمية هي تعقيد أساليب فهمنا القائم على الحس العام مبدئيا. (2) الحياة الاجتماعية للإقليم
الأقاليم كيانات اجتماعية بشرية، وعلى الرغم من أن الإقليمية، شأنها شأن اللغة، قد تكون من منظور شديد التعميم عنصرا عالميا بشريا، فإن الأشكال المحددة التي تتخذها الإقليمية شديدة التنوع، شأنها شأن اللغة أيضا. والإقليمية عنصر مهم في كيفية قيام الجماعات - الثقافات، والمجتمعات، والكيانات الجمعية الأصغر - والمؤسسات بتنظيم نفسها مكانيا. إنها جانب من جوانب الكيفية التي يقوم بها الأفراد من البشر ككائنات مادية بتنظيم أنفسهم بالنسبة إلى العالم المادي والاجتماعي؛ لذا فالأقاليم أدوات بشرية ثقافية مهمة من نوعية خاصة نوعا ما. وكما هي الحال مع أي أدوات من صنع الإنسان - مثل الرءوس المقلصة، والصولجانات، وكرات البولينج، والقنابل العنقودية - تعكس الأقاليم وتضم سمات من النظام الاجتماعي الذي يوجدها؛ فقد كانت مظاهر الإقليمية في العصر الحجري مختلفة بالتأكيد عن مظاهر الإقليمية في العصر الإلكتروني، وأقاليم المجتمعات المثقفة تختلف عن أقاليم المجتمعات الأمية لدرجة أن هذه الأقاليم تتضمن أشكالا متباينة تباينا قويا من الحياة الاجتماعية، وصنوفا مختلفة من ممارسات التواصل. والكيفية التي يعبر بها الإقليم عن نفسه بين أشخاص ينحصر نشاطهم الاقتصادي الأساسي في الصيد المحلي وجمع الثمار بطرق مهمة؛ تختلف عن تلك الخاصة بالمشتغلين بالزراعة، بينما تختلف هذه، بدورها، عن مظاهر الإقليمية في نظام اجتماعي صناعي رأسمالي عالمي. والليبرالية السياسية تنظم في أقاليم على نحو مختلف عن الدول البوليسية الفاشية. وكل هذا يعني أن الأقاليم ليست أدوات بسيطة بأي حال، بل الأقاليم في الأساس «مقوم بنيوي» للنظام الاجتماعي تعبر عن سماته. وقد يذهب المرء إلى أبعد من ذلك بالقول بأن أي بنية ثقافية، أو نظام اجتماعي، تكون مبهمة دون وجود إشارة (ولو ضمنية) إلى كيفية التعبير عنها إقليميا؛ ولما كان الموقف هكذا، فإن أي مراجعة ذات أهمية لبنود الإقليمية (كتلك المتعلقة بالعام والخاص) تستتبع تحولا اجتماعيا كبيرا على نحو مساو (والعكس صحيح).
ويمكن النظر إلى هذه الفكرة العامة بتأمل أي من العمليات التاريخية المرتبطة بالظهور، والتغير المتواصل، والانتشار العالمي لأشكال حديثة على نحو خاص للإقليم. وعند النظر إليها من منظور عالمي، وإن كان على نحو بالغ التجريد، نجد أن الانهيار الطويل المتقطع للإقطاعية الأوروبية، وعمليات الإمبريالية والاستعمار المستوحيين من أوروبا، وعمليات تصفية الاستعمار والقوميات المتصلة به، والتشبع العالمي من الدولة القومية الإقليمية، وصعود وهبوط اشتراكية الدولة، والحروب وحركات المقاومة التي منحت من خلالها الحروب قوة مادية ... إلخ؛ كل ذلك استتبع إعادة الأقلمة المتواصلة (وإن كانت متقطعة) للحياة الاجتماعية. وهذه «العمليات» و«القوى» المجردة تكشفت جميعا على الأرض بطرق شكلت إيقاعات، وخبرات، وعلاقات، ووعي الأشخاص العاديين على مستوى عميق. والكثير من أكثر أشكال الهوية وطرق الوجود وضوحا التي تميز الحداثة ترتبط ارتباطا مباشرا بعمليات الإقليمية المتواصلة هذه على ما يبدو؛ فالمواطن، والمستوطن، والأجنبي، والمواطن الأصلي، والمالك، والمستأجر، والسجين، والمدير، واللاجئ، وواضع اليد، وآخرون لا حصر لهم؛ من ضمن الأدوار والشخصيات الاجتماعية ذات الطابع الإقليمي التي تقطن عالمنا، وهؤلاء ضمن الأدوار والشخصيات الاجتماعية التي «تمثلنا». ولما كانت هذه الشخصيات «ارتباطية» - نظرا لكونها تمثل شخصيتنا بالنسبة إلى الآخرين - فإنها تعكس التنظيم الإقليمي المعقد لشبكات العلاقات الاجتماعية؛ لذا فبينما قد يستطيع المرء أن يضع تعميمات بشأن الإقليم «في حد ذاته»، لا ينبغي أن يتصور أنه منفصل بأي حال عن تاريخ الجانب الاجتماعي، على الأقل بقدر طبيعة الجانب الاجتماعي، على نحو جزئي، من خلال الطريقة التي نظم بها من منظور إقليمي. وإذا كان من المنطقي أن نقول إن الثقافات تخلق «أو تفرز» أقاليم، فإنها تفعل هذا من خلال عملية استنساخ وإعادة تكوين نفسها (أو قد تتغير بالطبع من جراء فرض أشكال جديدة للإقليم من قبل الآخرين).
وكما أشرت سابقا، فإن أحد الجوانب المهمة للكيفية التي تعمل بها الإقليمية عموما يتيسر من خلال اعتبارها، على نحو مسلم به نوعا ما، ظاهرة شبه طبيعية. وبقدر ما يبدو الإقليم (مثل الإقليم القومي، أو الملكية الخاصة) شيئا بديهيا، أو ضروريا، أو لا يقبل الشك، فقد يضفي غموضا على دور السلطة والسياسة في تكوينه والحفاظ عليه. قد يكون من السهل تبرير الأفعال القائمة على الإقليم أو الرامية إلى ترسيخه بمزاعم «عامة» أو شمولية، ولكن لما كان الإقليم - أو أي مظهر معين له - يعد مشروطا، ومبنيا اجتماعيا، ومدعوما منطقيا، وكانت الأمور تحتدم بفعل العنف البدني؛ فحينئذ قد تصبح أشكال السلطة المرتبطة جوهريا بالإقليم أكثر وضوحا، والمبررات أكثر تحيزا أو تحزبا.
بالطبع تعد عمليات الأقلمة الخاصة موضع تنازع عادة؛ فالنزاعات الحدودية الدولية، والمناقشات بشأن ما إذا كان إجراء بعينه يعد تجاوزا، أو ما إذا كانت عملية إخلاء معينة تبرر بالقوانين، والمعارك بشأن تخصيص الرقع الزراعية بين القرويين، وما إلى ذلك، تعد وقائع يومية. ولكن لكي «تعمل» الإقليمية بفاعلية، لا يمكن التشكيك في «المبادئ الأساسية» للإقليمية؛ فحين تصبح في موضع تساؤل، مثلما يحدث عند التشكيك في الملكية الخاصة للأراضي، أو حين تقوم القوى الاستعمارية بتهجير الشعوب الأصلية، أو حين يتم تقسيم المجتمعات السياسية القائمة، أو حين تهاجم الأقاليم ذات الطابع العنصري كتلك المتصلة بجيم كرو أو التمييز العنصري؛ حينئذ تتبين الأرجحيات والاحتمالات الخاصة بالإقليم على نحو أكثر جلاء، ويسقط من الحسبان بسهولة أكبر تلك المزاعم التي تذهب إلى أن عمليات الأقلمة هذه ضرورية أو سمات طبيعية لعوالمنا الحياتية؛ فالتشكيلات الإقليمية ليست مجرد أدوات ثقافية؛ إنها إنجازات سياسية.
إذا، فالإقليمية أكبر بكثير من كونها استراتيجية للسيطرة على المكان، فيفضل فهمها باعتبارها مرتبطة بطرق التفكير والتصرف والوجود في العالم ومنطوية فيها؛ أي وسائل جعل العالم ملما بالمعتقدات والرغبات ووسائل المعرفة العرضية ثقافيا وتاريخيا. إنها ظاهرة مجازية بقدر ما هي مادية. والإقليمية، بدورها، تنقل جوانب أساسية للهويات الفردية والجمعية، وهي تشكل الوعي الذاتي وتتشكل به. وفي النظم الاجتماعية القائمة على الصراع والتناقض، والتي تتميز بدرجة كبيرة نسبيا من التفكير الانعكاسي، لا تنعكس هذه الصراعات والتناقضات في التشكيلات الإقليمية لذلك المجتمع فحسب، بل تكون خاضعة أيضا لمجموعة متنوعة من التعديلات التخيلية، ولسياسة متعددة الأوجه للإقليم؛ فبعض جوانب سياسة الإقليم قد تتعلق على نحو مباشر بالدولة الإقليمية أو تقسيماتها الفرعية، والكثير منها ليس كذلك، أو يكون كذلك على نحو أقل مباشرة. وتتضمن هذه الجوانب الصراعات الإقليمية ل «الحياة الخاصة» التي تشمل قضايا العرق، والنوع، والسن، وما إلى ذلك، أو تلك القائمة بين العائلات، والمجتمعات، والمؤسسات، وأماكن العمل.
إن من بين أهداف كتاب «مقدمة قصيرة» رسم مخطط أولي لبعض من تعقيدات الإقليمية، وتكريس ما هو أكثر من الانتباه المألوف لطبيعتها الاحتمالية. وهذه عملية من أربع خطوات؛ أولا: نحتاج إلى أن «ننظر إلى» الإقليم والآليات الشائعة للإقليمية من حولنا. ثانيا: نحتاج إلى أن «ننظر حول» الإقليم، وأن نوفر سياقا له، وأن نرجع صلاته وروابطه إلى ظواهر اجتماعية أخرى. ثالثا: نحتاج إلى أن «ننظر عبر» الإقليم للكشف عما يشوبه الغموض عادة بفعل الخطابات التطبيعية المفترضة، كتلك المتركزة على السيادة والاختصاص القضائي والملكية. وأخيرا، ثمة خطوة رابعة تتمثل في: «النظر فيما وراء» الأنماط الموجودة للإقليم وتخيل طرق أخرى، ربما أفضل - أو ربما أسوأ - لخلع الطابع الإقليمي على الحياة الاجتماعية على ظهر هذا الكوكب.
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، يعد هذا الفصل مقدمة أخرى لفكرة الإقليم، تركز على السمات التي، في اعتقادي، تكتسب غموضا في العادة بفعل أساليب فهم أكثر تقليدية. وفي بقية الفصل أعرض في البداية ما سوف أطلق عليه «لغويات الإقليم»، وهو عبارة عن تحليل سوف يتيح لنا النظر إلى الأقاليم باعتبارها أكثر من أشياء ثابتة جامدة، ويركز بدلا من ذلك على العمليات والممارسات الاجتماعية الديناميكية التي تظهر أو تتغير من خلالها، أو بالنسبة إليها، الأنماط الإقليمية. وتتبع هذا مناقشة موجزة للوظائف المفترضة للإقليم؛ أي ما يقوم به الإقليم أو يتخيل أنه يحققه. والهدف الأساسي لهذا هو اكتساب القدرة على التفكير على نحو ناقد بشأن أساليب تناول ومعالجة فكرة الإقليم، التي تفترض أو تصوغ ببساطة عددا صغيرا من الوظائف شبه الطبيعية، واقتراح مفهوم أكثر عملية وواقعية. وبعيدا عن كونه سمة أزلية عامة للوجود الاجتماعي للإنسان، يعد الإقليم ذا طابع تاريخي عميق (ومرتبطا ارتباطا وثيقا بالتاريخ) على نحو عميق من نواح عدة. والجزء التالي يضيق نطاق المناقشة ليقتصر على العلاقة بين الإقليم وحقبة الحداثة التاريخية، وثمة تركيز على الطبيعة الديناميكية للحداثة وطابعها الذي يغلب عليه التغير المستمر. كذلك يطرح نقاشا حول عامل ذي صلة، وهو الزيادة في حركة الأشخاص والأشياء والأفكار التي تميز حقبة الحداثة. أتطرق بعد ذلك إلى قابلية مفهوم الإقليم للتفسير والتأويل؛ فالإقليم بالضرورة ينقل معاني، إلا أن هذه المعاني غالبا ما تكون قابلة لتفسيرات وتأويلات متعددة. والإقليم الحديث، بصفة خاصة، غالبا ما يكون موصوفا نصيا (كما اتضح من الطرح الخاص بقضيتي أوليفر وماكيلر)، وحتى أكثر المعاني وضوحا («ابتعد»، «للبيض فقط») يمكن «إعادة» تفسيرها في ضوء ما يؤخذ كنصوص رقابية مثل التشريعات القانونية أو الدساتير، أو في ضوء الأطر التأويلية المتنافسة. ويرتبط جزء كبير من ديناميكية الإقليم الحديث بهذه النصية والقابلية للتأويل. وأخيرا سوف أناقش في اقتضاب «عمودية» الإقليم، أو العلاقات المعقدة بين الكيانات الإقليمية المتشابكة. ومن خلال الاستعارة المجازية الممثلة في العمودية، عادة ما يطلب منا تخيل أننا نحتل مجموعة متداخلة من الأقاليم المتمايزة على نحو متزامن (غرف، مبان، مجتمعات محلية، دول أو مناطق، دول قومية). ولكن غالبا ما تكون «المعاني» الخاصة بعنصر إقليمي واحد في صراع (أو يمكن إدخالها في صراع) مع معاني عنصر آخر، وتتبع ذلك نقاشات حول الحد الفاصل الذي يميز واحدا عن الآخر، ونقاشات حول أي مجموعة من المعاني لها الأفضلية حال حدوث صراع. والكيفية التي تتطور بها هذه «النزاعات الحدودية» المجازية بين مناطق متصلة عموديا تعد أيضا جانبا بالغ الأهمية من سياسة الإقليم الحديث. (3) تعريفات عملية وقواعد لغوية للإقليم
من بين التدريبات المفيدة لتعلم النظر عبر الإقليم دراسة لغوياته، أو القواعد النحوية، والدلالات، والاستعمالات اللغوية لمجموعة الكلمات المتمركزة على كلمة «الإقليم». إن كلمة إقليم بالطبع اسم، ولكن قصر الانتباه على الإقليم كاسم قد يترتب عليه تركيز مبالغ فيه على «واقعه» الظاهري؛ ومن ثم التغاضي عن علاقته بمجموعة من الظواهر الاجتماعية الأخرى، وعلى الأخص الأنشطة، والممارسات، والعمليات الاجتماعية المتضمنة في عملية إنتاجه وتحوله. ويهدف هذا التدريب اللغوي إلى تصحيح هذا الخلل الشائع؛ ولكن قبل ذلك، قد يكون من المفيد أن نقول شيئا عن الأصل الاشتقاقي للمصطلح. يشتق أحد الأصول الشائعة لكلمة «إقليم»
territory
من الكلمة اللاتينية
territorium
بمعنى «الأرض المحيطة بمدينة ما»، وكلمة
terra
وتعني الأرض. غير أن أصول كلمة «إقليم»، حسبما يشير ويليام كونولي (1996)، قد تكون أكثر إثارة.
تعني كلمة
terra
الأرض، التربة، التغذية، الإعاشة؛ فهي تحمل معنى وسيلة إعاشة، أو الاستقرار، أو التلاشي في اللاوضوح. ولكن شكل الكلمة، مثلما ورد في قاموس أكسفورد للإنجليزية، يشير إلى أنها مشتقة من كلمة
terrere ، بمعنى يخيف، أو يرهب. و
territorium
هي «مساحة يحذر منها الناس». ربما يكون هذان الاشتقاقان المختلفان لا يزالان يحتلان كلمة إقليم اليوم. واحتلال إقليم إنما يعني الحصول على الاستقرار وممارسة العنف؛ فالإقليم أرض احتلها العنف. (ص144)
وفي هذا إشارة إلى أن الإقليم مثير للنزاع في جذوره.
كمقاربة أولى، يعرف الإقليم - عند تأمله بمعزل، كما هي الحال في التعريفات غالبا - بأنه مساحة اجتماعية محدودة تنقش معنى من نوع معين على أجزاء محددة من العالم المادي. ومن شأن إقليم بسيط أن يميز اختلافا بين «جانب داخلي» و«جانب خارجي»؛ فتشير المعاني، في المثال الأول، إلى المدلول العملي للوجود ب «الداخل» أو ب «الخارج» أو تجاوز الحد الفاصل الذي يميز جانبا عن الآخر. ربما يميز الحد الفاصل عابر سبيل عن معتد، أو أجنبيا عن مواطن؛ إذا فأساسيات الإقليم واضحة إلى حد ما: مساحة، حد، معنى ما، وضع ما. غير أنه على الرغم من ذلك، توجد متغيرات لا حصر لها تطرح نفسها؛ فبعض الأقاليم باقية ومستقرة نوعا ما، والبعض الآخر زائل إلى حد كبير؛ البعض رسمي، بينما البعض الآخر غير رسمي. فالأقاليم مثل الدولة القومية الإقليمية تطمح للاقتراب من المرجعية الكاملة أو الارتباط بما يوجد ب «الداخل»، بينما ثمة أقاليم أخرى، مثل مناطق البيع الخاصة بشركة للسلع الرياضية، قد تكون ذات ارتباط محدود للغاية أو ذات مدلول لعدد محدود نوعا ما من الأشخاص؛ فقد يكون هيكل الكنيسة الكاثوليكية المكون من الأبرشيات والأسقفيات والمطرانيات ذا أهمية كبيرة للأساقفة والقساوسة والأبرشيين، ولكنه يحمل صلة محدودة للغاية لغير الكاثوليكيين.
قد يأتي التعبير عن حدود إقليم ما بهياكل مادية؛ مثل أسوار، أو جدران، أو بوابات، أو أبواب. أو قد يعلن عنها بلافتات لغوية من قبيل: «مرحبا بكم في كيبيك»، «للموظفين المخولين فقط»، «للرجال»، «ابتعد عن الحشائش». ولكن هذه الأشياء ليست أساسية، بل إنها قد تكون مستحيلة، أو على الأقل غير عملية بالنسبة إلى الأقاليم غير الرسمية أو الزائلة. الفكرة هنا هي أن أي إقليم وحدوده «لهما معنى»؛ فهما ذوا مدلول بقدر ما يدلان عليه. وما يعنيه إقليم بعينه - مثل المصطلحات الخاصة بالاختلاف، والحدود، وإمكانية الدخول، والمنع، والعواقب المرتبطة بتجاوز حد ما - يعتمد على نوعية العلاقات الاجتماعية المرتبطة به؛ على سبيل المثال: تحمل خطوط الحدود الدولية أنواعا مختلفة من المعاني أكثر من خطوط الملكية (حتى إن توافقت في الموقع)، أو عتبات وحدات العمل المكتبية، أو حدود منطقة مبيعات؛ فالتوغلات غير المصرح بها داخل وحدة عمل أحد الزملاء قد تكون سببا لاتخاذ إجراء تأديبي، ولكن ليست سببا لعمل انتقامي عسكري. ومن نواح مهمة، بالطبع، يحمل كل خط حدودي خاص مجموعة فريدة من المعاني؛ فالحدود السورية الإسرائيلية تعبر عن معنى لا تعبر عنه الحدود النرويجية السويدية. الفكرة هي أننا قبل أن نتمكن من مناقشة «ما» يعنيه الإقليم، أو «كيف» يصبح ذا معنى، ينبغي التركيز على وجود معنى له؛ فإذا كان الإقليم شيئا، أو أداة، فهو شيء ذو معنى، أداة معروفة بأنها «تحوي» و«تعبر عن» أنواع متعددة من المعاني؛ فالأقاليم ليست كيانات مكانية فحسب، بل أدوات تواصلية أيضا.
والإقليم مساحة محدودة ذات معنى، سواء سميت هذه المساحة الصين، أم مساحة مشتركة من عقار سكني، أم «أسقفية ألباني». وتشير «الإقليمية» أكثر إلى العلاقة بين الأقاليم و«بعض الظواهر الاجتماعية الأخرى»؛ فهي تلفت الانتباه إلى الجوانب الإقليمية، أو ظروف ما، أو تداعيات شيء آخر؛ لذا تركز إقليمية سلطة الدولة على الجانب المكاني للسلطة السياسية الرسمية. والإشارة إلى إقليمية العنصرية، مثلما تم التعبير عن هذا في عهد التمييز العنصري أو في الكثير من المواقع الحضرية المعاصرة، تتيح لنا إدراك التدخل الجوهري للهياكل الإقليمية في طبيعة العنصرية التي تعمل بها العنصرية وكيفية معايشتها؛ ففحص واستكشاف إقليمية العمالة من شأنه تسليط الضوء على عمليات تقسيم أو دمج العمالة بواسطة إعادة التكوينات الإقليمية. والإقليمية، من منظور هذا المعنى «الارتباطي»، تتعامل مع الإقليم باعتباره شيئا «ساكنا» أكثر من تعاملها معه باعتباره جانبا من جوانب الأبعاد المتعددة للحياة الاجتماعية. ومن المفيد لنا تحويل انتباهنا إلى الظواهر الاجتماعية ذات الأهمية؛ لذا يمكننا تحليل إقليمية المؤسسات (المدارس، السجون، المستشفيات)، أو المنظمات (الشركات، الجيش، الأديان)، أو الأنشطة (لهو الأطفال، غسيل الأموال، إدمان المخدرات)، أو جوانب الهوية أو الكائن الاجتماعي. علاوة على ذلك، يمكن أيضا تعديل مصطلح «الإقليمية» ليركز على علاقات أو عمليات أكثر تحديدا: إقليمية لهو الأطفال القائمة على أساس النوع الجنسي، والإقليمية العرقية للتمثيل السياسي؛ وهذا يتيح لنا استكشاف كيفية إقحام الإقليمية في التعبير الاجتماعي عن هذه الأنواع من العلاقات؛ على سبيل المثال: كيف يتوسط الإقليم في التفاعل بين النوع الجنسي والسن، أو العرق والسلطة السياسية.
ومثلما يبرز التحول من «الإقليم» إلى «الإقليمية» علاقات مختلفة على نحو أوضح، كذلك يبرز التحول ذو الصلة من الأسماء إلى أشكال الفعل المشتقة من كلمة إقليم العمليات والممارسات الاجتماعية على نحو أوضح؛ ففي السنوات الأخيرة كتب عدد من الباحثين عن «لاأقلمة»
de-territorialization
و«إعادة أقلمة»
re-territorialization
سلطة الدولة بمقتضى ظروف «العولمة»
globalization ، وهذه المصطلحات أسماء أيضا، إلا أنها تشكلت من الأفعال الأدائية
territorialize
و
globalize . وبينما يعد ذلك أمرا صعب التناول إلى حد ما، فإن هذين الفعلين يلفتان الانتباه إلى الإقليمية كنشاط، وإلى الأقاليم باعتبارها «نواتج» ممارسات وعمليات اجتماعية؛ وبوصفهما أفعالا متعدية، فإنهما يشيران ضمنا إلى وجود مفاعيل. وهكذا نستطيع أن نتفهم ظهور قوانين جيم كرو للفصل العنصري في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر كأقلمة خاصة للعرق (أو بمعنى أدق، أقلمة السلطة على أساس العرق)، وإزالة التمييز العنصري في الخمسينيات حتى السبعينيات من القرن العشرين باعتباره الحل النسبي لأقلمة السلطة على أساس العرق.
غالبا ما تتضمن هذه الأفعال أيضا فاعلا، أي وسيطا فرديا أو جمعيا ينخرط في ممارسات إقليمية فيما يتعلق بالآخرين. وغالبا ما يستتبع هذه الأنشطة تعمد، أو قصدية، أو استراتيجية، ولكن هذا ليس ضروريا لأن بعض التشكيلات الإقليمية قد تكون هي النتائج غير المقصودة أو غير المتوقعة للقوى أو العمليات الاجتماعية الأخرى أو مجمل الأثر لعمليات الأقلمة العديدة الخاصة. وعلى أي حال، فإن «الأقلمة» تعني توظيف الإقليم في سياق معين عن طريق ربط ظاهرة أو كيان ما بمساحة محددة ذات معنى؛ على سبيل المثال: يمكن أقلمة التمثيل السياسي من خلال إنشاء دوائر انتخابية، أو إزالة أقلمتها من خلال التمثيل النسبي أو أنظمة التصويت الكتلي. ولكن مثل هذه الإجراءات غالبا ما تكون نسبية؛ نظرا لأن اللاأقلمة على نطاق ما تترتب عليها إعادة أقلمة على نطاق آخر (على سبيل المثال : يظل التحول من نظام تمثيلي قائم على الدوائر الانتخابية إلى نظام قائم على التقسيم الكتلي إقليميا). والتأكيد على «ممارسات» الأقلمة من شأنه أن يثبت الإقليم على نحو أكثر إحكاما وقوة داخل مجال العمل الاجتماعي؛ فالقليل من الأقاليم البشرية، إن وجد، يظهر ببساطة خارج لعبة العمليات الاجتماعية العامة والممارسات الاجتماعية الخاصة. إن الدول القومية الإقليمية لا تولد وتزول ببساطة هكذا؛ فإعادة الأقلمة المتواصلة للعمل ليست عملية طبيعية مثل التطور أو التغيرات الموسمية. وإذا كانت الأقاليم أدوات، فقد نتجت تحت ظروف تاريخية واجتماعية خاصة. وهذه الحقيقة البديهية الواضحة يمكن حجبها والتعتيم عليها بسهولة من خلال قصر التحليل على «الإقليم» في حد ذاته.
إن هذا الاستكشاف اللغوي للمجال المفاهيمي للإقليم مفيد من أجل تذكر بعض من تعقيدات الموضوع. وما يحمل تأكيدا هنا في محاولتنا للنظر إلى ما وراء الإقليم وحوله وداخله؛ هو عدم إمكانية اعتبار الإقليم منفصلا عن جانبين أساسيين من الكائن الاجتماعي البشري: المعنى والسلطة، واحتمالات العلاقة بينهما. وأيا كان ما قد يقوله أحدهم بشأنه، يتضمن الإقليم بالضرورة آليات شكل ما من أشكال السلطة الاجتماعية، غير أن السلطة ذاتها ظاهرة اجتماعية معقدة إلى حد كبير (ليوكس 1986)؛ فقد تكون جائرة، وقهرية وغير متناسقة، ومقيدة أو محررة أو معتدلة أو تمكينية؛ وقد تكون صيغتها شخصية ومحلية للغاية، أو عالمية ومجردة؛ وقد تكون أسباب استخدامها خبيثة، أو إيثارية، أو حيادية؛ وقد تكون متناقضة ومشحونة بالتوتر أو تعاونية. الفكرة هي أنه عند النظر «عبر» الإقليم سيكون ما سنراه دوما تمركزات من السلطة الارتباطية الاجتماعية. وقد يسهل الإقليم أو يعوق آليات السلطة، أو التحكم، أو تقرير المصير، أو التضامن. وعمليات الأقلمة هي صيغ التعبير عن السلطة، وعن كيفية تجسد السلطة في العالم المادي. وهذه العلاقة الجوهرية بالسلطة الاجتماعية تعد واحدة من السمات التي تميز الإقليم عن الأشكال الأخرى للمساحة الاجتماعية. وعبر صفحات هذا الكتاب تتسم العلاقات المعقدة والمتشابكة والمتغيرة بين الإقليم والسلطة بالبديهية.
والإقليمية مشمولة أيضا في تشكيل المعنى وتداوله وتأويله، وسيكون لنا عودة إلى هذه الفكرة في موضع لاحق من هذا الفصل. أما الآن فنكتفي بالقول إن الإقليم دائما ما يدل على شيء ما، و«المعنى» بالطبع ليس أقل تعقيدا كظاهرة اجتماعية من السلطة. وإعطاء اعتبار كاف للسلطة والمعنى والمساحة مجتمعة يبدأ في إضفاء لمحة عن التعقيد الذي يتسم به حتى أبسط الأقاليم. كذلك تميز هذه العلاقة الجوهرية بالمعنى الأقاليم عن الأشكال المكانية الأخرى؛ فليست كل مساحة مغلقة إقليما؛ فما يجعل مساحة مغلقة إقليما: أولا أن يدل على شيء، وثانيا أن يكون المعنى الذي يحمله أو يعبر عنه يشير إلى سلطة اجتماعية أو يتضمنها. ولكن المعنى والسلطة ليس أحدهما بمعزل عن الآخر؛ ففي إطار تقييم إدخال معنى على مساحة ما - أو على الحد الفاصل الذي يحدد المساحة ويميزها عن المساحات الأخرى - قد يتساءل المرء على نحو يقبله العقل عن سلطة خلق وتعيين هذه المعاني في المقام الأول؛ على سبيل المثال: تبدو لافتة معلقة على أحد الأبواب كتب عليها «للبيض فقط» أنها تحمل معنى واضحا يخلو من الغموض، ويبدو أنها تشير ضمنا إلى عواقب خطيرة لمن سيتغاضون عن هذه المعاني؛ ففي الولايات المتحدة، كان هذا التجاوز سيسفر عن إيقاع ألم بدني، وامتهان، وغضب على مدى أجيال. وإحدى طرق فهم حركات الحقوق المدنية التي ظهرت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين هي اعتبارها محاولة ليس فقط لتحدي «معاني» الأقاليم ذات الطابع العنصري، بل أيضا لتحدي «شرعية» السلطة المفترضة لفرض مثل هذه المعاني على مساحة وعلاقات اجتماعية.
ثمة بعد آخر للعلاقة بين السلطة والمعنى فيما يتعلق بالإقليم استحوذ على اهتمام متزايد يتصل بالعلاقة بين الإقليم وأسلوب الخطاب على نحو أكثر شمولا. سوف أعود إلى هذا الموضوع في الفصول التالية، أما في الوقت الحالي، فيكفينا القول إن التركيز هنا لن يكون منصبا في الأساس على هذه المساحة أو تلك، ولكن على افتراضات أو رؤى العالم الأيديولوجية أو المجازية أو الميتافيزيقية، التي تجعل صنوفا معينة من الأقاليم واضحة وملموسة وينصب كذلك على الطرق التي توظف بها هذه التمثيلات في إطار محاولات تبرير (أو انتقاد) آليات السلطة. ثم مثال سوف يناقش على نحو أكثر استيفاء في الفصل الثاني، هو خطاب السياسة الجغرافية. وهذه طريقة خاصة لفهم ومناقشة العلاقة بين المساحة والسلطة في سياق العلاقات الدولية؛ إنها تركيبة أيديولوجية ميتافيزيقية تجعل هذا النوع من التشكيلة الإقليمية المتنوعة ذا معنى بطريقة خاصة. ومما يشكل أهمية للأفكار الأساسية ل «العلاقات الدولية» و«السياسة الجغرافية»، مجموعة من الصور والافتراضات السابقة (المعاني) التي تتعامل مع «الدول السيادية» وكأنها موضوعات موحدة مستقلة بذاتها. ويدين خطاب السيادية، بدوره، بالكثير من قدرته على إضفاء المعنى لصورة ضمنية للشخصانية والحقوق؛ فالخطابات التي تجعل الأشكال الحرة للملكية الخاصة تبدو منطقية تسقط معاني مشابهة على المساحة الاجتماعية. وبالمثل، كانت عمليات أقلمة التبعية العنصرية غير قابلة للانفصال عن خطابات تفوق البيض والنقاء العرقي. والطرق التي تتم بها أقلمة أماكن العمل لا تنفصل، على سبيل المثال، عن أيديولوجيات الكفاءة، والملكية، والعمالة، والنوع الجنسي. وفي الفصل الرابع سوف نتناول بشيء من التفصيل العلاقة بين الإقليمية وخطابات القومية والصهيونية في إسرائيل/فلسطين. الفكرة هنا أن الخطابات التبريرية (والناقدة) التي تقف خلف العمليات والممارسات الإقليمية تشكل إلى حد كبير جزءا من «المعاني» الخاصة بمساحة بعينها، مثلما تشكل جزءا من التعبيرات الأكثر وضوحا؛ مثل: «ابتعد عن الحشائش»، أو «للموظفين المخولين فقط»، أو «مرحبا بكم في كيبيك». هذه الجولة اللغوية داخل عالم الإقليم ومشتقاته اللغوية مثل الإقليمية، والأقلمة ... إلخ، إنما يقصد بها مساعدتنا على وضع الموضوع ضمن إطار العلاقات والعمليات الاجتماعية؛ إذ يفضل أن ننظر إليه كظاهرة اجتماعية- تاريخية-سياسية.
في هذه «المقدمة القصيرة»، لا يسعني سوى سرد القليل عن تركيبة المساحة- السلطة-المعنى (والتجربة) التي يطلق عليها «الإقليم»، وما يمكن تكراره هو أن هذه العلاقات المتداخلة وأوجه التوافق لا يمكن حذفها ببساطة من الاعتبارات الخاصة بالإقليم، وأن آليات السلطة والمعنى داخل وعبر المساحة الاجتماعية لا يمكن ببساطة افتراض أنها مسلم بها، ولا إسقاطها من الاعتبار باعتبارها غير ذات صلة؛ والسبب في ذلك، مرة أخرى، هو أن «الإقليم على نحو عام يعمل تحديدا من خلال الميل نحو اعتبار السلطة والمعنى، والعلاقة بينهما، أمورا بديهية وغير إشكالية نوعا ما». وبهذه الطريقة، يجسد الإقليم في شكل مادي ويصبح بسيطا وواضحا نسبيا؛ وبذلك يؤدي الإقليم جزءا كبيرا من عملية التفكير نيابة عنا، ويغلق أو يضفي غموضا على التساؤلات الخاصة بالسلطة والمعنى، الأيديولوجية والشرعية، السلطة والالتزام، وكيف تتشكل عوالم الخبرة ويعاد تشكيلها على نحو متواصل. (4) ما أهمية الإقليم؟
من بين الأسئلة التي عادة ما تطرح بشأن الإقليم (أو بشأن أقاليم بعينها): ما أهمية الإقليم؟ ما وظائفه؟ ماذا يفعل؟ ثمة مجموعة شائعة من الإجابات تنبثق من فرضية أن الإقليمية البشرية طبيعية على نحو ما، بل إنها ضرورة بيولوجية. وفي هذا الإطار تكون أوجه الاختلاف بين الصيغ المتعددة للإقليمية، التي تظهرها الطيور الزرقاء والدبابير والبشر، أقل أهمية من أوجه التشابه؛ لذا، مثلما تكمن وظيفة الجنس - مهما كان اختلاف أدائها من قبل الأنواع المختلفة - في التكاثر وتوارث الجينات، تلبي الإقليمية ببساطة حاجة أكثر بساطة وعمومية، أو تعمل كوسيلة لإشباعها. وغالبا ما تكون الحاجة المفترضة هي السيطرة على حرية الوصول إلى الموارد، سواء أكانت هذه الموارد بلوطا، أم أعشاشا، أم حقول نفط، أم شركاء جنس. وهذه النظرة الوظيفية للإقليم يمكن أن تشير ضمنا إلى حاجات أخرى مفترضة مثل السيطرة (سواء أكانت تكاثرية أم بأشكال أخرى)، أو حفظ النفس. غير أن هذا النهج ليس مفيدا للدرجة فيما يتعلق بهدفنا؛ نظرا لأنه يختزل مجموعة ضخمة من الظواهر والتجارب إلى عدد محدود جدا من الوظائف المفترضة؛ وفي قيامه بذلك، يهمش التساؤلات المحورية الخاصة بالمعنى والسلطة. كذلك يبدو من الصعب استخدام نظرية الطائر الأزرق للإقليمية هذه (استنادا إلى تفضيل هذا الطائر العيش في أقاليم بعينها) لتفسير التنوع الضخم في الأشكال التي اتخذتها الإقليمية البشرية على مدار التاريخ، وعبر الثقافات، وربما تحت ظروف الحداثة على نحو خاص. ربما يكون الإقليم من العموميات، ولكن مثل العموميات الأخرى - كالجنس، أو العمل، أو الأسرة، أو الموسيقى - تتنوع الأشكال التي يتخذها في النظم الثقافية أو الحقب التاريخية المختلفة تنوعا هائلا.
غير أنه توجد روايات أخرى أكثر أو أقل وظيفية تقر بأن الإقليمية البشرية تختلف جذريا عن المظاهر غير البشرية؛ فالإقليم لا يتعلق ببساطة بتصنيف الأشياء لأجل التصنيف، ولكنه دائما وسيلة لغايات أخرى، وهذه الغايات لا تقتصر بأي حال على الحاجات العامة؛ فقد يكون الإقليم حلا لمشكلة ما، وقد يكون نوعا من الاستراتيجية. ولما كان الإقليم دائما ما يتضمن توصيل معنى من نوع ما ويعد تصنيفيا في الأساس، فقد يكون من وظائفه (أو على الأقل نتائجه) تجسيد أشكال الهوية والاختلاف ماديا. وفي أغلب الأحيان يكون وسيلة للسيطرة على ما «بداخل» الحدود الفاصلة، من خلال تحجيم إمكانية الوصول إليها أو إبعاد الآخرين. وبمقارنته بالوسائل الأخرى لتأكيد السيطرة، قد يعزز الإقليم الوضوح والبساطة، ومن ثم اليقين وإمكانية التنبؤ، ومن ثم السلام، والأمن، والنظام، ومن ثم الكفاءة والتقدم. وسوف نستعرض بعض هذه الأفكار في الفصل الثالث.
بينما قد يكون التفكير في الميزات الوظيفية للإقليم مفيدا، فإن وجود حساسية أكبر إزاء آليات السلطة من شأنه تعقيد الصورة؛ فبعض جوانب الواقع الاجتماعي يمكن أقلمته بطرق تعمل على تفاقم انعدام الكفاءات، أو تغذي الاستياء والسخط، أو تخلق أنماطا للتبعية والانقياد. وعلى نحو أكثر عمومية، في كثير من الحالات يكون التأثير الأبرز للإقليم هو تحجيم سلطة الآخرين: التفريق والتسيد، التضييق أو التجميد، الإقصاء، خلق التبعيات، تخفيف السلطة، التفتيت والعزل. قد يستنتج المرء من ذلك على نحو مبرر أن وظيفة الإقليم في حالات كثيرة هي «خلق الصراع»، أو مفاقمة تباينات وازدواجيات السلطة بدرجة ما أو بأخرى، واعتبار ذلك هدفا في حد ذاته، أو لأجل هؤلاء ممن يجدون في الصراع أو القمع خادما لمصالحهم؛ فالأقلمة المفرطة للعنصرية، بينما تجمعها صلة بالسيطرة على الموارد مثل الأرض والعمالة، فإنها قد أضفت على «العرق»، على الأقل بالقدر نفسه، صيغة أكثر مادية من خلال تعزيز مصطلحات الهويات المتمايزة. وإلى حد كبير كان المقصود بأن تكون «أبيض اللون» في عهد أنظمة جيم كرو المكانية أو التمييز العنصري؛ هو أن تمتلك السلطة التي تقول بها «للبيض فقط»، وأن تثق بأن هذا التفويض سوف يدعمه عنف الدولة؛ فالتفاهمات النفعية التي تفترض أن عمليات الأقلمة لا ينبثق عنها سوى أشياء جيدة فقط تضفي غموضا على أبرز تأثيرات الإقليم.
إذا، فالأساليب الوظيفية المتبعة في تناول الإقليم «في حد ذاته» لا تخلو من الصعاب، ولعل كل ما يمكن للمرء أن يفعله على نحو عقلاني هو تقييم الوظائف - أو بالأحرى الآثار والنتائج العديدة - لنوع الإقليمية هذا أو ذاك من هذا المنظور أو ذاك. ولكن مرة أخرى، كثير من الآثار التراكمية، أو جزء كبير مما تفعله الأقاليم، قد لا يكون مقصودا من جانب أي فاعل بعينه؛ فما قد يبدو «وظيفيا» من منظور ما، قد يكون مختلا وظيفيا - أو أسوأ - من وجهات نظر أخرى. كذلك تطمح الأشكال الإقليمية مثل الدول القومية لاتخاذ موقف كلي كهذا، لدرجة أن أي قائمة طيعة من «الوظائف» المفترضة سوف تكون شديدة التجريد لدرجة لا تجعلها ذات قيمة تذكر. سوف أعود إلى هذه القضية في الفصل الثالث؛ أما الآن فيكفي أن نشير إلى أن التفكير بشأن الإقليم من حيث الآثار أو العواقب، سواء أكانت مقصودة أم استراتيجية، قد يثير تساؤلات يغلقها العديد من الآراء التقليدية. (5) النظر حول الإقليم وعبره (5-1) الإقليم والحداثة
حتى هذه النقطة، تناولت الإقليم بمصطلحات عامة للغاية مع إشارة صريحة محدودة إلى السياقات التاريخية أو الثقافية، ولكن النظر عبر الإقليم يتطلب منا أن نضع مظاهره في إطار نوعيتها التاريخية. ومن مجموعات الاختلافات التي قد تكون مفيدة هنا تلك القائمة بين الحداثة وما قبل الحداثة (وربما ما بعدها)؛ وهذا بالطبع يطرح مستوى آخر من التعقيد، على الأقل بسبب وجود نزاعات بشأن السمات التي تشكل الفوارق؛ أي بشأن ما يجعل الحداثة «حديثة» (بومان 2004). ولكن عنصر التعقيد الإضافي هذا يكون مثمرا إذا استطاع أن يساعدنا على النظر عبر التشكيلات الإقليمية التي تتطور بداخلها حياتنا، وفيما وراءها. وبداية، عادة ما يعد الفارق بين الحداثة وما قبل الحداثة فارقا زمنيا؛ فعادة ما يفهم السابق للحداثة بأنه قبل العصر الحالي. في المقابل، يدل الحديث على نوع من «الحاضر» المستمر إذا كان في تحول مستمر . قد يستمر السابق للحداثة في الوجود في جيوب منعزلة، ولكن هذه الجيوب عادة ما يفهم أنها في تناقص من حيث العدد والأهمية؛ فالحداثة، كما تبدو، مستقبل لا مفر منه. ولكن من بين الأشياء التي عادة ما تهمل في هذه المعادلة عدم التجانس الجذري لثقافات «ما قبل الحداثة». فما يجعلها منسوبة إلى «ما قبل الحداثة» هو ببساطة أنها «غير» حديثة؛ فما تشترك فيه هو ما ليست عليه. ولكن إذا نظرنا إلى الحداثة على أنها ليست مجرد حالة أو لحظة زمنية، بل نوع خاص (ومتميز) من التكوين الثقافي، فقد نرى الأشكال الحديثة المتميزة من الإقليم في ضوء مختلف.
فيما يتعلق بهدفنا الحالي من تعلم النظر عبر الأشكال والممارسات التي تؤثر على حياتنا تأثيرا عميقا للغاية، وفيما وراءها، دعني أحدد ببساطة أن «الحداثة» هنا تشير إلى أسلوب حياة خاص («إبسمتية» أو أسلوب متميز ثقافيا للتفكير، والشعور، والوجود) بدأ في الظهور كتحول ثقافي محلي نوعا ما في أوروبا الشرقية في القرون الوسطى من الألفية الثانية الميلادية. ومن خلال العمليات المعقدة للإمبريالية، والاستعمارية، والرأسمالية العالمية، ومحو الأمية، ظهرت الحداثة في العقود الوسطى من القرن العشرين، من أجل احتواء الكوكب بأكمله على نحو شامل، وإن كان متقطعا إلى حد كبير. وهي ترتبط بالشكل والتشبع العالمي للمنظومة الدولية للدول (وما يرتبط بها من ممارسات بيروقراطية للدول)، وبالفلسفات السياسية الليبرالية، وبمجموعة من الأيديولوجيات والفلسفات المتنازع عليها التي ظهرت كرد فعل لليبرالية. كذلك ترتبط بنوع حديث مميز من الذات (الفرد)، وبالرأسمالية كنظام عالمي للإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك؛ وترتبط على نحو خطير بأسلوب خاص لإنتاج المعرفة مرتبط ارتباطا وثيقا بالعلوم الطبيعية. ومن بين السمات المميزة الأخرى لهذا التكوين الثقافي المعقد المميز التغيرات التقنية المتلاحقة والسريعة، خاصة ما يتعلق بالاتصالات، والنقل، والإنتاج الاقتصادي، والاستهلاك، والرعاية الاجتماعية.
وقد خرج قدر ضخم من المعرفة العلمية والمجادلات على مر العقود حول موضوع «التحديث» (دويتش وآخرون 2002؛ لاثام 2000). وقد ظل التركيز، على مدى فترة كبيرة من القرن العشرين، ولا يزال في القرن الحالي، منصبا على عمليات «التحديث » والمفاهيم ذات الصلة مثل «التطور» التي تفهم كعمليات تاريخية قد تستطيع من خلالها شعوب وثقافات الأراضي التي كانت مستعمرة فيما سبق، أو ما يعرف ب «العالم الثالث»، اللحاق بركب الغرب الصناعي (أو «المتقدم»). وقد كان للتحديث من هذا المنظور عواقب هائلة تشير ضمنا إلى الإقليمية، وقد شملت هذه العواقب، على المستوى الأعم، تزايد الدول القومية الإقليمية وانتشارها بوصفها التعبير الشرعي الأوحد عن الهوية السياسية والسلطة. وعلى نحو متصل، أسهم إلغاء القيد المفروض على حيازة وامتلاك الأراضي - الذي ارتبط باختراق الهياكل الاقتصادية-السياسية الرأسمالية وتأسيس نظم للملكية الخاصة - في «إعادة» أقلمة جزء كبير من عالم الخبرة اليومية؛ فمن بين وجهات النظر الشائعة، لكي يصبح عالم ما قبل الحداثة، أو عالم غير حديث، حداثيا؛ لا بد أن يصبح مثل الغرب؛ وهذا يعني، من بين أشياء أخرى، المشاركة والإذعان في أشكال الأقلمة الحديثة المرتبطة بالسيادة والملكية. وقد تضمن هذا ما هو أكثر من إنشاء مساحات سيادية (الدولة الاستعمارية أولا، ثم دولة ما بعد الاستعمار)، وأنظمة حقوق الأرض (التي فرضت من قبل الأجهزة القمعية لهذه الدول). وعلى نحو لا يقل خطورة، أدى ذلك إلى ظهور عمليات الأقلمة الاجتماعية، التي أدت إلى ظهور نوع «حديث» وخاص من النفس يختلف في نواح مهمة عن مجموعة الأنفس التي حلت محلها بنجاح متقطع؛ فهذه نفس (حديثة) ينظر إليها باعتبارها غير مثقلة نسبيا بالانتماءات الطائفية أو «القبلية» (جيدنز 1991؛ تايلور 1989)؛ على سبيل المثال: كان من أهم الحلقات في أقلمة العرق، فيما يتعلق بالشعوب الأصلية للولايات المتحدة، سياسة التخصيص (جرينوالد 2002؛ رويستر 1995). كان هذا برنامجا تقسم بمقتضاه الأرض «المتروكة جانبا» للشعوب الأصلية («القبائل») إلى أجزاء منفصلة، و«تخصص» للعائلات التي يترأسها ذكور، وكان الفائض بعد ذلك يوزع على غير الهنود. كان الهدف المعلن لهذا هو إجبار أفراد الشعوب الأصلية على أن يصبحوا أفرادا عصريين يعتنقون فيما بعد عادات المجتمع الأبيض المحيط بهم وتقاليده، ويندمجون بسهولة أكبر في الثقافة السائدة ؛ ومن ثم يختفون كشعوب مميزة. كان الاستثناء المعلن أنه بمرور الزمن، مع ضعف الثقافات الأصلية، ستلغى التحفظات؛ تلك التعبيرات الإقليمية عن السيادة (ماكدونيل 1991).
مرة أخرى، وعلى نحو عام للغاية، ينظر إلى فكرة أن النفس الحديثة هي نفس فردية أو مستقلة على نحو قوي، تتطلع إلى ظروف الحرية وتزدهر تحتها؛ على أنها اختيارات مقيدة إلى أدنى حد. وكما هو مفهوم تقليديا، فإن النفس الحديثة هي شخص يحمل حقوقا تتشكل خبرات حياته ب «المكانة» على نحو أقل، وب «العقد» على نحو أكثر؛ بالتسلسلات الهرمية على نحو أقل، وبالاختيار على نحو أكثر؛ فالعلاقة بين الإقليم والفردية (أو عملية التفرد التاريخية) ليست مقتصرة بأي حال على آثار الملكية الخاصة، وتتجلى أيضا في الطرق التي تمنح بها الخصوصية، والحقوق المدنية، والحريات المدنية، ومفاهيم حقوق الإنسان تعبيرا مكانيا على نحو أعم. لتنظر في هذا المقام إلى القدسية الظاهرية لجسم الإنسان باعتبارها الإقليم الأساسي للنفس الحديثة والألم الذي عادة ما يصاحب المواقف التي تتجاوز فيها هذه القدسية. كذلك من التداعيات المهمة، كما سأناقش فيما يلي، لابتكار الإقليمية الحديثة في مختلف أرجاء العالم أن النفس الحديثة نسبيا نفس متحركة نسبيا.
مؤخرا عكف على فكرة الحداثة هؤلاء الذين إن لم يكونوا ناقدين لفكرة التحديث في أساسها، فعلى الأقل يجلبون نزعات وقيما مختلفة لربطها بالموضوع. ربما يترقب بعض الكتاب قدوم فترة تاريخية تحررية تنتمي إلى ما بعد الحداثة بكل لهفة وحماس، والبعض يكتب من منطلق خوف وهلع من انهيار متخيل للحداثة وبطلان لمثل عصر التنوير التي زعم أنها كانت الوقود للمسار التقدمي للحداثة. وبحكم الطبيعة الأساسية لطريقة فهم الحداثة، يستتبع ذلك بالضرورة ارتدادا إلى ظلام، وفوضى، وقيود ما قبل الحداثة. وتشكل فكرة الحداثة أهمية لأهدافنا الكبرى؛ نظرا لأن الأيديولوجيات، وأساليب الخطاب، والممارسات، والعمليات المختلفة المرتبطة بها (والتيارات المعارضة للحداثة التي أفرزتها) أسفرت عن تحولات غير مسبوقة تاريخيا للحياة الاجتماعية للإنسان على مستوى الخبرة البشرية لكل شخص يحيا على ظهر الكوكب اليوم. والإقرار بالاحتمالية التاريخية للحداثة يمكن أن يفتح الباب أمام أسئلة مهمة عن احتمالية ظهور أشكال وممارسات حديثة مميزة ومختلفة للإقليمية.
قد يميز المرء على نحو مفيد بين «أقاليم الحداثة» - أو النطاق الضخم للأشكال الإقليمية الجديدة التي تجلت من خلالها الحداثة في كل أوجهها - و«الإقليمية الحديثة». وتشمل الأمثلة على أقاليم الحداثة زنزانة السجن العالية التقنية، ومعسكر اللاجئين، والمصنع، والمنطقة المخصصة للانتظار عند بوابة المطار، وأماكن إيقاف المقطورات، وأشياء أخرى لا حصر لها. تشير «الإقليمية الحديثة» إلى العمليات والممارسات الإقليمية التي تنبثق من أساليب التفكير والتصرف المختلفة والمتميزة في عالم حديث. ولعل المثال الأبرز على هذا هو القدرة على تصور الكوكب بأكمله باعتباره مكانا واحدا قسم إلى دول يتعارض وجودها معا، وسيادية افتراضا، تشكل الكيان «الدولي». والإقليمية الحديثة تعكس وتعزز المفاهيم الخاصة بالذات، والمجتمع، والهوية، والمعرفة، والسلطة، والعلاقات بينها التي غالبا ما تكون متعارضة أو غامضة. والتأكيد على تميز الحداثة والإقليمية الحديثة، المستندتين على الإنتاج المتواصل للتجديد، يتيح لنا تكوين فهم أفضل لتاريخية التشكيلات الإقليمية القائمة، وتلك التي في طور الصيرورة. (والحق أنه في ظل ظروف الحداثة فقط يمكن للمرء أن يدرك الأقاليم بوصفها «في طور الصيرورة».) بالنظر إلى الوراء قد نستطيع تتبع أثر هذه التطورات على مستويات عديدة للتحليل؛ على سبيل المثال: وقعت عمليات «الاكتشاف»، والغزو، والاستعمار العالمية على نحو مختلف للغاية في مواقع مختلفة على الأرض؛ فشعوب وأماكن أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر، وجنوب شرق آسيا في القرن التاسع عشر، وأمازونيا في القرن الحادي والعشرين؛ قد كانت جميعا خاضعة للقوة المدمرة للاستعمارية المتمركزة حول أوروبا أو المستمدة منها، وتعرضت للأقلمة بطرق متماثلة بشدة. ولكن الاختلافات بين هذه المواقف، في الأيديولوجيات، والتقنيات، والسياقات العالمية، وتباينات القوة، وأشكال المقاومة؛ مذهلة أيضا؛ ف «الحداثة» ليست ظاهرة تناسب جميع المقاسات، ولا ظاهرة تحدث مرة واحدة فحسب؛ فالكيفية التي تتطور بها الإقليمية تحت الظروف المختلفة أكثر تعقيدا بكثير مما قد توحي به إشارة بسيطة إلى الحداثة.
حد السيادة: الحدود الكندية (كيبيك) الأمريكية (فيرمونت). تصوير: ستيفن سيلفرن.
حد السلطة القضائية: الحد الفاصل بين ماساتشوستس ونيويورك. تصوير: المؤلف.
حد الولاية المحلية: ساند ليك، نيويورك. تصوير: المؤلف.
شروط الدخول: الترسانة الفيدرالية الأمريكية، ووترفليت، نيويورك. تصوير: المؤلف. «لا عليك بالكلب»: مسكن خاص، سانتا باربرا، كاليفورنيا. تصوير: المؤلف.
الإقليمية في مكان العمل. تصوير: المؤلف. (5-2) الإقليم والتنقل
إن إعطاء تركيز أكبر للعلاقة التاريخية بين الإقليم والحداثة يسلط الضوء أيضا على ديناميكية التشكيلات الإقليمية؛ أي تاريخيتها واستعدادها لإعادة التكوين المستمر، وإن كان على نحو متقطع. ثمة فكرة أخرى وثيقة الصلة ترتبط بالعلاقة بين الإقليم والأشكال المتنوعة للتنقل؛ بمعنى أن المجمعات الإقليمية ذاتها ليست وحدها التي «تتحرك» إن جاز التعبير، بل إن أفضل طريقة لرؤية جزء كبير من الكيفية التي «تعمل» بها الأقاليم (أو تؤدي وظيفتها) هي رؤيتها بالنسبة إلى الحركة عبر الحدود الفاصلة التي تحدد المساحات الإقليمية. فحتى لو ظلت خريطة الأقاليم بلا تغيير على مدى السنوات المائة الفائتة، فإن التغيرات العميقة في الاتصال والنقل وممارسات الدولة خلال تلك الفترة أدت إلى تغيير المدلول العملي للحدود؛ ومن ثم الأقاليم في حد ذاتها. كذلك تغيرت ممارسات وعمليات الإقليمية والأقلمة تغيرا مثيرا، وفي هذا المقام قد يتأمل المرء ببساطة في تاريخ جوازات السفر والنقل الجوي (توربي 2000). إن الأقاليم ليست مجرد حاويات تصنيفية مكانية ثابتة؛ فحياة الإقليم إنما ترى في المرور عبر هذه المساحات ذات المعنى، والدخول إليها، والخروج منها. ولعل من الممكن رؤية هذا بأسهل طريقة ممكنة فيما يتعلق بالحدود الدولية، إما على أطراف الدول وإما في «الحدود» المتناثرة المرتبطة بالنقل الجوي الدولي؛ ففي هذه الأماكن تفرز فئات مختلفة من الأشخاص ممن في حالة حركة وتنقل وفقا للأنشطة الإقليمية، أو المكانة، أو النوايا؛ فالمهاجرون، و«العمال الأجانب المعارون»، والسياح، والخبراء المغتربون، وعمال الإغاثة الإنسانية، والدبلوماسيون، والجنود، والمهربون، ورجال الأعمال، والمبعدون، واللاجئون، والموسيقيون والرياضيون المتجولون، وخاصة الملايين من سكان مناطق الحدود؛ يتحركون ذهابا وإيابا عبر الحدود بالوثائق الإقليمية الحديثة (أو دونها) من جوازات سفر، وتأشيرات، وأوراق عمل، وشهادات ميلاد. وهذا السياق من الحركة التي لا تتوقف هو الذي تنشط فيه أشكال الإقليمية إلى أقصى حد؛ فخلال فحص الأوراق، ودفع الرشاوى أو الرسوم، ومصادرة المهربات، وحركة القوات، واستيقاف الأجانب؛ يصبح الإقليم مدمجا في نسيج الحياة.
وليس الأشخاص فقط هم من يتحركون؛ فجوهر فكرة «التجارة» الدولية (على عكس «التبادل» المحلي) تفترض سابقا اجتياز هذه الفواصل؛ فالأشياء التجارية، أو سلسلة إنتاج السلع المجزأة التي تتضمن كل شيء من الصواريخ إلى الألعاب المرفقة بوجبات الأطفال، ومن الأخشاب الاستوائية الصلبة إلى الزهور، ومن الهيروين إلى القطع الأثرية؛ في حركة مستمرة من التداول العابر للحدود. وقد كان للتداول المتزايد على نحو سريع للأشخاص، والأشياء، ورأس المال، والصور، والأفكار؛ أثره في ظهور مزاعم بشأن النفاذية المتزايدة للحدود المفهومة على أنها إزالة أقلمة الدولة القومية و«تآكل» السيادة (كوزيمانو 2000؛ هدسون 1999). وسوف أتناول هذه المزاعم على نحو أكثر استيفاء في الفصل الثاني. الفكرة هي أن بوسعنا النظر إلى الإقليم المعاصر بنظرة أكثر اكتمالا إذا استوعبناه أكثر من حيث علاقته بهذه التحركات والتدفقات، وليس كمجرد صناديق ثابتة لا تتحرك.
وهذا ليس فقط في سياق عمليات الأقلمة الدولية؛ فالحداثة ذاتها عادة ما تتميز عن الصياغات الاجتماعية الأخرى بوجود أشكال أخرى أكثر تعميما من التنقل، والحركة، والتداول. وحركات التنقل الداخلية بين المدن المرتبطة بتغيير المسكن، وتقسيمة العمل/المنزل/الاستهلاك التي تلزم معظم الناس في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، بخوض حياتهم اليومية ممزقين بين عدد من الاختصاصات والولايات السياسية؛ تجعل علاقتهم بالإقليم على العكس تماما من هؤلاء الذين تسير حياتهم داخل هياكل إقليمية أقل تعقيدا وتشرذما. وقد يسرت توليفة التجزئة الاجتماعية، والتشرذم الإقليمي، والتحول التقني ظهور نظم «فرط التنقل» التي أسفرت، بدورها، عن علاقات مختلفة جوهريا مع الإقليم؛ فقد لا يكون للفرد حق التصويت إلا في مجموعة فرعية محدودة من الوحدات المحددة إقليميا التي توزع بينها لحظات الحياة اليومية أو الأسبوعية للفرد، وربما لا تكون هذه الحقوق في الإقليم هي الأكثر أهمية؛ فملايين الأمريكيين، على سبيل المثال، يعيشون ويعملون في ولايات مختلفة، وثمة بلديات كثيرة بها أشخاص يعملون أو يتسوقون فيها أكثر ممن يعيشون داخلها. في الوقت ذاته، قد تكون الحكومات المحلية المحددة إقليميا قد قلصت على نحو كبير من السلطة أو الرقابة على ما يحدث داخل حدودها. والبلدات أو القرى الريفية، التي تمر بها طرق حرة، قد يكون ب «داخلها»، في أي لحظة، أشخاص لم يسمعوا قط عن المكان الذي يوجدون فيه أكثر ممن لديها من سكان مقيمين. (5-3) الإقليم والتأويل
كما ناقشت فيما سبق، تتضمن الإقليمية بالضرورة إضفاء معان - من أنواع مختلفة - على المساحات المحددة، على الحدود والتخوم، على اجتياز الخطوط الفاصلة. وهذه المعاني قد لا تكون محددة بوضوح؛ فغالبا ما تكون ضمنية أو مفترضة؛ فالفرد ليس مضطرا لتعليق لافتة «ابتعد» على باب شقته ليكون لديه توقع منطقي بأن الغرباء - أو أقرب المقربين - لن يدخلوا دون دعوة. وفي السياقات الشخصية قد يعبر عن المعاني الخاصة بإقليم ما (بمعناه المستخدم من قبل علماء الاجتماع وعلماء النفس البيئي؛ انظر الفصل الثاني) شفهيا، أو ربما من خلال وضعية الجسد، غير أن المعاني المرتبطة بالعديد من أشكال الإقليم الحديث غالبا ما تكون مبنية على النص؛ فالثقافة الحديثة - أي الثقافة الكتابية، أو الثقافة القانونية - تتسم بأنها ثقافة «لافتات». وكما ستثبت الخبرة المشتركة بسهولة، فإن العديد من اللافتات غير التجارية التي يصادفها المرء يكون علامات مميزة للإقليم؛ فاللافتة تنقل أوامر السلطة بشأن ما قد نفعله، أو لا بد أن نفعله، أو لا بد ألا نفعله في المساحات اللامتناهية التي تشكل بيئاتنا الاجتماعية المادية.
ممنوع التجاوز.
ممنوع الانتظار.
الدخول إلى مدفيل: مطلوب رخصة بائع متجول.
منطقة مدارس: يحظر استخدام منتجات التبغ.
لا تقدم الخدمة في حالة عدم ارتداء القميص والحذاء.
وما إلى ذلك. أحيانا ما تكون عواقب إغفال اللافتة مشارا إليها أيضا («غرامة 50 دولارا»)، وأحيانا ما يحمل الأمر معه لمحة من جوازه («قوانين ماساتشوستس العامة، صفحة 266، الفقرة 120»). هل هناك ما هو أوضح من ذلك؟ إن لافتة «ابتعد» تعني ابتعد وإلا ف «ستعاني عواقب سيئة». ولافتة «للموظفين المخولين فقط» تجعلك على علم بأنك إذا لم تكن تعد من بين «المخولين»، فمحظور عليك أن تتجاوز عتبة المكان. وبالتأكيد لا يوجد ثمة غموض في المعاني والمدلول العملي للافتة «للبيض فقط» أو «الدخول إلى الولايات المتحدة». وإذا كانت إحدى الوظائف المفترضة للإقليم هي توضيح وتبسيط المعاني الاجتماعية للمكان، فهذه الأمثلة تفي بالغرض على ما يبدو.
علاوة على ذلك، يكون للعديد من المعاني المرتبطة بالإقليم الحديث مرجعية في نصوص أخرى؛ فقد يكون كم المعنى الذي تحمله له جذور في وثائق قانونية من نوعيات متعددة، وهذه الوثائق بدورها قد يعود مرجعها إلى القواعد التي تفسر بمقتضاها النصوص القانونية المختلفة. ونظرا لكونها نصوصا «قانونية»، فإن مرجعها هو الدولة وقدراتها الإلزامية. وقد تستمد معاني الإقليم، أو أقاليم بعينها، من المعاهدات، والاتفاقيات الدولية، والدساتير، والتشريعات القانونية، واللوائح، ومراسيم السلطة، والمستندات، وقوانين العمل، ونصوص أخرى لا تحصى. وأي إقليم يمكنه الاعتماد على هذه النوعيات من النصوص لاشتقاق جزء من معناها. ولمزيد من الدقة، يمكن اشتقاق معاني أي إقليم حديث أو مجمع إقليمي من عدة نصوص. وفي منتصف القرن العشرين كان شائعا للغاية لدى ملاك العقارات والأراضي من البيض في الولايات المتحدة إنشاء مناطق عرقية مستثناة باستخدام عقود خاصة؛ فكان المشاركون يوافقون على عدم تأجير أو بيع أملاكهم ل «الزنوج» لفترة زمنية محددة؛ 25 أو 50 عاما في العادة (ديلاني 1998). وقد كانت هذه الأقاليم القائمة على الإقصاء (والطرد) أيضا تمنح كل مالك «حقوقا» فيما يتعلق بالممتلكات الأخرى في الإقليم، وقد أقيمت عشرات الدعاوى القضائية التي تتحدى وتدافع عن هذه المساحات ذات الطابع العنصري. وقد اعتمدت التأويلات المتنازعة على حالات سابقة ومبادئ وأحكام دستورية وبيانات سياساتية لإضفاء معنى قانوني على الأقاليم. ووفقا لما ساد من بين هذه التأويلات المتناقضة (بين القضاة البيض)، من الممكن تعزيز، أو تعديل، أو محو الأقاليم تأويليا. وفي الولايات المتحدة، يستخدم قانون الملكية، والقانون البيئي، وقانون التفتيش والمصادرة، والقانون الهندي، والقانون الجنائي، وقانون اللجوء، وقانون السجون، وما إلى ذلك، في تفسير الأقاليم لعدد لا يحصى من المرات كل يوم. وثمة دول قومية أخرى لديها مؤسسات وممارسات مشابهة تخضع من خلالها الأقاليم للتأويل؛ فقد يكون إقليم بسيط ظاهريا هو المرجعية المكانية لمجموعة بالغة التعقيد من «المعاني» القائمة على النص. ونظرا لهذا التعقيد، قد تكون حتى ما يبدو أنها المعاني الأكثر وضوحا مفتوحة لعمليات تأويل وإعادة تأويل متباينة. وإذا كانت الأقاليم تنقل معاني، فلا بد أن تكون هذه المعاني «مقروءة»، والأهم من ذلك أنه في العديد من السياقات الاجتماعية الحديثة، قد تكون إعادة التأويل أو إعادة القراءة الاستراتيجية للمعاني المتضمنة داخل الأقاليم استراتيجية خطيرة للغاية لإعادة هيكلة آليات السلطة. وقد ذكرت في موضع سابق من هذا الفصل قضية الولايات المتحدة ضد أوليفر، التي أعاد فيها أغلبية قضاة المحكمة الأمريكية العليا تأويل مساحة معزولة ذات ملكية خاصة ك «نطاق مفتوح» لأغراض عمليات التفتيش المصرح بإجرائها دون الحصول على إذن من جانب الشرطة. يمكن فهم القضية باعتبارها نتاجا لصراع بين مؤيدي «القانون والنظام» والتحرريين المدنيين؛ ونتيجة للقرار، تقلصت إقليمية الخصوصية وتعزز النطاق المكاني للعمليات الشرطية؛ فإعادة توزيع السلطة محسومة، سواء أكان مالك العقار أو الأرض مسجونا أم لا.
والإشارة إلى نصوص قانونية ومعان محددة تربط الأماكن محل النقاش بشكل إقليمي ذي طابع مؤسسي للسلطة؛ ذلك الشكل المرتبط بالدولة. فالكثير من أقاليم الحياة الاجتماعية الحديثة ذات الشكل النصي - من مناطق التجارة الحرة نصف الكروية، إلى أراضي المعسكرات في المتنزهات المملوكة للدولة، إلى مناطق سحب السيارات المخالفة بالأوناش - يتم إنشاؤه على نحو مباشر عن طريق الجهات الفاعلة التابعة للدولة. ثمة أقاليم أخرى عديدة، كتلك التي تعود جذورها إلى امتيازات الملكية الخاصة، على الرغم من كونها منشأة على يد عناصر «خاصة» مفترضة مثل الملاك أو المديرين، فإنها بحاجة إلى التصريح لها، والتصديق عليها، وتنفيذها من قبل الجهات الفاعلة التابعة للدولة. وهكذا فإن لافتة «ممنوع التجاوز» تحمل معاني أكثر بكثير من مجرد الابتعاد؛ إنها تحمل معها المعنى الضمني الأساسي الذي يفيد بأنه في حالة عدم امتثال أحد للرسالة، فإن المالك أو المدير قد يستفيد من ميزة عنف الدولة لتنفيذ مزاعمه بالخصوصية واقتصار ملكية المكان عليه. وجميع الأقاليم الحديثة تقريبا، بطريقة ما أو بأخرى، تشير ضمنا إلى علاقات معقدة للسلطة تشمل - أو يمكن إعادة تأويلها لتشمل في مرحلة ما - تلك المرتبطة بالدولة البيروقراطية (المحلية، أو دون القومية، أو القومية). وأي إقليم تقريبا يحتل موضعا في نقطة التقاطع لعدد مفتوح من النصوص القانونية فيما يتعلق بما يضفي عليه «معنى»؛ لذا فإن أي إقليم حديث قابل للتأويل والتفسير، وربما يكون مفتوحا لمجموعة من التأويلات المتباينة. ولن تكون جميع هذه التأويلات منطقية أو مقبولة بالقدر نفسه لدى المفسرين المعتمدين، ولكن هذه أيضا قضية تتحدد وفقا لتوزيع السلطة. (5-4) الإقليم والعمودية
ثمة بعد أخير للإقليم قليلا ما يمنح الانتباه المستحق، ولكنه يتيح لنا رؤية مدى تعقيده على نحو أوضح وهو «العمودية». إن أكثر السبل شيوعا التي يناقش بها الإقليم هي تلك التي تتعامل معه «أفقيا» فقط؛ أي كمساحة محدودة ذات بعدين أو مجموعة من المساحات «المتشابهة»، كتلك التي تشكل المنظومة الدولية للدول أو أنماط الحيازات العقارية، أو أقلمة أماكن العمل الداخلية. والإقليم في هذه السياقات إنما يشير إلى طرق تمييز «دواخل» و«خوارج» متعارضة، مثل: محلي/أجنبي، أو خاص/عام، أو مسموح/ممنوع، أو ملكنا/ملكهم، أو ملكي/ليس ملكي. ولكن كما يشير الطرح السابق حول قابلية الإقليم للتأويل، فإنه في نظام اجتماعي حديث يتسم بالأنظمة العالمية الشاملة لسيادة الدولة (وكذا بنظم تأجير أو امتلاك الأراضي)، يتمركز كل مكان مادي - كالمكان الذي تجلس فيه وأنت تقرأ هذه الكلمات - داخل مصفوفة كثيفة من الأقاليم والتشكيلات الإقليمية «المتعددة المتداخلة»، و«المعاني» الخاصة بكل واحد من هذه الأقاليم (وعلاقات السلطة التي تتضمنها هذه المعاني) تتشكل بالنسبة إلى الأقاليم الأخرى عبر «المستويات» المتباينة.
تتعلق «العمودية» بالتوزيع الإقليمي للسلطة بين كيانات متمايزة مفاهيميا فيما يتعلق بجزء ما منفصل من الحيز الاجتماعي. وهكذا فإن المناقشات أو المجادلات بشأن نطاق أو حدود الحكومات القومية - وأبرزها الأنظمة الفيدرالية - والدول التأسيسية، أو المقاطعات، أو المناطق؛ تشير ضمنا إلى عمودية الأقاليم، وكذلك تفعل الحجج المتعلقة ب «الاستقلال المحلي» في مقابل مستويات «أعلى» من الحكومة أو التنظيمات الهرمية الأخرى. ربما يجدر بنا أن نشير إلى أن الحديث عن «العمودية» وعن المستويات «الأعلى» و«الأدنى» من الإقليم حديث مجازي، وهذه طرق تقليدية للحديث عن العلاقات داخل الأقاليم (وعلاقات السلطة التي تتضمنها) من مختلف النوعيات. وبصرف النظر عن التفاصيل الخاصة بالكيفية التي تعمل بها الفيدراليات المتعددة مثل الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية، على سبيل المثال، لا يوجد شيء «أعلى» بالمعنى الحرفي للكلمة بشأن هذه الفيدراليات في مقابل الوحدات «الأدنى» التي تتألف منها؛ فشيء يسمى «كندا» ليس أقرب إلى الشمس من شيء يدعى «جزيرة الأمير إدوارد». ويجذب مفهوم العمودية وأساليب الخطاب الشائعة الخاصة فيما يتعلق ب «مستويات» الانتباه (أو ربما يكون مصطلح «استحضار» أفضل من «الانتباه») إلى «الحدود» التنظيمية المجازية المفاهيمية التي تفصل وتميز الأقاليم المتمايزة التي ترى بالنسبة إليها. وإذا كان المعنى والمدلول العملي لإقليم ما - سواء أكان غرفة، أم شقة، أم مجمعا سكنيا، أم بلدية، أم مقاطعة، أم دولة قومية - مفتوحا على الأرجح لتأويلات متباينة، وإذا كانت معاني الحدود المحددة ماديا بين الأمثلة المختلفة لنوع الإقليم نفسه قابلة للنقاش والجدل؛ فإن «الخطوط» العديدة المجازية التي تفصل مختلف أنواع الأقاليم لا يمكن أن تكون أقل من ذلك. والواقع أن سياسات الإقليمية في هذه السياقات قد تكون ذات أهمية، شأنها شأن السياسات المعترف بها على نحو أكثر شيوعا للأقاليم «الأفقية» والمتشابهة. وعادة ما تكون النقاشات بشأن العمودية قاسما مشتركا بين الاستعارات المجازية الخاصة ب «الغزو» و«الانتهاك» المستخدمة في فهم الإقليم «الأفقي».
على القدر نفسه من الأهمية، على الأقل في بعض الأماكن، يأتي الحد المفاهيمي الذي يميز السيادة والحيازة، أو الحكم والملكية؛ إذ يعتقد أن هذه الأمور تشير إلى أنظمة أو مساحات إقليمية متمايزة؛ فجزء كبير من قانون العقارات في النظم القانونية الليبرالية يختص بالعلاقات الأفقية، مثل تلك التي يتخللها ملاك أراض مجاورون، ولكن جزءا كبيرا منه أيضا يتركز على العلاقات المنظمة على أساس أقلمة حقوق الملكية وأقلمة الحكومات، أو البلدية المحلية، أو الدولة، أو المواطن، التي تكون الملكية مدمجة فيها. تأمل مرة أخرى قضية الولايات المتحدة ضد أوليفر، التي صدقت فيها المحكمة العليا الأمريكية على تفتيش دون إذن لعقار خاص من قبل الشرطة. كان من الأمور محل النزاع في هذه القضية معرفة ما إذا كان ينبغي اعتبار المواقع البعيدة نسبيا عن منزل المالك مواقع «خاصة» (ومن ثم تستحق الحماية المشددة التي تتوافر من خلال استصدار إذن)، أم «عامة» بصرف النظر عن الملكية. ولكن الحالات التي تشبه هذه الحالة تتضمن عمودية أيضا لأنها تستلزم تقليصا للسلطة (الحقوق) المرتبطة بنوع من الأقاليم (العقار)، وتعزيزا للسلطة (سلطة الشرطة) المرتبطة بإقليم مختلف مفاهيميا (الدولة) ولكنه متداخل. علاوة على ذلك، فقد حسمت هذه القضية على أساس فهم للعلاقة بين سلطة الولاية (التي كانت في هذه القضية ولاية كنتاكي)، والقانون الدستوري الفيدرالي (التعديل الرابع الذي فسر تاريخيا ليسري على حكومات الولايات). والحدود بين نظام الملكية المؤقلم ونظام الحكومة تقحم في عدد لا حصر له من المواقف المتنوعة، مثل: قوانين الإسكان، وحرية التعبير، وتنظيم النشاط الجنسي، وقوانين الأسرة، وحماية البيئة. وكما سنرى في الفصل الرابع فيما يتعلق بالنسب الإقليمي لإسرائيل/فلسطين، فإن الحد المجازي بين «السيادة» و«الملكية» - وسياسة وضعه وتعديله - من ضمن العناصر الأهم والأكثر نشاطا للإقليمية على نحو أعم. ويمكن طرح الفكرة نفسها فيما يتعلق بسياقات أخرى عديدة، مثل خصخصة أو تفكيك الملكية الجماعية للأرض في المجتمعات الاستعمارية أو ما بعد الشيوعية، أو إلغاء القيود في دول أخرى. وسواء أكان التصور الموضوع للسلطة يتمثل في كونها توزع «إلى أسفل» أو «إلى أعلى»، فإن العملية إقليمية نظرا لأن الأفراد المشاركين ذوي الصلة هم أنفسهم خاضعون للأقلمة. وعمودية الإقليم محل نزاع أيضا في تلك الهياكل المؤقلمة التي تضم عددا هائلا من الدول القومية؛ فالمناطق التجارية، مثل منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، ومنظمات التنسيق العسكري المحددة إقليميا مثل منظمة حلف شمال الأطلسي، والأنظمة والمنظمات الدولية المتعددة الأطراف التي لا تحصى؛ كثيرا ما تثير الجدل بشأن «تآكل السيادة» للدول الأعضاء فيها. وأي طرح عام للإقليم يتجاهل العمودية إنما يغلق ما قد يكون من ضمن أهم أبعاد الإقليم؛ لأن أي إقليم حديث راسخ داخل التشكيلات المعقدة من المساحات المتمايزة والبنيوية في ذات الوقت على نحو تبادلي، التي توزع من خلالها السلطة ويعاد توزيعها. وبمجرد إدراك هذا، تصبح «البواطن» و«الظواهر» البسيطة والتبسيطية للإقليم أكثر صعوبة في تقبلها. (6) ملاحظات ختامية
كان الهدف من هذا الفصل هو فتح موضوع الإقليم عن طريق تمييز جوانب الإقليم - كظاهرة اجتماعية، وتاريخية، وثقافية، وسياسية، ومفاهيمية - التي عادة ما تهمش أو تقصى كليا. وكما ذكرت مرارا، عادة ما يفهم الإقليم كأداة لتبسيط وتوضيح دور السلطة في العلاقات الاجتماعية. ولا شك أنه غالبا ما يكون له هذا التأثير؛ فعبارة «ابتعد» غالبا ما تعني ابتعد. ولكن ثمة مهمة أكثر إيجابية تتمثل في تجاوز هذه الرؤية البسيطة لنرى ما قد يكون غامضا، وفي الفصل التالي نتناول هذا الهدف بأسلوب مختلف نوعا ما، من خلال إجراء عملية استكشاف للإقليم مع ظهوره في فروع معرفية أكاديمية متعددة.
الفصل الثاني
الإقليم داخل الإطار المعرفي وخارجه
(1) مقدمة
يمكن مراجعة الممارسات الإقليمية البشرية في فترات الانحسار والتراجع من التاريخ الإنساني، والحق أن الإقليمية في أشكالها المتنوعة عادة ما يتم تطبيعها كضرورة بيولوجية (أردلي 1966)، وكغريزة بدائية (جروسبي 1995)، وكظاهرة مستمرة بالأساس في ظل إظهار الرئيسيات وجميع الفصائل الحيوانية للإقليمية (تايلور 1988). وبالتأكيد يمكن، داخل السجل التاريخي للغرب، تحديد بقايا تمتد من أفلاطون إلى مونتسكيو تدعم فكرة وجود جوهر راسخ لماهية الإقليمية في الأساس؛ وأنها أساسية من ناحية ما (انظر، على سبيل المثال، المختارات لدى كاسبرسون ومينجي 1969). غير أن التنظير الصريح للإقليم والإقليمية هو ظاهرة حديثة نسبيا ظهرت في ظل مجموعة محددة من الظروف السياسية (الجغرافية) والتاريخية. علاوة على ذلك، فإن الاعتراف بالإقليمية كمفهوم موضع نزاع (وغير جوهري)، أو كمجموعة من الأفكار، والصور، والممارسات البالغة الإشكالية والجديرة بالتدقيق النظري؛ يعد إلى حد كبير تطورا نشأ بالأساس طوال الثلاثين عاما الماضية.
كان موضوع الإقليم مسألة جوهرية نوعا ما في مجموعة من الاختصاصات الأكاديمية، وقد كان بالنسبة إلى البعض منها، مثل مجال العلاقات الدولية والجغرافيا البشرية، في غاية الأهمية؛ وكان بالنسبة إلى البعض الآخر، مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس، محور اهتمام أكثر تخصصا لمجالات فرعية مثل الأنثروبولوجيا السياسية، وعلم الاجتماع الحضري، وعلم النفس البيئي. وقد كان معنى الإقليم وأهميته بالنسبة إلى كل مجال مشروطين بشكل قوي بمحاور الاهتمام الخاصة بمجال الدراسة التابع لكل فرع معرفي، مثل: السيادة (العلاقات الدولية)، أو الثقافة (الأنثروبولوجيا)، أو الخصوصية (علم النفس)؛ لذلك قد تبدو للوهلة الأولى الصلة التي تربط بين الأدوار التي يلعبها الإقليم في أساليب الخطاب التخصصية محدودة. غير أنه عند النظر إليها عبر مجموعة من مثل أساليب الخطاب هذه، نجد أن المفاهيم المتعددة للإقليم مدعومة بمجموعة مشتركة من الافتراضات السابقة الجوهرية.
ينقسم هذا الفصل إلى جزأين؛ في الجزء الأول أعرض دراسة لكيفية معالجة الإقليم في مجموعة من أساليب الخطاب التخصصية، وفي ظل العدد الكبير من الفروع المعرفية وقيود المساحة لهذه «المقدمة القصيرة»، لا أدعي أنني سأعرض أي شيء يقترب بأي حال لأن يكون دراسة شاملة؛ فبحكم الضرورة ثمة جزء كبير لم يتطرق إليه وكان ينبغي إدراجه بلا شك، وما هو مدرج معالج معالجة سريعة نوعا ما. والأهداف من وراء ذلك هي إبراز بعض الإنجازات الأساسية التي جلبها كل مجال إلى فهمنا للموضوع، واستكشاف الدور الذي تلعبه المفاهيم الخاصة بالإقليم فيما يتعلق بالمسائل الأساسية التي تعالجها هذه الفروع المعرفية. كذلك أشير إلى ثغرات وأوجه تفكك مهمة تميز هذه المناهج المعرفية. والحق أن أفضل شكل يمكن أن ننظر به إلى هذا الجزء هو أن نعتبره استكشافا ل «الأقلمة الأكاديمية للإقليم»؛ لأن الاختصاصات المعرفية المختلفة استخدمت المفاهيم الخاصة بالإقليم استخداما تقليديا من أجل تعيين حدود لمحاور اهتمامها الأكثر محورية، وتمييز أنفسها عن الفروع والمجالات الأخرى.
في الجزء الثاني أستكشف مجموعة من المشروعات المتعددة الاختصاصات المعرفية (كلاين 1990)، التي ترفض صراحة هذه الأقلمة للإقليم، وتسعى لتوضيح بعض مما أضفي عليه غموض بفعل أساليب الخطاب التخصصية الأكثر تقليدية؛ بل إنه من الممكن إثبات أن هذه المشروعات المتعددة الاختصاصات هي في حد ذاتها، جزئيا، نواتج للتفكير في عمليات إعادة التشكيل الإقليمي في العالم، مثل تلك المرتبطة بالخصخصة وما بعد الاستعمارية. (2) الإقليم ومجالاته المعرفية (2-1) العلاقات الدولية
لا شك أن الدولة الإقليمية، وتكتلات الدول، وحدودها المرتبطة بها التي تغطي الأرض المأهولة على نحو شامل؛ هي من بين التعبيرات الأهم للإقليمية في العالم الحديث؛ فهذه المصفوفة المكانية، بطرق عدة، تدعم أو تعتبر محط انتباه معظم التخصصات المعرفية الاجتماعية (أجنيو 1993). فالدولة، التي ينظر إليها تقليديا باعتبارها «حاوية» شبه طبيعية ل «مجتمعها» المقترن بها، «عملت بمنزلة دوامة تمتص العلاقات الاجتماعية لتشكلها من خلال إقليميتها» (تايلور 1994، 152).
من بين التخصصات المعرفية، التي يعد الإقليم محور اهتمام جوهري لها، العلاقات الدولية. ولكن حتى في هذا الصدد، كما يدعي روجي، «من المدهش حقا أن مفهوم الإقليمية قد درس دراسة محدودة من قبل طلاب السياسة الدولية؛ فإهماله أشبه بعدم النظر مطلقا إلى الأرض التي يمشي عليها المرء» (1993، 174). والمقصود بهذا هو أنه بينما يعد الإقليم محور اهتمام جوهري لمجال العلاقات الدولية، فإن «ماهية» الإقليمية و«كيفية» عملها عادة ما تفترضان فقط دون أن تستكشفا؛ سواء على نحو نقدي أو على أي نحو آخر؛ فالإقليم يعين حدود «الداخل» و«الخارج» المؤسسين للدول؛ فهو يعمل على تمييز المحلي عن الأجنبي، والقومي عن العالمي. ولكن هذه الاختلافات بدورها تعمل على دعم هوية العلاقات الدولية في مقابل العلوم السياسية؛ فكما كتب أجنيو: «لقد كان التقسيم الجغرافي للعالم إلى دول إقليمية متعارضة هو ما عمل على تحديد مجال الدراسة» (أجنيو وكوربريدج 1995، 78). والفكرة المعلنة في الغالب هي أن «السياسة»، على وجه التحديد، يمكن أن تظهر فقط «داخل» مجتمع سياسي محدد إقليميا؛ ف «العلاقات» المتنوعة بين الدول ذات السيادة (بين الأماكن) لا يمكن وصفها وصفا دقيقا بأنها «سياسة»، بل حنكة سياسية. بتعبير أبسط، «النظام داخل حدود الدولة دراسته متاحة للآخرين» (أجنيو وكوربريدج 1995، 81). وهذا ببساطة تأكيد على أن مفهوما معينا للإقليم يعد موضعا محوريا للاهتمام المعرفي، ومقوما للعلاقات الدولية كتخصص مستقل.
تعد الدولة الإقليمية و«منظومة» الدول الشاملة عالميا تطورا حديثا نسبيا في العالم؛ فعلى الرغم من وجود سوابق مشابهة في الماضي، ظهرت منظومة الدول الإقليمية الحديثة في أوروبا الحديثة في بدايتها كحل عملي جزئي لعدد من المشكلات المحلية والمحتملة تاريخيا، المرتبطة بالفترة الانتقالية الطويلة المدى من الإقطاعية إلى الرأسمالية. وقد صيغت الإقليمية كتعبير مكاني عن فكرة السيادة الحصرية في عدد من المعاهدات، مثل معاهدة وستفاليا (1648)، ومعاهدة أوترخت (1703) (كريسنر 2001؛ تيشة 2003). ولكن الأمر استغرق 300 عام - ثم بضعة أعوام أخرى - لتصبح الأداة المكانية المنظمة على مستوى كوكبي. وجزء من الكيفية التي يمكن بها فهم العمليات العالمية التاريخية الخاصة بالإمبريالية، والاستعمارية، وتصفية الاستعمار، والتحرير الوطني؛ هو فهمها باعتبارها الفرض التدريجي والانتقائي لهياكل الدولة ذات الطابع الإقليمي على الشعوب غير الأوروبية والمقاومة، والتكيف أو القبول الانتقائي لهذه الأمور من جانب الخلفاء القوميين. وأيا كان الأمر، فمن المهم أن نتذكر أن الدولة الإقليمية السيادية كانت ظاهرة عالمية لأقل من 60 عاما.
يرتبط الإقليم في هذا الإطار الفكري ارتباطا وثيقا بمفهوم «السيادة» كشكل خاص من أشكال السلطة (كريسنر 1999؛ ووكر ومندلوفيتش 1990). والحق أن السيادة الحديثة غير قابلة للانفصام عن الإقليم الحديث؛ فعلى الصعيد الشكلي، أن تكون «ذا سيادة» يعني أن تمتلك سلطة مطلقة داخل حيز إقليمي، ولا تعاني أي تدخل من قبل أي أطراف خارج هذا الحيز، وحدود الحيز تقرر حدود السلطة، وأي تدخل من هذا القبيل يفهم أنه يهدد سلام الدولة؛ ومن ثم يهدد استمرار وجودها؛ لذلك، من المفهوم أن أي تدخل أو اعتداء يحفز استخدام حق الدفاع بأي وسيلة تقتضيها الضرورة. ومفهوم السيادة الإقليمية، «على الصعيد الشكلي»، يستتبع المساواة بين الدول السيادية الذاتية الإعلان عن استقلالها، مثل: أوزبكستان، وسيشل، والمكسيك، والولايات المتحدة. أما «على الصعيد العملي»، فيوجد تدرج هرمي متغير تاريخيا ومتنوع إقليميا للدول، من شأنه تعقيد هذه المساواة الشكلية (كلارك 1989).
وقد وضعت العلاقات الدولية على نحو تقليدي عددا من الافتراضات بشأن الإقليم وعلاقته بالسيادة؛ ولكن، على نحو أساسي، تسلم العلاقات الدولية بأن «الشكل الحديث للإقليمية ... قائم على حدود خطية ثابتة تفصل المساحات المتصلة والمتعارضة» (روجي 1993، 168). ومن المفهوم أن هذه الحدود تميز اختلافات واضحة وغير مبهمة بين الدواخل والخوارج، والعلاقات المحلية والخارجية، والمواطن والأجنبي. وهذه الحدود، بالطبع، من بين أهم فئات الحياة الاجتماعية الحديثة. ووضوح وبساطة الإقليم والحدود يضمنان وضوح وقطعية السلطة السيادية. ولكن نظرية العلاقات الدولية تتفهم هذه الحدود أيضا بطرق خاصة نوعا ما، وفهم التداعيات التي يتخيل أنها تنبثق من هذه «الكينونة المكانية»، بحسب تعبير أجنيو (1998)، هو جل مضمون نظرية العلاقات الدولية.
في الخطاب الخاص بنظرية العلاقات الدولية يكون لحد الدولة معنى آخر أعمق؛ فهو لا يميز الحدود الخارجية للسلطة الشرعية أو النقاط الواقعة على طول أي خط تتصل عنده الدول ذات السيادية المتجاورة فحسب، بل أيضا يميز الاختلاف المطلق بين «المجتمع» و«الفوضى». والفوضى في هذا المقام مصطلح متخصص يشير ببساطة، في أبسط استخدام له، إلى «غياب» السيادة. ولكن إذا كانت «السيادة» تشير ضمنا إلى «نظام سياسي متجانس ومتماسك» (آشلي 1988، 238)، وإذا كان «مجال السياسة المحلية ... هو المجال الذي يصل فيه المجتمع إلى أقصى درجات البراعة والكمال» (آشلي 1987، 412)؛ فإن «الفوضى، في المقابل، تشير إلى مجال من الالتباس واللاتحديد، مجال من المخاطر والمخاوف قد يضع الوجود المحض للدولة السيادية في خطر» (آشلي 1988، 238). إذا، نظرية العلاقات الدولية لا تفترض فقط مفهوما بعينه للإقليم (بوصفه واضحا ومغلقا وثابتا)، ولكنها تميل أيضا إلى تحويل الإقليم بقوة إلى مصطلحات ثنائية التفرع بواسطة وضع خرائط لتعيين النظام/الفوضى، والهوية/الاختلاف، والوجود/الغياب، والسياسة/السلطة، وما إلى ذلك عبر الحدود والمساحات التي تصبح من خلالها الحياة الاجتماعية ملموسة وواضحة.
ولكن هذا التوصيف يبسط الرؤية الإقليمية لنظرية العلاقات الدولية تبسيطا مبالغا فيه؛ فهذا الرأي ينطبق بسهولة على بعض التوجهات النظرية أكثر من انطباقه على غيرها. وانتقادات ودفاعات هذا التوجه أعطت بالفعل حياة لما يسميه مؤرخو المجال «المناظرة الكبرى» بين «الواقعيين» و«المثاليين» (مجروري 1982؛ سميث 1995؛ ووكر 1989). و«الواقعية» هي أسلوب تفكير في «الجانب الدولي»، تكون فيه جميع الدول السيادية هي الجهات الفاعلة الوحيدة ذات الصلة (براون 1992؛ بوزان 1996). والشواغل الأساسية للعلاقات الدولية الواقعية وأساليب الخطاب الخاصة بالشئون الخارجية والسياسة الخارجية المرتبطة بها؛ هي السلطة والأمن والنظام. ثمة موضوعات أخرى مرجحة للعلاقات بين الدول، مثل العدالة أو الأخلاق، غير ذات صلة بدرجة ما أو بأخرى. ومرة أخرى، يعتقد أن الأفكار مثل «السياسة» أو «المجتمع»، التي ربما تشكل الأساس لعدالة أو أخلاقيات الكوكب، غائبة إلى حد كبير عن العلاقات «بين» الدول؛ وهذا هو معنى «الفوضى».
في المقابل، تعمل «المثالية» - أو كما يسمى هذا التوجه في بعض الأحيان «الليبرالية»، أو «التعددية»، أو «اليوتوبية» - على تأكيد إمكانية قيام «مجتمع دولي» للدول في غياب السيادة (ليتل 1996). ويرى المفكرون بهذا الأسلوب أن هناك على الأقل إمكانية لدعم العلاقات الدولية (بشيء أشبه) بالتزامات أخلاقية عامة ومفهوم عام وشامل للعدالة. ويصنف كريس براون الاختلاف بأنه اختلاف بين «الجماعاتيين» (الواقعيين) و«الأمميين» (المثاليين). عمليا، قد يكون بالإمكان تحقيق نظام عالمي معياري أممي من خلال تأسيس وتنشيط منظمات دولية مثل عصبة الأمم أو الأم المتحدة، ومن خلال زيادة وتقوية «الأنظمة الدولية» أو الاتفاقيات المتعددة الأطراف كتلك المتعلقة بحقوق الإنسان، والبيئة، وحظر انتشار الأسلحة النووية (هاسينكليفر وآخرون 1997؛ كريسنر 1983). بالطبع يدرك المثاليون الأهمية الجوهرية للسيادة الإقليمية ويؤكدون عليها. ولكن افتراض «مجتمع دولي» من شأنه توسيع موضوعات المناقشة لتشمل التعاون والضرورة المحتملة، المتمثلة في «التدخل» الإنساني في الشئون الداخلية للدول الأعضاء. وثمة صور أقوى لهذا التوجه قد تدعو إلى فرض قيود عملية على السيادة الإقليمية أو ترحيل بعض سمات السيادة إلى حكومة عالمية؛ فحتى النسخ الأقوى وضعها مؤيدون لقيام حكومة عالمية موحدة (جلوسوب 1993).
في سبيل تحقيق أهدافنا تصاغ هذه المناظرات داخل إطار العلاقات الدولية (والخطاب الخاص بالشئون الخارجية التقليدية من منظور أعم)، من خلال مفاهيم متباينة للإقليم؛ فيرى الواقعيون المنظومة الإقليمية العالمية باعتبارها مؤلفة من دول سيادية متعارضة ومحددة مكانيا، منظمة على أساس تخطيط مستو ثنائي الأبعاد للسلطة والنفوذ. أما المثاليون، فيتخيلون أقلمة للسلطة العالمية مقسمة تدريجيا إلى طبقات. وفي هذا الصدد، تعد الأقاليم السيادية عناصر تأسيسية لمجتمع عالمي من الدول؛ فيما يشبه إقليما ضخما. وكما سيتضح أكثر مع التوغل في هذه الدراسة، هناك الكثير من العناصر المشتركة بين هاتين الصورتين من الإقليم أكثر مما قد توحي به عبارة «المناظرات الكبرى». (2-2) الجغرافيا البشرية
ثمة تخصص معرفي آخر كان الإقليم محل اهتمام جوهري تقليدي له، هو الجغرافيا البشرية. ميز هذا المجال نفسه تاريخيا عن المجالات الأخرى من خلال اهتمامه المحوري بالفئات الاجتماعية للمكان، والحيز، والمنظر الطبيعي. بالطبع يعد الإقليم عنصرا مهما من عناصر العلاقات المكانية الاجتماعية البشرية، وقد شكلت هذه الموضوعات الأساس أيضا لتصور الجغرافيا كمجال معرفي «مركب»؛ أي كنوع من المجالات الأولية المتعددة الاختصاصات، وظيفته توليف المعرفة التي تنشأ في المجالات الأخرى، واستعراض العلاقات فيما بينها في العالم المادي (جيمس 1972؛ ليفينجستون 1993). على الجانب الآخر، كان ثمة شكل واضح نوعا ما من التخصصية، غالبا ما يعاد تشكيله من خلال زيادة المجالات الفرعية مثل الجغرافيا السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والحضرية، التي غالبا ما تكون أبعد ما يكون عن مستوى التوليف المرجو.
إذا كان من الممكن وصف العلاقات الدولية كتخصص معرفي يعد الإقليم أساسيا بالنسبة إليه ولكنه في الوقت نفسه نادرا ما يتم تناوله وبحثه على نحو صريح، لا يمكن أن يسري الأمر نفسه بالنسبة إلى الجغرافيا، أو على الأقل ليس بالمعنى نفسه؛ فقد خلف الجغرافيون وراءهم على مر الأجيال قدرا كبيرا من المعرفة حول الأشكال، والوظائف، والعمليات المرتبطة بالإقليمية والحدود. سوف أتناول هذه الأمور لاحقا، ولكن سوف أذكر أولا سمتين عامتين لمعالجة الإقليم في الجغرافيا تختلفان عن معالجته في العلاقات الدولية؛ الأولى: بينما ركز الكم الأكبر من الاستكشاف التاريخي للإقليم على علاقته بالدولة القومية، شرع بعض الجغرافيين في منتصف القرن العشرين في دراسة آليات الإقليم «داخل الدولة» في سياقات مثل الفيدرالية، وتكوين الحدود داخل الدولة، وتوسعة حدود المدن، وإعادة تقسيم الدوائر، وما إلى ذلك (ديكشيت 1975؛ موريل 1981). الثانية: يوجد أيضا تقليد في الجغرافيا الاجتماعية يتمثل في فحص ودراسة آليات الإقليم في السياقات «البعيدة عن الدولة»، وفي هذا المقام، يتداخل الموضوع مع موضوع الحيز الاجتماعي الأعم (لي 1983).
من ناحية القرب، كانت معالجة الإقليم في الجغرافيا شديدة الشبه بمعالجة مجال العلاقات الدولية الواقعية، وكانت «السياسة الجغرافية» من الاهتمامات الأساسية. وبحسب تعريف سول كوهين لها، «السياسة الجغرافية هي الدراسة التطبيقية لعلاقة الحيز الجغرافي بالسياسة» (1994، 17). وفي التاريخين القديم والمعاصر للجغرافيا السياسية يعرف فريدريك راتزل (1844-1904) عموما كواحد من «آبائها المؤسسين» (باركر 1998)؛ فخلال ذروة التوسع الإمبريالي الأوروبي صاغ رؤية للإقليم ربما يراها المراقبون المعاصرون غريبة الأطوار، غير أن هذه التفسيرات كانت لها أهميتها آنذاك، وظل لها نفع واستمرارية في القرن الحادي والعشرين، على الرغم من حقيقة أن عالمه وعالمنا مختلفان اختلافا جذريا من نواح عدة. ولكن ربما يكمن نفعها الدائم تحديدا في جدواها في «رفض» هذه الاختلافات، وتأكيد الرؤية الراسخة المفترضة سابقا من قبل مجال العلاقات الدولية الواقعية وخطاب إدارة الدولة لدى القوى العظمى.
عبر فريدريك راتزل، وهو صحفي متجول تحول إلى جغرافي أكاديمي، عما أطلق عليه مفهوما «عضوانيا» لإقليم الدولة (هيفرنان 2000؛ أوتواثيل 1996). فقد أكد في ورقته البحثية التي بعنوان «قوانين النمو المساحي للدول» (1896 [1969]) على «أننا نتعامل داخل الدولة مع طبيعة عضوية، ولا شيء يناقض طبيعة العضوي أكثر من التحديد الصارم» (1896 [1969]، 17). وكتب مردفا: «كل شعب، بالنسبة إلى السياسة الجغرافية، قائم على حيز ثابت بالأساس، يمثل كائنا حيا بسط نفسه على جزء من الأرض وميز نفسه عن كائنات أخرى لها حدود ممتدة على نحو مماثل، أو بحيز شاغر» (ص18). والكائن الحي هنا ليس مجرد مؤسسة - الدولة - وإنما «شعبه» المرتبط به: «ثقافة» أو «أمة». وقد وضع راتزل ما قد نطلق عليه النظرية الجلدية للحدود؛ ف «الحد هو العضو المغلق للدولة أو المحيط بها، والمنوط بنموها وكذا تحصينها، ويشارك في كل التحولات التي تمر بها الدولة ككائن» (ص23). ولما كانت الدولة أشبه بكائن حي، كانت هناك ضرورة شبه بيولوجية نحو «النمو» الحرفي والمجازي. والتوسع الإقليمي مفهوم في إطار نظرية لمراحل النضج الحضاري، وينص القانون رقم واحد من «قوانين النمو المساحي» على أن «حجم الدولة ينمو مع ثقافتها» (ص18). ولكن ما الذي يمكن أن يعنيه الحديث عن «حجم» ثقافة ما؟ يعتمد راتزل في هذا المقام على المفهوم التطوري للتاريخ أو الأنثروبولوجيا، الذي قد تتطور، أو لا تتطور، فيه الثقافات «الأدنى» أو «الأولية» إلى ثقافات أكثر أو أقل «تقدما» أو «نضجا». وبمقتضى التوسع المجازي تكون الثقافة الأكثر نضجا أكبر من ثقافة أقل نضجا؛ ومن ثم تقتضي وتستحق مساحة أكبر. والبعض من الأخيرة يرتقي إلى منزلة «الحضارات»، وعن ذلك قال: «كلما انحدرنا في مستويات الحضارة، تصبح الدول أصغر» (ص19). وقد أضفت هذه الضرورات شبه الداروينية التطبيعية مظهرا بلاغيا من العلمية على الخطاب الجغرافي السياسي في مطلع القرن العشرين. وكما ذهب أحد الجغرافيين مؤخرا: «لقد قدم فريدريك راتزل مفردات سياسية - أكثر من أي شيء آخر - تحيط بها هالة من العلم لليمين الألماني؛ مفردات عبرت عن رغبة قومية متطرفة، وبررتها، في حيز ما، وكان من شأنها أن عجلت بحربين عالميتين في القرن العشرين» (أوتواثيل 1996، 38).
يمكننا رؤية بعض من تأثير أفكار راتزل في النص الأمريكي الذي وضعه صامويل فان فالكنبرج بعنوان «عناصر الجغرافيا السياسية» (1940)؛ فقد استخدم فان فالكنبرج نموذجا تطوريا عضويا على نحو صريح لترتيب «الأمم» على مقياس يتدرج من «الشباب» إلى «المراهقة»، إلى «النضج»، إلى «الشيخوخة». في هذا النص الذي كتبه عام 1939، لم يجد سوى ثلاث دول «ناضجة» هي: الولايات المتحدة، والإمبراطورية البريطانية، وفرنسا. أما ألمانيا وإيطاليا واليابان، في المقابل، فكانت دولا مراهقة واتسمت ب «طبيعتها الديناميكية» (ص9). ولكن بالنظر إلى طبيعة المراهقين، «لا بد من إبقائها تحت السيطرة، على أمل أن يعمل النضج على تخفيف آرائها السياسية» (ص9-10). من الجوانب المهمة لأي أمة، في رأي فان فالكنبرج، تكوينها العرقي، ولفظة العرق هنا «مستخدمة بالمعنى البيولوجي» (ص233). وفي فقرة رائعة سعى فيها للتوصل إلى «فهم أفضل لأسباب الثورة المضادة لليهود» (ص242) في جمهورية الرايخ الثالث المراهقة، أشار إلى بروز اليهود في المهن المختلفة، والقيمة النسبية للممتلكات الاقتصادية لليهود بالنسبة إلى أعدادهم. «ها هو السبب الحقيقي للمشكلة»:
قد يسميها أحدهم عداء عرقيا قائما على حقيقة أن اليهود لهم صفات غير جاذبة للآخرين ، وقد يسميها آخر غيرة اقتصادية قائمة على حقيقة أن اليهود لديهم المقدرة على السيطرة على مجالات بعينها. في حالة ألمانيا، كان الأسلوب الذي تم التعامل به مع المشكلة هو ما استفز بقية العالم أكثر من المشكلة ذاتها. لقد كان بمقدور ألمانيا بالتأكيد أن تكون أكثر كياسة. (1940، 243)
ولعل هذا هو أفضل مثال توضيحي يمكن تخيله لملحوظة كيرنز عن أن «الرؤية الجغرافية السياسية ليست بريئة على الإطلاق؛ فهي دائما رغبة تفرض تحليلا ما» (2003، 173).
وكنتيجة مباشرة لهذا النمط من التفكير، ظهرت عقبة ملموسة في الجغرافيا السياسية في منتصف القرن، تمثلت هذه المشكلة في كيفية «إزالة» الطابع السياسي عن المعرفة العلمية بشأن السياسة والحيز من أجل تحقيق شيء أشبه ب «الموضوعية»، أو شيء جدير بصفة «العلم» المشرفة. وكان من بين أكثر المصلحين تأثيرا ريتشارد هارتشورن. سعى هارتشورن، الذي ألف بحثا بعنوان «المنهج الوظيفي في الجغرافيا السياسية» (1950 [1969]) في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلى تقديم تحليل غير متحيز للإقليم، أو «حيز منظم سياسي» كما سماه.
وقد ذهب إلى أن مهمة الدولة هي «إرساء سيطرة كاملة وخالصة على العلاقات السياسية الداخلية؛ بعبارة بسيطة: وضع القانون والنظام، والحفاظ عليهما»، وبالإضافة إلى هذا «تأمين الولاء الأسمى لدى الناس في كل أقاليمها، في منافسة أي ولاءات محلية أو إقليمية، وفي معارضة مطلقة لأي دولة أو إقليم خارجي» (1950 [1969]، 35). وأكد أن «المشكلة الأولى والمستمرة التي تواجهها أي دولة هي كيفية دمج مناطق متشعبة أقل أو أكثر انفصالا في كل فعال» (ص35). إن المشكلة التي تواجه المتخصص في الجغرافيا السياسية تكمن في تقييم نقاط القوة النسبية للقوى «الجاذبة» (ص38) و«النابذة» (ص36)، التي تعمل داخل دولة إقليمية بعينها وتؤثر عليها. وهذا يستلزم تحليلا لعلاقات الأجزاء بالكل، وعلاقات الكل بالخارج. وقد يتم إجراء هذا من خلال دراسة للأقاليم القائمة، ومن خلال فحص الأقاليم المقترحة من أجل التنبؤ بالكفاءة الوظيفية. وبينما كان لهارتشورن مفهوم أكثر اجتماعية وأقل طبيعية للدولة، فإنه استعاض عن الاستعارات البيولوجية باستعارات من علم الفيزياء.
كان من بين القوى النابذة التي ذكرها هارتشورن السمات الطبيعية، مثل سلاسل الجبال والمسافة، ووجود «شعب مختلف، وبالأخص شعب غير ودود» (ص36)، وتنوع في اللغة أو الديانة أو النشاط الاقتصادي معبر عنه إقليميا. وهذه الأمور، خاصة إن كانت مجتمعة، يمكن أن تنهك السلامة الإقليمية. وأهم القوى الجاذبة التي قد تتصدى لهذه الأمور هي ما أطلق عليه هارتشورن «فكرة الدولة» (ص38)، أو سبب الوجود لدى الدولة. ربما توجد «فكرة الدولة» في عقول هؤلاء الذين يسعون لإنشائها أو الحفاظ عليها، ولكن لا توجد فكرة دولة عالمية عامة؛ بل إن فكرة دولة بعينها يمكن فقط أن تكتشف من خلال بحث مفصل. ويمضي البحث إلى الإجابة عن أسئلة على غرار: «لماذا توجد فنزويلا؟»، «لماذا توجد لبنان؟»، «أي فكرة دولة تربط الأجزاء المختلفة لأفغانستان معا؟». قد يتساءل أحدهم حينئذ عما إذا كانت «فكرة الدولة» الخاصة بدولة بعينها قوية بما يكفي لصد القوى النابذة التي من شأنها أن تفككها إقليميا، أو ما إذا كان من الممكن لفكرة دولة مضادة أن تكون قوية بما يكفي لدعم الانفصال أو التقسيم. والمثير في الأمر، في ظل الأحداث الأخيرة، أن المثال الذي ساقه لفكرة الدولة يتعلق بالعراق الذي كان «سبب وجوده» متأصلا في: (1) الاعتراف من قبل القوى العظمى ذات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية بمنطقة بلاد الرافدين، و(2) الحاجة لتوفير مكان للقومية العربية المطرودة من سوريا. وعلى أساس هذين الاعتبارين أسس إقليم (لاحظ صيغة المبني للمجهول) يضم منطقة سهول دجلة والفرات العربية المستقرة، جنبا إلى جنب مع مناطق القبائل الجبلية والصحراوية المتاخمة لها على الرغم من اختلافها، لينشأ الكل كدولة عربية منفصلة. (1950 [1969]، 40)
وأضاف على سبيل التنبؤ: «سوف يحتاج المرء لتحديد ما إذا كان العراقيون قد طوروا مفهوما قوميا بحق منذ ذلك الحين أم لا» (ص40).
انخرط جغرافيون آخرون من حقبة منتصف القرن في «دراسات عن الحدود»، وقدمت دراسات حالة فيما يتعلق بالنزاعات الحدودية، والتغيرات الحدودية، والمراجعات الحدودية الأخرى مثل الضم والتقسيم. بالإضافة إلى ذلك، وإن كان هذا موضوعا ثانويا بشكل قاطع، بدأ بعض الجغرافيين في تحليل الحدود «الداخلية»، كتلك التي تتضمن ولايات الولايات المتحدة والمناطق الحضرية الكبرى والحكومات المحلية، وكذا العمليات المرتبطة بإعادة تقسيم الدوائر السياسية؛ غير أن هذه الأمور كانت في العادة لا تنظر في إطار الإقليم.
قبل سبعينيات القرن العشرين كان الإقليم في إطار معالجة الجغرافيين البشريين له مجال يكاد يقتصر على الجغرافيين السياسيين، الذين كانوا بدورهم مهتمين على نحو شبه حصري بالدولة القومية. ومع أواخر عام 1973، استطاع الجغرافي البارز جون جوتمان تأليف كتاب بعنوان «أهمية الإقليم»، اهتم فيه اهتماما شبه حصري بتاريخ الإقليم التابع للدولة في أوروبا الغربية، وحاول تبرير تطوره في إطار حالة عدم الاتزان بين «الأمن في مقابل الفرصة» و«الحرية في مقابل المساواة». ولكن وقتئذ، كما سوف نرى لاحقا في هذا الفصل، كان تخصص الجغرافيا البشرية قد بدأ يتغير. (2-3) الأنثروبولوجيا
على عكس العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية، لم يكن الإقليم موضوعا محوريا لهذه الدرجة في الأنثروبولوجيا التقليدية، غير أنه كان يدرس كجانب من موضوعات أساسية مثل الثقافة والتغيير الثقافي، والعلاقات بين العرقيات المختلفة، ورابطة الدم والنسب، ومنظومات المعنى الرمزي، واستخدام الموارد وحيازة الأرض، والتنظيم السياسي في مرحلة اللادولة أو ما قبل الدولة. وبالنسبة إلينا يمثل أهمية كمصدر للتفسيرات الخاصة بالإقليم في سياقات خلاف تلك التي تركز على الدولة ذات السيادة؛ وبمقتضى ذلك، يشكل أهمية كمصدر لعمليات إعادة تنظير أكثر حداثة.
ركزت مجموعة فريدريك بارث المؤثرة بعنوان «الجماعات العرقية والحدود: التنظيم الاجتماعي للاختلاف الثقافي» تركيزا صريحا على آليات صنع الحدود الإثنوجرافية والحفاظ عليها؛ فقد أشار بارث إلى أن: «جل الاستدلال الإثنوجرافي يرتكز على فرضية أن التباين الثقافي متقطع. والاختلافات بين الثقافات وحدودها وروابطها التاريخية أوليت الكثير من الاهتمام؛ أما تكوين الجماعات العرقية، وطبيعة الحدود بينها، فلم يلقيا نصيبا مماثلا من البحث» (بارث 1969، 9). تختلف هذه المساحات الثقافية ذات الحدود من نواح مهمة عن الإقليم حسبما عولج في العلاقات الدولية والجغرافيا. والتركيز في الأنثروبولوجيا ينصب على العزلة والتنوع أكثر من الإقصاء والاستئثارية؛ على الهوية والعضوية الذاتية النسب أكثر من استخدام السلطة. تتضمن الحدود وممارسات الحفاظ على الحدود والتفاوض بشأنها قضايا تشابه واختلاف. و«التركيز الأهم» ينبغي - وفقا لبارث - أن ينصب على «الحد العرقي الذي يعرف المجموعة، وليس المحتوى الثقافي الذي يحيط به» (ص15). فالمساحات المحددة بفعل هذه الحدود قد تكون لها، أو لا تكون، صيغة مادية ثابتة؛ بل إنها، في الواقع، قد تتحرك بتحرك «المضمون الثقافي». ومثل هذه الممارسات الخاصة بالحدود، من منظور يفترض الثبات المكاني للإقليم، من شأنها أن تكون لا إقليمية بالضرورة؛ أو ربما كان «الحد» و«الإقليم» يستخدمان بمعنييهما الأكثر مجازية. غير أنه من منظور آخر، ذلك الذي لا يرى تعارضا بالضرورة بين التنقل والإقليم، تنبع الاحتمالية من التفكير في الإقليم بطرق تحيد على نحو أكثر إثارة عن نموذج العلاقات الدولية؛ على سبيل المثال: بحث بعض علماء الأنثروبولوجيا آليات الإقليم والإقليمية بين مجتمعات الصيد وجمع الثمار، والرعويين، والبدو. قد يبدو ذلك محيرا للوهلة الأولى؛ نظرا لأن هذه النوعيات من المجتمعات ربما تعد «غير» إقليمية بالضرورة مقارنة بالشعوب المقيمة المستقرة. ولكن مرة أخرى، قد يكون اللغز أقرب إلى كونه نتيجة ترتبت على مفهوم بالغ السذاجة أو متمركز حول الدولة للإقليم.
ويبحث المساهمون في كتاب منقح مهم تأليف مايكل كازيمير وأبارنا راو بعنوان «التنقل والإقليمية: الحدود الاجتماعية والمكانية بين مجتمع الصائدين البريين، وصائدي الأسماك، والرعويين، والرحالة» (1992)، في هذه المسألة تحديدا. على سبيل المثال: كان وصف آلان برنارد للإقليمية بين جامعي الثمار والصيادين في جنوب أفريقيا على النحو التالي:
إن الحدود الاجتماعية المحفوظة لدى قبائل البوشمن، أو مجتمع الصيد وجمع الثمار الجنوب أفريقي؛ محددة وفقا للغة والثقافة وعلاقات النسب والدم، وتضم هذه الحدود تلك القائمة بين البوشمن وغير البوشمن، وبين جماعة وأخرى من البوشمن، وداخل مجتمعات معينة من البوشمن، وبين تجمعات عنقودية خاصة (أي من تجمعهم روابط)، والمجموعات والعائلات. والحدود المكانية تسير في خط مواز مع هذه الحدود بدرجة ما، إلا أنها ليست دائما متطابقة؛ فهي تعتمد على حقوق الدخول إلى الإقليم ومفاهيم استخدام الحيز فيما يتعلق بأنماط السلوك الملائمة. وبعض جوانب الحفاظ على الحدود المكانية والاجتماعية تقتصر على طوائف معينة من البوشمن، بينما الجوانب الأخرى تكون مشتركة بين جميع أفراد البوشمن أو مجتمع الصيد البري وجمع الثمار عموما. وبالنظر إلى أن الإقليمية توجد في سياق مجموعة أوسع من العلاقات بين الإنسان والبيئة وبين الأفراد، فلا بد أن يكون البحث في مسألة الإقليمية داخل مجتمع الصيد وجمع الثمار مبررا لأهميتها ضمن هذه المجموعة الأكبر من العلاقات. (1992، 137-138)
قد نلاحظ أيضا أن أي حساسية إثنوجرافية من شأنها إبراز التفاصيل العملية للعوالم الحياتية على نحو يفوق ما يحدث عادة في النظريات العامة المتعلقة ب «الدولة». ويناقش مساهم آخر في هذه المجموعة، وهو أندزاي ميجرا، بعضا من الآليات الخاصة للإقليمية داخل طائفة الروما بأوروبا الشرقية:
ثمة شكل خاص للإقليمية يتصل بالوحدة الاجتماعية الاقتصادية الأساسية ل «الغجر» الرحالة المعروفين في السياق البولندي ب «تابور». لم يكن مفهوم الإقليمية هنا ينطبق على منطقة جغرافية أو إدارية واحدة، بل يطابق مجموعة من الأماكن التي وجدت فيها - أو استطاعت أن توجد فيها - مجموعة ما من التابور وجودا ماديا في أي لحظة بعينها؛ فكان يستدعى إلى الذهن كلما حدث واستقر أعضاؤها في مكان ما؛ ومن ثم كان أقرب إلى منطقة متنقلة أو متغيرة. كان أساسها هو حق الأولوية الذي كان يحترم من قبل طوائف «التابور» الأخرى، ووجود شعور بأنهم «ملاك مؤقتون»؛ إذ كان التفاوض يحدث جزئيا مع السلطات المحلية. (ميجرا، في كازيمير وراو 1992، 268)
وبقدر أدق من التحليل، يناقش جوزيف برلاند «الأقاليم المتنقلة» لشعوب باكستان الرحالة؛ فكتب يقول إنه في جميع أنحاء مجتمعات باكستان المتنقلة:
الوحدة الاجتماعية الأساسية هي الخيمة («بوكي»)، حيث تحدد البوكي بنية مادية فعلية بحدود مكانية قاطعة وواضحة؛ وتضم أيضا المفهوم الثقافي الأوسع للوحدة الاجتماعية الأساسية المؤلفة من أنثى وزوجها والأبناء المقيمين. وأينما استقروا، يعد الحيز الداخلي والخارجي المباشر هو المجال أو الإقليم الحصري لأفرادها. وحين ترتحل خيمتان أو أكثر معا، فإنهما تشكلان «ديرا»، وتكون «الديرا» مشتركة على نحو بحت إلى حد أن أفرادها يتعاونون من أجل الحفاظ على الحدود المكانية حول مواقع المخيم ، ويعززون الانسجام والتجانس، ويجمعون المعرفة والخبرة حول الأسواق المحلية. (برلاند 1992، 383-384، 386)
وفي بعض الأحيان قد يتركز عدد من «الديرا» في موضع ما لتكوين مخيم مؤقت:
في المساحات المفتوحة المتاحة سوف تحافظ كل «ديرا» على أقصى مسافة ممكنة بينها وبين الأخرى ... فيكون لكل مخيم محيط وحيز محددان يفصلان كل «ديرا» عن الأخرى. من الصعب على الغرباء أن يروا هذا؛ غير أن أفراد «الديرا»، وخاصة حراس الخيام، يؤسسون ويدافعون بيقظة عن حدود مناطق تقع في منتصف المسافة تقريبا بين كل منطقة تخييم. (1992، 388-389)
يبدو جليا أن رؤية الإقليم المستخدمة من قبل هؤلاء الأنثروبولوجيين تحوي عناصر عديدة لرؤى أخرى استعرضناها من قبل؛ فهي مساحات محدودة تحدد وتحدد بجوانب الهوية والاختلاف التي تقتضي دخولا تفضيليا وتتضمن الدفاع، أو آليات النفوذ والسلطة. ولكن على القدر نفسه من الوضوح، تأتي السبل التي تختلف بها هذه الأقاليم عن طرق الفهم التقليدية التي تعتمد الدولة السيادية نموذجا؛ وهذه الأقاليم زائلة نوعا ما، ويمكنها بالفعل أن تتحرك.
لعل من الأشكال الأكثر تقليدية للإقليم التي درست من قبل علماء الأنثروبولوجيا، هو ذلك الشكل المرتبط بالنظم المحلية لحيازة الأراضي والقانون العرفي بين الشعوب غير الغربية؛ فحيازة الأراضي، بما في ذلك نظم الملكية الحرة في الغرب، يتخللها بالضرورة أقلمة ما يترجم، وإن كان بصعوبة، إلى «حقوق». فقد كتب بول سيلتو في حديثه عن شعب الوولا في بابوا غينيا الجديدة قائلا: «تتعلق حقوق الأرض بالحدود ومشكلة التعريف الإقليمي، وتعد حقوق الأرض واحدا من الميادين الرئيسية التي يعبر فيها الناس عن صلات القربى والهوية، ويفعلونها في ظل سيطرة الالتزامات المحددة بصلات القرابة على قواعد الدخول» (1999، 333). ويتبين للغرب، عن طريق الدراسات الإثنوجرافية المتعلقة بالأرض، وجود مجموعة ضخمة ومتنوعة من الطرق لتخيل وممارسة الإقليم بعيدا عن تلك المفترضة سابقا من قبل تخصص العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية؛ فالقواعد والصور وممارسات الحيازة العرفية للأرض - التي تعد عناصر الإقليمية المحلية - غير قابلة للانفصال عن أساليب الحياة وأساليب التصرف في العوالم المادية والرمزية والاجتماعية. كذلك تنقل المناهج الأنثروبولوجية لتناول حيازة الأرض دراستنا بعيدا عن المفاهيم المتركزة حول الدولة، وتفتح مجموعة أوسع من المعاني لكل ما هو سياسي. ومما يحظى بأهمية أيضا الدراسات الإثنوجرافية للسياسة المحلية الخاصة بالأرض فيما يتعلق بالحصول على الحقوق أو استغلالها أو تخصيصها ونقلها إلى أماكن بعينها، وكذلك بآليات النزاعات الإقليمية (بيندا-بيكمان 1979؛ موور 1986)، والدراسات المتعلقة بالصراعات بين القانون العرفي للأراضي والقانون المحلي في عهد الاستعمار أو ما بعد الاستعمار (بيندا-بيكمان 1999؛ توكانسيبا-فالا، 2000-2001)، وعمليات التشكيل الإقليمي المرتبطة بعمليات استصلاح الأراضي، والزراعة الجماعية وتفكيك الزراعة الجماعية، واختراق الشركات المتعددة الجنسيات ومشروعات التنمية التابعة للدولة في مناطق محلية (ستراذيرن وستيوارت 1998؛ يتمان وبيركيز 1998).
بالمقارنة مع العلاقات الدولية والجغرافيا، يحرك الخطاب الأنثروبولوجي مفاهيم الإقليم في ثلاثة اتجاهات؛ الأول: أنه يقدم من خلال نقل التركيز من الغرب إلى «بقية العالم» - إلى مناطق الإمبراطورية والمستعمرات - مجموعة أوسع من الممارسات والعمليات الإقليمية البشرية. الثاني: أنه من خلال فحص الممارسات «العرفية»، ينقلنا بعيدا عن فكرة أن الدولة هي التعبير الوحيد عن الإقليم، حتى عندما يوجه الانتباه إلى العلاقة بين الأشكال الخاضعة للدولة وغير الخاضعة للدولة. الثالث: أنه بواسطة الدراسات الإثنوجرافية المفصلة، يقدم تحليلات دقيقة وعميقة للآليات الإقليمية داخل القرى والحقول والحدائق والطرق، بوسائل تشير ضمنا إلى تداخل الإقليم مع تطور الحياة الإنسانية. (2-4) علم الاجتماع
اعتمد جزء من تميز مجال علم الاجتماع في مقابل الأنثروبولوجيا تقليديا على مفاهيم مسلم بها للحيز والإقليم (هنا/هناك، الغرب/بقية العالم، عاصمة/مستعمرة)، وبالتبعية على مفاهيم مسلم بها تتعلق بالهوية. يدرس علماء الاجتماع، اصطلاحا، المجتمعات الحديثة التي ينتمون إليها، ولكن مفاهيم الإقليم في خطاب علم الاجتماع مشابهة، من نواح عدة، لنظيرتها في الأنثروبولوجيا؛ وإن كان ذلك بتعديلات مهمة مستمدة من السمات التي من المفهوم أنها تبرز تميز الحداثة؛ على سبيل المثال: التفرد والعلاقة بين الفرد والمجتمع، والتمدن، والتقسيم الطبقي، والانحراف. ومن الموضوعات الموازية الآثار الجوهرية للحدود؛ فعمل أنتوني كوهين الصادر عام 1985 - على سبيل المثال - مشابه، في التوصيف العام، لعمل فريدريك بارث؛ فقد كتب يقول: «إن وعي المجتمع محاط بإدراك حدوده، الحدود التي تتأسس في حد ذاتها إلى حد كبير بواسطة أشخاص في حالة من التفاعل» (1969، 13). والمناقشات المتعلقة بالإقليم سائدة على الأخص في معالجات علم الاجتماع لعصابات الشوارع الحضرية و «أراضيهم». وكما يذهب عالما الاجتماع ديكر وفان وينكل، فإن «توجيه تهديد لعصابة ما في حي (أرض) قريب جغرافيا، يؤدي إلى زيادة تضافر العصابة، ويدفع الشباب إلى الانضمام لعصابة حيهم، ويمكنهم من التورط في أعمال عنف ربما ما كانوا ليرتكبوها» (ديكر وفان وينكل 1996، 22). ويناقش عالم اجتماع آخر، وهو فليكس باديلا، توقع الدفاع العنيف عن الإقليم بين العصابات التي درسها، وأيضا:
الواقعية المرتبطة بأعمال العنف المستخدمة للدفاع عن الأرض؛ فجميع أفراد العصابات تقريبا يسلمون بداهة بأن أي هجمات على أرضهم سوف تقابل باستجابات عنيفة، مثلما سيحدث مع انتهاكاتهم لأرض أفراد العصابة المنافسة. والحديث عن الحاجة للدفاع عن الأرض الخاصة بالعصابة يدور على أساس منتظم ودائم بين أفراد العصابة على نحو يفوق كثيرا أعمال الدفاع الفعلية؛ وبذلك يؤدي مناخ اليقظة الرمزي ضد تهديد المتطفلين الغرباء إلى توحيد العصابة معا وإعدادهم لاستخدام العنف التعبيري (والمفرط)، المرتبط غالبا بالدفاع عن الإقليم الأم ضد العصابات المعادية. (1992، 114)
ثمة مقال لليمان وسكوت بعنوان «الإقليمية: بعد اجتماعي مهمل»، نشر في دورية «سوشيال بروبلمز» عام 1967، كان من إحدى المحاولات لصياغة مفهوم اجتماعي محدد للإقليم يركز على الإقليمية الجزئية العميقة للحياة الاجتماعية. في هذا المقال أسس الكاتبان تصنيفا نموذجيا للأقاليم يميز أمريكا الحديثة المتمدنة، وكان من بين أنماطها الأساسية: «الأقاليم العامة»، «تلك المناطق التي يحظى فيها الفرد بحرية الدخول، ولكن ليس بالضرورة حرية التصرف، بمقتضى ما يتمتع به من حق المواطنة» (1967، 237). ومع ذلك، فإن حرية الدخول هذه قرينة الهوية الاجتماعية، وعلى هذا النحو، فإن بعض الناس لا يتمتعون بعضوية كاملة في المجتمع. «وهناك فئات معينة من الأشخاص يمنحون فقط حق دخول محدود إلى الأماكن العامة ونشاط محدد داخلها» (ص238). على سبيل المثال: «لن يشاهد الزنوج يسيرون بتؤدة على أرصفة أحياء البيض، وإن كانوا قد يشاهدون وهم يقومون بتركيب مواسير الصرف تحت الشوارع.» ثم توجد «الأقاليم الأم»، وفيها «يحظى المشاركون الدائمون بحرية تصرف نسبية وإحساس بالألفة والسيطرة على المنطقة. وتضم الأمثلة نوادي الأطفال المؤقتة، ومخيمات المشردين، وحانات المثليين.» وقد أشار الكاتبان إلى أنه في هذه الأقاليم المذكورة للتو «قد ينقل على الفور نمط الملبس واللغة بين زبائن إحدى الحانات لمثلي الجنس أنه قد دخل إلى إقليم أم» (ص240). وهذا يشير إلى أن الإقليمية لها جانب أدائي أو علاماتي.
وبالتركيز على الإقليم على مقياس أكثر عمقا، لاحظ ليمان وسكوت أن «أي تفاعل يحيط به حد غير مرئي، أو نوع من الغشاء الاجتماعي». ومثل هذه الحدود تطوق «أقاليم تفاعلية»، وهذه الأقاليم «متنقلة وهشة على نحو مميز». وأخيرا، توجد «أقاليم الجسد، التي تشمل الحيز المحاط بجسم الإنسان أو الحيز التشريحي للجسم». ويدخل ضمن أقاليم الجسد «حقوق رؤية وملامسة الجسد»، وقد كتبا يقولان: «إن حق الوصول إلى الأنثى ينظر إليه باعتباره الحق الحصري للزوج ما دام يطبق الأصول والآداب فيما يتعلق بوضعه» (ص241). وينطوي توصيفهم ضمنا على تباين واضح للحقوق والسلطة؛ فاستخدام صيغة المبني للمجهول (في عبارة «ينظر إليه») تتعارض تعارضا مثيرا للدهشة مع ما يوصف. وقد تتساءل أيضا أي نوع من الممارسات الحدودية يستند إليه بعبارة «يطبق الأصول والآداب»، وهكذا يكون الإقليم الجسدي ل «الأنثى» هو «الإقليم الأم» ل «الزوج». «إن أي شخص يصر على انتهاك الحيز الخارج عن الحدود الإقليمية لشخص آخر من الجنس نفسه؛ قد يتهم بانعدام اللياقة ويشتبه في كونه مثليا، بينما قد تشير الاعتداءات غير المرغوبة على المخنثين إلى مألوفية لا مبرر لها» (ص241). كذلك يناقش ليمان وسكوت أشكال الانتهاكات - التعدي، والاستباحة، والتدنيس - وأساليب رد الفعل. ومما يحظى بأهمية تاريخية مفهومهما عن «الإقليم الحر»:
يجتزأ الإقليم الحر من المكان ويوفر فرصا للخصوصية والتميز والهوية. وترتبط فرص حرية التصرف بالقدرة على إضفاء حدود على المكان، والتحكم في الدخول إلى الأقاليم أو الإبعاد عنها. وفي المجتمع الأمريكي حيث يؤثر الانتهاك الإقليمي على جميع أفراد المجتمع تقريبا، تعاني قطاعات معينة من السكان من الحرمان على نحو خاص، تحديدا الزنوج والنساء والشباب والموقوفين من مختلف الأنماط. (ليمان وسكوت 1967، 248)
من بين ردود الأفعال تجاه غياب الإقليم الحر أو انتهاك الإقليم الأم ما يطلق عليه الكاتبان «الاختراق»، الذي يقصدان به «التلاعب في الحيز الداخلي وتعديله بحثا عن إقليم حر.» على سبيل المثال: «أحيانا يتعاطى الشباب الجامعي المعاصر عقاقير هلوسة أو عقاقير معطلة للإدراك من أجل القيام بهجرة داخل النفس (أو «الغياب عن العالم» كما يقال كثيرا)» (ص241).
ثمة منهج مشابه قد يوجد في عمل عالم الاجتماع البارز إرفنج جوفمان، الذي يضم كتابه «العلاقات في العلن: دراسات جزئية عن النظام العام» فصلا عن «أقاليم النفس». إن المفهوم الأفضل للإقليم، لدى جوفمان، هو أنه «حافظة» أو «مجال للأشياء». «إن حدود هذا المجال عادة ما يتولى حراستها والدفاع عنها المدعي لملكيتها» (1971، 29). وعلى خطى ليمان وسكوت، يقدم جوفمان تصنيفا نموذجيا للأقاليم ذات الأهمية الاجتماعية. ومن بين الأقاليم التي تعطي بنية للسياسة الجزئية للمجتمع الأمريكي الحديث:
الحيز الشخصي: «الحيز المحيط بالفرد، أي مكان يتسبب دخول فرد آخر إليه في شعور الفرد الأول بأنه قد اعتدي عليه؛ ما يؤدي به إلى إظهار الاستياء، وفي بعض الأحيان الانسحاب» (1971، 29).
المقصورة: «الحيز المؤمن جيدا الذي يمكن للأفراد ادعاء ملكية مؤقتة له، على أن تكون الحيازة على أساس مبدأ «الكل أو لا شيء». وهم يوفرون حدودا خارجية تسهل رؤيتها وحصينة من أجل تقديم ادعاء مكاني بالملكية» (1971، 32-33).
الغلاف: «الجلد الذي يغطي الجسم، والثياب التي تغطي الجسم فيما يعد النوع الأكثر جلاء من الإقليمية المتمركزة حول الذات» (1971، 38).
ناقش جوفمان أيضا أساليب تمييز الأقاليم، وطرق الانتهاك والتعدي، والجرائم.
وهذه المفاهيم الاجتماعية للإقليم مشابهة للمفاهيم الأنثروبولوجية؛ من حيث إن أولئك الذين يتصرفون بنوع من الإقليمية يضاهون بجماعات عرقية أو ثقافات فرعية. ولكن الرؤية الاجتماعية، الموضوعة على أساس شكل من الفردانية التي تميز الحداثة، تركز انتباهها على أقاليم النفس، لا سيما أن هذه الأقاليم مشروطة باختلاف العام/الخاص. (2-5) علم النفس
يتعامل مجالا علم النفس السلوكي والبيئي الفرعيان أيضا مع موضوع الإقليم على نحو جدي للغاية (ألتمان 1975؛ براون 1987). وعلى خطى ليمان وسكوت، ربما يمكن فهمهما باعتبارهما يضعان مخططا للصلات بين الإقليم ك «حيز داخلي» وأقلمة العالم الخارجي. ويعد كتاب «الأداء الإقليمي البشري»، تأليف رالف تايلور (1988)، واحدا من أكثر المؤلفات تفصيلا وأهمية عن الإقليمية النفسية. يناقش تايلور الإقليم، الذي وضع صراحة داخل «إطار تطوري» يعتبر الإقليمية البشرية متصلة مع الإقليمية غير البشرية، في إطار النظام، والحد من الصراع، وخفض الضغط التجريبي، والكفاءة النسبية للأقاليم المتنوعة من أجل أداء هذه الوظائف؛ فبعد تصميم نموذج عام للأداء الإقليمي في الفصول الستة الأولى من الكتاب، يعرض تحليلات مفصلة للأداء الإقليمي في أربعة مواقع عامة وشاملة، مخصصا فصلا لكل منها. يبحث «الموقع السكني الداخلي» («الأماكن التي يستطيع قاطنها أو قاطنوها ممارسة درجة من الخصوصية والسيطرة على الأنشطة») (ص141) سمات مثل تأثيرات مخططات الطوابق، ووضع الأثاث، والعلاقات الاجتماعية الخاصة؛ على سبيل المثال: يزعم تايلور أن «درجة أكبر من التشابه بين الأفراد الذين يتشاركون نفس الموقع السكني الداخلي؛ يفترض أن تسفر عن أداء إقليمي أكثر خلوا من المشكلات والصعاب. ومع زيادة التشابه يفترض أن يكون هناك توزيع زمني ومكاني أكثر تراضيا لأماكن بعينها داخل الموقع» (ص147). أما فئة «المساحات السكنية الخارجية القريبة من المنزل»، فتعنى بالأداء الوظيفي للإقليم في الأفنية الخلفية، والأزقة، والمربعات السكنية المحيطة بالمنزل. ومما يحظى بأهمية في هذا المقام السلوكيات المميزة، مثل «الأرصفة النظيفة، ودرجات السلم المغسولة، والحشائش والشجيرات المقلمة، وطيور الفلامنجو الوردية، والقطط الفخارية والزخارف الموسمية في عيد رأس السنة أو عيد الشكر أو الهالوين» (ص177). وهذه العلامات الإقليمية تنقل معلومات إلى الجيران والمارة واللصوص المفترضين؛ على سبيل المثال: قد يترجم التثبيت الاستراتيجي لتماثيل الخيالة على الحشائش باعتبارها تدل على أنه «ساكن يقظ في حالة ترقب دائم للتأكد من عدم عبث الناس بممتلكاته؛ فلا يمكنك الإفلات بأي شيء ترتكبه في محيط مكانه» (ص179). كذلك قد تعمل الإقليمية في هذه السياقات من أجل تيسير التفرد، وتقليل الضغوط، وتدعيم أواصر المعرفة أو الجيرة. أما «مواقع الاستخدام الدائم»، فتتضمن أداء الإقليم في سياقات مثل أماكن العمل والمكاتب والحانات، بينما تتعلق فئة «الأداء الإقليمي الأدنى» بسلوكيات إقليمية أكثر زوالا في أماكن مثل الفصول والشواطئ. يطبق تايلور نظريته للأداء الإقليمي على مشكلات اجتماعية متعددة، مثل الفوضى والجريمة والتخريب، ويجد أن زيادة في المراقبة والعلامات الإقليمية يمكن أن تحد من الاضطراب والفوضى.
تميل رؤية الإقليم، التي صاغها خبراء علم النفس البيئي أمثال تايلور، إلى تعميم وتطبيع الممارسات والشواغل الثقافية لدى العصريين؛ أو لمزيد من التحديد لدى الأمريكيين من الطبقة الوسطى الذين عاصروا أواخر القرن العشرين. وبوصفها تمثيلا متطورا لهذه الطريقة المحلية لأقلمة الحياة الاجتماعية، فإنها توضح إلى أي مدى قد يكون الخوف أساسيا لبناء هذه العوالم الحياتية. (2-6) ملخص
في هذا الاستكشاف الموجز والشديد الانتقائية لأساليب الخطاب التخصصية للإقليم والإقليمية، رأينا كيف أن الإقليم متضمن في مجموعة كبيرة من العلاقات الاجتماعية، من الشخصية إلى الدولية، وكيف تتغلغل أشكال وصيغ مختلفة من السلطة والنفوذ في تشكيل الأقاليم والحفاظ عليها. وتوضح هذه الرؤى، عندما تؤخذ معا ككل، مدى تعقيد وأهمية الإقليم، أو على الأقل ما «يطلق عليه» العديد من المراقبين الأكاديميين إقليما. ولكن في الواقع نادرا ما «تؤخذ معا ككل»؛ فكل خطاب تخصصي يميل إلى تشريح الإقليم «في ذاته» وإخضاعه لمحاور الاهتمام الأساسية التي تميز التخصصات أحدها عن الآخر (ثمة استثناء مهم لهذا؛ هو عمل روبرت ساك، الذي سوف يتم تناول كتابه «الإقليمية البشرية» تفصيلا في الفصل الثالث). وحين تؤخذ معا ككل، قد يعجب المرء أكثر ما يعجب بما هو مفقود، ألا وهو: كيفية تآزرها وتضافرها معا إن كانت كذلك من الأساس. إن ما نراه هو الأقلمة المتخصصة للإقليم التي تتعامل مع الدول، والمدن، والجماعات العرقية، والمجتمعات، والعصابات، والأسر، والأفراد؛ وكأن كل واحد منها يعيش في عالمه المنفصل الذي لا يمكن فحصه ودراسته إلا بمعزل عن بقية العالم. وربما تكون الاختلافات على أقوى ما تكون في المجالات المتطرفة. لقد استهللنا دراستنا بالعلاقات الدولية، التي تتخيل الأقاليم السياسية بلا أشخاص، وأنهيناها بعلم النفس البيئي الذي يتخيل الأقاليم الشخصية بلا سياسة. وعلى طول الطريق، شاهدنا كيف تحول الإطار العملي للإقليم من الأشكال الراسخة والرسمية والصارمة والعنيفة، إلى أشكال أكثر انسيابية وغير رسمية وزائلة بل متنقلة أيضا. ربما يكون من الممكن فهم الخطابات التخصصية بوصفها تقوم بتشريح العالم وفقا لمقياس بعينه، وفهم مسارنا بوصفه قد اتبع طريقا من الكلي إلى الجزئي. ولكن مرة أخرى، تم التغاضي عن السؤال بشأن ما إذا كانت هذه المقاييس معبرة والكيفية التي تعبر بها. والإقليم في حد ذاته «متضمن» من قبل المقياس، والمقياس يحدد للتخصصات المعرفية الموضع الملائم لها في المنظومات الحديثة لإنتاج المعرفة.
غير أن هذه الدراسة قد تكشف أيضا عن قواسم مشتركة مهمة بين العديد من الرؤى المختلفة، وهذه القواسم المشتركة أصبحت موضع قدر كبير من النقد مؤخرا. ومن بين القواسم المشتركة الميل نحو رؤية الإقليم في إطار متضادات «إما/أو»، و«الداخل/الخارج» الثنائية الحادة نوعا ما، مع «دواخل» موحدة ومتجانسة نوعا ما وحدود واضحة نسبيا. وفي كل واحد منها أيضا يوجد ثبات واضح؛ حيث تتميز الاختلافات والعلاقات «الأفقية» على ما سميته في الفصل الأول الاختلافات والعلاقات «العمودية». وتشدد التخصصات المعرفية على الإقليم فيما يتعلق مثلا بعلاقات الدولة/الدولة، أو المجموعة/المجموعة، أو النفس/النفس، وليس فيما يتعلق بعلاقات أكثر تعقيدا وتباينا؛ بمعنى أن هناك نزعة قوية لقراءة الإقليم كشيء مميز وسط أطر التشابه التخصصية. يوجد أيضا ثمة انحياز نحو التركيز على هذا الإقليم أو ذاك أو الحد على نحو مستقل، على حساب تحليل مجموعات إقليمية أكثر تعقيدا. علاوة على ذلك، يوجد الإطار الذي تكون فيه كل نقطة من النقاط المبالغ فيها من دراستنا مجرد نسخة من الأخرى؛ فمجال العلاقات الدولية ينظر إلى الدولة كنوع من الذات الفردية الموحدة على نطاق كبير، بينما يرى علم النفس الذات كنوع من الدولة السيادية على نطاق صغير. وبالنسبة إلى كل منهما، ترتبط الإقليمية ارتباطا محكما بأفكار حرية الإرادة، ويصاغ تصورها في إطار الخوف، والخطر، والأمن، والتعدي، والسيطرة، والدفاع، والعنف، وفقدان النزاهة. (3) لاأقلمة المجالات المعرفية
في الثلث الأخير من القرن العشرين بدأ علماء من مجالات «أساسية» متنوعة يسعون على نحو متزايد لاستكشاف وسائل للهرب من إقليمية الإقليم، من خلال مجموعة من المشروعات التي تجمع بين تخصصات متعددة. واعتمادا على مجموعة واسعة النطاق من الموارد النظرية؛ مثل: حركة ما بعد البنائية، وما بعد الحداثة، والاقتصاد السياسي، والحركة النسائية، بدأ هؤلاء الكتاب في إبداء انعكاسية أكثر صراحة فيما يتعلق بإنتاج المعرفة، والطرق التي تتبعها الرؤى التخصصية الثابتة من أجل كل من تركيز الانتباه على بعض جوانب الإقليمية وتحجيم نطاق البحث والاستقصاء. كذلك كان يوجد وعي متزايد بالعلاقة بين المعرفة (تمثيلات الإقليم) والسلطة. وفي ظل ازدياد التشكك بشأن بعض المزاعم - على الأقل - التي قدمت باسم الحداثة، إن لم يكن بشأن فكرة الحداثة في جوهرها؛ أبدى بعض هذه المشروعات أيضا حساسية متصاعدة لتأثيرات المفاهيم التقليدية للإقليم. والحق أن موضوع الإقليم قد انخرط فيه كليا الكثير والكثير من العلماء والباحثين من العديد من المشروعات المتعددة التخصصات، لدرجة أن العصر الحالي يمكن، ببعض التبرير، اعتباره عصرا ذهبيا لنظرية الإقليمية. ويعد هذا، في جزء منه، نتاجا للتغير الجيلي وتكثيف التداخل بين المجالات والتخصصات عبر العلوم الاجتماعية. وفي جزء آخر، يعد نتاجا لتغيرات ملموسة في العالم تثبت على نحو متزايد عدم كفاية طرق الفهم التقليدية. ومن الصحيح أيضا أن هذه المناهج الأحدث تميل أيضا لأن تكون ناقدة؛ فهي ناقدة لأساليب الخطاب التخصصية الموروثة، وناقدة للطرق التي تمارس وتختبر بها السلطة فعليا في مقابل الإقليمية، وناقدة لتورط الأولى في آليات الأخيرة. ونتاج كل هذا الاضطراب هو ظهور طرق جديدة لفهم الإقليم قلبت المفاهيم التقليدية ظهرا لبطن.
في هذا الجزء من الدراسة سوف نبحث بعضا من المشروعات المهمة المتداخلة الاختصاصات، بطريقة تقتفي مسار أساليب الخطاب التخصصية التي استعرضناها في الأجزاء السابقة. سوف أناقش أولا مناهج ما بعد البنائية لمعالجة العلاقات الدولية وظهور السياسة الجغرافية النقدية في الجغرافيا البشرية، وبعد ذلك سوف أتطرق إلى بعض القضايا الأساسية في الجغرافيا الجذرية والنقدية على نحو أعم؛ نظرا لارتباط هذه القضايا بالتفسيرات وطرق الفهم المتغيرة للإقليم. وسوف يتبع هذا استكشاف موجز لدور نظرية الثقافة، وعلى نحو أكثر تحديدا، نظرية الحدود في عمليات إعادة التنظير الأخيرة. وسوف يختتم هذا الجزء بمناقشة موجزة لما قد يكون الموضوع الأشد جدلا في المناقشات الحالية بشأن الإقليم: العولمة وآثارها المزعومة النازعة للأقلمة. (3-1) العلاقات الدولية الأحدث
لم يكن مجال العلاقات الدولية محصنا ضد التغيرات النظرية والعملية للعصر؛ فقد حاول العديد من الممارسين - متأثرين بالنظريات والطرق الاجتماعية التي لم تكن تشكل جوهر المعرفة العلمية لمجال العلاقات الدولية من قبل - الخروج من الصندوق المحدد ببنود «المناظرة الكبرى» بين الواقعيين والمثاليين. وكخطوة أولى أخضعوا بنود المناظرة لتحليل ونقد مستمرين، وأفضى هذا إلى فحص نقدي للأفكار الأساسية الخاصة ب «السيادة»، و«الفوضى»، و«العنصر الدولي»؛ إذ إن هذه الأفكار منتشرة في خطاب العلاقات الدولية التقليدي. ونظرا لأن هذه المفاهيم جميعا قد تم توضيحها من خلال مفاهيم الإقليمية التي لم تخضع لأي فحص أو دراسة، فليس غريبا أن تكون هذه الاستكشافات النقدية قد أسفرت عن ابتكار عمليات إعادة التصور الجديدة والمثمرة للإقليم وعلاقته بالسلطة والمعنى والخبرة. سوف أتطرق هنا لثلاثة خطوط للنقد: التأريخ، والاستطراد، والتحول في التركيز من الأقاليم كحاويات ثابتة إلى الحدود التي تحددها وقابلية تحرك الأشخاص الذين يعبرون هذه الحدود.
ولما كان خطاب إدارة الدولة في العلاقات الدولية والسياسة الجغرافية يفترض أن الدولة الإقليمية بمثابة تطويع مكاني أولي شبه طبيعي للسلطة، تكون إحدى المهام الأساسية لنظرية العلاقات الدولية النقدية هي تأكيد تاريخية هذا التكوين. وهذا لا يعني مجرد تتبع ظهور و«نشوء» الدولة الإقليمية وانتشارها عالميا، ولا يعني أيضا أن الاستقصاء مقتصر على دراسة التشكيلات المتغيرة داخل إطار دائم وقوي، كما في الجغرافيا السياسية التقليدية، بل يعني أن نظرية العلاقات الدولية النقدية تشدد على «الاحتمالية» التاريخية والثقافية والسياسية للإطار ذاته، بمعنى أنه يرمي إلى نزع السمات الطبيعية، ومن ثم إعادة تسييس واحدة من أكثر العلاقات الحديثة جوهرية بين السلطة والإقليم. ويكتب آر جيه بي ووكر، أحد الرواد في هذا المسعى، قائلا:
ظهر المبدأ الحديث لسيادة الدولة تاريخيا باعتباره الصيغة القانونية لطبيعة وشرعية الدولة ... وعلى أبسط المستويات، يعبر عن ادعاء الدول الحق في ممارسة سلطة شرعية داخل حدود إقليمية محددة تحديدا صارما. وهذا الزعم الآن يبدو طبيعيا وبارعا ... فالمزاعم بشأن سيادة الدولة توحي بالبقاء والاستمرار؛ حيز إقليمي غير متغير نسبيا ستشغله دولة تتسم بتغير زمني، أو وعاء مكاني ومؤسسي سوف تشغله تطلعات ثقافية أو عرقية لشعب ما. الحكومات والأنظمة قد تأتي وتذهب، ولكن الدول ذات السيادة تستمر للأبد. (1993، 165-166)
على النقيض من هذا يروي ووكر قصة من نوع مختلف، فيروي لنا أنه «ذات يوم»:
لم يكن العالم كما هو الآن؛ فأنماط الدمج والإقصاء التي نعتمدها الآن كمسلمات هي ابتكارات تاريخية، ومبدأ سيادة الدولة هو التعبير الكلاسيكي لتلك الأنماط؛ تعبير يشجعنا على الإيمان بأن تلك الأنماط إما دائمة (الواقعية) وإما أنه لا بد من محوها لصالح مدينة عالمية من نوع ما (المثالية). وإرساؤه للوحدة والتنوع، أو الداخل والخارج، أو المكان والزمان؛ غير طبيعي ولا حتمي، إنه جزء بالغ الأهمية من ممارسات جميع الدول الحديثة، ولكن تلك الممارسات ليست طبيعية أو حتمية هي الأخرى. (1993، 179)
إذا كانت أقلمة السلطة السياسية توصف في إطار الاحتمالية أكثر من الضرورة، فإن خطوطا جديدة من الاستقصاء والبحث تتفتح قد تتيح للمرء مزيدا من الفهم والاستيعاب للإقليمية.
ثمة مهمة ثانية ونقدية ذات صلة، هي التأكيد على الإقليم باعتباره «أثرا» للممارسات الخطابية (ومن ثم إشارات ووكر إلى «المزاعم» و«التعبيرات»)، وتركيز انتباه خاص على الطرق التي تعمل بها هذه المطالبات والافتراضات في أساليب الخطاب التقليدية فيما يتصل بالعلاقات الدولية، وفن الحكم، والشئون الخارجية، وبالتبعية في الخيال الشعبي (جورج 1994). والخطاب هنا لا يشير ببساطة إلى النقل الشفاف والواضح ل «المعاني» فيما يتعلق بالخطوط الفاصلة والمساحات، أو حتى إلى آليات البلاغة، بل يشير إلى الأساليب المنظمة النمطية للتفكير والقول والكتابة والفعل، التي تؤدي إلى تنميط أو تعميم السيادة، والإقليم السيادي، وما يرتبط بهما من صور ومتناقضات. وفي مواجهة هذا، يقدم ووكر:
قراءة للنظريات الحديثة للعلاقات الدولية كخطاب يجسد تجسيدا منهجيا أنطولوجيا مكانية خاصة من الناحية التاريخية؛ توصيفا دقيقا لهذا المكان أو ذاك، وخطابا يوضح، ويثبت دوما، وجود أو غياب الحياة السياسية داخل وخارج الدولة الحديثة باعتباره الأرضية الوحيدة التي يمكن على أساسها فهم الضرورات الهيكلية، ويمكن الكشف عن مجالات جديدة للحرية والتاريخ. (1993،
ix )
علاوة على ذلك، لا تعد هذه الخطابات الإقليمية التقليدية وما يرتبط بها من مزاعم المعرفة، القائمة على خبرة من نوع خاص، والمدعومة بنظريات العلاقات الدولية الموروثة؛ جامدة فيما يتعلق بالآليات العملية للسلطة. وبحسب تعبير فيليب داربي، «العلاقات الدولية كنظام فكر لا يمكن فهمها بمعزل عن الوضع المسيطر للغرب في العلاقات العالمية، وخاصة التفوق التاريخي لبريطانيا والولايات المتحدة» (2003، 149). أغلب الظن أن داربي يقصد أن هذه العلاقات لا يمكن فهمها «على نحو دقيق»؛ لأنها بالتأكيد تفهم، في أغلب الأحيان، بمعزل عن هذه الظروف السياسية. ولكن بمزيد من الصراحة الحادة يقول سميث: «باسم التنوير والمعرفة، مالت النظرية الدولية لأن تكون خطابا متقبلا لخلق وإعادة خلق الممارسات الدولية التي تهدد وتؤدب وتسيء إلى الآخرين، ومتورطا في ذلك» (1995، 3). ومن بين أبرز مزاعم المعرفة الأساسية تلك المزاعم المتعلقة بالإقليم.
يفحص منظر بارز آخر للعلاقات الدولية النقدية، وهو ريتشارد آشلي، أيضا «النزعات التأويلية المسيطرة» لنظرية العلاقات العامة التقليدية؛ ففي مؤلف بعنوان «السياسة الجغرافية للحيز الجيوسياسي» (1987)، يقترح بدلا من ذلك اتخاذ «موقف نسبي» تجاه الخطاب السائد للسيادة الإقليمية للدولة؛ فهذا موقف تشككي تجاه إنتاج وتداول مزاعم المعرفة التي:
تهيئ المرء لاعتبار «استقلالية» و«هوية» المجال بمنزلة نتيجة لاستعراضات القوة بين العناصر المتعددة. فيهيأ المرء للبحث عن استراتيجيات وتقنيات وطقوس القوة التي تستبعد بها موضوعات ومفاهيم وقصص وممارسات، أو يتم إسكاتها، أو تبديدها، أو إعادة جمعها، أو منحها تأكيدا جديدا أو معكوسا، ومن ثم تفضيل بعض العناصر على أخرى، وفرض الحدود، وتطبيق الانضباط بطريقة تنتج هذا الشق المعياري من الحيز العملي فقط. (1987، 41)
يشير هذا «الحيز» في الوقت نفسه إلى التكوين الخطابي ل «مجال» العلاقات العامة في مقابل العلوم السياسية ، وإلى تمثيلات الإقليم السياسي التي تضمن «استقلاليته» و«هويته» المفترضة، والتي لا تقبل الانفصال فعليا عنه كمجال للخبرة الموثوق فيها. ولعل هذا الخطاب المكاني هو الأوضح فيما يتعلق بمتضادات الداخل/الخارج الهيكلية، والتي تتضح وفقا لها متضادات السيادة/الفوضى، والمحلي/الأجنبي، والقومي/الدولي.
إن الهدف من هذه الممارسات النقدية، مرة أخرى، هو توضيح «عرضية» - عدم ضرورة - أساليب التفكير، وممارسات التنظير، و«طرق تشكيل العالم» المرتبطة بالإقليمية الحديثة المتركزة حول الدولة، والهويات الخاضعة للأقلمة. إن الهدف هو التأكيد على أن هذه الممارسات متوقفة على توزيعات قائمة للسلطة وعلى توفير منفذ نتخيل من خلاله احتمالات أخرى، وتوليفات أخرى من «الحيز - السلطة - المعنى - الخبرة» خلاف تلك التي تقر بها الإقليميات الأخرى. ويختتم ووكر كتابه «الداخل/الخارج» (1993) بمطالبتنا بتخيل كيف قد يصبح ممكنا «صياغة وصف معقول للهوية، أو الديمقراطية، أو المجتمع، أو المسئولية، أو الأمن، دون افتراض وجود حيز إقليمي؛ حد قاطع يفصل بين هنا وهناك» (ص182).
والانتباه إلى الآليات الخاصة بداخل/خارج منقسم في الوعي وفي الطرق التي تقدم بها عمليات أقلمة السلطة، الحديثة والمتركزة حول الدولة، دعما للمضادات الأخرى؛ يعد جزءا من تحول أوسع نحو التحليل النقدي للحدود. قد ينظر إلى الحدود على أنها مختلفة عن الأطراف الواضحة الثابتة للدول السيادية. وعلى نحو أكثر تحديدا، في النظرية النقدية للعلاقات الدولية يوجد تحول عن النظر إلى الأقاليم كحاويات مغلقة باتجاه استكشاف حركات التنقل العابرة للحدود، وسوف أتناول هذا الموضوع بمزيد من التفصيل أدناه. أما فيما يتعلق بالأهداف الحالية، فينظر إلى الاعتراف بحركات التنقل العابرة للحدود بوصفه أمرا يتطلب إعادة توجيه للفكر التقليدي للعلاقات الدولية بشأن الإقليم؛ فيؤكد بيتر ماندافيل، على سبيل المثال، أنه نظرا لتزايد أهمية ما سماه «التنقل عبر المحلي» في الحياة الاجتماعية العالمية، «قد تمر الطبيعة الأساسية للإقليمية بتغير معين» (1999، 653). بل إنه يذهب إلى أن «الإقليم بمعناه الكلاسيكي - الذي أفهمه كمجال محدود بالولاية الخالصة لنفوذ سياسي بعينه - ربما لم يعد يشكل الحيز الأساسي للموقف السياسي» (ص654). ويكتب قائلا: «لقد صارت الحدود أكثر نفاذية بفضل التعبيرات الملموسة والمادية للكيان السياسي. والناس يعيشون حياتهم عبر الأقاليم وبينها وليس داخل «الصناديق الصغيرة» للمساحة الرسمية للدولة» (ص658). وهو يؤيد تحويل منظري العلاقات الدولية انتباههم إلى دراسة «سياسة التنقل عبر المحلي» التي استطاعت، بحسب زعمه، أن تقدم «وصفا أكثر ثراء للهوية، والمجتمع، والإقليم» (ص655). ولم تمر هذه الأطروحة الخاصة ب «اللاأقلمة» دون جواب، كما سنرى فيما يلي؛ فقد أخضع منظرو العلاقات الدولية الأكثر حداثة طرق الفهم الموروثة للإقليم لمستوى غير مسبوق من التحليل النقدي؛ فالعالم البديهي للدول القومية السيادية وما يرتبط بها من هويات وقوى يبدو أكبر قليلا من مكان للعبة خداع تمارس على نطاق كوكبي. (3-2) السياسة الجغرافية النقدية
ثمة إسهام مهم في إعادة التنظير العامة للإقليمية المتركزة حول الدولة، هو مشروع السياسة الجغرافية النقدية الذي طور في الأساس على يد الجغرافيين السياسيين. ووفقا للمساهمين الأساسيين سايمون دالبي وجيرويد أوتواثيل، يعد هذا «استجوابا فكريا مستمرا لسياسة المعرفة الجغرافية في كل من السياسة الدولية والقومية، وعلى نحو متزايد في تلك الأماكن التي تفند هذه الاختلافات» (1996، 452). وكتب أوتواثيل أن: «السياسة الجغرافية النقدية» تبشر بدرجة جديدة من التسييس لطرق فهم الجغرافيا، ودرجة جديدة من الجغرفة لدراسة السياسة العالمية. إنها تسعى لتجاوز الحدود وتتحدى ما يعتقد أنه هويات أساسية، سواء أكانت مجتمعات متخيلة أم حدودا فلسفية موروثة. (1994، 525)
ومن بين الأهداف الرئيسية لها تحليل جوهر فكرة «السياسة الجغرافية» وآثارها نقديا؛ على سبيل المثال: يعرض أوتواثيل هذا التعريف القياسي إلى حد ما ل «السياسة الجغرافية»، مثلما قدمه الجغرافي السياسي سول كوهين: «إن جوهر التحليل السياسي الجغرافي هو علاقة النفوذ السياسي الدولي بالموقع الجغرافي» (كوهين 1973، 29). بعد ذلك يشير إلى أنه في طيات هذا التعريف البسيط تختبئ افتراضات بأن:
السياسة الجغرافية هي نقطة محددة، وهوية معروفة، ووجود. وتوجد هذه النقطة في التقاطع ما بين مجالين أو إقليمين منفصلين للمعرفة، هما: «النفوذ السياسي الدولي» و«الموقع الجغرافي». وموضع تقاطع هاتين الأرضين هو موقع السياسة الجغرافية. والعلاقات الترابطية لهذا المصطلح ترسم خريطة لعلاقة بين الجغرافيا وما يقابلها (التاريخ/السياسة/الأيديولوجيا). وداخل التقليد الجغرافي السياسي تبرز الجغرافيا طبيعية لا تاريخية، سلبية لا ديناميكية، دائمة لا زائلة، صلبة لا مائعة، خشبة مسرح وليس دراما. (أوتواثيل 1994، 531)
يحلل الجغرافيون السياسيون النقديون أيضا كتابات الأعلام البارزة في مجالي السياسة الجغرافية والجغرافيا السياسية التقليدية مثل راتزل وهارتشورن، ويقرنونها بسياق سياسي من أجل إثبات تواطؤ منتجي المعرفة وشرعنة السلطة (باسين 2003؛ هيفرنان 2000؛ كيرنز 2003). وتهدف السياسة الجغرافية النقدية إلى زعزعة المفاهيم البديهية المسلم بها للإقليم التي يستند إليها جزء كبير من الفكر المعاصر بشأن السلطة على جميع مستويات التحليل والخبرة.
من ضمن المساهمين المهمين في إعادة التفكير بشأن الحيز السياسي الجغرافي جون أجنيو. يقدم أجنيو، اعتمادا على علماء وباحثي العلاقات الدولية أمثال ووكر وآشلي، تحليلا لما يطلق عليه «المصيدة الإقليمية» (1994، أعيد طباعته في أجنيو وكوربريدج 1995). تتألف هذه المصيدة التحليلية من «الافتراضات الجغرافية المحددة والضمنية التي تدعم التمثيلات التقليدية» للإقليم السياسي في العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية (1995، 79). وكذلك تكفل جزءا كبيرا من المنطق السليم الذي لم يخضع للفحص لمعظم التخصصات الاجتماعية.
من وجهة النظر هذه تكون الدول بمنزلة جهات فاعلة مركزية تتحدد طبيعتها بتفاعل كل منها مع الأخرى. وكل دولة تباشر عملية حسابية لحساب مدى تعاظم مكانتها بالنسبة إلى الدول الأخرى. ولا توجد وحدة مكانية خلاف إقليم الدولة متضمنة في العلاقات الدولية. أما العمليات التي تتضمن الوحدات الفرعية للدولة (مثل المراكز المحلية والمناطق)، أو وحدات أكبر (مثل مناطق عالمية، أو الكرة الأرضية)؛ فتستبعد بالضرورة. (1995، 81-82)
أول و«أهم» المفاهيم الخاطئة هو ذلك الذي يفيد بأن «الدول تجسدت كمجموعة من الوحدات الثابتة لحيز سيادي؛ فقد عمل هذا على تجريد عمليات تكوين وتفكيك الدولة من الطابع التاريخي والسياق. وقد عولت كل من الواقعية والمثالية تعويلا بالغا على هذا الافتراض» (أجنيو وكوربريدج 1995، 83-84). وهذا الجزء من المصيدة يضع «الأمن» - الذي «يساء» فهمه بطريقة خاصة للغاية - في قلب الاختصاص السياسي الجغرافي. «إن ما على المحك هو بقاء الدولة ودفاعها عن أرضها؛ فالسيادة الإجمالية للدولة على مساحتها الإقليمية في عالم مفتت إلى دول إقليمية ؛ تمنح الدولة أقوى مبرراتها، ودون هذا ستكون الدولة مجرد مؤسسة أخرى» (ص84). يتعلق الافتراض الثاني ب «استخدام تقاطبات المحلي/الأجنبي والقومي/الدولي الذي عمل على إضفاء نوع من الغموض على التفاعل بين عمليات تعمل على نطاقات مختلفة» (ص84). والاعتماد المطلق على هذه التقسيمات المفاهيمية من شأنه تيسير إنكار عمودية الإقليم؛ وهذا بدوره يضفي غموضا على سريان القوى والعمليات الأقل قابلية لقراءة أفقية مستوية للسلطة الإقليمية. أما المفهوم الخاطئ الأساسي الثالث فهو مفهوم يفيد بأن «الدولة الإقليمية كان ينظر إليها باعتبارها قائمة قبل المجتمع وحاوية له؛ ونتيجة لذلك يصبح المجتمع ظاهرة قومية. وهذا الافتراض مشترك بين جميع أنواع نظرية العلاقات الدولية» (ص84). وحين يضع محلل (أو أي شخص آخر) هذه الافتراضات، يكون قد وقع في المصيدة، ولا يخلو هذا من وقوع أشد العواقب؛ خاصة فيما يتعلق بقدرة الفرد على تقييم الأحداث المعاصرة؛ على سبيل المثال: تيسر المصيدة الإقليمية كثيرا النظر إلى الحرب باعتبارها مواجهة عنيفة، لنقل بين «الولايات المتحدة» و«العراق»، التي يفترض كل منهما أنه كيان موحد غير ملتبس؛ ومن ثم تضفي غموضا على آليات العسكرية العالمية، على سبيل المثال، والسيطرة الاقتصادية للنفط، ودور الموارد المالية الدولية، والأصوليات الدينية، والمستوى المرتفع من السخط السياسي داخل كل من هذه الساحات السياسية. وبالمثل، عندما ينظر إلى الهجرة عبر الحدود الأمريكية المكسيكية من منظور المصيدة، «يرى» المرء صراعات بين الدول القومية، ولكنه يعجز عن «رؤية» ديناميكيات العرق، والطبقة الاجتماعية، والنوع، وإعادة هيكلة التقسيم الدولي للعمل التي تعد، كما يزعم، أكثر أهمية.
ولكن أجنيو يذهب إلى أن:
كلا من هذه الافتراضات إشكالي وتتزايد إشكاليته؛ فالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا يمكن احتواؤها وجوديا داخل الحدود الإقليمية للدول. والحركات السكانية المعقدة، والحركية المتنامية لرأس المال، والاعتماد البيئي المتبادل المتزايد، و«السياسة الوقتية» للتقنيات العسكرية الجديدة؛ تتحدى الأساس الجغرافي لنظرية العلاقات الدولية التقليدية. (أجنيو وكوربريدج 1995، 100)
ولعل الطريقة المثلى لفهم السياسة الجغرافية النقدية هي اعتبارها مكونا للجغرافيا النقدية على نحو أعم. ويشترك الجغرافيون مع العلماء في التخصصات الاجتماعية الأخرى في تأثرهم بمجموعة ممتدة من الموارد النظرية خلال الجيل الأخير والمساهمة فيها، مثل أن المواضع النظرية (والمحادثات الدائرة داخلها) غالبا ما تكون أهم من المواضع المعرفية (والمحادثات الدائرة بداخلها)؛ على سبيل المثال: قد يكون الجغرافيون النسويون على اتصال أكثر اكتمالا مع النسويين في تخصصات أخرى مقارنة بغيرهم من الجغرافيين؛ وقد يشعر جغرافيو ما بعد الحداثة برابطة أقوى مع غيرهم من المنتمين إلى ما بعد الحداثة من الجغرافيين الآخرين. وبينما تعنى الجغرافيا البشرية بما هو أكثر بكثير من الإقليم، كان للكثير من التطورات النظرية أثر عميق على الكيفية التي أعيد بها تصور الإقليم.
في إطار التأثير الأولي والأهمية الدائمة داخل المجال ووراءه، لا يمكن أن تكون هناك مبالغة في تقدير ظهور الفلسفات الماركسية والفلسفات الأخرى للجغرافيا؛ فعلى النقيض من المفاهيم السائدة لما ترمز إليه «سياسة» الجغرافيا السياسية، بدأ الجغرافيون الماركسيون (أمثال ديفيد هارفي، ودورين ماسي، وريتشارد بيت، ونيل سميث، وآخرين عدة) في وضع تفسيرات الإقليم (والحيز والمكان على نحو أعم) داخل سياق العمليات التاريخية الخاصة بتراكم رأس المال، والإنتاج الصناعي، وعلاقات العمل، والتطور غير المتكافئ، والاستهلاك (ستوربر وسكوت 1986؛ ستوربر وووكر 1989). فقد بات ينظر إلى الأقاليم على نحو متزايد بوصفها تعكس، أو تعزز، أو تقوض آليات قوى اجتماعية أكثر انتشارا وتغلغلا، وليست مجرد حاويات للسلطة السيادية. فيكتب هارفي أن «الأقلمة في النهاية هي نتاج لصراعات سياسية وقرارات تتخذ في سياق الظروف التكنولوجية والسياسية والاقتصادية» (2000، 75). كذلك يربط الجغرافيون الماركسيون التقييمات المعيارية لهذه العمليات بمخاوف صريحة بشأن العدالة الاجتماعية والمعاناة البشرية الواقعية التي ترتبت على الأساليب الرأسمالية للإنتاج والتنظيم الاجتماعي. إذا فالتشكيلات الإقليمية في اقتصاد سياسي رأسمالي ليست مقتصرة على حاويات ثابتة ثنائية الأبعاد، حتى إنه قد لا يكون من الممكن رسم خريطة لها بواسطة وسائل خرائطية تقليدية؛ بل إنها تتشكل عن طريق تحويل المجموعات التي تعكس العمليات المتأصلة في تراكم رأس المال، وتعززها وتعيد استنساخها، وفي بعض الأحيان تقوضها. وفي كتاب مؤثر بعنوان «السياسة الجغرافية للرأسمالية» (1985)، يكتب هارفي أن «التناقضات الداخلية للرأسمالية يعبر عنها من خلال التشكيل وإعادة التشكيل المستمرين للمشاهد الجغرافية. هذا هو الإيقاع الذي يجب أن ترقص عليه الجغرافيا التاريخية للرأسمالية وما يرتبط بها من عمليات أقلمة وإعادة أقلمة بلا توقف» (ص150). وتسري هذه العملية في عمليات اجتماعية-مكانية واسعة النطاق، وتكون مقروءة وواضحة فيها ، مثل تكوين الدولة (وتفكيكها)، والاستعمارية، وإزالة الاستعمار، وكذا عمليات الاستثمار وسحب الاستثمارات الأصغر نطاقا والمعبر عنها محليا، وعمليات الأقلمة الجزئية المرتبطة بتقسيم أسواق العمل وتنظيم أو تفكيك أماكن العمل.
ثمة فكرة مفيدة على نحو خاص وظفها الكثير من الجغرافيين النقديين، ولها تداعيات مهمة على فهم آليات عمل الإقليمية، وهي فكرة «إنتاج الحيز». صيغ هذا المفهوم في البداية على يد الفيلسوف الماركسي الفرنسي هنري لوفيفر. تبدأ الفكرة بفرضية مفادها أن الحيز الاجتماعي - بما في ذلك التشكيلات الإقليمية دون الاقتصار عليها - هو «منتج «اجتماعي»؛ ومن ثم يعمل الحيز الناتج أيضا كأداة للتفكير والفعل ... وهو أيضا وسيلة للرقابة، ومن ثم الهيمنة والسلطة؛ غير أنه لا يلحظ جزئيا من جانب أولئك الذين يستفيدون منه» (1991، 26). وقد وجد العديد من الباحثين أن تمييز لوفيفر بين «تمثيلات الحيز» و«التمثيلات المكانية» مفيد على نحو خاص؛ فتشير «تمثيلات الحيز» إلى «حيز متصور، حيز العلماء، والمخططين، ومخططي المدن الحضرية، والتكنوقراط، والمهندسين الاجتماعيين» (ص38)، بينما تدل «المساحات التمثيلية» على «الحيز مثلما يعاش مباشرة من خلال الصور الذهنية والرموز المرتبطة به، ومن ثم يشير إلى حيز السكان» (ص39). قد يرصد هذا الاختلاف الفرق بين كيفية تخيل الإقليم وتمثيله من قبل ممارسي العلاقات الدولية التقليدية، والسياسة الجغرافية، وإدارة الدولة، والزراعة الجماعية أو تفكيك الزراعة الجماعية، والتخطيط، ومن قبل المحامين والقضاة العقاريين من جانب؛ وبين الكيفية التي يختبر بها من قبل المهاجرين، أو اللاجئين، أو جنود الاحتلال، أو المستأجرين على الجانب الآخر. من الممكن الدفع بأن العديد من وجهات النظر بشأن الإقليم التي استعرضناها في الجزء الأول من هذا الفصل يعطي مثالا على «تمثيلات الحيز» اللوفيفرية؛ فقد تفهم آليات الإقليم جزئيا بالإشارة إلى التوترات أو التناقضات بين هذه النزعات المتباينة (والمتعارضة) نحو الحيز والممارسات التي تشترطها هذه التناقضات. ومع إشارة خاصة إلى عمليات الأقلمة للدولة السيادية ونظام الملكية الحرة، يوجه لوفيفر انتباهنا إلى التناقض «بين مظهر الأمن والتهديد المتواصل، وبالطبع الاندلاع العارض للعنف» (ص53).
يقدم كتاب «إنتاج الحيز» موارد لا حصر لها لإعادة تصور الإقليمية، وفيما يتعلق بأهداف هذه «المقدمة القصيرة»، سوف أركز فقط على انهيار الاختلاف الوجودي بين الإقليم (أو «الحيز» على نحو أعم) و«المجتمع»، وظهور مفاهيم أكثر «جوهرية» مثل «المكانيات»، أو «المكاني-الاجتماعي»، التي تنقل جزءا كبيرا من الجغرافيا النقدية المعاصرة؛ فقد أسهم إدوارد سوجا، على سبيل المثال، معتمدا على عمل لوفيفر ومفسرا له، في تفكيك الاختلاف الموروث بين «المجتمع» و«الحيز»؛ فكتب يقول: «أن تحيا هو أن تشارك في الإنتاج الاجتماعي للحيز، أن تشكل وتتشكل بمكانية دائمة التطور وتضفي طابعا ماديا على الحراك والعلاقة الاجتماعيين» (1985، 90). ويؤكد على أن «الحياة الاجتماعية مكون للحيز وعارض للحيز» (ص94). وقد قام سوجا بتطوير وتوسيع نطاق بعض من هذه الأفكار في كتابه المؤثر للغاية «جغرافيات ما بعد الحداثة» (1989). الفكرة بالنسبة إلينا هي أنه في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بدأ الإقليم يدرك ليس كشبكة غير فاعلة من الخطوط والمساحات التي تميز ببساطة الحاويات المتعددة لما هو اجتماعي، بل كشيء مقحم على نحو لا يقبل الانفصال تقريبا في جميع جوانب الحراك الاجتماعي، والوجود، والوعي، والخبرة الإنسانية بطريقة ما أو بأخرى.
ثمة تطور آخر مهم في الفكر الاجتماعي فرض إعادة التفكير في البنائية المتبادلة ل «المكاني» و«الاجتماعي»؛ إنه تطوير وتوسيع انتشار الأساليب النسوية للتحليل والنقد المكاني-الاجتماعي؛ فالجغرافيون النسويون، والنسويون في مجالات أخرى من المهتمين بالعلاقة بين الحيز والسلطة والخبرة، لا يميلون لتقديم العلاقات كفكرة أو موضوع في إطار الإقليم في حد ذاته، مفضلين بدلا من ذلك الكتابة عن الحيز والمكان. غير أنني أشير إلى أن أساليب الفهم النسوية للحيز والسلطة ضرورية من أجل رؤية أوضح لكيفية ممارسة ومعايشة الإقليم (آيكين وآخرون 1998؛ ماكدويل وشارب 1997).
يتعقب كتاب «وضع المرأة» (2001) تأليف دوموش وسيجر ، على سبيل المثال، العلاقة بين النوع، والجنسانية، والسلطة الأبوية، والتحييز التاريخي للحياة الاجتماعية على مستويات متعددة من الخبرة والخيال. ويركز الكثير من أهم جوانب تحليلهما على ما يطلق عليه الآخرون عمليات أقلمة: الفصل القائم على النوع بين «العمل» و«المنزل»، والتحييز المنقسم ل «العام» و«الخاص»، وتقسيم العمل القائم على النوع. ويتناولان أيضا أقلمة الحيز الحضري، بقيوده واستثناءاته التي تميزه، والدور التأسيسي لأيديولوجيات النوع (والخبرات المتباينة) في مشروعات القومية والاستعمارية والإمبريالية؛ فكل هذه الأمور تظهر التشكيلات الإقليمية المتغيرة والكثيفة التي عيشت في إطارها الحياة - حياة الرجال والنساء على حد سواء.
تعمل التحليلات النسوية لتاريخ وسياسة الحيز الاجتماعي القائم على النوع على توسيع طرق فهمنا للعلاقات المعقدة للسلطة، والأيديولوجيا، والخبرة، والأشكال المتعددة للأقلمة. ومن الإسهامات المهمة ازدياد الوعي بأن مسائل النوع والنشاط الجنسي استبعدت على نحو ممنهج من جميع المعالجات التقليدية تقريبا - وكذا من المعالجات «النقدية» الكثيرة للغاية - للإقليم. كذلك تستكشف القراءات النسوية للإقليمية كيف تتقاطع الأشكال التاريخية والمتغيرة ثقافيا من الإقليميات القائمة على النوع، مع القوى الاجتماعية الأخرى وتعمل على تكييفها، حتى عندما تتطلب منا مراجعة المفاهيم الموروثة بشأن «العمل»، أو «الجانب السياسي»، أو «المواطن». وأخيرا توفر موارد لوضع مفاهيم تتعلق بتعبيرات وممارسات الإقليم على جميع مستويات التحليل من الجسدي الداخلي (المهبلي، الرحمي) إلى العالمي. كذلك فتحت الدراسات المكانية النسوية طرقا لإعادة التفكير في هذه الصلات في سياقات أخرى للسلطة، كتلك التي تركز على التوجه الجنسي، والعرق، والإعاقة، والسن. (3-3) نظرية الثقافة
ثمة مشروع آخر متداخل الاختصاصات كان له تأثير كبير على التصور الحديث للإقليم؛ إنه نظرية الثقافة، ولمزيد من التحديد: نظرية الحدود. انبثقت نظرية الثقافة من التطورات في مجال الأنثروبولوجيا التي بدأ فيها الأنثروبولوجيون في فحص المفاهيم التقليدية للثقافة نقديا بطرق مشابهة لإعادة تقييم «السيادة» في العلاقات الدولية، و«الحيز» في الجغرافيا، و«السياسة» في النظرية النسوية. وكما هي الحال مع المشروعات الأخرى المتداخلة الاختصاصات، أدى هذا إلى إعادة تقييم للكيفية التي هيأت بها التمثيلات المسلم بها الرؤى البديهية للموضوعات الأساسية لهذه التخصصات. كذلك أثرت تفسيرات أحدث للحيز والثقافة، بشكل متبادل، على النظرية النقدية للعلاقات الدولية والجغرافيا النقدية، خاصة في المناقشات الخاصة بأهمية العولمة.
في كتابهما «ما وراء «الثقافة»: الحيز والهوية وسياسة الاختلاف» (1997أ)، ينتقد جوبتا وفيرجسون «التماثل المفترض للحيز، والمكان، والثقافة» (ص34) وجذبا الانتباه، بدلا من ذلك، إلى «عالم تصبح فيه الهويات، على نحو متزايد، خاضعة للأقلمة ولو اختلفت الكيفية، إن لم تكن غير خاضعة لها كليا» (ص37). إنه عالم يصبح فيه ««هنا» و«هناك» ضبابيين» (ص38). يحاول هذان الكاتبان الكشف عما تخفيه التمثيلات الإقليمية التقليدية للثقافة والهوية؛ ما يعني أنهما ينتقدان نسخة ثقافية من المصيدة الإقليمية. أولا: تميل الخطابات الموروثة للثقافة والهوية إلى تجاهل «أولئك الذين يقطنون الحد، ذلك «الشريط الضيق الممتد على طول أطراف منحدرة» للتخوم القومية؛ فيصير أدب الثقافات كظواهر مميزة أشبه بشيء مادي تشغل مساحات متمايزة غير منطقية بالنسبة إلى أولئك الذين يقطنون مناطق الحدود» (ص34). ثانيا: تفترض أساليب الخطاب المتعلقة بالمجالات المعرفية قدرا كبيرا من التجانس الثقافي، وتضفي غموضا على جوانب اللاتجانس «داخل» المساحات الإقليمية أو تتجاهلها؛ على سبيل المثال: «تحاول فكرة «الثقافات الفرعية» الحفاظ على فكرة «الثقافات» المتمايزة، بينما تعترف بعلاقة الثقافات المختلفة بثقافة سائدة ما داخل الحيز الجغرافي والإقليمي نفسه» (ص35)؛ وبهذا يتم احتواء وتدجين التغاير الثقافي بواسطة مفاهيم الإقليم المتركزة حول الدولة. ثالثا: من شأن هذه الطرق لتخيل الإقليم أن تجعل استقصاءات الديناميكيات الثقافية لما بعد الاستعمار صعبة. فيتساءل جوبتا وفيرجسون: إلى أي أماكن تنتمي الثقافات المهجنة لحقبة ما بعد الاستعمار؟ هل تخلق المواجهة الاستعمارية «ثقافة جديدة» في كل من الدولة المستعمرة والمستعمرة، أم أنها تزعزع فكرة أن الأمم والثقافات متماثلة؟ إن ما بعد الاستعمار يضفي نوعا من الإشكالية على العلاقة بين الحيز والثقافة» (ص35)؛ ومن ثم تجعل نظرية ما بعد الاستعمار طرق الفهم التقليدية للعلاقة أقل نفعا في إدراك الثقافة أو الإقليم السياسي. ويثير رفض فرضية التماثل بين الإقليم والثقافة مجموعة من التساؤلات والمشكلات الجديدة التي أضفي عليها نوع من الغموض بفعل العمل غير المدروس الذي يحققه الإقليم في أساليب الخطاب التقليدية؛ فيؤكدان أن «التحدي الخاص يكمن في استخدام بؤرة تركيز على الطريقة التي يتخيل بها الحيز (ولكن دون أن يكون خياليا) كوسيلة لاستكشاف الآليات التي تلبي من خلالها مثل هذه العمليات المفاهيمية المتعلقة بصنع المكان وعمليات الأقلمة الظروف الاقتصادية والسياسية العالمية المتغيرة للمساحات المأهولة. ويقترحان أنه:
بدلا من الإحجام عن مفهوم اللاأقلمة، وسحق حيز الحداثة المتقدمة، نحن بحاجة إلى التنظير لكيفية «إعادة» أقلمة الحيز في العالم المعاصر. إن الموقع المادي والإقليم المادي، اللذين ظلا لفترة طويلة للغاية الشبكة «الوحيدة» التي يمكن تخطيط الاختلافات الثقافية بناء عليها، بحاجة لأن يستعاض عنهما بالمصفوفات المتعددة التي تمكننا من إدراك أن الصلات والتجاور يتنوعان تنوعا كبيرا بحسب عوامل عدة، منها الطبقة الاجتماعية، والنوع، والعرق، والجنسانية، ومتاحان على نحو مختلف لأولئك القابعين في مواقع مختلفة في مجال السلطة. (1997أ، 50)
إحدى المحاولات المؤثرة للغاية الرامية إلى توفير مثل هذه «الشبكة المتعددة» نجدها في عمل آرجون أبادوراي عن العولمة الثقافية؛ فيكتب قائلا إن «اللاأقلمة ... واحدة من السمات الأساسية للعالم الحديث» (1990، 11). وفي ظل تفضيله للتنقل على المساحات الثابتة، يرسم مخططا ل «أبعاد التدفقات الثقافية» المتعلقة بالاختلافات بين الكيفية التي يتوزع بها الأشخاص والأشياء والمال والصور الذهنية والأفكار عبر الكون، من خلال الشبكة الإقليمية للدول القومية، التي تتقاطع إحداها مع الأخرى من خلق «تضاريس» أو «عوالم متخيلة» معقدة. وهذه التضاريس «المنفصلة» - و«السياسة الثقافية للاأقلمة» (ص13) التي تترتب عليها - غالبا ما تتناقض مع عمليات الأقلمة التقليدية المتركزة حول الدولة فيما يتعلق بالسلطة والهوية. وأخذ كل هذا في الاعتبار يتطلب منا «البدء في التفكير في تكوين القوى الثقافية في عالم اليوم كتكوين كسوري في الأساس، بمعنى أنه لا يحوز أي تخوم، أو هياكل، أو تناسقات إقليدية» (ص20). «نحن بحاجة إلى دمج المجاز الكسوري لشكل الثقافات مع وصف متعدد الخصائص لتشابكاتها وتشابهاتها» (ص20). (3-4) نظرية الحدود
تشكل الحدود الإقليمية وتتشكل بما تحتويه، وما يعبرها أو يمنع من عبورها؛ ف «الحاوية» و «المحتويات» لهما طبيعة بنيوية متبادلة. وتنبثق أهمية الحدود في الأساس من أهمية الإقليمية كمبدأ منظم للحياة السياسية والاجتماعية. ولطالما كانت وظائف ومعاني الحدود غامضة ومتناقضة بطبيعتها، ويبدو أن هذه السمات تتخذ أهمية جديدة في ظل مزاعم بظهور «عوالم بلا حدود» وإفساح «حيز الأماكن» المجال ل «حيز التدفقات». (أندرسون وأودود 1999، 594)
شكليا، كما يذهب أندرسون وأودود، يعد المعنى والأهمية العملية للإقليم وظيفة من وظائف معنى وبراجماتية الحدود. ويردفان أن «الإقليمية بالضرورة تنتج وتركز الانتباه على الحدود، وهي متجسدة في «الدولة القومية الإقليمية» السيادية الحديثة» (1999، 598). ولعل من المشروعات العصرية المتداخلة الاختصاصات الأكثر أهمية فيما يتصل بالإقليم؛ نظرية الحدود، التي يمكن استيعابها جزئيا كنقطة التقاء لنظرية العلاقات الدولية الأحدث ونظرية الثقافة. كذلك تعتمد النظرية، ذات الحضور القوي في الأنثروبولوجيا، على مشروعات أخرى عديدة وتشكلها، وتسعى لفهم الصلات بين الثقافة والسياسة والاقتصاد والخبرة في الحيز الاجتماعي. ترفض نظرية الحدود، مثل مشروعات أخرى بحثناها، الرؤية التقليدية للحدود بوصفها تمييزا للحواف الحادة للأقاليم المتجانسة والطرق التي تحدد بها هذه الرؤى التقليدية ما وراء الحدود بوصفه «خارجيا» وخطيرا. وهي قائمة على فرضية رفض الطرق التي ينظر بها إلى الحدود الفاصلة كتحديد للغيرية البديهية. بدلا من ذلك، تكون الحواف في نظرية الحدود متمركزة، ويكون التركيز على الحدود الفاصلة كمواقع للاختلاط أو التهجين.
يتحدى التدقيق النقدي الأدق للحدود تجسيدها المادي، ويكشف عنها بوصفها أبعد ما تكون عن البساطة؛ فهي تبدو، في المقابل، متناقضة وإشكالية ومتعددة الأوجه في طبيعتها. إنها تمثل على نحو متزامن بوابات وحواجز مؤدية إلى «العالم الخارجي»، وحامية وساجنة، ومجالات لفرص جديدة و/أو عدم الأمان، ومناطق للاتصال و/أو الصراع، للتعاون و/أو التنافس، للهويات المتناقضة و/أو التأكيد العدواني للاختلاف. قد تتبدل هذه التفرعات الثنائية مع الزمن والمكان، ولكنها - وهو الأكثر إثارة - من الممكن أن توجد معا في آن واحد لدى الأشخاص أنفسهم، الذين يتعين على البعض منهم التعامل على نحو دائم، ليس مع دولة واحدة بل اثنتين. (أندرسون وأودود 1999، 595-596)
وكما هي الحال مع بعض من المشروعات الأخرى المتداخلة الاختصاصات، تحيد نظرية الحدود عن أي رؤية ثابتة خرائطية للإقليم، وتؤكد على تنوع للتدفقات والحركيات العابرة للحدود كتلك المرتبطة بالعمال المهاجرين (موسميا، أو يوميا، أو خلال دورة الحياة)، واللاجئين، والسياح، والمهربين. وإذا فهمت الحدود بوصفها المواقع الأكثر نشاطا للتعقيدات الإقليمية، فإن انتباهنا يكون موجها نحو مجموعة أوسع من الممارسات الإقليمية وإلى أبعاد لآليات السلطة خلاف تلك التي تعرضها النظرية التقليدية. وقد تشمل هذه الممارسات ممارسات الدولة الرسمية كتلك التي تتضمن «مراقبة الحدود»، ونقاط التفتيش، والمنافذ الجمركية، والمراقبة، والإبعاد، والإدماج، والطرد، والتنظيم؛ وتضم كذلك ممارسات المراوغة، والتفاوض، والمقاومة بمختلف أشكالها. وقد استكشف العديد من الباحثين العلاقة بين مناطق الحدود والتهجين الثقافي، أو مسألة الهويات المتعددة أو المائعة بالنسبة إلى الحدود (فلين 1997؛ فرينش 2002؛ روسلر وفيندل 1999؛ ويلسون ودونان 1998). فيرفض جوبتا وفيرجسون، على سبيل المثال، فهم الحد في إطار «موقع طبوغرافي ثابت بين موقعين ثابتين آخرين (دول، مجتمعات، ثقافات)»، وينظران إلى الحد، بدلا من ذلك، بوصفه «منطقة خلالية للتهجير واللاأقلمة تشكل هوية المواطن المهجن». بل إن الحد، بحسب قولهما، هو ««الموقع» الطبيعي لمواطن ما بعد الحداثة» (1997أ، 18).
إن لهذه الأفكار تداعيات بالنسبة إلى أي فهم للإقليم؛ على الأقل فيما يتعلق بإقليمية الدول القومية. حتى مع التسليم بالفاعلية المستمرة للممارسات الإقليمية للدول - مثلما يتبين، على سبيل المثال، من خلال عسكرة تلك الأرض الحدودية الأكثر خضوعا للفحص والتدقيق، التي تضم المكسيك والولايات المتحدة (ألفاريز 1999؛ كيرني 1998؛ أورتيز 2001؛ بالافوكس 2000) (ومن خلال حقيقة أنه على الرغم من مزاعم اللاأقلمة، فإن العديد من المشاركين المتنقلين «المهجنين» أنفسهم قد يعتنقون آراء أكثر تقليدية بشأن تماثل الثقافة، والسياسة، والإقليم) - تؤكد نظرية الحدود ما بعد الحداثية على أوجه الانفصال، والتشابك، وعدم الاستقرار بين الأقاليم المنظمة على أساس أفكار وممارسات غالبا ما تكون متعارضة، وهذه السمات تحديدا هي التي عادة ما يعتم عليها أو ترفض من قبل أساليب الخطاب المتخصصة التقليدية والتفضيل المجرد من التفكير لمفاهيم الإقليم القائمة على سيطرة الدولة.
ولكن إذا كانت مناطق الحدود بدلا من أن تكون تمييزا للثبات واليقين والاستقرار والتعارض، ينظر إليها بوصفها مولدا للسيولة والغموض والبنائية المتبادلة؛ فقد يتساءل المرء أين تقع حدود المناطق الحدودية؟ إحدى الإجابات هي «ليس في أي مكان». وفي مقال «العرق، والحيز، وإعادة استحداث أمريكا اللاتينية في شيكاجو المكسيكية» (1998)، يرى نيكولا دي جينوفا جميع سمات الحدود في الوسط. «تزداد صعوبة تخيل أن أمريكا اللاتينية (والمكسيك و«العالم الثالث») تبدأ فقط عند الحدود ، وتزداد ضرورة إدراك التخوم ذات الطابع العرقي لحيز دولة الولايات المتحدة المتفجرة داخليا في أعماق خريطتها الإقليمية». ويرى أن الحد هو «كل مكان» داخل الولايات المتحدة (1998، 106)؛ ومن ثم أيضا فهو «كل مكان» داخل الحيز الإقليمي للمكسيك. ولكن هذه ليست أطروحة حول «اختفاء» التخوم، بل تخطيط ل «تكاثرها وانتشارها» على مدى المساحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إنها، في الأساس، أطروحة حول الحيز الاجتماعي ذاته، وإذا كانت الحدود المكسيكية-الأمريكية توجد في مواقع متعددة على امتداد حيزي الولايات المتحدة والمكسيك، فقد يكون بالإمكان دراسة مواقع حدود الولايات المتحدة-جوانتانامو، أو الحدود الباكستانية-الكندية، أو الحدود الأمريكية-الأفغانية. وقد يكون بالإمكان أيضا دراسة ظواهر إقليمية مثل الحدود الهندية-الباكستانية مثلما قد تقابل على نحو مختلف في لندن، أو مدينة الكويت، أو لوس أنجلوس. وربما نكون هنا قد واجهنا الانعكاس - أو الانحراف - التام للتفسيرات التقليدية للإقليم.
ولكنه ليس كاملا تماما؛ فمن الموضوعات المهمة الأخرى لدراسات الحدود التي تحيد عن الآراء التقليدية، التركيز على آثار الحدود والإقليم على «الحياة اليومية» وعلى الخبرات المجسدة، وهو ما يبدأ في تسليط الضوء على التخوم المعقدة بين «الدولة» و«المواطن»، أو بحسب تعبير ويلسون ودونان: «كيفية معايشة الناس مفهومي الأمة والدولة في حياتهم اليومية على الحدود الدولية» (1999،
xiii ). ويعبر عن الاتجاه نحو «الحياة اليومية» فيما يتعلق بنظرية العلاقات الدولية من قبل مايكل نيمان الذي يذهب إلى أن «الخبرات المعيشة - بعيدا عن كونها بقايا تخلفت بعد أن كشفت مكائد «السياسة الكبرى» نفسها - هي مكونات بالغة الأهمية للعلاقات الدولية، وفهمنا النظري للمجال سوف يظل منقوصا إلى أن يجري دمج خبرات الحياة اليومية » (2003، 115). أو بحسب تعبير روكسين دوتي في مقال «البقاع الصحراوية: إدارة الدولة في الأماكن النائية»: «يوجد بشر ربما لم يسمعوا من قبل قط بمصطلح إدارة الدولة، ولكن حياتهم مقحمة بعمق في هذا اللاشيء، في هذه العملية، في هذه الممارسة، في هذه الرغبة التي تشغل وعي رجال الدولة وباحثي العلاقات الدولية بعمق بالغ» (2001، 526). وتردف قائلة: «إن هؤلاء الناس وأحلامهم يعرقلون مشروع إدارة الدولة ، ذلك المشروع الذي يتطلب تخوما واضحة تستدعي حسا آمنا بمعرفة من «نحن»» (ص527). «إن هؤلاء الناس لديهم علم بالصحاري والظمأ والحر الخانق، ويعرفون أن الحدود تعني كل شيء ولا شيء. فالحياة توجه ضربات عنيفة إلى حدود العالم؛ مما يقيد حوافها» (ص538). في هذا المقام قد يتبادر إلى الذاكرة أن أعداد المكسيكيين الذي يموتون أثناء عبور الحدود كل عام، يفوق أعداد الجنود الأمريكيين الذين قتلوا في العراق قبل إعلان «النصر» في مايو 2003. ويكتب آشيل ميمبي يقول: «بالنسبة إلى الإقليم، فهو في الأساس نقطة تقاطع لأجسام متحركة، ويعرف أساسا بمجموعة الحركات التي تحدث بداخله. وبالنظر إليه على هذا النحو، فإنه إذا مجموعة من الاحتمالات دائما ما كانت الجهات الفاعلة التابعة للدولة القائمة تاريخيا تقاومها أو تدركها» (2000، 261).
ربما يمكننا أن نرى كلا من الانهيار المطلق للمفاهيم التقليدية للإقليم، والفاعلية المتواصلة لممارسات الدولة القائمة على أساس هذه المفاهيم فيما يتعلق بالأجسام والذاتية المجسدة؛ بالشعور بتأثيرات العطش والحر، بكونك تطارد، وتؤسر، وتعتقل، وتسلم. ويكتب ويلسون ودونان عن «تلك القوى التي تحدد الحيز الجغرافي والسياسي كخطوط على الخريطة تنقش في ذات الوقت طبوغرافية الجسد» (1999، 129). والمراقبة الشرطية لتدفق البضائع والأفراد «قد تنطوي أيضا على عمليات تفتيش من نوعية أكثر شخصية وتفصيلا وفي أشد الحالات تطرفا، قد تتضمن مثل هذه العمليات التفتيشية للشخص «تفتيشا ذاتيا عاريا». وهذا يتطلب نزع الملابس من أجل فحص مفصل، بل فحص الجسد ذاته» (ص130).
إن مثل هذه الممارسات تعزز فكرة أن نقاط التفتيش الحدودية والمنافذ الجمركية هي مساحات حدية؛ مساحات يتوقف بداخلها سريان العادات الغربية المألوفة للاحتكاك الجسدي ... إنها مساحات حدية تكون سلطة الدولة في نطاقها مطلقة، ويمكن فرضها حتى على أجسادنا؛ تلك العناصر الأكثر ذاتية من كياننا. وفي التحليل الأخير، حتى أجسادنا لا تصبح ملكا لنا في مثل هذه المواقع؛ إذ يستعاض عن إدارتنا لها بالسلطة الخرقاء للدولة التي يمكن أن تتجلى هناك. (ص131)
ويردفان: «تصبح تخوم الجسد مماثلة لحدود الأمة والدولة القومية؛ فلكتاهما عرضة للاختراق والإتلاف من الخارج، وقابلة للتعرض للمرض والاعتداء الخارجي على التوالي » (ص136). وهنا نرى كيف أن الأقاليم الكلية لنظرية العلاقات الدولية و«أقاليم النفس»، خاصة «غلاف» جوفمان، قد تتداخل كل منها مع الأخرى، حتى لو لم تكن كل واحدة منها نسخة من أخرى. (3-5) العولمة
تعد نظرية الحدود، ونظرية الثقافة، والجغرافيا النقدية، والنظرية ما بعد البنائية للعلاقات الدولية جميعا، من نواح عدة، استجابات (أو جوانب) للارتباطات المتعددة الاختصاصات والأوسع نطاقا مع العولمة. وتفهم العولمة في هذا المقام باعتبارها مجموعة من العمليات، وكمجموعة من أساليب الخطاب حول الظروف المتغيرة في العالم. وكما هي الحال مع الموضوعات والأفكار الأخرى محل النقاش في هذا الفصل، فإن العولمة مفهوم محل جدل شديد (براولي 2003؛ سكيماتو وويب 2003). فالعولمة على المستوى الأبسط والأقل جدلية تشير إلى «المستوى التوسعي، والضخامة المتنامية، والتأثير التسريعي والتوسعي لتدفقات وأنماط التفاعل الاجتماعي العابرة للقارات. إنها تشير إلى تغير أو تحول في مستوى التنظيم البشري الذي يربط المجتمعات البعيدة ويوسع نطاق علاقات السلطة عبر مناطق وقارات العالم» (هيلد وماكجرو 2002). وينصب الاهتمام على تلك العمليات التي أصبحت من خلالها الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المتنوعة، التي كانت حتى عهد قريب فعالة ومؤثرة على نطاقات محلية أو قومية أو إقليمية - منتشرة انتشارا كليا (تقريبا) على مستوى الكوكب. وتشمل هذه العمليات كل شيء من الإنتاج الصناعي إلى الهوية الثقافية، من الوعي القانوني إلى المطبخ، من المعاملات المالية إلى الحركات الاجتماعية، من غرف الدردشة إلى الجماعات شبه المسلحة. والعولمة، إذ ينظر إليها على هذا النحو، تؤدي إلى نزع الطابع المحلي، أو حل الارتباط بين الظواهر الاجتماعية والموضع أو «المكان». وبينما تخضع أسباب ونتائج وتاريخية العولمة للجدل، يلاحظ عادة أن اشتدادها في أواخر القرن العشرين قد تيسر بفعل التغيرات المؤثرة في تقنيات النقل والاتصال، لا سيما السفر الجوي والإنترنت. ولكن فيما يتعلق بأهدافنا، فإن الأكثر أهمية هو أن العولمة أيضا عادة ما تعد مؤدية للاأقلمة؛ بعبارة أخرى، الظواهر الاجتماعية التي كان من المفهوم أنها محتواة أو مقيدة من قبل الهياكل الإقليمية (القومية في العادة)، لم تعد الآن محاطة بالسهولة نفسها من جانب هذه الهياكل. ومن هذا المنظور أوجدت العولمة «عالما بلا حدود» على نحو متزايد (أوماي 1999). وهذا، كما رأينا بالفعل، عالم يتسم ببروز التدفقات والشبكات التي لا تعرقل نسبيا بفعل الإقليمية. وإلى حد التلازم بين الإقليم والسيادة، تبدو العولمة أيضا مؤدية إلى زوال الدولة (كوزيمانو 2000؛ هدسون 1999). فيكتب يان آرت شولت، على سبيل المثال:
إن العولمة تضع الوجود الإقطاعي للنظرية الاجتماعية الحديثة موضع شك؛ فهذه الفرضية المستحكمة تؤمن بأن الحيز الاجتماعي مخطط في إطار الأماكن والمسافات والحدود داخل جغرافيا ثلاثية الأبعاد؛ غير أن العولمة تقدم نوعية جديدة من الحيز الاجتماعي، حيز غير إقليمي وغير ناء. لقد جعلت العولمة قضية تحديد الحدود أكثر إشكالية من أي وقت مضى؛ ولهذا السبب، توجد حاجة لخرائطية جديدة لا إقليمية للحياة الاجتماعية. (1996، 48-49)
ويتفق نيل برينر في الرأي على أن العولمة قد جعلت «السمات الأشبه بحاوية للدول إشكالية إلى حد كبير» (1999، 40)، إلا أنه في استقصاء عبقري للإقليمية في ظل هذه الظروف، يرفض القراءة الخاصة باللاأقلمة التي عادة ما يتضمنها هذا. ولعل من العناصر البالغة الأهمية لتحليله وجود تقدير مدروس لأهمية العمودية أو مستوى الإقليمية في العالم المعاصر؛ فهو يقول إن «العولمة تتطور تطورا متزامنا على مستويات جغرافية متشابكة عديدة؛ ليس فقط داخل الحيز العالمي، بل من خلال إنتاج وتمييز وإعادة تشكيل وتغيير المساحات العالمية الفرعية مثل الدول الإقليمية، والمناطق، والمدن، والمواقع المحلية» (ص44). وفي ضوء مناقشتنا السابقة للأجسام والحدود قد نلاحظ أن هذه ليست المساحات الوحيدة التي تتطور من خلالها العمليات المرتبطة بالعولمة. ويرى برينر التفسيرات التي مثل تفسير شولت كتعبير عن نوع من «الإقطاعية العالمية» التي «تمثل الحيز العالمي بأسلوب متمركز حول الدولة، وكحاوية إقليمية مفترضة سابقا تتطور بداخلها العولمة» (ص59)، وفي الواقع، ك «دولة إقليمية على نطاق كبير» (ص61). ومن العناصر المحورية لتحليل برينر الحجة القائلة بأن عمليات إعادة الأقلمة على مستوى ما أو في وقت ما توجب «عمليات إعادة أقلمة» على مستويات أخرى أو في أوقات أخرى (ص43).
إن إقليمية الدولة اليوم متراكبة ومتشابكة مع أشكال مكانية دخيلة متعددة على نحو متزايد ... لا يمكن وصفها وصفا وافيا كوحدات متجاورة ومتعارضة ومعزولة ذاتيا من الحيز ... فمؤسسات الدولة ... يعاد قياسها جذريا إلى أعلى، وإلى أسفل، وجانبيا في وقت واحد لخلق طبقات متعددة الأشكال للتنظيم الإقليمي للدولة. وفي ظل هذه الظروف، صارت الصورة الذهنية للحيز الاجتماعي العالمي كمجموعة معقدة من العقد والمستويات والنطاقات والتكوينات المتراكبة والمتداخلة، أكثر ملاءمة من النموذج الديكارتي التقليدي لوحدات الإقليم المتجانسة المتداخلة والمرتبطة بالمنظومة الحديثة التي تربط بين الدول. (برينر 1999، 69)
إذا «العولمة»، في منظور برينر، تشير إلى ظاهرة حقيقية ومعقدة لها آثار عميقة على أشكال معاصرة وناشئة للإقليمية، ولكنها لا توجب ظهور عالم «بلا حدود»، أو غير مؤقلم؛ فالأمر بعيد عن ذلك. وكما هي الحال مع قراءة دي جينوفا للحدود الأمريكية-المكسيكية، تدل العولمة على تكاثر وانتشار الحدود والأقاليم غير المتجانسة وترابطها الانسيابي عبر مجموعة من المستويات. غير أن قبول هذه المفاهيم الأحدث للإقليمية من شأنه أن يجعل التحليل أصعب بكثير؛ فالإقليمية، من جانب مهم، هربت من قيود الإقليمية (المتمركزة حول الدولة) دون محو تلك الهياكل الموروثة. والإقليمية في القرن الحادي والعشرين هي منظومة لا محدودة من الحدود والقيود. (4) ملاحظات ختامية
إن هذا الدليل التقريبي للطرق التي تغير بها البحث العلمي للإقليم، يكشف عن أن موضوعا بدا في وقت ما بسيطا وواضحا قد أصبح معقدا ومحل نزاع نوعا ما. والشعور المتصاعد بالتعقيد هو، في جزء منه، نتاج مقاربات متداخلة الاختصاصات على نحو متزايد لدراسة الموضوع، ولا شك أيضا أنه انعكاس للتغيرات التي طرأت على أقلمة العوالم التي يقطنها الباحثون والمعلقون (والآخرون جميعا) ويحاولون فهمها؛ فالتحولات الاجتماعية المكانية الضخمة المرتبطة - على سبيل المثال - بعمليات الاستعمارية، والإمبريالية، والحروب العالمية، والحروب المحلية، والحروب الباردة، وتصفية الاستعمار، والتمدن، والنضال من أجل الحرية، والعولمة، والثورات التي لا تنتهي في مجال الاتصال والنقل؛ تكفل على نحو كبير عمليات إعادة التشكيل الإقليمي المتواصلة على جميع مستويات الخبرة والتحليل. ويبدو أن هذه التحولات تتطلب تدبرا وإعادة تفكير على نحو مستمر.
الفصل الثالث
الإقليمية البشرية وحدودها
(1) مقدمة
استعرضت في الفصل السابق مجموعة من المقاربات للإقليمية من بعض التخصصات المعرفية المهمة، وأشرت إلى النزعة الحديثة لتحرير الموضوع من قيود هذه الرؤى المتخصصة، وغاب عن ذلك البيان أي مناقشة للمعالجة المطولة الأهم على نحو استثنائي للموضوع، وهي كتاب روبرت ساك «الإقليمية البشرية: نظريتها وتاريخها» (1986). ومن الإنصاف أن نقول إن كتاب «الإقليمية البشرية» ليس له مثيل في مجاله، ومحور تركيزه، وطموحه التحليلي، ويظل من أوجه عدة لا نظير له، بل إنه كان معتمدا على مدى أقل من 15 عاما بعد نشره ك «نص كلاسيكي» في الجغرافيا البشرية وإلهام إبداعي للباحثين اللاحقين (أجنيو 2000؛ باسي 2000ب). وخلافا لمعظم الأعمال التي تناولت موضوع الإقليم من قبله، كان أسلوب تناول ساك متعدد الاختصاصات على نحو قوي؛ إذ اعتمد على الأنثروبولوجيا، والاقتصاد، والتاريخ، والنظرية السياسية، وعلم الاجتماع ومجال تخصصه الأساسي وهو الجغرافيا البشرية. قد يكون من المهم أن نذكر أنه على الرغم من أن ساك قد وضع عمله وسط المجالات الفرعية للجغرافيا الاجتماعية والجغرافيا التاريخية، فإنه لم يفعل هذا فيما يتعلق بالجغرافيا السياسية، ذلك المجال الفرعي الذي كان حتى ذلك الوقت معنيا على نحو محوري بقضايا الإقليم. ربما كان المقصود من ذلك إشارة إلى التحرر، ولكن ربما أيضا كان - كما سأناقش على نحو أكثر استيفاء فيما يلي - دلالة على غياب نسبي للاهتمام بالعنصر السياسي في كتاب «الإقليمية البشرية».
من بين مواطن القوة الأساسية لكتاب «الإقليمية البشرية» قابليته الانسيابية للتطبيق على كل مستويات الواقع الاجتماعي، من الشخصي إلى الدولي. ثمة سمة أخرى قد تكون بالنسبة إلى البعض موطن قوة، ولكنها بالنسبة إلى البعض الآخر موطن ضعف؛ هي حياديته الصريحة الواضحة فيما يتعلق بالنظريات الاجتماعية. يشتهر الكتاب أيضا بطابعه التاريخي العميق. والواقع أن كتاب «الإقليمية البشرية»، كما يشير العنوان الفرعي، يعنى بتدفق (أو توقف) الزمن تقريبا مثلما يعنى بتنظيم الحيز الاجتماعي. يعرض كتاب «الإقليمية البشرية» عددا من القصص التاريخية التي تستكشف استمراريات وتحولات الهياكل الإقليمية. ومن الموضوعات المهمة التي تنظم الكتاب الحداثة وتميزها في مقابل حقبة ما قبل الحداثة . وفيما يتعلق بهذا الموضوع، ومن خلال قراءة «الإقليمية البشرية» على مدى 20 عاما من العمل اللاحق على الموضوع، يندهش المرء من كم ما طرأ عليها من تغير. ومنذ وقت نشر «الإقليمية البشرية» مرورا بفترة تسعينيات القرن العشرين، أخضعت الحداثة ذاتها لنوعية مختلفة تماما من التحليل؛ فبدأ باحثون من جميع العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية تقريبا في تخيل الحداثة بطرق «غير» حديثة على نحو مميز؛ إذ يتخيلونها وكأن لها نهاية، إن لم تكن قد انتهت بالفعل. وقراءة «الإقليمية البشرية» من خلال منشور الاهتمامات بحقبة ما بعد الحداثة (أو ضبابها، على حسب وجهة نظر الفرد) من شأنها الكشف عن عدد من الافتراضات والالتزامات بشأن العالم وبشأن المعرفة التي يستند إليها الكتاب.
في الصفحات التالية سوف أعرض أولا نظرة عامة للكتاب فصلا فصلا. إن أي كتاب (بما في ذلك الكتاب الحالي) هو بالضرورة نتاج لزمنه ومكانه والتزامات مؤلفه. وفي النصف الثاني من الفصل سوف أبحث هذه الجوانب السياقية، لا كقيود أو مواطن قصور، ولكن لمجرد الإشارة إلى بعض من حدود «الإقليمية البشرية» مثلما تكشف عنها الصياغات اللاحقة للإقليم، كتلك التي نوقشت في الفصل السابق. وإذا كان كتاب «الإقليمية البشرية»، الصادر في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، إنجازا منقطع النظير لمساعدته إيانا في رؤية الإقليم، والنظر حوله وبداخله، فإن الاجتهادات الأحدث تمكننا من رؤية هذا المنظور ذاته في ضوء مختلف؛ فهي تتيح لنا التساؤل عما يتصدر المشهد وما يقبع في الخلفية، وما هو في بؤرة التركيز وما هو مهمش في وصف ساك. وينبغي أن يكون غنيا عن القول أن بحث أي عمل من داخل مجموعة مختلفة من الافتراضات لا يشكل في حد ذاته نقدا سلبيا، ما لم تتم مشاركة هذه الالتزامات البديلة؛ بل إن السمات التي قد تعد نقائص، من وجهة نظر ما، قد تكون هي ذاتها الميزات الأساسية التي تجعل عملا ما ذا جدوى وصلة مستمرتين. سوف أقصر ملاحظاتي فقط على نص كتاب «الإقليمية البشرية»، ولن أتعقب التطورات في إسهامات ساك اللاحقة والجوهرية في النظرية الجغرافية والاجتماعية والأخلاقية (سام 1997، 2003). بعد ذلك سوف أبحث الكتاب في إطار أربعة موضوعات ظهرت كموضوعات أقل أو أكثر محورية لمناقشات أكثر حداثة حول الإقليمية: طبيعة (طبائع) الحداثة، الخطاب والتمثيل، الهوية، السياسة. والسياسة، بالطبع، لا تعد في حد ذاتها شاغلا جديدا في الفكر الاجتماعي، غير أن السياسة أصبحت تفهم الآن على نحو مختلف في ضوء التساؤلات حول الحداثة، والخطاب، والهوية؛ وهذه الأمور، بدورها، تنعكس على الكيفية المحتملة لفهم الإقليم. علاوة على ذلك، إذا كان ثمة نقد عام واحد موجه إلى «الإقليمية البشرية»، فهو أنه في الوقت الذي يعد فيه مفهوم السلطة موضوعا محوريا - بل تعريفيا - تكون السياسة بأي معنى قوي شبه غائبة. (2) نظرة عامة
يأخذنا ساك في مقدمته داخل مجال الإقليمية، فيكتب قائلا: «إن المعرفة العلمية السابقة» حتى ذلك الوقت «لم تسلط الضوء إلا على حدود تلك الإقليمية فقط» (ص1). وبالرغم من كون هذا هجوما مبدئيا، فإنه لم يطلق أي ادعاء بأن كتاب «الإقليمية البشرية» يمكن أن يكون أكثر من «مسودة» ودعوة لمزيد من الاستكشاف. وبينما يتجاوز الكتاب حدود الهدف المتواضع المتمثل في تمهيد الطريق واستطلاعه، من المهم وضع هذا القيد المفروض ذاتيا عند دراستنا لاحقا لموضوعات وقضايا قد أغفلت من النقاش. وتكمن خطوته الاستهلالية، على نحو ملحوظ، في تمييز الإقليمية «البشرية» على نحو قاطع عن السلوك الإقليمي مثلما قد يلاحظ لدى الحيوانات غير البشرية (أو النباتات من هذا المنظور). وكما رأينا في الفصل الثاني، يقدم بعض المؤلفين الفرضية المضادة تماما. ومن ضمن السمات التي تجعل الإقليمية البشرية فريدة من نوعها لدى ساك، بعض الخصائص التي يعتقد على نحو شائع أنها تجعلنا بشرا على نحو مميز، مثل القصدية، والتواصل المعقد، والطبيعة التاريخية ذات النهاية المفتوحة، وبناء المؤسسات، وما شابه؛ فالإقليمية بالنسبة إلينا ليست «مدفوعة بيولوجيا، بل متأصلة اجتماعيا وجغرافيا» (ص2). وهذا ليس مجرد زعم بشأن الأصول، بل هو في الأساس زعم بشأن التفسير. وعلى عكس النظريات التي تشبه الإقليمية البشرية بالضرورات الغريزية أو البيولوجية، يرى ساك أن النظر «داخل» الإقليم يستتبع فحصه ودراسته داخل أطر مرجعية اجتماعية، أو تاريخية، أو ثقافية محددة؛ أي إن مهمة ساك هي نزع الصفات الطبيعية عن الإقليم. (2-1) المعاني
يبدأ الفصل الأول، «معنى الإقليم»، في تفسير وشرح مجال نظرية ساك وتاريخه على نحو أكثر استيفاء عن طريق التناقضات التعريفية، ويبدأ بتعريف تقريبي مبدئي. «الإقليمية بالنسبة إلى البشر استراتيجية فعالة للتحكم في الأشخاص والأشياء عن طريق التحكم في المساحة» (ص5). إنه مفهوم علائقي بالضرورة؛ إذ يتعلق بتحكم الأشخاص في الأشخاص، وهو يرتبط على نحو معقد بالسلطة (التحكم). إنه مفهوم استراتيجي. وهكذا فإن من بين الأهداف الأساسية للكتاب «تحليل المزايا والمساوئ المحتملة التي يمكن أن تجلبها الإقليمية» (ص5). وفي التعبير عنها على هذا النحو تبدو الإقليمية معنوية فيما يتعلق بما إذا كانت المزايا والمساوئ تعود إلى الأشخاص المسيطرين أم إلى الأشخاص محل السيطرة. يطرح ساك أيضا الموضوعات المهمة المتعلقة بالتاريخ والحداثة، فمن خلال مجموعة من الدراسات الزمانية يوضح أن «بعض الآثار الإقليمية عامة؛ إذ تحدث في أي سياق تاريخي وأي تنظيم اجتماعي، والبعض الآخر مقتصر على فترات وتنظيمات تاريخية معينة، وأن المجتمع الحديث فحسب هو الذي يميل إلى استغلال المجموعة الكاملة للآثار المحتملة» (ص6). ومن بين مزايا استكشاف الإقليمية فيما يتعلق بالحداثة أنها يمكن أن «تساعدنا على كشف معاني وتداعيات الحداثة والدور المستقبلي للإقليمية» (ص6). وعن طريق توضيح مركزية موضوع الحداثة، يتألف الفصل الأول من ثلاثة أمثلة توضيحية؛ أما أولها، والأكثر تفصيلا وإطنابا، فيبحث التغيرات في استخدام الإقليم بين شعوب التشيبيوا بوسط أمريكا الشمالية (أو بالنسبة إليهم)، من حقبة ما قبل الاحتكاك (ما قبل الحداثة) خلال فترة الاحتكاك مع الأمريكيين الأوروبيين وغزوهم. وأما المثالان الثاني والثالث، فيتعاملان مع أمثلة للإقليمية الجزئية في الحياة الحديثة؛ المنزل ومكان العمل.
تشتق العناصر الأساسية لاستخدامات التشيبيوا (إحدى القبائل الهندية الكبيرة في أمريكا الشمالية) للإقليمية، في مثال ساك، من عناصر البنية الاجتماعية واقتصاديات استخدام الموارد؛ فيصف التشيبيوا بأنهم لا يمتلكون بنية سياسية منظمة تشبه دولة حديثة، ويتركز تنظيمهم الاجتماعي حول «طوائف» مستقلة، وهم منغمسون على نحو كبير في أنشطة الصيد وجمع الثمار (وزراعة الكفاف في الجزء الجنوبي من منطقتهم) ومتساوون اجتماعيا. والمساواة هنا تشير إلى غياب التقسيم الاقتصادي القائم على الطبقة الاجتماعية؛ أما المحاور الأخرى للامساواة، كتلك الخاصة بالسن أو النوع أو العشيرة، فلا توضع في الاعتبار. فقد كان شعوب التشيبيوا في فترة ما قبل الاحتكاك «إقليميين إلى أدنى حد» (ص7) بفهم ساك الخاص للكلمة.
تذبذبت المنطقة التي تشغلها شعوب التشيبيوا موسميا وعلى مدار السنين؛ فلم تكن إقليما محددا على نحو جلي في مقابل الشعوب الأصلية، ولم يكن يوجد أيضا أقلمة موسعة داخل مجتمعاتهم، حتى المساحات المخصصة للحدائق «لم تكن أقاليم مسيجة ومحددة تحديدا واضحا» (ص8). ويجب التنويه إلى أنه في ضوء التعقيد المحيط بأي نظام اجتماعي، ربما كان يوجد جوانب للإقليمية لم ينتبه إليها ساك. ومع ذلك، تساعد هذه الرؤية للتنظيم الاجتماعي على تخيل العمليات التي قد تتشكل بها تعبيرات أكثر - أو مختلفة - للإقليمية؛ ففي تجربة فكرية يقدم ساك التغيرات التي تنشأ داخل وخارج البنية الاجتماعية لحياة التشيبيوا، مثل ندرة الموارد بالنسبة إلى الصيادين أو ازدياد التركيز على الزراعة، التي قد تخلق ظروفا قد يجد بموجبها بعض الناس أن من «الملائم» إحاطة الحقول بالأسوار، على سبيل المثال، أو استخدام الإقليمية على نحو أكثر كثافة؛ أو أن زيادة متخيلة في السكان تسفر عن الازدحام قد تؤدي إلى قواعد أكثر صرامة فيما يتعلق بتخصيص المساحات الخاصة بالحدائق. ويتقدم بالأمر قليلا فيطلب ساك من القارئ أن يتخيل أنه، تحت ظروف كهذه، «يمكن أن تخرج عائلة حاكمة مدعية حقها في استغلال بعض أو كل موارد المجتمع» (ص9). تحت هذه الظروف من تزايد التدرج الهرمي أو التصنيف الطبقي، «تكون الإقليمية آلية نافعة إلى أقصى الحدود للتأثير على ادعاءات العائلة الحاكمة» (ص9). والفكرة الأساسية وراء هذا التدريب التخيلي هي تعزيز الفكرة الأساسية المتمثلة في أن الحياة الاجتماعية والبنية الاجتماعية لا يمكن فصلهما عن الإقليمية. والواقع أنه بينما انطبق هذا النموذج على شعوب أخرى في حقبة ما بعد الحداثة، كان الأمر الأهم للتشيبيوا، وكذا لشعوب العالم الأصلية الأخرى، هو توافد غرباء يحملون أفكارا غريبة عن الإقليم، وعن التصنيف، والتواصل، وفرض السيطرة.
جاءت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي كان منشؤها في أوروبا، أو مستعمراتها على ساحل الأطلنطي، أو في المكسيك، في البداية بطريقة غير مباشرة نوعا ما؛ فقد أدى دخول الخيول والأمراض والشعوب الأصلية القادمة من الشرق والمشتغلة في صيد حيوانات الفراء لصالح السوق الأوروبية، وجماعة المستكشفين؛ إلى جلب تحولات وتغيرات عميقة على حياة التشيبيوا. ولم تكن هذه العوامل الوسيطة تحترم إقليمية شعب التشيبيوا على نحو واضح. وينحصر تخمين ساك هنا فيما إذا كانت هذه التغيرات قد أثارت إحساسا متزايدا بالملكية والسيطرة على مناطق الصيد. وبالنظر إلى أن شعوب الشرق الأصلية نفسها قد أرغمت على النزوح غربا بفعل الاستكشاف والاستيطان الأوروبي، حدثت تغيرات أخرى كان لها تأثير على الإقليمية. ومما كان في منتهى الأهمية الطرق المختلفة التي «تخيل» بها مواطنو الشرق العصريون الإقليم. وكما نعلم جميعا، كان يوجد تخيل أن الأرض التي أصبحت فيما بعد «أمريكا» قد «اكتشفت» بواسطة الأوروبيين. وعلى الرغم من أن الآخرين لم تكن لديهم أي فكرة عن أنهم كانوا رهن الاكتشاف، فقد ادعى العصريون في «عصر الاكتشاف» امتلاك ما لم يروه قط، أو حتى لم يكن لديهم مبررات للمعرفة بوجوده. وقد وثقت ادعاءات الملكية والسيادة بواسطة حكام الدول الأوروبية فيما يتعلق أحدهم بالآخر، وليس، كما في البداية، فيما يتعلق بالشعوب الأصلية، الذين يعرفون الآن على نحو جماعي ب «الهنود». ومن هذه «الادعاءات» آلت «المنح» للمستعمرين، ومن هذه المنح آلت منح فرعية أخرى للمضاربين والمستوطنين. ومرة أخرى، كانت هذه الادعاءات الإقليمية نسبية للمضاربين والمستوطنين، وربما كان هذا الأسلوب الجديد لأقلمة العوالم الحياتية لشعب التشيبيوا (وشعوب أخرى عديدة) سيظل خياليا أكثر منه واقعيا لولا الطرق التي فرضت بها هذه المفاهيم المؤقلمة ل «السيادة» و«الملكية» على الشعوب الأصلية. ويكتب ساك أنه «بجرة قلم، كان الأمريكيون المنحدرون من أصول أوروبية يصنفون الناس، ويقسمونهم، ويتحكمون بهم، بمن فيهم التشيبيوا، استنادا إلى موقعهم داخل الحيز فقط» (ص11). ولكن قد نلاحظ أن القلم لم يكن حاسما في ذلك بقدر بنادق المسكيت والسلع التجارية المصابة بعدوى الجدري. وفيما يتعلق بتغيرات الإقليم، يشدد ساك على عمليات وممارسات المسح والتقسيم والتقسيم الفرعي وخصخصة الأرض، إلى جانب تأسيس الأقاليم السياسية المحلية والحكومية والقومية باعتبارها الأكثر أهمية. وفي غضون فترة قصيرة نسبيا كان أثر نوعية مختلفة تماما من الإقليمية قد طبع على هذا الجزء من العالم.
ومن أجل توضيح أقوى للتناقض بين الممارسات الإقليمية الحداثية وما قبل الحداثية، يصحبنا ساك إلى منزل ومكان عمل معاصرين خياليين في ويسكونسن، التي تعد جزءا من موطن التشيبيوا. وبينما لا يوجد تطابق من الناحية العرقية بين الناس الذين نقابلهم هنا، فإنه لا يوجد سبب لافتراض أن بعضا منهم، على الأقل، ليسوا من التشيبيوا أنفسهم. في المثال الأول يقوم أب يجلس بالمنزل بأعمال البيت، بينما يحاول طفلاه الصغيران «المساعدة» بغسل الصحون، وهي المهمة التي تتجاوز قدراتهما على نحو واضح. وفي ظل إدراكه نيتهما الطيبة وكذا عدم كفاءتهما - وتقديره لسلامة الآنية والصحون - يرى أن لديه اختيارين؛ بإمكانه أن يشرح لهما لماذا ينبغي ألا يفعلا ذلك، أو يمكنه ببساطة أن يعلن أن المطبخ «منطقة محظورة». ويمثل الاختيار الثاني الإقليمية كتأكيد للسيطرة على مساحة ما. كذلك يوضح هذا المثال حقيقة أن مكانا ما «يمكن أن يكون إقليما في فترة ما دون الأخرى» (ص16)؛ فقبل صدور الأمر الأبوي كان المطبخ مجرد غرفة، أما الآن، وبعد أن أصبح مشمولا بحظر، فهو إقليم. (غير أنك قد تتخيل استراتيجيات إقليمية أخرى أكثر صرامة، مثل حبس الطفلين في حجرة صغيرة، أو طردهما إلى الشارع.) وعلى الرغم من أن جزءا من هذا المثال التوضيحي هو المقارنة بين الحداثي وما قبل الحداثي، فبمقدورك أن تتخيل آباء التشيبيوا في حقبة ما قبل الاحتكاك يأمرون أبناءهم بالابتعاد عن حيز ما ذي حدود واضحة.
يصف المثال الأخير في الفصل الأول مكان عمل يلزم فيه السكرتير بالبقاء في «وحدة العمل» المخصصة له. ربما تكون لديه الحرية في التنقل من آن لآخر عبر الأروقة، أو دخول غرفة تناول القهوة أو الغرفة المخصصة للرجال (والمهاجع)، ولكن ليست لديه الحرية لدخول المكاتب. ولو أنه أساء استغلال امتيازات التحرك المخولة له، لنقل، بالتسكع في غرفة البريد، لكان من الممكن أن يتعرض لعقوبة إقليمية صارمة؛ تتمثل في فصله من مكان العمل بإنهاء خدمته. «إن الإقليمية بالنسبة إلى السكرتير تعد بمنزلة قيد مادي» (ص17)؛ فبعد الساعة الخامسة يصبح المبنى، فعليا، منطقة محظورة لمعظم العاملين، غير أن الحارس قد يكون له حق الدخول إلى كل غرفة في المبنى. ولكن قد تتخيل هنا أن الأقاليم الجزئية لأدراج المكاتب والأظرف تظل خارج نطاق عتبة الاستكشاف؛ ويعد هذا، من أوجه عدة، تشكيلا إقليميا حديثا نموذجيا تتحدد فيه حرية الدخول بالرجوع إلى مجموعة من الأدوار والقواعد، ومفاهيم الملكية والسلطة، ومفاهيم محددة ثقافيا للزمن المتري.
يختتم الفصل الأول بتعريف أكثر استيفاء للإقليمية: «محاولة فرد أو مجموعة التأثير على الناس، والظواهر والعلاقات أو التحكم بها، عن طريق تحديد وتأكيد السيطرة على مساحة جغرافية ما» (ص19). وهنا أيضا يميز ساك الإقليم عن المفاهيم المتصلة به الخاصة ب «المكان» و«المنطقة»، ويشير إلى الفروق الدقيقة في مفهومه؛ فيشير، على سبيل المثال، إلى أن الأقاليم يمكن أن تتغير ويمكن أن تظهر بدرجات؛ فنجد أن «سجنا على أعلى درجة من التأمين أكثر إقليمية من زنزانة في سجن إقليمي، يكون بدوره أكثر إقليمية من غرفة في منزل في مركز لتأهيل السجناء» (ص20). يبدو أن قوة الإقليم هي إحدى وظائف قوة السيطرة أو السلطة. (2-2) النظرية
يعد الفصل الثاني، وهو بعنوان «النظرية»، هو الجزء الأكثر أصالة ونفعا من هذا الكتاب؛ فهذا الجزء، الذي يعد إطارا تحليليا أكثر منه نظرية في حد ذاته، يعمل كدليل مجالي أو «مرشد» لرؤية نتائج أو عواقب العمليات الإقليمية. ومرة أخرى يتأسس الإطار بطريقة معينة بحيث لا يتقيد بأنواع معينة من الإقليم مثل الدول القومية، أو الغرف، أو الدوائر الانتخابية. كذلك يتصل معنى «النظرية» بحيادية ساك الصريحة فيما يتعلق بالنظريات الاجتماعية الأخرى، التي كانت بارزة آنذاك، خاصة تفسيرات فيبر للتنظيم الحديث والماركسية الجديدة. ويعرض ساك نظريته كنظرية «تجريبية ومنطقية» (ص28)، ويعقد قياسات تمثيلية تجريبية مع التنظير في العلوم الاجتماعية؛ ولكن نظرا لأن آثار الإقليمية «تتعلق بالأشخاص، وليس بالذرات، فإن المسمى الأكثر ملاءمة لها هو «أسباب» أو دوافع محتملة، أو «عواقب أو نتائج» محتملة، للإقليمية» (ص28). وهذا مهم ليس فقط من أجل مهمة إزالة الصفات الطبيعية عن الإقليمية البشرية، ولكن أيضا - كما سأناقش لاحقا - من أجل تبرير الافتراضات التي توضع بشأن البشر، لا سيما ميلنا العقلاني المؤثر نحو العالم، وميل أحدنا نحو الآخر. ومما يمثل أهمية أيضا اعترافه بأنه في الوقت الذي قد يشير فيه ضمنا وقوع هذا السلوك الإقليمي أو ذاك إلى المعيارية أو إلى قضايا أخلاقية، فإن الإقليمية «في حد ذاتها» محايدة معياريا؛ فمن الممكن استخدامها لأهداف (أسباب) خبيثة، أو حميدة، أو محايدة أخلاقيا. إذا فلا بد أيضا أن تجاهد النظرية من أجل الحفاظ على الحيادية الأخلاقية والسياسية والأيديولوجية. «إن النظرية ذاتها لن تقدم إجراءات يمكن بمقتضاها الحكم على فعل ما، استنادا إلى حيثياته، بأنه جيد أو سيئ» (ص31). وهذا بالطبع ليس من شأنه أن يمنع المرء من تطبيق إطار ساك من أجل تفسير أو تطوير المزاعم المعيارية.
تتألف «البنية الذرية» (ص29) للإقليمية من 10 «ميول» و14 «مجموعة أساسية» من الميول ينظر إليها بوصفها نتائج محتملة للاستراتيجية، وأي مثال للإقليمية يمكن تحليله فيما يتعلق بوجود أو غياب هذه المكونات أو أهميتها النسبية. وقد قدمت الميول الثلاثة الأولى بالفعل؛ فهي جزء من التعريف: التصنيف وفقا للمنطقة، والتواصل، وفرض السيطرة. وتعطى الميول أرقاما من أجل وضوح العرض. والميول التعريفية (1، 2، 3) موجودة دوما، أما الميول السبعة «المحتملة» (4-10)، فهي أكثر عرضية. (1)
في تفصيله بشأن «التصنيف وفقا للمنطقة» يؤكد ساك على مميزات إعلان منطقة ما محظورة مقارنة بحصر جميع الأشياء داخل الإقليم المحظور الوصول إليها. وهكذا يمكن أن تكون الإقليمية استراتيجية تعميمية؛ ومن ثم قد تكون استراتيجية أكثر ملاءمة أو فاعلية للاستخدام. بالطبع، كما سنرى، يتعلق التصنيف وفقا للمنطقة بما هو أكثر بكثير من إقامة مناطق «ممنوعة» أو حظر الوصول إلى الأشياء الموجودة داخل الحيز. (2)
ثمة ميل أو «سبب» أساسي ثان للتصرف على نحو إقليمي، هو أنه من خلال استخدام الحدود، يصبح «التواصل» أكثر سهولة. (3) «يمكن أن تكون الإقليمية هي الاستراتيجية الأكثر فاعلية في «فرض» السيطرة» (ص32). مرة أخرى، ينصب التركيز على مميزات الاستراتيجيات الإقليمية على الاستراتيجيات غير الإقليمية في تفعيل الوصول إلى الأشياء أو الموارد. والمثير في الأمر أنه بالنظر إلى دوافع ساك الواضحة المناهضة للتطبيع، تشير الأمثلة المستخدمة في توضيح هذا الميل إلى السلوك الحيواني وليس الأشكال البشرية للسلطة. (4) «توفر الإقليمية وسيلة «للتجسيد المادي» للسلطة» (ص32). فحيث إن السلطة الاجتماعية لا تكون مرئية أو محسوسة دائما، قد يكون من آثار الإقليمية جعلها تبدو على هذا النحو؛ فالإقليم، من خلال علاماته المادية الدالة عليه مثل الأسوار والبوابات وحرس الحدود وما إلى ذلك، يمنح بعض أشكال السلطة مرجعا ماديا في العالم. (5) «يمكن استخدام الإقليم من أجل «إزاحة» الانتباه عن العلاقة بين المسيطر والمسيطر عليه» (ص33). ومثل الميل نحو التجسيد المادي، قد يكون من تأثير هذا الميل التعتيم على الجوانب الاجتماعية للسلطة. (6)
على نحو متصل، «يساعد الإقليم على جعل العلاقات «مجردة»» (ص33)، من خلال تقنية تطبيق القواعد على الأماكن (والأدوار الاجتماعية). وتحت بعض الظروف يمكن أن يؤدي الإقليم إلى إضفاء الغموض على العلاقات الشخصية. ويضرب ساك مثالا لحارس سجن مسئول عن السجناء في مجموعة بعينها من الزنزانات بصرف النظر عن هوياتهم، وليس عن كل سجين كفرد مهما كان مكانه. بالمثل، عادة ما تتحدد العضوية (والحقوق) في مجتمع سياسي ما بمحل الإقامة داخل إقليم ما. (7)
يحدد ساك «وظيفة إجلاء المكان» للإقليم، ويعد هذا ادعاء خفيا (أو غامضا) نوعا ما. وفيما يبدو أن ما يشار إليه هو أنه في ظل بعض الظروف يمكن أن يبدو الإقليم «وسيلة عامة، ومحايدة، وأساسية يقام بها مكان ما» (ص33). ومثاله على ذلك حقوق الملكية في الأرض. (8) «تعمل الإقليمية (أو ربما لمزيد من الدقة: الإقليم) بمنزلة حاوية أو قالب للخصائص المكانية للأحداث» (ص33). ووظيفة هذه الحاوية (أو حتى وظيفتها «الظاهرية») شديدة الأهمية لتحديد نطاق ظواهر مثل السلطة السياسية والسيادة والحقوق والمسئوليات، كما أنها تلعب دورا مهما في وضع تعريفات مكانية للهوية. (9)
الإقليمية، في ظل ظروف معينة، لا سيما تلك المرتبطة بالحداثة، «تساعد على خلق فكرة «الحيز القابل للإخلاء اجتماعيا»» (ص33)؛ أي إن تصور أجزاء من الحيز الاجتماعي كأقاليم أو حاويات مكانية من شأنه تيسير إمكانية وضع تصورات لهذه الأجزاء باعتبارها أجزاء «ممتلئة» أو «خاوية»؛ ومن ثم فإن مساحة شاغرة أو «منطقة مشاع»، بينما لا تكون خالية من المحتويات المادية بالمعنى الحرفي للكلمة، يمكن النظر إليها على هذا النحو، وهذه التصورات يمكن، بدورها، أن تشكل السلوك. (10)
الأقاليم تكاثرية. «الإقليم يمكن أن يساعد على توليد مزيد من الإقليمية» (ص34). وهذا التأثير التكاثري - الذي يتحقق، لنقل، من خلال التشعب أو الدمج - مهم على نحو خاص فيما يتعلق بالتشكيل الإقليمي للتسلسلات الهرمية.
تمثل هذه «الميول» العشرة المقدمة هنا في شكل قائمة كما في كتاب «الإقليمية البشرية»، نتائج مهمة؛ البعض منها واضح نوعا ما، بل تعريفي، والبعض الآخر يعبر عن رؤى استبصارية أحدث لآليات الإقليمية. وكل منها مجرد وخفي نوعا ما. وهذا التجريد يعد ميزة وأساسا لنفعية النظرية، وكل منها ينظر إليه كمورد أساسي يجري بواسطته تحليل العواقب المحتملة للإقليمية في أي سياق اجتماعي نواجهه أيا ما كان. أما الخطوة التالية في النظرية، فهي دراسة مجموعة صغيرة من توافقات (مجردة بالقدر نفسه) من هذه الميول من أجل رؤية أوضح للتفاصيل الأدق للإقليمية.
توافقات أساسية
من خلال تفسير ما يعتبره ساك «توافقات أساسية»، يلفت انتباهنا إلى بعض من «العلاقات المتبادلة المنطقية بين الميول» الأكثر أهمية (ص34) ونتائجها أو استخداماتها العملية. وبقدر أهمية القصدية للإقليم كاستراتيجية، يلاحظ أن بعضا من نتائج هذه التوافقات الأساسية (أو أي منها في موقف معين) قد يكون غير مقصود من وجهة نظر المسيطر. ومثل الميول العشرة، تعرض التوافقات الأساسية الأربعة عشر في شكل قائمة، ومعرفة كما يلي: (أ)
جميع الميول يمكن أن تدخل في تكوين «التسلسلات الهرمية المعقدة»؛ على سبيل المثال: التصنيف (1)، والتواصل (2)، وفرض السيطرة (3)، والعلاقات المجردة (6)، والقولبة (8)؛ «يمكن أن تراعي الدائرة الهرمية المتدرجة للمعرفة والمسئولية، وللعلاقات المجردة وقنوات التواصل المحدودة، التي تعد جميعا مكونات أساسية للبيروقراطية» (ص36). وبالنظر إلى الوجود المطلق للمؤسسات البيروقراطية في الحياة الحديثة - من الهياكل السياسية إلى أماكن العمل، والمؤسسات الدينية، والمدارس - فإن هذا يشير إلى أن الإقليمية أكثر تغلغلا وانتشارا على نحو شاسع مما كان الباحثون يفترضون حتى ذلك الحين. (ب)
تؤثر إقليمية المؤسسات الهرمية المعقدة على «توزيع المعرفة والمسئولية داخلها»، وكذلك تيسر تقسيم وظائف التخطيط القصير الأجل والطويل الأجل. وعموما، كلما ارتفع «مستوى» السلطة داخل مؤسسة ما، اتسع النطاق المكاني للمعرفة والمسئولية. والمستويات الأعلى تفترض مهام تخطيط طويل الأجل، والمستويات الأدنى قد تنفذ هذه المهام فحسب. (ج)
في «المستويات العليا لتسلسل هرمي ما» (ص36) قد تستخدم الأقاليم لتحديد علاقات المرءوسين من خلال استخدام التصنيف (1)، والفرض (3)، والقولبة (8)، والعلاقات المجردة (6). وفي هذا المقام يميز ساك بين «التعريفات الإقليمية للعلاقات الاجتماعية» (كما في المجتمعات السياسية الحديثة)، وبين «التعريفات الاجتماعية للعلاقات الإقليمية» (كما في مثال التشيبيوا في حقبة ما قبل الحداثة). (د)
بالنظر إلى العلاقة بين الإقليمية الهرمية والميل إلى تطوير دائرة المعرفة، فإن من بين النتائج المترتبة حدوث زيادة في كفاءة الإشراف على المرءوسين. وفي هذا المقام يقدم ساك مثالا توضيحيا آخر يتعلق بالسجناء والحرس: «تقييد تحركات السجناء بوضعهم في زنزاناتهم يسهل مهمة الإشراف عليهم عما إذا سمح لهم بالتجول بحرية داخل السجن» (ص37). (ه)
ثمة مجموعة أساسية أخرى تتعلق بالتغيير، وهي تلك التي تولد إحساسا ب «الحيز القابل للإخلاء مفاهيميا». «إن العلم، والتكنولوجيا، والرأسمالية تجعل فكرة تكرار وفعالية «الإشغال» و«الإخلاء» ونقل الأشياء داخل الأقاليم من جميع المستويات فكرة عملية. والإقليمية تعمل بمنزلة آلية لجعل الحيز قابلا للإخلاء والإشغال» (ص37-38). ويعد التجريد من العناصر المهمة لهذه القدرة على إعادة التخيل. (و)
إن إمكانية اتخاذ الأقاليم ما يطلق عليه ساك خصائص سحرية، تنبع من توافق بين ميول التجسيد المادي (4) والإزاحة (5). لعل من الطرق الأخرى للتعبير عن هذا هو القول بأن الأقاليم يمكن أن تتجلى في تعمية السلطة؛ ففي سياق حديث ما، يكون «الإقليم مظهرا ماديا لسلطة الدولة، ولكن الولاء للإقليم أو الموطن يجعل الإقليم يبدو مصدرا للسلطة» (ص38). (ز)
قد ينجم تأثير كل من التباين والتأثير الجانبي عن تعيين حدود المعرفة والمسئولية على نحو خاطئ (تحقيقا لأغراض المسيطر). وتبدو هذه التأثيرات عواقب غير مقصودة لمؤقلمين على كفاءة أقل من التامة. (ح)
تساهم الإزاحة (5) والتكاثر الإقليمي (10)، المرتبطان نوعا ما بالإقليمية السحرية (ح)، في «التيسير على الإقليم كي يبدو الغاية للسيطرة والتحكم وليس الوسيلة» (ص39). (ط)
الإقليم يمكن أن «يخلق تفاوتات». (ي)
التوافقات المتعددة للميول تدخل في استراتيجية «التفرقة بين الخصوم أو المرءوسين، والتحكم فيهم». (ك)
ثمة خطأ إقليمي آخر - أو توزيع غير كفء - يتعلق ب «التعتيم على التباينات» بين الإقليم والأحداث، من خلال تخصيص المهام للمستوى غير الملائم من تسلسل هرمي إقليمي ما. (ل) «الإزاحة (5) والتكاثر الإقليمي (10) يمكن أن يصرفا الانتباه عن دوافع الصراع الاجتماعي بين الأقاليم» (ص39). وهنا يعرض ساك مثال الصراعات بين المدن والضواحي. (م)
توافقات الميول يمكن أن تؤدي إلى «التعتيم على التأثير الجغرافي لحدث ما» (ص39). والمثال على هذا قد يصبح جليا عندما يدرك الأشخاص مشكلة بيئية ما، بوصفها مشكلة «محلية» وليست قومية أو عالمية. (ن)
أخيرا، التوافقات المتنوعة قد تكون مؤدية لعملية «الانشقاق» أو ظهور المقاومة.
إن آلية «الميول» و«التوافقات» التي وضعها ساك معقدة على نحو لا يمكن إنكاره، واستراتيجيته للتجريد القصدي يمكن أن تعوق الفهم في بعض الأحيان؛ فالعناصر التي يشدد عليها غير جامعة بلا شك، والاختيار قد يبدو إلى حد ما اعتباطيا. ولكن هذه الأمور ما هي إلا مراوغات؛ فالفكرة عند النظر إلى النظرية كنوع من الدليل المجالي هي تمكين المحللين (وكذلك تمكين المسيطرين المرتقبين أو أولئك الذين سيقاومون السيطرة) من تحديد الآثار أو العواقب الأساسية المهمة التي تنتظر الإقليمية كاستراتيجية تحكم. وثمة ملاحظتان قد تكونان ملائمتين في هذا المقام؛ الأولى أن معظم الميول والتوافقات ترتبط بآليات الإقليمية في المؤسسات الهرمية المعقدة، وهذا أمر مهم نظرا لأن مثل هذه المؤسسات منتشرة في العالم الحديث وذات تأثير بالغ. ولكن قد يذهب أحدهم إلى أن الحياة الاجتماعية بها ما هو أكثر بكثير مما يمكن لهيكل المؤسسات البيروقراطية حصره، وربما يؤدي التركيز البالغ عليها إلى صرف الانتباه عن المظاهر، أو الاستخدامات، أو الخبرات الأخرى للإقليم. الملاحظة الثانية أن الكثير من الآثار ليس آثارا مباشرة للإقليمية «في حد ذاتها» مثل آثار الإقليم «على» الإدراك أو الوعي؛ فالإزاحة، والتجسيد المادي، والسحر، وقابلية الإخلاء، وغير ذلك تتعلق بكيفية تأثير الإقليمية على الكيفية التي نرى بها العالم، وكيفية فهمه وإساءة فهمه من جانبنا. بالطبع لا يمكن التقليل من أهمية هذه الوظيفة المعرفية الأساسية للإقليمية، ولعل أحد مواطن قوة كتاب «الإقليمية البشرية» يتمثل في توجيه انتباهنا إليها.
الجزء الثاني من النظرية ينبثق من الاعتراف بأن الإقليمية كظاهرة اجتماعية لا يمكن فصلها عن فهم أوسع للنظام الاجتماعي؛ أي عن علم الاجتماع أو النظرية الاجتماعية على نحو أعم. وينبثق كذلك من اشتراط ساك أن تكون نظريته محايدة فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي (وأن تكون نافعة بالاقتران به). وفي محاولة ساك توضيح توافق إطاره مع التفسيرات الأخرى للعمليات الاجتماعية الكلية، يستخلص صلات بعلم الاجتماع الفيبري والاقتصاد السياسي الماركسي الجديد. ولسنا في حاجة لقول إن هذه المحاولة لا يمكن أن تكون أكثر من محاولة إيحائية، ولم يخصص لكل منهما سوى بضع صفحات فقط. وفيما يتعلق بفيبر، فإنه يتناول الإقليمية في سياق الديناميكيات الداخلية للمؤسسات البيروقراطية، وفيما يتصل بالتمييز الفيبري بين الأشكال «التقليدية» و«الحديثة» للنظام الاجتماعي. وتتعلق الصلة الأساسية بالماركسية بالتوافقات الإرباكية للإقليمية الحديثة تحت ظروف الصراع الطبقي. وهذا الجزء من النظرية أقل جذبا وأقل صلة إذا ما عقدت مقارنة بينها وبين «البنية الذرية» المذكورة بإيجاز في الجزء الأول من النظرية. (2-3) التاريخ
يوسع الفصل الثالث، وهو بعنوان «نماذج تاريخية: الإقليمية والمكان والزمان»، نطاق تحليل العلاقة بين الإقليمية والنظام الاجتماعي من خلال استعراض بانورامي لسبعة آلاف عام من الوجود الإنساني. إن ساك على وعي بالمثالب المحتملة لهذا المشروع، وواضح بشأن الهدف المحدود المقرر أن يخدمه مثل هذا المشروع. لقد اتخذ التنظيم الاجتماعي البشري، في أعم لمحة موجزة له، ثلاثة أشكال: البدائي، والحديث ، والمتحضر غير الحديث. وفي هذا المقام لا يعمد ساك إلى شجب البدائية ولا الاحتفاء بالحداثة. بالمثل، يفصل روايته صراحة عن أي افتراض بشأن التقدم أو «المراحل» الأساسية للتطور الاجتماعي (ص53)، بل إن هدفه المحدد هو تحديد ما يعتبره سمات تشخيصية لهذه الأنواع المتعددة للتنظيم الاجتماعي البشري؛ نظرا لتعلقها باستخدام الإقليمية. ومع ذلك، فإن الاتجاهات الرئيسية التي يحددها، عند رؤيتها على نحو متسلسل، هي: (1) انخفاض في عدد الوحدات الإقليمية المستقلة، (2) زيادة في حجم مثل هذه الوحدات، (3) زيادة في التقسيم الفرعي أو تشرذم هذه الوحدات المستقلة الأكبر والأقل عددا (ص52). قد يجدر بنا أن نتساءل: لماذا تظهر «الاستقلالية» هنا كصفة رئيسية للإقليم أو النظام الاجتماعي؟ في المقام الأول، ليس واضحا تماما ما المقصود بالاستقلالية؛ وفي المقام الثاني، بموجب بعض مفاهيم التفرد وعلاقتها بالإقليم (على سبيل المثال: «غلاف» جوفمان الذي ناقشناه في الفصل الثاني)، من الممكن الدفع بأنه بالنظر إلى أن عدد سكان الأرض حاليا يفوق على نحو هائل عددهم قبل 7000 عام، ازداد عدد «الأقاليم المستقلة» على نحو مكافئ. وهذه نقاط صغيرة؛ فيبدو أن تركيز ساك هنا أضيق إلى حد ما من أي موضع آخر في الكتاب. وكما هي الحال مع التفسيرات الشائعة للحداثة، فإن العصر الحالي مميز على نحو شديد الوضوح عن عصر ما قبل الحداثة بوجود زيادة في تعقيد النظام الاجتماعي، وهذا التعقيد منعكس في الاستخدامات الجديدة للإقليمية ومدعوم بها.
الاقتصاد السياسي البدائي
اعتمادا على مصادر ثانوية إلى حد كبير، ينشئ ساك نموذجا مثاليا مجردا للبدائية. إن العالم البدائي، مقارنة بالحداثة، أقل تعقيدا بكثير، ويضم عددا أقل من الناس، ويشغل مساحة أصغر، وهو يميل نحو بنية اجتماعية «قائمة على المساواة» (ومرة أخرى، كما في مثاله التوضيحي للتشيبيوا، تدل المساواة ببساطة على غياب الطبقات الاقتصادية). ولما كان الأمر كذلك، لعب التبادل بين الأصدقاء المتآلفين دورا بارزا في العلاقات الاجتماعية. والتكنولوجيا والمعرفة متاحتان على نحو أعم نوعا ما أكثر مما هما عليه تحت مظلة الحداثة، والعلاقات بين الناس والمكان مشربة بدلالة روحانية أو سحرية. أما ظهور، أو شكل، أو قوة الإقليمية بين البدائيين، فهو متوقف بقوة على اقتصاديات الكفاف؛ حيث تستخدم لتوزيع الموارد بين أعضاء مجتمع ما. «يمكن توقع الإقليمية ببساطة لأنها من الممكن أن تكون آلية فعالة لإرساء إمكانية التكهن والثقل في المكان والزمان» (ص59)؛ أي إن إحدى نتائج استخدام الإقليمية بين البدائيين تولد درجة أكبر إلى حد ما من اليقين. يزعم ساك أيضا أن الإقليمية قد تكون حاضرة في مثل هذه المجتمعات تحت ظروف المنافسة «من الخارج» (ص60)، ولكن يبدو أن هذا يشير ضمنا إلى أن ثمة مفهوما ما للإقليم كامنا بالفعل بحيث يتيح تحديد هوية «الغرباء» وتمييزهم عن «المنتمين إلى الداخل». أيضا بالنسبة إلى الشعوب الأمية، يمكن للحدود الإقليمية أن «تعبر عن الملكية والسيطرة» (ص59) على نحو أكثر فاعلية من الوسائل غير الإقليمية.
ثمة جانب مهم لرؤية ساك الإقليمية البدائية يتعلق بممارسات التوزيع والتخصيص الجماعية وقواعد امتلاك الأرض؛ ففي مخططه العام، قد يخصص «المجتمع»، من خلال أي وسائل أو إجراءات، قطع أراض لأفراد العائلات الفردية التي يتألف منها المجتمع. قد يجوز استخدام قطع الأراضي المحددة، ولكن لا يمكن نقل ملكيتها لآخرين. ثمة نسخة أخرى من مهمة التخصيص هذه تظهر حين يجري تشغيل الأراضي على نحو جماعي. وكذلك يأخذ ساك في الاعتبار بعض النظم المختلطة: «إن استخدام البدائيين للإقليمية يدعم تنظيمهم الاجتماعي الأساسي؛ فحين يظهر الإقليم على مستوى المجتمع ككل، فإنه يستخدم لمنع غير الأعضاء بالمجتمع من الوصول إلى موارد المجتمع. وحين يستخدم داخل مجتمع ما، يكون هدفه هو تيسير عملية التبادل بإسناد مهام مختلفة ولكنها متسقة إلى الأفراد والأسر» (ص62 إلى 63).
لعل من غير الإنصاف أن نشير إلى أن قراءة انتقائية لأدبيات علم الأنثروبولوجيا لا يمكن أن تدعم مثل هذه التبسيطات، وتحول آلاف الثقافات «البدائية» عبر العالم وعلى مدى آلاف السنين إلى أنماط مثالية؛ فانتقاء روايات أخرى، كالروايات الأنثروبولوجية المذكورة في الفصل الثاني، من شأنه الكشف عن المزيد من الطرق المتنوعة والمعقدة على نحو هائل للاتصاف بالإقليمية؛ ولكن هدف ساك لا يكمن في بلوغ دقة إثنوجرافية عملية بقدر ما يكمن في مقارنة البدائية بصورة مميزة من حداثة ما بعد البدائية. وهنا تبدأ القصة الحقيقية، مع الأحداث المدمرة التي ميزت التحول من البدائية إلى التحضر، والدور الحاسم الذي لعبته الإقليمية في التعجيل بهذه التحولات.
التحضر
ما معنى أن تكون متحضرا أو أن تتحدث عن نظام اجتماعي بوصفه يحمل علامات التحضر؟ التحضر في نموذج ساك يعني تبوء نظام اقتصادي سياسي أكبر، وأكثر تجردا، وأكثر طبقية مما يتبوءه البدائيون. وانطلاقا من نموذج افتراضي للعمليات التي ظهرت بواسطتها الحضارات الكائنة (في مقابل العمليات التي قدمت بواسطتها «الحضارة» من الخارج وفرضت على الشعوب الأصلية)، يطلب منا ساك أن نتخيل مجموعة من المجتمعات البدائية المستقلة والمترابطة في الوقت نفسه وهي تمارس تبادلا تجاريا فيما بينها. على مدار الوقت تبدأ المجتمعات المختلفة في التخصص في إنتاج سلع تجارية معينة. وعلى الرغم من وجود عدد من النظريات التي تفسر الزيادة المتخيلة في الإنتاج في هذه الاقتصادات التجارية التي لا تزال بدائية، فإن ثمة حدثا محوريا من منظور ساك، وهو ظهور طبقة كهنوتية وما يترتب على ذلك من ظهور التقسيم الطبقي الاجتماعي؛ فالكهنة أو وكلاؤهم يتحكمون في فائض الإنتاج ويتولون عملية تخزينه وتوزيعه واستهلاكه؛ مما يعجل بتدهور المساواة الأكثر أو الأقل تبادلية المميزة للمجتمعات البدائية؛ ومن هنا يمكن لعملية التحضر أن تكتسب زخمها أو منطقها، وهذا يمكن أن يتبع عددا من المسارات المختلفة. وتتمثل العناصر الأساسية لهذه العملية في زيادة مركزية السلطة (التي ربما تكون محلية في مدينة بدائية)، والتمدن، ونشأة وترسخ طبقة من التجار، وأخيرا هيمنة المجتمعات الفرعية التابعة الواقعة بالقرب من المركز. والإقليمية الآن في طريقها لأن تلعب دورا مهما في «إدارة» المناطق الدافعة للجزية؛ مما يترتب عليه ظهور هياكل مميزة للحكم في الدولة، فتفرض المناطق الإدارية والسلطات المرتبطة بها على المنتجين القرويين والمجتمعات المحلية. ويأتي مع التحضر أيضا نوع من الإقليمية العمودية. والنقطة المهمة بشأن هذه المرحلة الوسيطة للتنظيم الاجتماعي، بالنسبة إلى نظرية ساك، هي أن التحولات في تاريخ الإقليمية لا يمكن فصلها عن التغيرات في تاريخ السلطة، لا سيما الأهمية المتزايدة لعلاقات السلطة المجردة. ومما يحويه هذا النموذج على نحو ضمني، دون تناوله صراحة، التغيرات الملازمة في تقنيات التواصل (الكتابة ومحو الأمية) والتقنيات القمعية.
الرأسمالية
من بين عشرات حضارات ما قبل الحداثية، «أوجدت واحدة فقط منها الرأسمالية والدولة الحديثة» (ص78). وكانت هذه هي حضارة أوروبا الغربية ما قبل الحداثية. الشيء الجديد والمهم هنا هو أنه في ظل الحداثة التي صدعتها الرأسمالية، نرى أن:
الاستخدام المتكرر والواعي للإقليم كأداة لتعريف، واحتواء وقولبة شعب مفكك وأحداث ديناميكية، يؤدي إلى شعور بحيز مجرد وقابل للإخلاء؛ فهو يجعل المجتمع يبدو مصطنعا، ويجعل المستقبل يبدو على نحو جغرافي كعلاقة ديناميكية بين الناس والأحداث من جانب، والقوالب الإقليمية على الجانب الآخر. هذا من شأنه أن يجعل الحيز يبدو وكأنه الشيء الوحيد المرتبط عرضيا بالأحداث (ص78).
مرة أخرى تعرض آليات هذا التحول العالمي التاريخي بأسلوب واضح وصريح؛ فهي متأصلة في التغيرات التي تطرأ على الظروف المادية، والسيطرة على الإنتاج، وأجهزة الهيمنة. والسلطة المتزايدة للتجار والبلترة (عملية الوصول إلى الوضع البوليتاري) التدريجية للعمل هي العمليات التوليدية. ومما يحظى بأهمية طاغية الأساليب التي يرغم بها المنتجون على المشاركة في اقتصاد السوق، الذي يجري التحكم فيه من قبل طبقة الرأسماليين الناشئة ولأجلهم، وعن هذا يكتب ساك قائلا: «تتمثل إحدى الوسائل التي يسيطر بها رأس المال التجاري في «تجريد» الفلاحين من الأرض حتى يتمكنوا من دخول السوق، مع ضمان عدم امتلاكهم خيار العودة إلى معيشة الكفاف أو المعيشة التقليدية حال فشل التجارة» (ص79).
على مدار الأجيال التالية حدث تحول حاد من الأسر باعتبارها الوحدة الأساسية ومركز التجارة إلى إنشاء المصانع التي لم يعد فيها للعمال أي سيطرة (ملكية) على وسائل الإنتاج (الأدوات)، وكانت تضبط وتنظم على نحو متزايد بمفهوم متري جديد للوقت. وأدى الفصل بين العمل والمنزل، بدوره، إلى تقسيم إقليمي معمق لمعظم جوانب الحياة الاجتماعية، وأهمية متزايدة للمؤسسات البيروقراطية الهرمية. هذه هي قصة ظهور العوالم الحياتية المفرطة الأقلمة المرتبطة بالحداثة، ومن بين العناصر الأخرى التي يذكرها ساك نشأة الدولة الليبرالية وأيديولوجياتها التسويغية للحيادية والحرية، وزيادة في حركة الأشخاص والأشياء، والدور الاجتماعي الأكثر بروزا للعلم والتقنيات الإبداعية. كذلك يرتبط العلم بعهد ساده التقدير الكمي والتجريد اللذان أوجدا بدورهما طرقا جديدة لإدراك المكان والزمان والإقليم. وأدى التوسع الجغرافي، من خلال الاستعمارية والإمبريالية، للقوى السياسية التي وجدت في البداية في أوروبا؛ إلى تيسير العولمة الافتراضية لهذا التنظيم الاجتماعي المكاني الجديد. وبالطبع لم يعد العالم إلى ما كان عليه مرة أخرى مطلقا؛ فمن خلال المنطق السياسي الاقتصادي الثقافي للرأسمالية ورد إلى العالم المنطق الإقليمي المميز للحداثة، الذي لا يزال يكشف عن نفسه في صورة تحولات وتغيرات متنوعة حول العالم. ومما يحظى بأهمية خاصة الطرق التي تستخدم بها هذه المفاهيم والممارسات الحديثة على نحو مميز الإقليم لعزل وتجميع وإخلاء وإشغال الحيز الاجتماعي.
من الممكن بسهولة فهم هذا الفصل خطأ باعتباره محاولة لإجراء رصد دقيق للخبرة الإنسانية الجماعية على مدى 7000 عام في بضع صفحات؛ ولكن مرة أخرى، بينما قد تفترض درجة معينة من الصحة للحقائق الإثنوجرافية والتاريخية، فإن الدقة من جانب ما خارج الموضوع. إن هدف ساك في الحقيقة لا يتمثل في إخبارنا كيف وصلنا إلى حيث نحن اليوم بقدر ما يتمثل في توضيح جوانب الإقليمية (أو جوانب نظريته) مثلما قد ترى من منظور الموضوعاتية للتغيير والاستمرارية. إن الهدف هو مقاومة الميول نحو عزل الإقليمية عن العمليات الاجتماعية وعن العلاقات الاجتماعية المتغيرة؛ فلا يهم كثيرا، بدرجة ما أو بأخرى، إن كانت القصة دقيقة (بالطبع هي كذلك، وبالطبع لا يمكن أن تكون كذلك). بل ينبغي تقييمها وفقا لدورها المؤثر في الكشف عن شكل العالم أو التعتيم عليه، وكيف قد يسهم الإقليم في هذا. (2-4) دراسات حالة
الفصول الرابع والخامس والسادس من كتاب «الإقليمية البشرية» عبارة عن دراسات حالة تفصيلية؛ فكل منها يتتبع آليات الإقليم في مجال محدد من الحياة الاجتماعية على مدى فترات زمنية طويلة، مفسرا الموضوعات الأكثر تجريدية المقدمة في الفصول الثلاثة الأولى. ويصف الفصل الرابع جوانب مهمة من الإقليمية في التاريخ الطويل للمسيحية المؤسساتية، وعلى الأخص الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؛ فيناقش ساك الممارسات المسيحية الأولى وقتما كانت مستمرة إلى حد كبير مع تلك الخاصة باليهودية في مكان وزمان ظهور المسيحية. وعرض كيف تغيرت الممارسات الإقليمية مع ازدياد هرمية الكنيسة، ومع تزايد قوة ارتباط نفوذ الكهنة والأساقفة بالبنية الإقليمية للأسقفيات والأبرشيات. ومع اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، عملت البنية الإقليمية للأسقفيات والأبرشيات كنموذج من نوع ما للسلطة الدينية السياسية للكنيسة. ويتطرق ساك إلى العمليات التي سرت من خلالها الإقليمية بفعل انهيار الإمبراطورية، وبفعل الإقطاع واحتضاره البطيء، وبفعل عصر الإصلاح، وأخيرا بفعل تحولها الأحدث نحو البيروقراطية.
يعنى الفصل الخامس بالتحولات التي طرأت على المنظومة الإقليمية السياسية الأمريكية، وتبدأ هذه القصة بقصة الاستكشاف والاكتشاف، ونزع الصفات الإنسانية عن الشعوب الأصلية. ويستمر الفصل من خلال مناقشة التعبيرات الاستعمارية للإقليمية. ومما يحظى باهتمام خاص المجادلات الإقليمية بين الفيدراليين والمناهضين للفيدرالية، والطرق التي صارت من خلالها التسويات بشأن أقلمة السلطة دستورية. يضم الفصل أيضا مناقشات عن التوسع غربا والتأويلات الاقتصادية المعاصرة للإقليمية بشأن تأمين الصالح العام. أما الفصل الجوهري الأخير، فيعنى على نحو أساسي بتحول إقليمية العمل؛ مرة أخرى من الحقبة الحديثة المبكرة إلى العصر الحديث. غير أن هذا الطرح يضع في الاعتبار أيضا التغيرات المتلازمة في التنظيم المكاني للحيز المنزلي، و«المنزل»، والمؤسسات الحديثة الأخرى مثل السجون والجيش. والكثير من «الميول» و«التوافقات» التي تميز الإقليمية الحديثة مبين بأمثلة واضحة في هذا الفصل. (3) ما وراء الإقليمية البشرية
يمكن رؤية قيمة كتاب «الإقليمية البشرية» وفائدته المستمرة في عدد من السمات التي ينفرد بها في أدبيات الإقليم؛ فيقدم كتاب «الإقليمية البشرية» - غير المقيد إلى حد كبير بنطاق الإقليم أو بنوعه، وغير المستأثر إلى حد كبير بالشواغل الأكثر محدودية للمجالات المعرفية المتخصصة - مفردات تحليلية غنية يمكنها أن تسهل قدرتنا على استيعاب الممارسات الإقليمية. انشغاله المحوري بآليات السلطة، وانتباهه الشديد للزمنية والطابع التاريخي، وتأكيده على أهمية القوى الاقتصادية المادية مقترنا بتأكيده على العوامل المفاهيمية أو الأيديولوجية؛ كل ذلك يساهم في الاعتراف بكتاب «الإقليمية البشرية» كنص «كلاسيكي» تتجاوز قيمته القيمة التاريخية بكثير. وككتاب صغير نسبيا، وبوصفه جهدا مبدئيا في ذلك المجال، فإن له قيوده أو حدوده؛ فيوجد، في «الإقليمية البشرية»، عدد من الموضوعات المشار إليها ولكن ليس على نحو موسع، وهو عدد لا يمثل أهمية كبيرة للكاتب. ولعل بعض العناصر الغائبة التي تتضح لأي قارئ بعد انقضاء نحو 20 سنة لاحقة، هي نتاج لاستراتيجية ساك من تجنب الوقوع في أسر اهتمامات وشواغل معرفية أكثر ضيقا؛ على سبيل المثال: يوجد قدر محدود للغاية في كتاب «الإقليمية البشرية» يخوض بشكل مباشر في قضايا العلاقات الدولية، أو القومية، أو الاستعمارية، أو النوع، أو العرقية، أو البيئة. علاوة على ذلك، لم تكن الموضوعات والمشكلات التي أصبحت ذات أهمية تعد كذلك في الثمانينيات، ومن بين هذه الموضوعات نظرية الحدود، واللاأقلمة، ونظرية الثقافة، وما بعد الحداثة، والعولمة. توجد موضوعات أخرى، مثل الحركة النسوية، كانت ذات أهمية آنذاك ولكنها لم تشكل النظرية أو الأمثلة التوضيحية المفصلة للكتاب. غير أن قراءة كتاب «الإقليمية البشرية» في ضوء هذه الاهتمامات والشواغل الأخرى يمكن أن يساعدنا على وضع الكتاب وجها لوجه أمام المناقشات الأحدث للإقليم، ومن ثم الكشف عن حدوده. سوف أواصل في الصفحات التالية استكشاف كتاب «الإقليمية البشرية»، من خلال الخوض في أربعة من هذه الموضوعات: الحداثة، والخطاب، والهوية، والسياسة. بعد ذلك سوف أعقد مقارنة سريعة بين كتاب «الإقليمية البشرية» وكتاب ديفيد سيبلي «جغرافيات الإبعاد» (1995). (3-1) الحداثة
كما رأينا، يهتم كتاب «الإقليمية البشرية» اهتماما بالغا بموضوع الحداثة؛ فالكثير من الروايات التاريخية موجه نحو توضيح ما هو مميز بشأن الحداثة في مقابل ما قبل الحداثي أو البدائي. يتمحور الكتاب حول دور الإقليمية في العملية الخاصة بكيفية تحولنا إلى الحداثة، وكذلك يركز على كيفية التعبير عن الإقليمية على نحو مميز وخاص تحت ظروف الحداثة: كيف تقوي الإقليمية دعائم التحولات المتواصلة المرتبطة بكل ما هو حديث وتدفعها. ومما يشكل أهمية خاصة للنظرية كيف أصبح بالإمكان تصور الأقاليم «قابلة للإخلاء»، وكيفية تأصل جذور الممارسات الإقليمية الحديثة في عمليات التجريد المعرفية، وكيفية تشكل العلاقات المجردة. وتقام الحجة على نحو مقنع بأن الحداثة لم تكن - ولم يكن من الممكن - لتصبح على ما هي عليه بطريقة أخرى.
في ثمانينيات القرن العشرين، وقت تأليف كتاب «الإقليمية البشرية»، وعلى نحو متزايد على مدار التسعينيات، أخضعت الفكرة الأساسية - بل الوجود الأساسي - للحداثة لمستوى غير مسبوق من التدقيق (أو كما يقال في الغالب «التحقيق»). وقد تطرق النقاش الأكاديمي الذي تلا ذلك لجميع التخصصات الإنسانية والاجتماعية، وقد كان لذلك، مثلما أشار الفصل الثاني، تأثير واضح على الكيفية التي أعيد بها النظر في الإقليمية. بالطبع لا يمكنني حتى أن أرسم معالم هذه المحادثات الواسعة النطاق، فضلا عن التعامل مع القضايا بأي عمق أو حذق. إن هدفي المحدود هنا هو ببساطة إعادة وضع كتاب «الإقليمية البشرية» في السياق، عن طريق مقارنته بآراء أخرى ترى مسألة الحداثة على نحو مختلف، وأكثر نقدا.
في اللغة الدارجة تشير الحداثة على نحو تقريبي إلى «حاضر» متواصل في مقابل «ماض» ملغى في الأساس. قد تكون هناك تساؤلات حول متى وكيف بدأت الحداثة، أو ما هي سماتها المميزة، كأن يعرف فولتير وجورج دبليو بوش بأنهما شخصيات حديثة، أما يوليوس قيصر ولاو تزو فليسا كذلك. ولعل من السمات التي عادة ما تلاحظ أن العصريين يفكرون في الحداثة كقضية بأساليب لا يتبعها البدائيون أو القدماء (ولا يستطيعون اتباعها) عند التفكير في البدائية أو القدم. علاوة على ذلك، يمكن للفكر الحديث أن يفكر في نفسه بأساليب حديثة مميزة. ومن الطرق الشائعة التي يستوعب بها العصريون الحداثة المفردات الاحتفائية للتقدم وما يرتبط بها من مفاهيم التنوير والعقلانية والحرية. ومن هذا المنظور، فإن أي شيء آخر تعنيه الحداثة أيا كان، في العموم، أفضل مما حل محله، وعمليات التحديث و«التطوير» تؤدي إلى مسار من التحسين والتجويد العام. غير أن الحداثة أيضا أثارت مجموعة من الانتقادات («الخارجية» و«الداخلية») أضفت أهمية أكبر على الجوانب الأكثر قتامة «للحاضر»، في مقابل «ماض» خيالي أو فعلي؛ فبعض النسخ من فكر ما بعد الحداثة ، كما يزعم، التي ينظر إليها في حد ذاتها كنواتج للحداثة؛ تمثل دافع النقد الذاتي الذي يراه البعض واحدا من أعظم إنجازات الحداثة. ثمة وسيلة أخرى لفهم هذا الأمر تتمثل في القول بأن «الحداثة» ليست مجرد فترة زمنية («حاضر» متمدد للانهاية)، ولا تعد «مرحلة تطور» أو قاعدة تقدم، بقدر ما هي نزعة، أو مجموعة من الالتزامات أو الأيديولوجيات والممارسات المرتبطة بها. ووفقا لهذه الرؤية، فإن ما يسمى ب «الثقافة الحديثة»، أو «العالم الحديث»، بينما يعد شيئا جديدا بلا شك، فإنه مجرد تكوين ثقافي واحد ضمن تكوينات أخرى. إن ما يجعلنا عصريين هو كيفية تخيلنا لأنفسنا في مقابل «الآخرين»، غير أن هؤلاء «الآخرين» ليسوا فقط آخرين عابرين مودعين داخل ماض سريع الانحسار، ولكنهم آخرون ثقافيون يبرر اندثارهم بأساليب الخطاب الرامية إلى إثبات الذات فيما يتصل بالتحديث والتقدم والتطور. وغالبا ما تهدف الانتقادات المعاصرة للحداثة، المصنفة على نحو فضفاض، إن لم يكن على نحو غاية في الدقة، تحت عنوان «ما بعد الحداثة»، إلى تسليط الضوء على هذه الاستراتيجيات التسويغية. وينبغي التأكيد على أن ظهور فكر «ما بعد» الحداثة المزعوم لا يحمل معه بأي حال «نهاية» الحداثة والاستعاضة عنها بشيء آخر، شيء «بعدها». فإذا كانت الحداثة تعني أي شيء، فهي لا تزال تمثل اهتماما مستمرا، والانتقادات التي يشنها أنصار ما بعد الحداثة لم تكن كافية لتؤدي إلى فنائها. وإذا نظرنا إلى الحداثة على نحو أقل باعتبارها «حقيقة» بشأن الزمن، وكوسيلة لسرد أو تمثيل تاريخ السلطة على نحو أكبر - أي كقصة يسعد بعض الأشخاص العصريين بإخبار أنفسهم بها عن أنفسهم - فإن تساؤلات أخرى تثار قد يكون من شأنها التأثير على فهمنا للإقليمية و«الإقليمية البشرية».
إن روبرت ساك واضح في رفضه للقصة الاحتفائية للحداثة والتقدم. على الجانب الآخر، ينتج هذا الرفض عن التزام صارم باستقصاء اجتماعي محايد التقييم. قد يدفع بأن هذا منظور حداثي مميز لمهمة (وقيمة) إنتاج المعرفة وتمثيلات العالم الاجتماعي. وتقوم قيمة التقييم الحيادي على صورة ذهنية معينة للعلم والتزامه ب «الموضوعية» ومحو الذات في خدمة التطور. وفي هذا المقام يعد كتاب «الإقليمية البشرية» مشروعا حديثا نموذجيا؛ وهذا يعني ببساطة أن كاتبا أكثر تشككا إزاء واقعية الحداثة لم يكن ليتولى المشروع، ولم يكن ليتخيل أن الإقليمية سيكون - أو يمكن أن يكون - لها نظرية أو تاريخ «منفرد»؛ فقد كان سيأخذ حذره من استراتيجية حولت 7000 عام من الزمن الإنساني والتغيرية الثقافية المتطرفة إلى مجموعة صغيرة من «الآليات» مقدمة على مدى 30 صفحة من كتاب. ومع ذلك، لم يكن أغلب الظن سيتناول الموضوع على نحو تحليلي، محللا ضخامة الإقليمية البشرية إلى عدد محدود من «الدوافع» (الأسباب) و«النتائج» (أو العواقب). وكان سيتم تجنب استخدام «الأنماط المثالية» و«النماذج» المجردة، وكذلك شبكات «الميول» و«التوافقات». وما كان لمنظر ينتمي إلى ما بعد الحداثة (أو حقبة أخرى منها) أن يحتفظ بالصوت المحايد غير المبالي فيما يبدو ل «العالم (الاجتماعي)» بهذه الدرجة من القوة. وكما أشرنا في الفصل الثاني، لم يكن ليرى الأقاليم في أطر صارمة مثل الداخل/الخارج، أو إما/أو، ولكنه كان سيعطي أهمية أكبر لموضوعات الغموض، والانسيابية، والحدية، والتباين. وينبغي أن يكون بديهيا أن تلك السمات التي كان سينتقدها ناقد ينتمي إلى ما بعد الحداثة بأقصى قوة في كتاب «الإقليمية البشرية»، هي تحديدا السمات التي يراها آخرون قيمة وجديرة بالثناء إلى أقصى الحدود.
وفيما وراء هذه السمات الأسلوبية، يوجد افتراض جوهري آخر يشكل كتابا بقوة «الإقليمية البشرية» ويتعلق بما يبدو عليه الأشخاص؛ فبينما يضع كتاب «الإقليمية البشرية» تركيزا جما على الاختلافات بين ما قبل الحديث والحديث، ثمة فكرة تتسم بالاستمرارية عبر هذا التقسيم تكمن في الافتراض المحوري بأن الوسيط المسيطر (أي من يتولى توزيع ونشر الإقليمية) هو فاعل عقلاني، واع، وموجه على نحو فعال. تعرف الإقليمية في تعريفها الأساسي بأنها في الأساس استراتيجية، وسيلة تؤدي إلى غاية. وكما هي الحال مع أي وسيلة أو أداة، تتسم الإقليمية بمزايا وعيوب؛ فمن جانب يلاحظ أن ساك لا يستخدم تمييز ما قبل الحديث/الحديث كبديل لتمييز اللاعقلاني (الهمجي)/العقلاني. والواقع أن النتائج «السحرية» للإقليمية من المحتمل أن يكون تعريفها في الحاضر مماثلا لتعريفها في الماضي. على الجانب الآخر، قد يعتبر المرء افتراض «بديهية» العقلانية افتراضا خرافيا في حد ذاته. وعلى الرغم من رفض ساك نفسه لهذا التأويل، فإن كون تفضيل العقلانية علامة حداثية مميزة يعد حقيقة. وعلى أي حال، ليس واضحا تماما أن عقلانية حسابية هي المفتاح الأفضل لحل ألغاز الإقليمية، سواء أكانت الحديثة أم غير ذلك؛ فالبشر «في الماضي» مثل «الحاضر» قد تكون لديهم بالفعل مقدرة على الحساب العقلاني (أنا سعيد لاعتقادي بأنني كذلك)، وهذه النزعة نحو الواقع يحتفى بها بلا شك في الثقافات الحديثة، ولكننا أيضا أكثر من ذلك وخلاف ذلك؛ فنحن غالبا ما نكون غير عقلانيين وعاطفيين. إذا فالعقلانية قد تكون أكثر بكثير من «استراتيجية للتحكم والسيطرة»، وربما تكون الممارسات الإقليمية من شتى الأنواع مفسرة على نحو أدق في إطار الرغبة، والخوف، والاشمئزاز، والارتباك، وإرادة القوة، والقسوة، أو حتى آليات «الهوية». الفكرة هي أن تعقيد الرؤية الضمنية للفردية أو الذات من شأنه أن يؤدي إلى تعقيد نظرية الإقليمية.
كذلك قد يكون تقييم عقلانية «الغايات» - أو قد لا يكون - منفصلا عن تقييم عقلانية «الوسائل»؛ فالتصميم الإقليمي للهولوكوست من السهل أن يقرأ كتوظيف لوسائل شديدة العقلانية في خدمة غايات جامحة في لاعقلانيتها. وإعطاء مزيد من الانتباه لتغلغل الجانب غير العقلاني في العلاقات الاجتماعية الإنسانية، من شأنه تيسير رؤية الجانب اللاعقلاني في عملية أقلمة القومية، والملكية الخاصة، واحتواء اللاجئين، وحتى «أقاليم النفس» التي وضعها جوفمان (وإن لم يكن على نحو خاص). قد يقرأ المرء أيضا تميز الإقليمية الحديثة كعرض لنوع من الجنون يطلق على نفسه «العقلانية»؛ فعلى مدى كتاب «الإقليمية البشرية» يستخدم مصطلح مفتاحي في تقييمات مزايا وعيوب استخدام الإقليمية كاستراتيجية، ألا وهو «الفاعلية». وثمة مقاربة للإقليمية كانت أقل التزاما تجاه القصة الحداثية قد تصرف الانتباه عن موضوعات الفاعلية والنظام واليقين، وتضع تأكيدا أكبر على عناصر الفوضى، أو الغموض، أو الفصام.
إن الأقاليم، من منظور ساك، أماكن محددة ومتمايزة، ولعل أكثر الأمثلة التوضيحية انتشارا في الكتاب أماكن مثل الحقول المسيجة، والغرف، والمناطق الإدارية، وامتيازات الأراضي، ووحدات العمل، وما شابه ذلك. ولكن التخوم والمحدودية، عموما، تعدان ببساطة أمورا بديهية. وفي مقارنة بعمل حديث في نظرية الحدود، تعد التخوم في حد ذاتها غير إشكالية نسبيا. ويقدم «التصنيف وفقا للمنطقة» الإقليم - في إطار نوايا المسيطر - كحالة «إما/أو» تتسم بالقوة. ومرة أخرى كما رأينا في الفصل الثاني، حاول التنظير الأحدث دحض القصص التي يرويها المؤقلمون المسيطرون عن أنفسهم، والاستعاضة عنها بقصص مختلفة تكشف عن الخصائص النفاذية والتشابكات المتغيرة التي تميز الإقليمية.
على سبيل المثال: تميل نظرية ساك إلى تعزيز الرؤية الخاصة بالحدود الأمريكية المكسيكية كتعبير عن خط تصنيفي يفصل بين مواقع سيادية مميزة. علاوة على ذلك، يعد «فرض السيطرة»، ثالث الميول الثلاثة الأهم، أكثر إشكالية؛ فهذه الأقاليم السيادية، مثل الأقاليم الحديثة، تظهر سمات وخصائص قابلية الإخلاء المتخيلة، والتجريد، والعلاقات المجردة، وما إلى ذلك. وهذه الرؤية بالتأكيد ليست غير دقيقة، ولكنها أيضا ليست دقيقة على نحو تام. وكما تطرقنا في الفصل الثاني، فقد قرأ كثيرون آخرون هذا المثال بالذات في أطر مختلفة اختلافا كبيرا؛ ليس في إطار «داخل» و«خارج» أو «إما/أو» متعارضين ومتبادلين بنيويا، وإنما في إطار «كل من/و»؛ أي بوصفها متداخلة وانسيابية على نحو معقد. وهذا الحد، والتخوم الأخرى، ليست مجرد أدوات للتصنيف والفصل بأي معنى بسيط، ولكنها أيضا أدوات للبناء والدمج في ذات الوقت. وكما يكتب فيكتور أورتيز في «الغموض غير المحتمل للحدود»:
إن المنطقة الحدودية ليست بدولة، بل إنها حتى ليست دولة في حد ذاتها. إنها مكان اجتماعي سياسي للديناميكيات التاريخية والاقتصادية المثيرة التي يحدد معالمها تهجير أو نزوح واسع الانتشار، يعاش على نحو مختلف للغاية من قبل الأفراد والمؤسسات المعنية. ونظرا لهذه الاختلافات والتباينات الواسعة الانتشار، فإن ثمة غموضا متواصلا يتخلل معظم تفاعلاتها وتعيينات حدودها؛ فالتحدي والتعزيز الدائمان للحدود يولدان الإدراك المتناقض للمنطقة الحدودية في وقت واحد كمنطقة رابطة ومنطقة فاصلة تحت تدخل ذي طابع عسكري على نحو متزايد. وهكذا تكون المنطقة الحدودية أكثر قليلا من كونها إقليما متنازعا عليه إنه جبهة حدودية. (أورتيز 2001، 98)
من هذا المنظور، يمكن أن تبدو وجهة النظر التي يميل ساك إلى افتراضها كنسخة من قصة المسيطر، ولكن يوجد دوما تفاصيل أكثر للقصة، ويوجد دوما أكثر من قصة.
ثمة عنصر أساسي آخر لنظرية الإقليمية هو «التواصل»، وعلى نحو أكثر تحديدا، التواصل من خلال الحدود. ربما يكون النموذج لذلك - مثلما أشار العديد من الأمثلة التي يسوقها ساك - تحذيرا (شفهيا أو مكتوبا) يقول «ابتعد» (يرافقه ملحق ضمني مفاده «وإلا»). فالمرء في هذا المقام يتخيل نموذجا للتواصل يشمل مرسلا (المصنف/المسيطر)، ومتلقيا (المسيطر عليه)، ورسالة واضحة (ابتعد). وتحت ظروف الحداثة من المحتمل أن يكون هذا الحدث التواصلي غير شخصي (أي موجها إلى «كل العالم») مثلما من المحتمل أن يكون شخصيا. ولكن قد يشير المرء إلى احتمال وجود ما هو أكثر - بل أكثر بكثير - بالنسبة إلى معاني الأقاليم والتخوم والسلطة، مما قد تشير إليه هذه التعليمات والأوامر الشفافة نسبيا؛ فوجهات النظر المتعلقة بالإقليم التي تعد أقل حداثة قد تشكك في دقة هذا النموذج الشفاف للتواصل، وتكمله باهتمام أكبر بمسائل الخطاب واستطرادية الإقليم. وسوف أعود إلى هذا الموضوع لاحقا.
مرة أخرى ، ينبغي التأكيد على أن عرض هذه التباينات المحتملة لا يشكل في حد ذاته نقدا لكتاب «الإقليمية البشرية»، كما أنني لست بصدد تأييد منظور خلاف المنظور الحداثي. في الواقع، من الممكن أن يعرض المرء، بأسلوب ما بعد حداثي تماما، قراءة لكتاب «الإقليمية البشرية» باعتباره هو ذاته نصا ينتمي إلى ما بعد الحداثة (الأولية). ورفض القصة الاحتفائية للتقدم والحداثة، وحيادية التقييم التي يمكن أن تفهم كتأييد لنوع من النسبية، والتأكيد على العمودية، والالتزام بتعددية الاختصاصات؛ كل ذلك من شأنه المساعدة في إدراك هذا المعنى للكتاب. ولكن في النهاية لن توفي مثل هذه القراءة إنجازات كتاب «الإقليمية البشرية» ولا فائدة النزعات ما بعد الحداثية حقهما.
ثمة ملاحظة أخيرة بشأن قضية الحداثة؛ عادة ما يقال إن تقسيم الحديث/ما بعد الحداثي ليس مجرد مسألة أكاديميات أو نزعة جمالية، ولكنه، شأنه شأن تقسيم ما قبل الحداثي/الحديث الذي يعمل كنموذج معياري له، يمثل دلالة على وجود تمزق وتفكك، ويدل على ظهور نوع جديد من العالم. في هذا العالم أدت العولمة المركزة، واللاأقلمة، وانهيار التنافس بين الشرق/الغرب الرامي إلى الهيمنة على العالم، والثورة السيبرانية، وما إلى ذلك؛ إلى نشوء مظاهر و«ميول» للإقليمية لم يتوقعها ساك في ثمانينيات القرن العشرين. (3-2) الخطاب
في السنوات التي أعقبت نشر كتاب «الإقليمية البشرية»، حدثت إعادة تركيز ملحوظة للانتباه في النظرية الاجتماعية والتفسيرات الجغرافية للإقليم نحو موضوعات الخطاب والتمثيل. وفي كتاب «الإقليمية البشرية» يجري تأطير قضايا ذات صلة في إطار الأيديولوجيا، وعلى نحو أوسع، «المفاهيم». والخطاب، كما ناقشنا في الفصل الثاني، يشير أكثر إلى التكوينات الثقافية-المعرفية الواسعة النطاق والبنيات اللغوية التي يدمج فيها اللاعبون الاجتماعيون، والتي تكيف الفكر أو الوعي والممارسة بطرق خاصة. وأساليب الخطاب ليست مجرد مجموعات من المعتقدات أو حتى الأيديولوجيات؛ إنها مجالات مفاهيمية يرصد من خلالها الاختلاف والتشابه. ربما حتى لا يكون معبرا عنها لفظا، ولكنها قد تؤدى أو تفعل. ويقال إن أساليب الخطاب، كطرق للتفكير والتعبير اللفظي، تتداول داخل الأنظمة الاجتماعية، وقد ترتبط ارتباطا وثيقا بإنتاج المعرفة وسلطة الخبير تحديدا؛ من أجل تكوين معنى رسمي للوقائع الاجتماعية. وثمة أساليب خطاب بعينها تنبع من علاقات السلطة وتدعمها، ولكنها أيضا قد تضعف أو تعدل الطرق التي تعمل بها السلطة، وقد تكون تسويغية أو نقدية، تطبيعية أو غير تطبيعية. والانتباه إلى الخطاب أو الاستطراد يميل إلى تحريف قصدية الفرد عن مركزها (أو على الأقل وضعها في سياق جديد)، وإبراز الأفعال أو الأحداث التواصلية، فيما يتعلق بأهدافنا الحالية، بمنظور جديد.
يوجد جانبان لتحليل الخطاب ينبغي الإشارة إليهما في أي «مقدمة قصيرة» للإقليمية؛ الأول أنه توجد أساليب خطاب تتخذ من عناصر الجانب الاجتماعي أهدافا أساسية لها، وتؤسس وتوجه الكيانات الإقليمية وفقا لها. الجانب الثاني يكمن في وجود أساليب خطاب أضيق أفقا بشأن الإقليمية في حد ذاتها. وفيما يتعلق بالأساليب الأولى، توجد أساليب خطاب لا حصر لها يفهم من خلالها العالم الاجتماعي، قد يعد البعض منها ذا دلالة أعم من البعض الآخر. الأمر المهم، أولا، هو معرفة كيفية تجميعها معا، وما هي اختلافاتها الجوهرية، وتأطيراتها الاعتيادية، وإقصاءاتها، وتسلسلاتها الهرمية المفاهيمية الأكثر ملاءمة. ثانيا، كيفية تفعيلها على نحو عملي في الممارسة الاجتماعية. إن أساليب الخطاب المتعلقة بالجانب الاجتماعي ليست جامدة أو خاملة؛ فهي تتغير وتتباين. وعلى نحو حاسم، يمكن أن تندمج معا، أو تعزز، أو يتحدى أحدها الآخر. وبعض أساليب الخطاب قد تنشأ باعتبارها أساليب خطاب «مهيمنة» أو «مسيطرة» وتتخذ شكل المنطق السليم. وهذه الأخيرة، إلى جانب تلك التي تتحداها تحديا مباشرا، لها أهمية خاصة لفهم الإقليمية؛ بل إن جزءا كبيرا من الإقليمية البشرية يمكن فهمه كأسلوب «تنقش» من خلاله أساليب الخطاب ذات الهويات المتباينة على أجزاء من العالم المادي.
على سبيل المثال: في الجزء السابق عرضت لفكرة أن «الحداثة» قد لا تكون فترة زمنية تاريخية مميزة بقدر ما قد تكون قصة معقدة (أي خطابا)، وإن كانت قصة ظهرت في مكان وزمان، وتغيرت على نحو مثير بمرور الزمن. ومن بين العناصر الجوهرية المهمة لهذا الخطاب التميز الجوهري لما هو «حديث» في مقابل ما قبل الحديث (سواء اعتبر «بدائيا» أو «قديما»)، وقصة التقدم ومفاهيم الحرية والعقلانية المصاحبة لها، وتعزيز قيمة المواطن الفردي، والأولوية المعيارية التي تعطى للكفاءة، وأساليب الخطاب الفرعية للطبيعة التي تشكل مذهب العلمية. وفي بعض الأزمنة والأمكنة اندمجت خطابات الحداثة مع أساليب الخطاب المتمحورة حول العرق والجنسانية لتكوين معنى سردي للاستعمارية وغيرها من أشكال الهيمنة. وفي سياقات أخرى لعبت دورا في مقاومة الهيمنة العرقية. ويمكن أن تندمج مع خطابات الليبرالية بنفس سهولة اندماجها مع خطابات الاشتراكية؛ الفكرة المباشرة هي أن أساليب الخطاب المتعلقة بالحداثة «وتوزيعها العملي» ربما كانت لها تأثيرات بالغة على عمليات التدوين الإقليمي. ويمكن أن تكون الإقليمية ذات أهمية جوهرية لكيفية تفعيل هذه الأساليب في العالم.
على سبيل المثال: يمكن أقلمة الذكورة المتباينة الجنس بعدة طرق . تأمل مناقشة ليمان وسكوت لحانات الشواذ في الفصل الثاني. لقد لاحظا أن «نمط الملبس واللغة بين الزبائن في إحدى الحانات قد ينقل إلى شخص مثلي الجنس في الحال أنه قد دخل إلى إقليم أم» (1967، 240). ولكن في مكان آخر، قد ينقل هذا النمط في الملبس واللغة إلى آخرين في الحال أنه في غير مكانه، أو خارج الحدود، أو غير متجانس؛ وحينئذ قد يبرر هؤلاء الآخرون العنف ضده بالاعتماد على مفاهيم الذكورة المتعلقة بالخوف من المثلية (هيريك وبيريل 1992؛ كانتور 1998). بالمثل، قد يخضع العرق للأقلمة، ليس فقط بوضع لافتات «للبيض فقط» أو بطرد الناس من الأماكن بالقوة، ولكن قد يحدث ذلك، على نحو أكثر خفاء، من خلال الالتزام بقوانين الآداب العرقية «المعمول بها»، التي تسن من خلال سلوكيات الخضوع أو الدفاع النمطية.
تضمن الفصل الثاني إشارة إلى أساليب خطاب السيادة، والقومية، والاستعمارية، ومناهضة الاستعمار، والثقافة، والذات، والخصوصية. قد يفكر المرء بسهولة في التأثير العميق الذي تركته أساليب الخطاب المتعلقة بالعرق على تشكيل الإقليم عبر العالم. إن فكرة «العرق» في أساسها عارضة تاريخيا بالطبع، وفي بعض الروايات قد يكون من الأفضل أن ينظر إليها ليس كتبرير للاستعمار، ولكن كأحد آثاره. وتشمل التكوينات الخطابية التاريخية الخاصة العنصرية العلمية في القرنين التاسع عشر والعشرين، اللذين استخدم فيهما العلم لتطبيع العنصرية، والتعامل مع تفوق البيض كأمر طبيعي، وتبرير سياسات الإقصاء والإبادة الجماعية. وتختلف الخطابات العنصرية السائدة في مطلع القرن الحادي والعشرين اختلافا شديدا، والعمل الذي تؤديه في تشكيل الإقليم مختلف أيضا. بالمثل، تكيف أساليب الخطاب المتمركزة حول النوع والجنسانية التشكيلات التاريخية والمعاصرة بعمق، خاصة حين تندمج مع تمييز العام/الخاص. ومرة أخرى، قد لا يكون من السهل فصل أساليب الخطاب العرقية عن أساليب الخطاب الجنسانية، وقد تندمج هذه الأخيرة بسبل مختلفة مع أساليب الخطاب المتعلقة بالحقوق والليبرالية لتأسيس التشكيلات الإقليمية بطرق معقدة للغاية.
على سبيل المثال: كانت الروايات التاريخية للعرق التي تضع «الأعراق» عبر متسلسلة «للنضج» النسبي؛ عادة ما تستخدم لتبرير نزع الملكية، والهيمنة، والعزل، والإقصاء. وفي بعض السياقات، كانت هذه الخطابات تندمج مع خطابات الجنسانية لدعم الصور المزدوجة للذكر الأسود الشبق غير الناضج والمرأة البيضاء النقية والمستضعفة؛ من أجل تبرير التبعية العرقية. الأهم بالنسبة إلى أهدافنا أنها قدمت الأساس التسويغي للأقلمة المفرطة للعرق والنوع، ولكنها عادة ما كانت تندمج على نحو مختلف تماما فيما يتعلق بالرجال البيض والنساء السود، مثل أن النساء السود كن أكثر عرضة بكثير للاعتداء الجنسي من قبل الرجال البيض، ولم يكن الرجال البيض يتعرضون للإعدام لانتهاك الحدود العرقية-الجنسانية. كذلك تنوعت الطرق التي لعبت بها أساليب خطاب العرق والجنسانية دورا في عمليات الأقلمة الاجتماعية بلا شك في سياقات مختلفة، لنقل، في الجنوب الأمريكي وجنوب أفريقيا، في عام 1910 أو في عام 1960. وقد تشكلت عمليات أقلمة السلطة هذه عبر محوري العرق والجنسانية، أو صارت ملموسة من خلال أساليب خطاب السلطة التي شكلت السياق الأوسع ل «استراتيجيات» خاصة للسيطرة والتحكم، أو إجراءات خاصة «للتصنيف»، و«التواصل»، و«فرض السيطرة».
لذلك فإن توجيه مزيد من الانتباه إلى الخطاب والممارسات الخطابية من شأنه إعادة النموذج الشفاف (بدرجة ما أو بأخرى) للتواصل الذي يشكل النظرية في كتاب «الإقليمية البشرية»؛ فهو يعقد فهمنا لكيفية صياغة عمليات الأقلمة للعلاقات بين السلطة، والمعنى، والخبرة . والانتباه إلى الخطاب في هذا الإطار يتيح لنا النظر إلى التعقيدات الإقليمية - كتلك التي يعبر من خلالها عن العرق والنوع - على نحو أكبر في إطار تفصيلاتها الثقافية والتاريخية، ووضع ممارسات خاصة، مثل العزل، أو الترحيل، أو الإجلاء، أو الاحتجاز، وعلى نحو أقل في إطار الاستراتيجيات المتعمدة للاعبين العقلانيين، وعلى نحو أكبر في إطار الفعاليات الثقافية.
ولكن على نحو أكثر تحديدا، لا تعمل دوامة الأساليب الخطابية الاجتماعية على تكييف آليات الإقليمية بعمق فحسب، بل إن الأساليب الخطابية الإقليمية المتخصصة نفسها قد تشكل هذه الأساليب الخطابية الاجتماعية على نحو تكراري. وتأكيد ساك هنا على الطابع المجرد للثقافات الحديثة (أو ربما، لمزيد من الدقة، المكتوبة) مهم؛ فكما رأينا في الفصل الثاني، تتحول الأساليب الخطابية المتمحورة حول السيادة والملكية الخاصة والذات إلى أساليب خطابية ملموسة وواضحة بالاعتماد على رؤية خاصة للإقليم كبنيات مميزة للحدود لا كبنيات مقسمة تقسيما صارما إلى «داخلية/خارجية» على الحيز الاجتماعي. (3-3) الهويات
بدافع من النظريات النسوية، ونظرية ما بعد الاستعمارية، ونظرية العرق النقدية، ونظرية الكوير، والنظرية الثقافية، وغيرها من المشروعات الأكاديمية الحديثة الأخرى؛ خضعت مسائل الهوية أيضا لتدقيق أكبر على نحو ملحوظ منذ نشر كتاب «الإقليمية البشرية». ويرتبط جزء كبير من هذا بعملية إعادة التفكير في الإقليمية التي نوقشت في الفصل الثاني. وكما أشرت فيما سبق، قد تدعم التفسيرات السائدة للهوية بالأساليب الخطابية التقليدية للإقليم. وقد تطورت التحديات التي تواجه هذه التفسيرات السائدة من خلال الانتقادات التي توجه للأساليب الخطابية التقليدية للإقليم، التي تفترض وجود علاقة تشابه بين الهوية والإقليم. ويصبح هذا الأمر جليا للغاية فيما يتعلق بالقومية. وقد تطرق كتاب «الإقليمية البشرية» بالكاد لهذا الشأن؛ فالهوية، على أقصى تقدير، مفترضة ببساطة (ما يعني وجود دخلاء ومنتمين إلى الداخل)، والمشكلات المتعلقة بالهوية والاختلاف والتشابه والتسلسل الهرمي لا تكاد تلعب أي دور في النظرية. ولعل من ضمن السمات المميزة للإقليمية الحديثة، بالنسبة إلى ساك، بروز التعريفات الإقليمية للعلاقات الاجتماعية (أو ربما «العضوية»). وبينما يعد هذا بلا شك تعميما دقيقا في هذا الإطار، فإن تأكيدا أقوى مما ينبغي على هذا يمكن أن يعتم على جوانب الغموض والتباين والتذبذب المتعلقة بعمليات تكوين ونسب الهوية؛ ومن ثم لا يتيح سوى رؤية جزئية للدور الذي تلعبه الإقليمية في هذه العمليات.
وتميل الأساليب الخطابية الإقليمية السائدة، كتلك التي تتركز على القومية، إلى التعامل مع الهوية بمصطلحات ماهوية: «نحن» ببساطة نحن، و«هم» ليسوا «نحن». بالمثل، يعد العرق والجنسانية والنوع ببساطة تصنيفات طبيعية ومتمايزة ودائمة. والممارسات الإقليمية عادة ما تكون موجهة نحو تحقيق التطابق الملائم بين الهويات (الاختلافات) والحدود؛ فلكي يتم إبعاد «الغرباء»، علينا أن نعرف من هم ومن نحن. ولكن، كما هو مشار إليه فيما سبق، إذا استوعبنا جوانب عديدة من الهوية لا ك «حقائق» موضوعية ثابتة خالدة عاكسة، ولكن كتكوينات مخلقة ومنقحة ومتفاوض عليها على نحو استطرادي؛ فسوف ننظر إلى علاقتها بالأقاليم نظرة مختلفة؛ فمشكلة الهوية ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة الاستطراد؛ ففي مقال بعنوان «الهويات الإقليمية كتكوينات اجتماعية»، يذهب الجغرافي السياسي أنسي باسي إلى أنه يتعين على الباحثين أن يولوا اهتماما أكبر ل «الممارسات والأساليب الخطابية التي تتكون من خلالها روايات ورموز ومؤسسات الهوية القومية، وكيف أنها تصبح «رواسب» للحياة اليومية، التي تعد الأساس الجوهري الذي تستنسخ بناء عليه الأشكال الجماعية للهوية والإقليمية» (باسي 2000أ، 93). ومن خلال وضع الهوية داخل سياق العولمة، يتساءل: «ما الكيفية التي ينبغي فهم «الهوية» بها في عالم التدفقات المعاصر؛ حيث الأفكار والسلع ليست وحدها التي تتنقل، بل البشر أيضا؛ وحيث التفاعل بين الأشخاص الذين يعيشون في شتات يصبح أسهل بفضل تطوير تقنيات جديدة؟»
يذكر ويلسون ودونان «سياسة جديدة للهوية، حيث تتبارى تعريفات المواطنة، والأمة والدولة مع الهويات التي اكتسبت دلالة سياسية جديدة، مثل النوع والجنسية والانتماء العرقي والعرق، ضمن هويات أخرى، من أجل التحكم في الخيالات الشعبية والعلمية للعالم المعاصر» (1999، 1). ولهذه السياسة آثار مباشرة على كيفية فهم الإقليم، وعلى الأخص الحدود. «بفضل طبيعتها الحدية والمتنازع عليها دوما، تميل الحدود لأن تتميز بهويات متغيرة ومتعددة، بطرق تحاط بإطار من التشكيلات الخاصة للدولة التي تطوقها، والتي لا بد للناس أن يضيفوا بداخلها معنى لخبرتهم مع حياة الحدود. ولا ينطبق هذا فحسب على الهوية القومية، بل أيضا على الهويات الأخرى، مثل الانتماء العرقي، والطبقة الاجتماعية، والنوع، والجنسانيات؛ تلك الهويات التي غالبا ما تتكون على الحدود بطرق تختلف عن الكيفية التي تتكون بها تلك الهويات نفسها في أماكن أخرى داخل حدود الدولة، بل وتسلط الضوء أيضا على هذه الكيفية» (ص13).
تركز مثل هذه المناقشات على تشرذم أو ميوعة الهويات القومية في عالم معولم غير مؤقلم ظاهريا، والمشكلات التي يخلقها هذا للارتباط المتشابه للهويات القومية بالأقاليم السياسية. ولكن يوجد جوانب أو مكونات أخرى عديدة للهويات الفردية والجماعية (مفروضة أو منسوبة ذاتيا) تتعامل مع افتراضات أخرى مسلم بها بشأن الإقليم كإشكاليات. ومرة أخرى، يقدم العرق والنوع أمثلة توضيحية مفيدة؛ ففي تاريخ الولايات المتحدة كانت الأقلمة المفرطة للعرق تنظم جزئيا بواسطة الإشارة إلى «قاعدة القطرة الواحدة»، التي بمقتضاها كانت «قطرة واحدة» مما كان يسمى «الدم الزنجي» (أي سلف أفريقي واحد، مهما كان من زمن بعيد) تؤدي إلى تصنيف شخص ما «زنجيا»؛ ومن ثم «ليس أبيض» بطبيعة الحال؛ ولذلك، رسميا، كانت كل عمليات الإقصاء والعيوب والمزايا التي تئول إلى «الزنوج»، بمجرد أن ترتبط بهم، تصبح أبدية لجميع ذرية الفرد، حتى لو حكم عليهم في الظاهر بأنهم «قوقازيون». وكانت الفئات المهجنة، مثل «المولدين» أو «من كان ثمن أسلافهم من الزنوج» أو «ذوي الدماء المختلطة»، التي كان العرق في أمريكا يوضح من خلالها في الخطابات الاجتماعية؛ تطمس بفضل فئتي «الزنجي» و«القوقازي» القانونيتين الحصريتين، وكانت هذه الفئات تنظم بموجب قاعدة القطرة الواحدة. وردا على هذا، كان بعض الناس ممن استطاعوا اتخاذ القرار المصيري «بتحويل» هويتهم العرقية إلى العرق الأبيض، استطاعوا الهرب من عمليات الأقلمة المقيدة لتفوق البيض. فالعرق هوية واحدة فقط ضمن هويات عديدة مسجلة اجتماعيا. ولما كنا «نصنف عرقيا» على نحو مختلف، «نصنف كذلك جنسيا» و«عمريا»، وهكذا، على نحو مختلف. ويمكن العثور على ظاهرة «تغيير الهوية العرقية» عبر محاور السلطة الأخرى أيضا. ولما كانت محاور السلطة هذه خاضعة للأقلمة، فإن «تغيير الهوية العرقية» (أو عدم تغييرها) أو كون الفرد مطرودا، بعد كشف هويته الحقيقية، قد يقحم على نحو بالغ وعميق في كيفية معايشة الإقليمية. والتعامل مع «الهوية» كمشكلة بهذه الطريقة من شأنه لفت انتباهنا إلى طرق أخرى لتسيير الإقليم والتفاوض عليه، ويتيح لنا رؤية الممارسات الإقليمية بوصفها تتضمن أكثر من ممارسات التصنيف، والتواصل، وفرض السيطرة التي هي جميعا في صميم نموذج ساك.
بعد ذلك توجد الهويات الأخرى التي لا تحصى، والتي لها أساس ولو جزئيا على الأقل في الآليات العملية للإقليم: اللاجئ، والمواطن الأصلي، والمستأجر، والسجين، والحارس، والهارب، والمحتل، والأجنبي، والمدير، وما إلى ذلك. وهذه الهويات أيضا تتعارض وتندمج مع الفئات الاجتماعية الأوسع - أو تجنح عنها - و «المحتومة» فيما يبدو، الخاصة بالجنسية، والعرق، والنوع، والسن. وبقدر ما تعد الهوية الآن متلونة، فإن العناصر الإقليمية التي تأخذ الأهمية الظاهرية للهوية كأمر مسلم به (باعتبارها ثابتة بدرجة ما أو بأخرى بفعل الإقليم) مفتوحة للمساءلة والتشكيك. والهوية في هذا الإطار ليست من الشواغل البارزة لكتاب «الإقليمية البشرية». فبمجرد أن تصبح إشكالية، يتوجب كذلك أن يكون فهمنا للإقليمية. وفي الفصل القادم سوف نبحث العلاقة المعقدة بين الإقليمية وتركيب هويات «الإسرائيليين» و«الفلسطينيين». (3-4) السياسة
لم تكن موضوعات الهوية، والخطاب، وما بعد الحداثة، سائدة في المناقشات الأكاديمية للإقليم على هذا النحو وقت تأليف كتاب «الإقليمية البشرية». وحتى لو كانت كذلك، لم يكن غيابها النسبي عن نظرية ساك ليشكل خللا بالضرورة. على الجانب الآخر، ربما توقع المرء أن موضوع السياسة قد أعطي أهمية أكبر بكثير، ويصح هذا على نحو خاص بالنظر إلى مجال الجغرافيا الذي يعد المجال الأم بالنسبة إلى ساك؛ فقد كان «الإقليم» ملكا للجغرافيين السياسيين لأجيال. يحدد وصف ساك على نحو صارم موضع آليات الإقليمية لدى أولئك الذين يمتلكون السلطة على الآخرين أو يطمحون إليها، ولكن وصفه في النهاية هو قراءة هزيلة نوعا ما للسلطة، و«السياسة» بأي حال شبه غائبة تماما. ولكن على الرغم من ذلك، لا بد من الانتباه إلى حقيقة أن نوعيات الأحداث والعلاقات والممارسات، التي تعد الآن على نحو روتيني «سياسية»، مختلفة نوعا ما عن تلك التي عادة ما كانت تعد سياسة منذ جيل مضى.
وكما شاهدنا في الفصل الثاني، قد يكون مفهوم «السياسي» في حد ذاته محدودا بافتراضات «بديهية» بشأن الإقليم؛ فترى نظرية العلاقات الدولية «الواقعية» التقليدية، على سبيل المثال، أن «العنصر السياسي» يوجد فقط داخل الدول السيادية، وليس بينها. وثمة رؤى تقليدية أخرى تربط العنصر السياسي بالمنافسات من أجل السيطرة على الدولة، أو بإجراءات وممارسات الديمقراطية. ومرة أخرى، وتحت تأثير النظريات النقدية مثل النسوية، والماركسية، وما بعد البنائية، ونظرية العرق النقدية؛ صار «العنصر السياسي» الآن معترفا بوجوده داخل جميع جوانب الحياة الاجتماعية تقريبا؛ لذلك قد يكون معرفا فيما يتعلق تقريبا بأي حدث خاضع للأقلمة. والواقع أن نزع مصطلح «سياسي» من آليات العلاقات الاجتماعية قد يفهم في حد ذاته كإزالة تكتيكية للصفة السياسية، أو بعبارة أخرى كعملية سياسية في حد ذاته. إذا، إذا كان «العنصر السياسي» موجودا في كل مكان، وإذا كان عنصرا غير قابل للحذف أو الطمس (ربما) من أي حدث إقليمي، فما الذي كانت ستعنيه قراءة كتاب «الإقليمية البشرية» من منظور أكثر سياسية؟ كما هي الحال مع موضوعات الحداثة، والخطاب، والهوية، لا يسعني هنا سوى تقديم بعض المقترحات؛ فهدفي ببساطة هو الإشارة إلى بعض من حدود إقليم ساك.
بادئ ذي بدء، ما معنى أن يكون الشيء «سياسيا»؟ إن أي علاقة مشربة بالسلطة يمكن التفكير فيها بوصفها تعني ضمنيا نوعا من السياسة؛ فالسياسة تتمحور حول كل الأنشطة والأحداث الاجتماعية المحيطة بالعلاقات الاجتماعية التي تتسم بالهيمنة، أو التبعية، أو التجريح، أو المقاومة، أو التعاون، أو التضامن، أو الوفاق، أو التفاوض. وينطبق هذا على علاقات النوع، أو علاقات العرق، أو العلاقات بين الشباب والسلطات، أو العلاقات في محيط العمل، بقدر ما ينطبق على العلاقات بين الحكومات أو بين الجهات الفاعلة الحكومية والجهات الفاعلة غير الحكومية. ووفقا لهذا، فإن أي تعبير للإقليمية (مثل فرض شبكات إقليمية على الشعوب الأصلية، وإخراج الأطفال من الفصول، وعزل اللاجئين في المعسكرات، وإجلاء واضعي اليد عن الأبنية، واستبعاد النساء من الأندية الاجتماعية) سيكون له بعد سياسي. وعلى نحو تبادلي، سوف يشير العديد من أشكال الحراك السياسي (سياسة الهوية، وسياسة الحركات الاجتماعية، وسياسة النوع، والسياسة البيئية) ضمنيا إلى الإقليم بطرق معقدة. ولما كانت السلطة تتخلل العلاقات الاجتماعية، وجب أن تكون السياسة كذلك. وجزء من الفكرة وراء تحليل الخطاب هو كشف النتائج السياسية المترتبة فرضا على أحداث غير سياسية، والكشف عن كل من الأيديولوجيات التسويغية والأيديولوجيات المضادة التي يصبح لعناصر العالم من خلالها معنى ومغزى. وبالرغم من كل مزاياها الكبيرة، فإن كتاب «الإقليمية البشرية» يتبنى موقف أولئك الذين يفرضون إرادتهم على الآخرين (يتحكمون فيهم). فلا يوجد سوى اهتمام محدود للغاية بما يبدو عليه الأمر حين تكون الطرف المتلقي لمحاولات السيطرة، أو كيفية تأثير ديناميكيات المقاومة أو المراوغة على عمليات الأقلمة. وعموما، يرى ساك أن الطرف المتحكم فيه إما أن يخضع وإما أن يعاقب؛ وهذا يعطي إدراكا ملتويا للغاية للطبيعة الفعلية للإقليمية في العالم؛ ولذلك فهو يعطي إدراكا ملتويا لكيفية خلق وتنقيح العوالم الاجتماعية والحفاظ عليها عبر الإقليمية.
على نحو متصل، يسقط من النماذج والأمثلة التوضيحية العديدة الواردة في كتاب «الإقليمية البشرية» أي اعتراف بالدور الذي يلعبه العنف في الممارسات الإقليمية؛ فقد «تفرض» أوامر وتعليمات المسيطرين بالقوة، وقد «يعاقب» المنتهكون لهذه التعليمات، ولكن هاتين الكلمتين تميلان إلى تجميل التشكيلات الإقليمية محل النقاش. وهكذا لا تبين التحولات في العمل في أقاليم التشيبيوا الواردة في الفصل الأول من كتاب «الإقليمية البشرية» أي أثر للعنف والمعاناة اللذين جلبتهما. بالمثل، وصفت نتائج التحولات على ظهور الرأسمالية واستمرارها على هذا النحو: «من بين الوسائل التي يسيطر بها رأس المال التجاري «تجريد» الفلاحين من الأرض حتى يتمكنوا من دخول السوق، مع ضمان عدم امتلاكهم خيار العودة إلى معيشة الكفاف أو المعيشة التقليدية حال فشل التجارة» (ص79). كيف تسنى لهم هذا «الضمان»؟ كيف استجاب الفلاحون «لتجريدهم» من خيار إطعام أنفسهم؟ الكثير من مظاهر الإقليمية، وربما معظمها، تولد من الاستخدام المباشر للعنف، ولكن الكثير منها، وربما معظمها، يجلب على الأقل التهديد الضمني إذا لم يتح ل «المسيطرين» تحقيق ما يرغبونه. والسيادة والملكية الخاصة - الأعمدة التأسيسية لجزء كبير من الإقليمية الحديثة - في حد ذاتهما جزءان ثابتان في لعبة العنف والخوف؛ لذا يعد كتاب «الإقليمية البشرية» وصفا لا دمويا نوعا ما لما يعد في الغالب جانبا فوضويا للغاية يتسم بالتقلب العاطفي من التنظيم الاجتماعي المكاني البشري. ولو كان ساك قد نظر بمزيد من الاهتمام إلى الجانب الآخر من العلاقات الإقليمية، لربما حدد ميولا وتوافقات أخرى مهمة. (3-5) طرق أخرى للنظر عبر الإقليم
إن الهدف هنا ببساطة هو إعادة فحص حدود أو تخوم كتاب «الإقليمية البشرية» من أجل الكشف عن بعض مما استبعد أو همش من هذا المنظور. وفي سبيل هذا الهدف قد يكون من المفيد عقد مقارنة سريعة بين كتاب ساك وكتاب ديفيد سيبلي «جغرافيات الإبعاد» (1995). إن كتاب سيبلي ليس رحلة نظرية عبر مجال الإقليمية في حد ذاته، وأيضا لا يتطلع سيبلي إلى بلوغ المجال التاريخي الواسع الذي بلغه ساك. وبينما تم تأليف الكتاب من منظور «ما بعد التخصصي» (ص
xv )، فإنه يعد في الأساس جغرافيا اجتماعية مدعومة بالتحليل النفسي وإثنوجرافيا للأشخاص العاديين؛ فالاهتمام الأساسي بالنسبة إلى سيبلي يتعلق بالجوانب المكانية للعلاقات الشخصية لكونها منظمة لأساليب الخطاب المتعلقة بالاختلاف. ومما يمثل أهمية خاصة لسيبلي أساليب الخطاب المرتبطة بالعرق، والنوع، والسن، والأدوار التي تلعبها في «الإنتاج الخطابي للغرباء» (ص
xv ). ولعل السمة الأهم لما أطلقنا عليه الإقليمية، بالنسبة إلى سيبلي، هي الكيفية التي تعمل بها في العمليات الاجتماعية للتهميش والاضطهاد. وهو يعرف «السيطرة الاجتماعية» بمصطلحات مشابهة لمصطلحات ساك: «إن السيطرة الاجتماعية هي التنظيم المدبر لسلوك الأفراد والجماعات من قبل أفراد وجماعات أخرى في مواقع حاكمة» (ص81). ولكن، على عكس ساك - ومعظم المنظرين الآخرين - يبدأ سيبلي بالجوانب التجريبية للإقليم؛ فيكتب قائلا: «أود أن أبدأ بدراسة مشاعر الأشخاص تجاه الآخرين؛ نظرا لأهمية المشاعر في تأثيرها على التفاعل الاجتماعي، خاصة في مواقف العنصرية والأشكال الأخرى للاضطهاد» (ص3). كذلك تتميز أسئلته الإرشادية بالاختلاف على نحو مدهش؛ فيتساءل: «إلى من تنتمي الأماكن؟ من هم المستبعدون منها؟ وكيف يبقى على أنواع الحظر هذه عمليا؟ بعيدا عن دراسة النظم القانونية وممارسات وكالات السيطرة الاجتماعية، تتطلب تفسيرات الإبعاد وصفا للحواجز والمحظورات والقيود على الأنشطة من وجهة نظر المبعد (ص
x ). ومما يحظى باهتمام خاص فهم «الكيفية التي تتجلى بها عمليات السيطرة في إبعاد أولئك الناس الذين يحكم عليهم بأنهم منحرفون، أو فاسدون، أو على الهامش، وعمليات إقامة الحدود من قبل جماعات في المجتمع يعتبر أفرادها أنفسهم عاديين أو تقليديين» (ص
xv ). ومن بين هذه العمليات تلك المتضمنة في فهم مصطلحي «اعتراض» و«تطهير»؛ فالاعتراض هو «المفتاح لفهم الإبعاد» (ص11). «إن الإصرار على إجراء عمليات فصل ، بين الطاهر والدنس، المنظم وغير المنظم، «نحن» و«هم»، أي طرد الوضيعين؛ يتم تشجيعه في الثقافات الغربية؛ مما يخلق مشاعر قلق نظرا لأن مثل هذه الانفصالات لا يمكن تحقيقها على نحو مكتمل إطلاقا» (ص8). و«الفصل هو جزء من عملية التطهير - إنه الوسيلة التي يتم من خلالها تجنب التدنيس أو التلويث - ولكن الفصل يفترض سابقا تصنيفا للأشياء ما بين نقية ونجسة» (ص37).
إن قراءة سيبلي للإقليمية في المنزل الحديث تتعارض تعارضا صارخا مع قراءة ساك؛ فبالرغم من اعترافه بأن «المنزل كملجأ» يعد موضوعا أكثر شيوعا بكثير في العلوم الاجتماعية من «المنزل كمصدر للصراع»» (ص92)، فإنه مع ذلك يركز الانتباه على آليات الإقليم، والسلطة، والخبرة داخل بعض البيوت على الأقل. و«حيثما لا تعد الرغبة في بيئة نقية مشتركة بين جميع أفراد عائلة ما، يكون المنزل مكانا للصراع» (ص91)؛ «ففي المجال المنزلي، سوف يعنى الأفراد المهيمنون بالحفاظ على الحدود المكانية، مثل إبعاد الأطفال عن المساحات الخاصة بالكبار، وبالتنظيم الزمني لأنشطة الأطفال؛ فالحفاظ على السيطرة يعني الحفاظ على حدود واضحة بعيدة عن أي غموض.» (ص96). وبربط هذه الأقاليم بقوى اجتماعية أوسع، يعتقد سيبلي أن:
الإبعاد المستمر والفرض الصارم للحدود أو التدخل المتواصل في حياة الأطفال ومساحاتهم المعيشية؛ قد يسهم في حدوث مشكلات سلوكية لدى الأطفال والمراهقين؛ فالمنزل المعد كحيز عالي التنظيم وخال من التلوث، من قبل متعهدي توريد لوازم ومفروشات المنازل، لا يوفر بيئة عطوفة وودية للأطفال. وتتفاقم الميول الإبعادية بفعل التمثيلات التجارية للمنازل المثالية التي تمنح الأطفال وجودا باعثا على التلوث. (ص98)
إن رؤية سيبلي الأكثر قتامة على نحو ملحوظ للعمليات المحتملة للإقليمية في المنزل الحديث نابعة من تعاطفه الوجداني مع المبعدين، والمهمشين، والمدنسين. والإقليم، وعوالمنا الحياتية المفرطة في الأقلمة، تبدو مختلفة من هذا المنظور. والواقع أن وجهة النظر هذه في حد ذاتها عادة ما تستبعد من الاستكشافات الخاصة بالإقليمية؛ غير أن الفكرة ليست في كون رؤية سيبلي صحيحة أو أن رؤية ساك تقف في حاجة إلى التصحيح؛ فكلتاهما منقوصة بالأساس. إن قيمة كتاب «جغرافيات الإبعاد» تكمن في تحديد بعض من حدود كتاب «الإقليمية البشرية». وقراءة «الإقليمية البشرية» في ضوء «جغرافيات الإبعاد»، تكشف «ميولا» أخرى بالإضافة إلى تلك التي عددها ساك. ومثل هذه القراءة أيضا من شأنها تعقيد الالتزام بالعقلانية الذي يشكل جزءا كبيرا من «الإقليمية البشرية»، بل أيضا العناصر الأمامية للباثولوجيا الاجتماعية التي تملأ التشكيلات الإقليمية الحديثة على نحو مميز على جميع المستويات.
الفصل الرابع
تحليل مصطلح فلسطرائيل
(1) مقدمة «خطر. منطقة عسكرية. أي شخص يتجاوز أو يلمس الجدار يعرض نفسه للخطر» عبارة مكتوبة على اللافتة أعلى السور. آخر ابتكارات الاحتلال، تلك البوابات الحديدية الصفراء؛ نقاط العبور المغلقة بالجدار الفاصل، الذي يعزل المزارعين في هذه المنطقة عن حقولهم. إنه تدبير «إنساني» سوف يستمر، حسبما قد يغامر المرء بالتخمين، لفترة قصيرة للغاية، وبموجبه تأتي شرطة الحدود على نحو دوري لفتح البوابة للمزارعين العالقين، في لفتة تدل على حسن النوايا من أكثر القوى العسكرية إنسانية وعطفا في العالم. (ليفي 2003)
إن هدف هذا الفصل هو بحث الكثير من الموضوعات التي عرضت حتى الآن في هذه «المقدمة القصيرة» في سياق واقعي أكثر ثباتا واستمرارية. وتحقيقا لهذا الغرض قد يبدو اختيار إسرائيل/فلسطين اختيارا أرعن، خاصة بسبب تقلب وتغير الموقف؛ فقد تكون الحقائق على الأرض مختلفة تماما وقت نشر هذا الكتاب. بالإضافة إلى ذلك، ونظرا لوجود القليل مما يقترب من الإجماع على كيفية تقييم هذه الحقائق، ولأن هذا الموقف محمل بالمشاعر والانفعالات على نحو بالغ، بالنسبة إلى الكثيرين، فإن مهمتي بالتأكيد معقدة. على الجانب الآخر، وكما كتب الجغرافي الإسرائيلي ديفيد نيومان مؤخرا:
قلما تجد مختبرات حياتية أفضل من إسرائيل/فلسطين لدراسة الجغرافيا السياسية وإجراء محاولات لحل الصراع. ويتطلب الأمر دراسة الإقليم والتغيرات الإقليمية على مستويات عديدة؛ بدءا من محاولات ترسيم الحدود القومية بين الدول، ووصولا إلى التحكم في ملكية الموارد (الأرض، المستوطنات، المياه) من خلال العزل السكاني لليهود والعرب في مستوطناتهم وأحيائهم الخالصة الأحادية العرق. وعلى نحو مهم، يبين هذا مدى أهمية بقايا البعد الإقليمي لفهم التنظيم السياسي للمكان، حتى في هذا العالم «الخالي من الحدود والأقلمة» وفي أصغر الأقاليم. (2002، 632)
وكما ذهبنا في الفصل الأول، فإن جزءا من الكيفية التي يفترض أن تعمل بها أفكار وممارسات الإقليمية، يكون من خلال عمليات التوضيح والتبسيط التواصلية. وقد أشرت هناك إلى أن المعرفة العلمية ينبغي بدلا من ذلك أن تفهم الإقليمية (تنظر داخلها) للكشف عن تعقيداتها وجوانبها الغامضة الخفية؛ أو بالأحرى التعقيدات والألغاز التي تساعدها الإقليمية على التخفي. إن آليات الإقليمية في أرض إسرائيل/فلسطين معقدة وغامضة بالتأكيد. وكما أشرنا من قبل، فالموضوع (والخبرات التي جمعت تحت اسم الموضوع) جدلي على نحو بالغ وعميق. من المنطقي أن نتساءل عما إذا كان مثل هذا الموقف يمكن تحليله دون تحيز عن بعد. أظن أن من الممكن الإجابة بنعم، مع الاعتراف بأنه ما من تحليل معفى من النقد؛ فمن خلال تعريف الموقع ب «إسرائيل/فلسطين» بدلا من «إسرائيل» أو «فلسطين»، «فلسطرائيل»، ونظرا لكونه اختيارا، من الممكن بالفعل انتقاده بوصفه المكان الخاطئ للبدء به. ثمة حقيقة واحدة مثبتة بشأن الموقف - وهذا أيضا يدعمه باعتباره موقفا ملائما لدراسة تطورات الإقليمية فيه - هي المآسي الإنسانية البالغة التي ارتبطت به ارتباطا محكما. هذه ليست قصة خالية من عناصر البؤس المزعجة بشأن «السلطة» على الصعيد التجريدي؛ فالعنف الذي تفرض وتقاوم به الإقليمية، والمعاناة التي تتولد، ملموسان. وعلى الأقل فإن عمليات الأقلمة وإعادة الأقلمة العنيفة ل «إسرائيل/فلسطين» - سواء تحققت من خلال التفجيرات الانتحارية في المقاهي أو البلدوزرات في معسكرات اللاجئين - تبرز أسباب أهمية الإقليم.
بالنظر إلى تعقيدات الحقائق ووجهات النظر المتعددة حول هذه الحقائق، وبالنظر إلى النطاق المحدود لهذه «المقدمة القصيرة»؛ سوف يكون ما هو قادم، بحكم الضرورة، مقتضبا وسطحيا إلى حد ما؛ فهذا ليس كتابا عن إسرائيل/فلسطين، بل كتاب عن الإقليم، وهدفي المحدود والمباشر هو تقديم توضيح أكثر استمرارية لبعض من الموضوعات الرئيسية التي التقيناها بالفعل، لا تقديم فهم شامل للموقف ككل. سوف أتتبع كيف تتجلى أشكال السلطة من خلال الإقليمية، وكيف تهيئ الإقليمية الكيفية التي تعاش بها الحياة. وسوف أركز على جوانب تكشف وتطور التعقيدات الإقليمية عبر الزمن، لا كآليات ليس لها وجود مادي، بل كظروف وتأثيرات لجهات فاعلة قائمة وثابتة تجعل من عوالم خبرتها عوالم ذات معنى. ولن يكون التركيز على الأقاليم كحاويات كتومة، ولكن كمكونات لمجموعات معقدة وانسيابية. وتقدم الأجزاء الأولى رسما تخطيطيا تقريبيا لأصل الإقليم بأسلوب لا يختلف عن أمثلة ساك التوضيحية الأكثر امتدادا. وفي هذا المقام أتطرق لعناصر أساسية من المجموعة وحلقات مهمة أو عمليات إعادة الأقلمة، وسوف يتبع هذا استعراض أكثر تفصيلا إلى حد ما - ولكن يظل عاما - للتحولات التي طرأت على عمليات حيازة الأرض وعلاقات الملكية كعناصر مهمة للمجموعة الأكبر. ومن الأمور المهمة هنا المشروعات والممارسات المرتبطة ب «تهويد» الإقليم داخل «الأرض الإسرائيلية»، وبعد عام 1967، داخل «الأراضي المحتلة». بعد ذلك أقدم استعراضا أكثر تزامنا لبعض من أهم مكونات ما أطلق عليه «منظومة السيطرة الإسرائيلية» (كيمرلينج 1989)، وما سوف أشير إليه بمنظومة السيطرة «الإقليمية» الإسرائيلية. وهذه آلية يتم من خلالها تداول السلطة - خاصة، ولكن ليس على نحو خالص، القوة المادية - وتوزيعها، ومعايشتها. ومن بين مكونات هذه المنظومة معسكرات اللاجئين، والمستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، وآليات التعبئة مثل نقاط التفتيش، وحظر التجوال، و«عمليات الإغلاق» المتدرجة. وأحدث إضافة إلى هذه المنظومة الإقليمية جدار عازل يتم بناؤه داخل الأراضي المحتلة لعزل (بعض) الإسرائيليين عن (غالبية) الفلسطينيين. وبعد عرض هذه العناصر سوف أناقش إقليمية إسرائيل/فلسطين بوضعهما المعاصر في إطار بعض من موضوعات وأفكار الكتاب الرئيسية.
والوسيلة التي أستخدمها لعرض هذا المخطط هي الاعتماد إلى حد كبير، إن لم يكن حصريا، على كلمات المؤرخين الإسرائيليين واليهود، والجغرافيين، والأنثروبولوجيين، وعلماء الاجتماع، والمعماريين، وعلماء القانون، والنشطاء في مجال حقوق الإنسان، والصحفيين الذين درسوا عناصر المنظومة الإقليمية. ولهذه الملاحظات والتقييمات أهمية خاصة؛ ليس فقط لأن هؤلاء بعض من الأشخاص الذين أنشئت هذه المنظومة وأبقي عليها نيابة عنهم وباسمهم، ولكن أيضا لأن هذه الأصوات توفر أدلة على وجود نقد داخلي للمشروع الإقليمي الإسرائيلي. بعبارة أخرى: يتطلب الأمر منا التمييز بين أولئك الإسرائيليين الذين يؤيدون نتائج المنظومة، وأولئك الذين يعارضون هذه النتائج ويدعمون طرقا أخرى لأقلمة السلطة في هذا الجزء من العالم؛ لذلك ينبغي أن تقرأ كلماتهم ليس فقط ككلمات خبراء ثقات، ولكن ككلمات مشاركين في مشروع لإعادة التخيل. فوصف أكثر استيفاء لمنظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية سيكون من شأنه إعطاء أهمية أكبر لتبريرات واضعيها والقائمين على الحفاظ عليها. وسوف تشير هذه التبريرات إلى حق الدولة الإسرائيلية، وحاجتها، وواجبها في حماية مواطنيها من فظائع العنف الموجه ضد إسرائيل. (وهنا قد يلاحظ أن التفجير العشوائي للمدنيين من قبل المجاهدين الفلسطينيين يتسبب في قتل العرب وإصابتهم بعاهات بسهولة، شأنهم شأن اليهود.) ولكن وصفا كهذا من الممكن أيضا أن يضم حججا بأن إجراءات العقاب الجماعي الوحشية تولد «أمنا» أقل وليس أكثر. وعلى أي حال، يتبع هذا وصف لعقدة إقليمية خلقت وأبقي عليها وتخضع للتنقيح لأغراض نزع ملكيات الشعب الفلسطيني، وعزله، وطرده، والتضييق عليه. (2) تطور السيادات
في القرن التاسع عشر، كما يزعم، لم يكن هناك وجود ل «إسرائيل» و«فلسطين»؛ على الأقل بحسب مفهوم المكانين الآن، وبالتأكيد لم يكن يوجد إسرائيليون ولا فلسطينيون، ولكن، كما يزعم، كان يوجد كل من إسرائيل وفلسطين لآلاف السنين. بالطبع كان يوجد في منتصف القرن التاسع عشر مئات الآلاف من الناس يعيشون ويعملون في المنطقة القريبة من الركن الجنوبي الشرقي للبحر المتوسط بين البحر ونهر الأردن، وكان معظم هؤلاء الناس مسلمين يتحدثون العربية، والبعض منهم يهودا، والبعض عربا مسيحيين. وكان أغلبهم فلاحين يعملون في زراعة الكفاف وتربية الماشية، وكان البعض من البدو (الرعاة الأعراب). كان الأغلب منهم يعيشون في قرى صغيرة، وعاش البعض في بلدات صغيرة مثل نابلس والخليل والقدس ويافا، وكانت البنيات الاجتماعية الواسعة النطاق تنظم بواسطة العشائر أو العائلات الممتدة، وكانت مقسمة إلى طبقات على نحو ملحوظ. في هذا العالم الحياتي كانت الإقليمية بعدا مهما من أبعاد الحياة الاجتماعية؛ فكانت القواعد المعقدة للدخول تنظم استخدام وحيازة الأرض، والحياة القروية، والحياة المنزلية، والممارسة الدينية. وسوف يوصف بعض من هذا بمزيد من التفصيل لاحقا في هذا الفصل.
خريطة 1: فلسطين تحت الحكم العثماني. (المصدر: كيمرلينج وميجدال 2003. مطبعة جامعة هارفرد؛ قسم فن الخرائط، الجامعة العبرية. مستخدمة بتصريح.)
كانت هذه المساحات التجريبية من حياة البلدة والقرية والحياة الريفية مموهة - إن جاز التعبير - بإقليميات السيادة والإدارة السياسية؛ فعلى الصعيد الرسمي، كان هذا الجزء من العالم منطقة طرفية نسبيا من الإمبراطورية العثمانية، التي كانت متمركزة سياسيا في إسطنبول. وكما هي الحال مع الأماكن الهامشية الأخرى، كانت الأرض التي ستصبح بعد ذلك إسرائيل/فلسطين/الأردن تمثل أهمية للحكام كمصدر للضرائب والجنود المتطوعين، وكان التدخل المباشر من جانب السلطات المركزية، بحسب المعايير المعاصرة، رخوا نوعا ما (كيمرلينج وميجدال 2003)؛ فقد كانت المنطقة تحكم من خلال منظومة إقليمية مؤلفة من «الولايات» و«السناجق» أو المناطق الإدارية (انظر خريطة
1 ). في عام 1831، أسفرت عملية عسكرية بقيادة محمد علي عن احتلال المصريين جزءا كبيرا من المنطقة، وبعد قيام الإمبراطورية العثمانية بتأكيد السيطرة مجددا في عام 1840، اعتبرت المنطقة من قبل السلطات العثمانية منطقة ذات أهمية استراتيجية أكبر، وأصبح وجود الدولة المركزية ملحوظا على نحو أكبر. وكان من ضمن التعبيرات عن هذا التدخل الأوسع ما جاء من إعلان قانون الأراضي العثمانية لعام 1858، الذي كان محاولة لترشيد حيازة الأراضي؛ وبهذا القدر يمكن فهمه كتدخل في إقليمية الحياة اليومية. ولما كان لهذا أهمية مماثلة على الأقل، أصبح هذا القانون الخاص بالأراضي أقرب إلى بنية رسوبية قامت عليها عمليات إعادة الأقلمة اللاحقة التي جرت بعد ذلك.
في الوقت نفسه، كانت تحولات أخرى أوسع في الاقتصاد السياسي العالمي والثقافة بصدد البدء في إحداث تأثيرات ونتائج ملحوظة أيضا؛ فقد أثر دخول المحاصيل النقدية، مثل القطن والسمسم والبرتقال، على استخدام الأرض والعمالة؛ ومن ثم على أنماط الكفاف الريفي واقتصاديات المنزل (كيمرلينج وميجدال 2003؛ بابه 2004). وكان من تأثير ظهور القدس و«الأرض المقدسة» كمقاصد سياحية للأمريكيين والأوروبيين أن شرعت السلطات المركزية في توجيه انتباه أشد إلى المنطقة، ولكن كان العنصر الأهم إلى حد بعيد لقصة الإقليم اللاحقة هو استحداث الحركة الصهيونية في أوروبا.
الصهيونية، في أشكالها ووظائفها المتعددة، هي أيديولوجية للقومية اليهودية نشأت في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر جنبا إلى جنب مع قوميات أخرى، واستجابة لها (ديكهوف 2003). وكانت هي والخطابات المرتبطة بها، حلا طموحا لمشكلات متعلقة بما كان يسمى «المسألة اليهودية»؛ ففي ظل مواجهة اضطهاد متواصل في أوروبا الشرقية، من جانب، والمشكلة المناقضة كليا المتمثلة في الاندماج في أوروبا الغربية، واقتران ذلك بالعنصرية المعادية للسامية عبر أنحاء الشتات؛ بدأ بعض المفكرين اليهود مثل تيودور هيرتزل في صياغة استراتيجية جغرافية لتقرير المصير. وتضمنت هذه الاستراتيجية استعمار اليهود من كل أنحاء العالم ل «أرض إسرائيل»، كما أطلقوا عليها، الوطن اليهودي الأبدي. وعلى نحو مهم، وبحسب تعبير كيمرلينج في دراسته المطولة في شكل كتاب «الصهيونية والأرض»: «مع مرور الزمن صار مفهوم صهيون ميتافيزيقيا وتجريديا على نحو متزايد؛ فقد كانت حدوده غير واضحة وغير محددة، يستثنى من ذلك مركزه القدس» (1983، 8-9).
ولكن لما كان صهيون هذا مجردا (وربما بسبب ذلك على نحو جزئي)، أصبح رمزا تعبويا للحركة القومية اليهودية. أصبح واضحا أن أرض إسرائيل فقط هي القادرة على العمل كرمز قوي كاف لتجنيد أعداد كبيرة من اليهود عبر أرجاء العالم ، من أجل نشاط اقتصادي واجتماعي وسياسي جماعي، إما كمشاركين فعليين في الهجرة وبناء مجتمع جديد، وإما كداعمين معنويين و/أو ماديين للحركة. واقترحت بدائل إقليمية أخرى (أوغندا، شمال سيناء، الأرجنتين، بل كان ثمة مقترح سوفييتي لتأسيس جمهورية يهودية في بيروبيجان) أثارت قدرا كبيرا من الجدل داخل الحركة الصهيونية، ولكنها جميعا رفضت في النهاية باعتبارها «غير صهيونية». (1983، 9)
كان للمكان الملائم لهذا الصهيون القادم من وحي الخيال سمة أخرى مهمة؛ فكما يكتب غازي وليد فلاح: «من المستحيل تقريبا أن نتطرق إلى الجدال الخاص بخطاب الأرض في الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني دون الاضطرار إلى تذكر الشعار الصهيوني «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض».» (2003، 182). وهذا التمثيل، بالطبع، كان متعارضا تعارضا شديدا مع الحقيقة؛ فقد كان، على أفضل تقدير، تفكيرا رغبيا، أو ربما النذير الخطابي لتجريد وطرد الأشخاص الذين كانوا يقطنون هذه الأرض فعليا. «جاءت الصحوة بمجرد بدء الهجرة الجماعية إلى إسرائيل في عام 1882. كان الواقع بعيدا تماما عما كان متصورا؛ فقد كانت الأرض الخالية المتاحة محدودة للغاية» (كيمرلينج 1983، 10). وكما سنناقش بمزيد من التفصيل فيما يلي، ربما تكون هذه العقبات (وجود الناس وعدم توافر الأرض) قد بينت مشكلات لوجيستية، ولكن لم ينظر إليها باعتبارها مستعصية على الحل. علاوة على ذلك، كانت مسألة كون صهيون رسميا جزءا من الإمبراطورية العثمانية «ينظر إليها فقط كتعقيد قانوني»، وكون الأرض مملوكة لآخرين كان مجرد «مشكلة مالية» من الممكن حلها من خلال جمع التبرعات (كيمرلينج 1983، 9). كان المشروع الصهيوني ل «تحرير» أرض إسرائيل بوصفها موطن اليهود مزمعا أن يتم على محورين إقليميين على نحو متزامن؛ محور السيادة ومحور الملكية، وفي نقطة التقاطع بينهما. وبحلول عام 1903، أقيمت 20 مستوطنة يهودية بلغ مجموع سكانها معا 10 آلاف نسمة (بيكرتون وكلوسنر، 1995، 22)، وقدم البارون روتشيلد قدرا كبيرا من الدعم المالي.
يقارن باروخ كيمرلينج حركة الاستيطان اليهودية بأخرى، مثل المستعمرات الاستيطانية في أمريكا الشمالية، بالإشارة إلى أنه «في فلسطين لم تكن توجد حدود تذكر» (1983، 13). ولكن، من ناحية ما، من خلال الموقع الاستراتيجي للمستوطنات، نشأ نوع من «الحدود» الفعلية. ويكتب الجغرافي السياسي أورين يفتاشيل:
أصبحت «الحدود»، بالنسبة إلى الثقافة الصهيونية، أيقونة محورية، واعتبر إقرارها واحدا من أكبر الإنجازات. وقد قدم حد «الكيبوتس» (قرى ريفية جماعية) نموذجا، وامتلأت اللغة العبرية العائدة إلى الحياة بالصور الإيجابية المستمدة من الأساطير الدينية للتحرير الوطني مثل
aliya lakorka (وتعني حرفيا «اعتلاء الأرض»، أي الاستيطان)، و
ge’ulat korka (تحرير الأرض)، و
hityashvut, hitnahalut (المصطلحات الإنجيلية الإيجابية لاستيطان اليهود)، و
kibbush hasmama (غزو الصحراء)، و
hagshama (وتعني حرفيا «الإنجاز»، ولكنها تدل على إقرار الحدود). (2002أ، 228)
إن هذا الخطاب الخاص بالتحرير والغزو شكل مشروع «التهويد» الإقليمي، ولم يكن منفصلا عن عملية تشكيل الهوية. وكما كتب يفتاشيل:
إن السيطرة العرقية على الحيز، و«تطهير» هذا الحيز، يصبحان الهدف الأساسي؛ فامتلاك الحيز محل النزاع وادعاء السيادة عليه مرتبط ارتباطا وثيقا ب «إنكار» الادعاءات الأخرى فيما يتعلق بهذا الحيز؛ أي إن تاريخ الآخر ومكانه وطموحاته السياسية تبرز كحزمة تشكل تهديدا يجب رفضه رفضا تاما. وقد كان برنامج التهويد الجغرافي قائما على خرافة مسيطرة زرعت منذ صعود الصهيونية، وعززتها خرافة «الدولة القومية» القائلة بأن «الأرض»
Ha’aretz
ملك لليهود وملك لهم وحدهم. وشرعت الدولة الجديدة ثقافة قومية عرقية خالصة، وأضفت عليها طابعا مؤسسيا وعسكريا من أجل «توطين» المهاجرين اليهود سريعا، وإلغاء أو تسفيه أو تهميش الماضي الفلسطيني للأرض. (2002أ، 227-228)
وفيما يتصل بعلاقة الإقليمية بتشكيل الهوية، يردف يفتاشيل قائلا إن «تمجيد الحدود كان أمرا محوريا لتكوين «اليهودي الجديد»؛ مستوطن محارب متأهب دائما، يغزو الأرض بقوته البدنية وحب حالم لا ينتهي» (2002أ، 228). في هذا الحيز الخرافي كان ينظر إلى الفلسطينيين غير اليهود بوصفهم متطفلين؛ فقد كان مطلوبا في النهاية بناء هوية إسرائيلية (يهودية) على نحو خاص من الهويات العرقية المتعددة (الأوروبية الشرقية، والأوروبية الغربية، والشرق أوسطية، والشمال أفريقية) التي نشأت في الشتات. غير أن التأثير المدمر على البنية الاجتماعية، والسلطة السياسية، وأخيرا الخبرة اليومية؛ أمدت بالأساس لبناء هوية فلسطينية مميزة كشعب مستعمر وضعت في مقابل هوية المستعمرين اليهود (الأوروبيين) (فارسون 1997؛ خاليدي 1997). ويشير كيمرلينج، على سبيل المثال، إلى أنه «في شهري يوليو وأغسطس عام 1913، دعت الجريدة العربية «فلسطين» إلى تأسيس منظمة فلسطينية وطنية تتألف من الأثرياء من نابلس والقدس ويافا وغزة، من أجل شراء الأراضي التي في حيازة الحكومة قبل أن يتمكن الصهاينة من القيام بذلك» (كيمرلينج وميجدال 2003، 15).
في كتاب «الصهيونية والأرض» يعرض كيمرلينج نموذجا للاستراتيجية الصهيونية في إطار التفاعل بين «ثلاثة أنواع من السيطرة على النظم الإقليمية: الوجود، والملكية، والسيادة» (1983، 20). والمقصود ب «الوجود» في هذا السياق «وجود الاستيطان اليهودي على أي بقعة من الأرض، وتعزيز السيطرة على الأرض من خلال خلق «أمر واقع»» (ص20). النوع الثاني: «في الحالة الإسرائيلية، كانت الملكية العامة أو المؤسسية تلعب دورا حاسما، وفي فترة ما قبل السيادة، كانت بديلا للسيادة؛ لأنه عن طريق الملكية العامة دون سواها كان من الممكن تجميد الأرض التي كانت تنتقل من ملكية العرب إلى ملكية اليهود» (ص21). وسوف ندرس لاحقا آليات هذا الجزء من العملية بتفصيل أكبر إلى حد ما. وكان من العوامل ذات الأهمية الضخمة لنجاح هذه الاستراتيجية الإقليمية تأسيس صندوق يهودي قومي في عام 1901. «كان الصندوق القومي اليهودي يعمل إلى حد كبير بوصفه المعادل الوظيفي لدولة سيادية؛ فقد كان الصندوق القومي اليهودي يشتري الأرض للسبب نفسه الذي اشترت لأجله الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لويزيانا من فرنسا في عام 1803، وألاسكا من روسيا في عام 1867» (ص23). وتحليل كيمرلينج للاستراتيجية الإقليمية يتلخص في أن:
توليفة الملكية والوجود كانت لها أهمية خاصة؛ فإلى أن حاز اليهود السيادة في عام 1948، كانت الأقاليم تمتلك وتستوطن، وتكونت سلسلة متصلة إقليمية بينها. وبواسطة هذين النوعين من السيطرة، تطورت وسيلة لبناء أمة، تقوم أساسا على امتلاك قطع الأراضي المجاورة وإنشاء نقاط استيطان عليها. بل إن هذه الوسيلة صارت ذات طابع أيديولوجي وتبلورت إلى حركة سياسية عرفت باسم «الصهيونية العملية»، وكان شعارها «دونم (نحو ربع فدان) هنا، ودونم هناك»، بقصد دمج جميع الدونمات «هنا» و«هناك» في قطعة أرض إقليمية واحدة. (1983، 23-24)
أما النوع الثالث من السيطرة، وهي السيادة، فكانت نقطة النهاية المنشودة. وفقا لحسين وماكاي، «بمجرد شراء الأرض، كان غير اليهود يطردون منها ويمنعون من الحصول على أي فائدة منها، وكانت الأراضي التي تشترى بواسطة الصندوق اليهودي القومي تعد تلقائيا «مستردة» وملكا للشعب اليهودي ككل» (2003، 68). وبحسب تأويل الجغرافي الفلسطيني غازي وليد فلاح للعملية:
كان شراء دونم إضافي من الأرض من فلسطيني، مهما كان ضئيلا، يترجم إلى «إنجاز» وطني من قبل الدولة ومواطنيها اليهود، بينما ينظر إليها في ذات الوقت كخيانة في أعين الفلسطينيين الأصليين. وهذا النوع من الازدواج في الإدراك - تلك الأقلمة التي لا غبار عليها للمواجهة الأساسية - أضفى على الأرض قيمة مضافة في عقل اليهود والعرب، تتجاوز قيمتها التبادلية الاقتصادية بمراحل؛ بل إن الأرض (شاملة المياه) والسيطرة عليها قد أصبحتا رمزا أساسيا للصراع، وسمته الجوهرية. (2003، 183)
تأمل قطعة أرض صغيرة كانت توجد، لنقل، في مرج ابن عامر في عام 1905، لقد حملت هذه القطعة معها أكثر بكثير مما قد تدل عليه لافتة تقول ببساطة «ابتعد»؛ فقد كان سينظر إليها كمكون من مكونات تجمع إقليمي أكثر امتدادا (وبروزا). وكانت دلالتها توضح بالإشارة إلى خطاب الصهيونية الذي كان في حد ذاته يجمع بين عناصر القومية، والرمزية الدينية، والاستجابة إلى الاضطهاد، ومأساة الشتات المرتبطة بشبكة دولية لجمع التبرعات. وكانت أيضا ستصير ذات معنى بالاعتماد على أساليب خطابية معاصرة قوية للاستعمار، نصبت اليهود القادمين من أوروبا على نحو أسهل كوكلاء للحضارة في مقابل العرب الجهلة. كل هذا كان سيعاش بطريقة أكثر مباشرة فيما يتصل بنزع الملكية والاستبعاد والإحباط.
من الأهمية بمكان أن نضع في الاعتبار أنه حتى في عام 1910 لم يكن نجاح المشروع الإقليمي الصهيوني محتوما بأي حال؛ فقد كانت استراتيجية بناء إقليم سيادي من «الوجود» و«الملكية» تتطلب أولا أن يتم الحفاظ على الوجود في مواجهة المعارضة (وهذه المعارضة كانت قد اتخذت بالفعل شكل عنف موجه ضد اليهود). وتتطلب ثانيا مشاركة العرب الراغبين في بيع الأراضي. وتتطلب ثالثا خضوع الدولة، أو على الأقل عدم قدرة الدولة أو عدم استعدادها لمنع عمليات نقل ملكية الأراضي. كذلك ربما كانت الصهيونية في حد ذاتها قد ظلت حركة هامشية لا أهمية لها؛ ففي مطلع القرن العشرين كان عدد قليل نسبيا من اليهود الأوروبيين صهاينة، وكان عدد اليهود الذين غادروا أوروبا إلى فلسطين قليلا للغاية، على الأقل في البداية، غير أن البرنامج لاقى ما يكفي من النجاح لتحقيق تحولات ذات أهمية تاريخية عالمية خلال جيلين.
إن هذا المخطط التمهيدي يعرض عناصر الاستراتيجية الإقليمية الصهيونية في أوسع الخطوط، وسوف نعود لاحقا إلى ديناميكيات تشكيل السيادة من الملكية. أما في الوقت الحالي، فيكفينا ببساطة التأكيد على الترابطات المعقدة بين الأيديولوجيات والهويات والإقليم، الفاعلة في هذا المقام. ولعل من العناصر المهمة للتفسيرات وأساليب الفهم المتباينة لهذه الترابطات، وفقا ليافتشيل، أنه «بينما كان الفلسطينيون يرون هويتهم الإقليمية الجماعية هوية جامعة (أي إن جميع المقيمين في فلسطين كانوا يعدون فلسطينيين، بمن فيهم يهود «ما قبل الصهاينة»)، كان الصهاينة فقط يعدون الوافدين الجدد من اليهود جزءا من الأمة. كانت القومية الفلسطينية، آنذاك ، في طريقها إلى التطور على نحو متزايد كتنظيم سياسي إقليمي مجدد على نمط الكيانات الجماعية القائمة» (2002أ، 225). بمعنى آخر، كان الفلسطينيون يفترضون، في إطار نظرية ساك، تعريفا إقليميا أكثر حداثة للعلاقات الاجتماعية، بينما كان الصهاينة يفترضون تعريفا اجتماعيا للإقليم ينتمي إلى ما قبل الحداثة. (2-1) إعادة أقلمة السيادة
تأثرت هذه الخطوات الخاصة بالأقلمة المحلية بشدة بمحاولات أخرى للأقلمة نشأت بعيدا، لم تكن لها في البداية صلة كبيرة بالصهيونية أو القومية الفلسطينية الوليدة؛ ففي عام 1914 كانت المنطقة بين البحر المتوسط والخليج الفارسي جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وقد تحالفت الإمبراطورية مع ألمانيا والنمسا في الحرب العالمية الأولى، وكان من بين النتائج المهمة لتلك الحرب «تمزق» الإمبراطورية. وكان هذا بمنزلة إعادة أقلمة على أكبر قدر من الأهمية والضخامة؛ فقد ظهر مكانها دولة تركيا القومية، وجرى استعمار معظم المناطق غير التركية من الإمبراطورية السابقة من قبل القوى الأوروبية المنتصرة. وكان مما شكل أهمية خاصة للأحداث اللاحقة تفاصيل تقسيم المنطقة بواسطة بريطانيا وفرنسا.
خريطة 2: تقسيم سايكس بيكو. (المصدر: أندرسون 2000. روتليدج. مستخدمة بتصريح.)
بينما كانت رحى الحرب لا تزال دائرة، رتب السير مارك سايكس وشارل فرنسوا جورج بيكو لتقسيم المنطقة بعد الحرب. كان هناك تخيل لمنطقة سوف يمارس فيها الفرنسيون سيطرة مباشرة، ومنطقة سيطرة فرنسية «غير مباشرة»، ومنطقة سيطرة بريطانية مباشرة، ومنطقة سيطرة بريطانية «غير مباشرة». وكان مزمعا أن يصبح جزء كبير من الأراضي الفلسطينية تحت سيطرة فرنسية وبريطانية مشتركة (انظر خريطة
2 ). غير أنه خلال هذه الفترة أيضا كان البريطانيون يتفاوضون مع الشريف حسين أمير مكة بخصوص إقامة دولة عربية في فلسطين (بيكرتون وكلوسنر 1995، 36-38). بعد ذلك، وفي عام 1917، أعلنت الحكومة البريطانية، فيما أصبح معروفا بإعلان بلفور، دعمها لإقامة وطن لليهود في فلسطين؛ كانت إعادة أقلمة السيادة هنا حافلة على نحو واضح بالتناقضات والأسرار على أقصى تقدير. وفي عام 1920 سلط الضوء على جانب من هذا في معاهدة سيفر، وبحسب تعبير بيكرتون وكلوسنر:
بدلا من مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي والمناطق المدولة، تم تقسيم الإقليم إلى كيانات جديدة تسمى «انتدابات». كان مقررا أن يتولى الفرنسيون والبريطانيون إدارة الانتدابات، تحت إشراف عصبة الأمم، إلى أن يأتي الوقت الذي يكون فيه السكان مستعدين للاستقلال والحكم الذاتي. وأرجئت التعهدات والوعود التي منحت للعرب واليهود على حد سواء في وقت الحرب، إن لم تكن ألغيت تماما بفعل هذه الترتيبات. (1995، 42-43)
في الواقع، «منح» لفرنسا ما أصبح بعد ذلك في عام 1943 دولتي سوريا ولبنان القوميتين، و«منح» لبريطانيا ما أصبح بعد ذلك دولة العراق القومية في عام 1932، كما حدث مع فلسطين. وتألفت ما كانت تسمى «فلسطين» بعد ذلك مما صار إسرائيل الآن، والأراضي المحتلة، والأردن. وفي عام 1921 أنشئ كيان جديد يسمى إمارة شرق الأردن، وأقيمت كانتداب مستقل. «أعادت ديباجة وثيقة الانتداب على فلسطين التأكيد على التزام بريطانيا بوضع إعلان بلفور في حيز التنفيذ»؛ فقد كان البريطانيون «يسهلون هجرة اليهود تحت ظروف ملائمة»، ويشجعون «الاستقرار المحكم من قبل اليهود على الأرض» (بيكرتون وكلوسنر، 1995، 43). وكما يشير بيكرتون وكلوسنر، «لم تورد وثيقة الانتداب أي ذكر للعرب بالاسم» (ص43). باختصار، كانت فلسطين قد صارت الآن مستعمرة بريطانية، وأصبحت الصهيونية هي السياسة الاستعمارية الرسمية فيها، ولم تكن هذه التحركات الإقليمية الكلية مجرد تدريبات في رسم الخرائط التخيلي؛ فمن خلال إعادة بناء التجمعات الإقليمية أعيد تشكيل علاقات السلطة، وتم الحفاظ على خطوط السلطة بواسطة التهديد واستخدام العنف. علاوة على ذلك، أثار نشر العنف من قبل عملاء الدول الاستعمارية عنفا مضادا من قبل كل من العرب واليهود على حد سواء.
شهدت فترة الانتداب في فلسطين تحولات بالغة في جميع جوانب الحياة الاجتماعية؛ فعلى الصعيد الاقتصادي، كانت بعض المناطق أكثر اندماجا على نحو قوي في شبكة الأسواق العالمية، من خلال التركيز على المحاصيل النقدية والتصنيع على طول الساحل، بينما عانت المناطق الداخلية المرتفعة من التأخر والتخلف (كيمرلينج وميجدال 2003). وقد أحدث هذا «التحديث» المتفاوت لفلسطين مجموعة من التغيرات الاجتماعية الأخرى، كان من بينها اشتداد حركة التقسيم الطبقي داخل الهياكل الاجتماعية العربية. في غضون ذلك، استمرت العمليات الصهيونية لبيع الأراضي، على الأرض، بإيقاع متسارع، وكذلك الحال بالنسبة إلى تشكيل المؤسسات والمستوطنات اليهودية الخالصة المتعددة، وصار هناك مجتمع ازدواجي معزول على نحو متزايد يتخذ شكلا أوضح. في الفترة من عام 1936 إلى عام 1939، حدثت انتفاضة واسعة النطاق للعرب ضد كل من الهجرة المستمرة لليهود ونقل ملكية الأراضي لليهود؛ فعند اندلاع الحرب العالمية الأولى كان يوجد نحو 60 ألف مواطن يهودي يعيشون في فلسطين (ما يعادل أقل من 10 بالمائة من السكان)، وكانوا يمتلكون 3 بالمائة من الأرض. وبحلول عام 1939 ازدادت أعدادهم إلى 600 ألف شخص (31 بالمائة)، وسيطروا في الأساس من خلال الصندوق القومي اليهودي على أكثر من 20 بالمائة من الأرض (فارسون 1997). وتعرضت «الثورة العربية» خلال الفترة من 1936 إلى 1939 للقمع من جانب البريطانيين، وكان العنف ضد اليهود يواجه بتنظيمات يهودية شبه مسلحة أكثر تنظيما، كانت في حد ذاتها قد شرعت ودربت من قبل البريطانيين (بابه 2004). كانت عسكرة الحياة الاجتماعية في فلسطين ماضية على قدم وساق، وفي عام 1939 نشر البريطانيون «ورقة بيضاء» طالبوا فيها بفرض قيود على الهجرة اليهودية وعمليات بيع الأراضي، وأعلنت فيها أن فلسطين ستحصل على استقلالها خلال 10 سنوات. وفي ظل وجود أغلبية عربية كاسحة، بدا ذلك إشارة إلى أنها ستكون دولة عربية ذات أقلية يهودية؛ غير أن الحرب العالمية الثانية، والهولوكوست، والأحداث المحلية الأخرى تضافرت جميعا لإلغاء هذه الاحتمالية.
عززت نشأة الرايخ الثالث، وبداية حرب عالمية أخرى، وخسة الهولوكوست المستعصية على الوصف؛ الاعتقاد بأن الشعب اليهودي لا يمكن أن يكون آمنا دون وطن يستطيع تأمين سبل تقرير المصير والدفاع عن النفس. ومثلما شهدت نهاية الحرب العالمية السابقة إعادة أقلمة فلسطين، كانت الحال كذلك مع نهاية هذه الحرب؛ وهذه المرة اتفقت القوى المنتصرة على إقامة دولة إسرائيل، ولكن ظلت حقائق وجود وموقع الشعب الفلسطيني المستعصية قائمة؛ فلم يروا أي سبب يفسر وجوب شراء أمن اليهود مقابل حقوقهم وطموحاتهم (وعلى أرضهم). كذلك، وليس على سبيل المصادفة، كانت سوريا ومصر ولبنان والأردن والعراق والسعودية قد أصبحت مع نهاية الحرب دولا سيادية. لقد كانت هناك مشكلة فعلية واضحة، وكانت توجد مجموعة من الحلول الإقليمية المقدمة من الآخرين بشأن العرب واليهود في إسرائيل/فلسطين؛ ففي عام 1947 أجرت الولايات المتحدة مفاوضات حول خطة للتقسيم لإقامة الدويلتين المعقدتين ومنطقة «دولية» حول مدينة القدس (انظر خريطة
3 ). وهذه العملية التخيلية لإعادة الأقلمة قد اتخذت من نمطي «الوجود» و«الملكية»، اللذين تناميا على مدار الستين عاما المنصرمة، أساسا لها.
خريطة 3: توصية الأمم المتحدة بإقامة دولتين في فلسطين كحل، 1947. (المصدر: كيمرلينج وميجدال 2003. مطبعة جامعة هارفرد: قسم فن الخرائط، الجامعة العبرية. مستخدمة بتصريح.)
في عام 1948 صار كل هذا محل جدل، وظهرت مجموعة مختلفة من الممارسات الإقليمية؛ فعلى خلفية من الدبلوماسية الدولية، انخرطت القوات اليهودية والعربية شبه المسلحة في صراع مسلح، الأولى من أجل تدعيم موقف دولة إسرائيل التي ستعلن قريبا، والأخيرة من أجل منع إنشائها. وفي 14 مايو 1948، تبخرت حكومة الانتداب فعليا، وأعلنت دولة إسرائيل عن وجودها بين دول العالم السيادية، وفي اليوم التالي هاجمت قوات مسلحة من سوريا والعراق والأردن ومصر ولبنان والسعودية، وبدأت أول حرب بين العرب وإسرائيل. وفي غضون نصف عام هزمت إسرائيل القوات العربية المشتركة فعليا، وكان من بين نتائج الحرب أن أصبحت مساحة إسرائيل أكبر بنسبة 20 بالمائة مما كانت ستصبح عليه بموجب خطة الأمم المتحدة للتقسيم؛ فقد صارت تحتل نحو 80 بالمائة من فلسطين تحت الانتداب، وأصبح خط وقف إطلاق النار (وكان يسمى الخط الأخضر) الحد الفعلي لإسرائيل. وأضيف إلى الأردن منطقة فلسطين غرب نهر الأردن التي لم تكن تحت السيطرة الإسرائيلية (الضفة الغربية)، واحتلت المنطقة الساحلية حول مدينة غزة (قطاع غزة) وأديرت (ولكن دون ضمها) بواسطة مصر (انظر خريطة
4 ). ولكن مرة أخرى، الخطوط على الخريطة شيء، والواقع الاجتماعي غالبا ما يكون شيئا مختلفا تماما؛ فعند اندلاع العداوات العسكرية كانت المنطقة التي كان مقررا أن تصبح إسرائيل يقطنها 1,6 مليون شخص، شكل اليهود منهم 30 بالمائة، وعرب فلسطين نحو 70 بالمائة. ولو كانت هذه النسب النسبية قد استمرت، لربما واجهت دولة إسرائيل السيادية الجديدة صعوبات في البقاء كدولة يهودية مميزة، في مقابل دولة متعددة الأعراق. ومرة أخرى انعكس الحل لهذه المشكلة في هذا المقام في جولة أخرى من عمليات إعادة الأقلمة. (2-2) بعد عام 1948
خريطة 4: خط الهدنة 1949. (المصدر: بورنشتاين 2002 ب. مطبعة جامعة بنسلفانيا. مستخدمة بتصريح.)
كان من بين أعمال السيادة الأولى التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية تمرير «قانون العودة»، الذي منح مواطنة تلقائية لأي يهودي يهاجر إلى إسرائيل دون الاضطرار بالمرور بعملية تجنيس رسمية (ديفيز 1987). ولكن ثمة جوانب أخرى لعملية التهويد الإقليمي تعطي مثالا لبعض من الأبعاد المأساوية ل «الحيز القابل للإخلاء» لساك (انظر الفصل الثالث). كذلك أسفرت الحرب التي أطلق عليها الإسرائيليون «حرب الاستقلال» عما يسميه الفلسطينيون «النكبة».
أصبح أكثر من نصف عرب فلسطين الغربية لاجئين؛ لقد تعرض المجتمع للدمار؛ فقد كان أكثر من 60 بالمائة من مساحة إسرائيل الإجمالية، ما عدا النجف، أرضا يشغلها الفلسطينيون رسميا. علاوة على ذلك، استولت إسرائيل على مدن وبلدات كاملة، وكانت يافا وعكا واللد والرملة وبيسان ومجدل من بين هذه البلدات والقرى التي بلغ عددها 388. وإجمالا، كان ربع المباني في إسرائيل (100 ألف مسكن، و10 آلاف متجر وشركة ومخزن) فلسطينيا رسميا. (بيكرتون وكلوسنر 1995، 105)
نحو ثلاثة أرباع مليون مواطن فلسطيني «هربوا أو طردوا من الأرض على أيدي القوات اليهودية، ودمر ما يزيد على 420 قرية فلسطينية» (يفتاشيل 2002أ، 227). وبعد أن أصبحوا «لاجئين»، منعوا من العودة إلى منازلهم وقراهم بعد توقيع اتفاقيات الهدنة مع الدول المتحاربة. استطاع بعض من المشردين إيجاد ملجأ في دول مجاورة، إلا أن الأغلبية العظمى تم ترحيلهم في النهاية إلى معسكرات للاجئين في لبنان والأردن وسوريا والضفة الغربية وغزة، وسوف نتناول قصتهم لاحقا.
ظل ما يقرب من 160 ألف فلسطيني في إسرائيل، وفيما يتعلق بهؤلاء الأشخاص، صيغت الإقليمية بطريقة معينة من أجل تعظيم السيطرة إلى أقصى حد:
وضع عرب فلسطين في إسرائيل تحت الحكم العسكري، ومنعوا من التحرك خارج مناطقهم دون تصاريح، ومنعوا من تكوين أحزابهم السياسية. وبموجب أنظمة الدفاع (الطوارئ) المفروضة، التي لم يتم رفعها حتى عام 1966، كان للمحافظين العسكريين سلطات واسعة على الفلسطينيين؛ فكان من الممكن نفي العرب أو القبض عليهم واعتقالهم دون سبب، وكان من الممكن الاستيلاء على القرى والأرض بإعلان منطقة ما «منطقة أمنية». (بيكرتون وكلوسنر 1995، 106)
سوف تناقش تفاصيل عملية سير الإقليمية فيما يتعلق بهؤلاء «العرب الإسرائيليين» باختصار. فكما كتب يفتاشيل:
كانت النتيجة هي توغل اليهود داخل معظم القرى الفلسطينية عن طريق مستوطنات يهودية خالصة (حيث لم يكن يسمح لغير اليهود بشراء مساكن)، والتجميع العملي للأقلية الفلسطينية في أحياء للأقليات. وفي تلك الأثناء، لم يفقد مواطنو إسرائيل الفلسطينيون ملكياتهم الخاصة فحسب، بل جردوا أيضا من العديد من الأصول الإقليمية؛ إذ تم تخصيص كل أراضي الدولة تقريبا لاستخدام اليهود. (1998، 10)
وبينما أصبح نحو نصف الشعب الفلسطيني لاجئين، أصبح أولئك الذين ظلوا على الجانب الإسرائيلي «أقلية محاصرة» (رابينويتز 2001).
كانت المناورات التي قامت بها دولة إسرائيل، والتي كان ينظر إليها باعتبارها مكونات لاستراتيجية سلطة لا أقلمة وإعادة أقلمة؛ ينظر إليها أيضا من قبل العديد من المنتقدين باعتبارها شبيهة ب «التطهير العرقي» (فلاح 1996، 257)، و«الغزو الاستعماري» (هوم 2003)، والتمييز العنصري (جليزر 2003؛ هالبر 2002)، إن لم تكن تمثيلا لها. وفي داخل إسرائيل أرست هذه الخطوات الأولية الأساس لما يطلق عليه يفتاشيل «الديمقراطية العرقية»، ويعد هذا «تعبيرا خاصا عن القومية الموجودة في الأقاليم المتنازع عليها؛ حيث يحظى فصيل عرقي مهيمن بالسيطرة السياسية، ويستخدم أجهزة الدولة لإضفاء طابع عرقي على الإقليم والمجتمع محل الجدل» (2000، 730). والأمر الذي يحمل تأكيدا، مهما كانت تقييمات المرء لهذه التأطيرات النسبية، هو استخدام العنف من أجل فرض مزاعم السيطرة وتفعيل الطرد والإقصاء والاحتواء التمييزي للناس من خلال الإقليمية، وتشكيل العلاقات والأنشطة من خلال هذه الأمور.
إن تطور الإقليمية في العقود التي تلت عام 1948 غير واضح دون الإشارة إلى العمليات المعقدة لتشكيل الهوية؛ فلم تكن الهويات الموجودة في أرض الملعب هي هويات «اليهود» و«العرب»، أو حتى هويات «الإسرائيليين» و«الفلسطينيين»، تلك الهويات البديهية كما يبدو فحسب، ولكن كانت أيضا التكوين التمييزي الذي تحقق جزئيا من خلال أقلمة «الإسرائيليين اليهود» و«الإسرائيليين العرب» من اللاجئين (الممتدة الآن إلى الجيل الثالث والرابع) وغير اللاجئين داخل القطاعات غير الإسرائيلية الرسمية من فلسطين، واللاجئين في المعسكرات خارج فلسطين في دول أخرى، وفي مناطق الشتات الأوسع خارج الحدود. والدور الجوهري للإقليم والهوية هو الآخر غير واضح دون الإشارة إلى الأداء المعقد للأساليب الخطابية التسويغية بما يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، الصهيونية، وتعبيرات القومية الفلسطينية، وأساليب الخطاب الديني المتناحرة، وأساليب الخطاب المتمحور حول «الديمقراطية» و«الأمن»، والإنسانية الدولية، وغير ذلك.
لا تزال آثار النكبة ملموسة، بل إنها قد تضاعفت خلال عقود ما بعد عام 1948، وسرعان ما أصبح «حق العودة» للاجئين وذريتهم من المطالب الأساسية للنشطاء الفلسطينيين، وظلت كذلك، ولكنها ظلت أيضا مطالب غير قابلة للتفاوض بالنسبة إلى معظم المشاركين. (2-3) بعد عام 1967
في عام 1967 أصبح الموقف المعقد بالفعل (إقليميا وغير ذلك) أكثر تعقيدا بكثير؛ فردا على المناورات العسكرية الاستفزازية من جانب مصر والأردن وسوريا، شنت إسرائيل هجوما وقائيا. وفي خلال ستة أيام هزمت إسرائيل هذه الجيوش مجددا، وسيطرت على قدر ضخم من الأرض، وشمل هذا شبه جزيرة سيناء بمصر (وهي منطقة أكبر في حد ذاتها كثيرا من إسرائيل)، ومرتفعات الجولان بسوريا، والأهم الضفة الغربية (بما في ذلك الجزء العربي من القدس الشرقية )، وقطاع غزة. هذا معناه أن فلسطين كاملة - وأكثر - صارت تحت سيطرة السلطات العسكرية الإسرائيلية (انظر خريطة
5 ). كانت هذه المنطقة مأهولة بأكثر من مليون فلسطيني، وعلى الفور ضمت القدس الشرقية، فيما اتخذ ما تبقى من الضفة الغربية وغزة هوية جديدة هي «الأراضي الفلسطينية المحتلة». في جزء لاحق سوف أبحث كيف تغير الصفة «محتلة» في الاسم «أراضي» في الواقع العملي، أما في الوقت الحالي فقد أشير فقط إلى أنه بجانب هذه الأراضي أو الأقاليم المحتلة، ظهر نوع آخر من الأقاليم، وهو منطقة «إسرائيل الكبرى» التي تناقضت مع «أرض إسرائيل» أو «إسرائيل الصغرى»، أي في حالة الحرب التي كانت قائمة قبل عام 1967 غرب الخط الأخضر. والآلية التي يطلق عليها باروخ كيمرلينج (1989) «منظومة السيطرة الإسرائيلية» ظلت تعمل على مدى نحو 40 عاما فيما يتعلق بالتفاعل بين هذه الأقاليم.
خريطة 5: مناطق الاحتلال الإسرائيلي 1967. (المصدر: بريجمان 2002. روتليدج. مستخدمة بتصريح.)
كتب كيمرلينج يقول إن «منظومة السيطرة الإسرائيلية هي كيان إقليمي يشمل العديد من الكيانات الجماعية الفرعية، المرتبطة معا بواسطة قوات عسكرية وشرطية خالصة وتفرعاتها المدنية (مثل الجهات البيروقراطية والمستوطنين)» (1989، 266). والسمة المميزة لها هي «الافتقار شبه التام من جانب القطاع الحاكم للاهتمام والقدرة على خلق هوية مشتركة، أو منظومة قيم أساسية لتقنين استخدامها للعنف للحفاظ على المنظومة، أو تنمية أنواع أخرى من الولاءات للقوة والسلطة» (ص266). وعلى عكس أساليب الفهم الأكثر تقليدية للإقليم باعتباره محددا للمداخل والمخارج الواضحة للمساحات الاجتماعية، فإن الفكرة المحددة لأقلمة ما بعد عام 1967 هنا هي إبقاء الغالبية العظمى من الفلسطينيين «خارج» «أرض إسرائيل»، مع إبقائهم «داخل» منظومة «إسرائيل الكبرى» للسيطرة، وتنظيم التنقل بين هذين القطاعين. وسوف نبحث بعد قليل بمزيد من التفصيل عناصر أخرى لمنظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، أما في الوقت الحالي، فسوف أذكر فقط بعض الوقائع المهمة في عملية التطور الإقليمي للسيادة خلال الأربعين عاما منذ نشأة الاحتلال.
في عامي 1977-1978 بدأت مصر وإسرائيل في تطبيع العلاقات، وأسفر هذا، في عام 1979، عن انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء. وفي عام 1988 استنكرت الأردن المطالبات بالضفة الغربية؛ ما حدا بها إلى فصل المنطقة فعليا. وفي عام 1993 اعترفت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية رسميا بشرعية وجود كل منهما، وبدأتا مفاوضات مباشرة من أجل تسوية النزاع. وكان من ضمن جوانب هذه المفاوضات، المتعلقة على نحو خاص بموضوعنا، الاتفاق على خطة ل «الانسحاب المرحلي» للقوات والسلطة الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، ونقل بعض السلطات إلى «السلطة الفلسطينية»، وهي هيئة رئاسية حاكمة ترأسها ياسر عرفات. وفقا للخطة، التي جرى التفاوض عليها في البداية عبر محادثات أجريت في أوسلو، سوف تقسم الأراضي المحتلة إلى مناطق لا متجاورة من ثلاثة أنماط، تسمى أ، ب، ج (انظر خريطة
6 ). «في المنطقة (أ)، يكون للفلسطينيين سيطرة كاملة. في المنطقة (ب)، يسيطر الفلسطينيون على المجتمع المدني ويتولى الجانبان السيطرة على الأمن على نحو مشترك. في المنطقة (ج) ... تكون لإسرائيل سيطرة كاملة» (روفيني 2003، 355). غير أن الواقع أكثر تعقيدا بكثير مما يقترحه هذا التخطيط البسيط، فحتى باعتبارها إعادة أقلمة طموحة، كانت المنطقة أ في البداية تتضمن 1,1 فقط من الضفة الغربية، بينما غطت المنطقة ج المنطقة المتبقية. وكما يوضح هوم:
كانت نتيجة اتفاقية أوسلو أن قسمت الضفة الغربية إلى 120 مقاطعة فلسطينية منفصلة، كانت التنمية خارجها مقيدة من خلال التخطيط واللوائح الأخرى. حتى المناطق التي انتقلت ظاهريا إلى السلطة الفلسطينية ظلت تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، ولم يكن يوجد ترسيم للحدود بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل (2003، 304).
خريطة 6: الاتفاقية الإسرائيلية-الفلسطينية المؤقتة. (المصدر: بورنشتاين 2002ب. مطبعة جامعة بنسلفانيا. مستخدمة بتصريح.)
وهذا يعني أن كل جيب جزئي ذي «سيطرة» شكلية كان سيحاط بإقليم ذي سيطرة إسرائيلية، مثلما هي الحال مع الضفة الغربية ككل؛ وقد فهم البعض هذا الترتيب باعتباره قد خلق مجموعة من السجون المكشوفة والمفتوحة ذات رقابة ذاتية. وكما كتب إدوارد سعيد: «لقد استولت إسرائيل على 78 بالمائة من فلسطين في عام 1948، وعلى ال 22 بالمائة المتبقية في عام 1967. وتلك ال 22 بالمائة فقط هي محور البحث الآن» (2001، 33). ويشبه عالم الأنثروبولوجيا والناشط المناهض للاحتلال الإسرائيلي جيف هالبر الاستراتيجية الإسرائيلية باستراتيجية حكومة التمييز العنصري الجنوب أفريقية، وقيامها بإنشاء «البانتوستان» أو، بالأساس، المحميات الأهلية التي عملت كحاويات للبشر غير المرغوب فيهم؛ فقد كانت مستقلة صوريا، ولكنها في الواقع كانت تحت سيطرة جنوب أفريقيا. «من وجهة نظر إسرائيل ... تكمن البراعة في إيجاد ترتيب من شأنه أن يدعها مسيطرة على الأرض، ولكن يزيح عنها مسئولية السكان الفلسطينيين؛ نوع من الاحتلال الودي» (هالبر 2002، 38) ولعل من أهم عناصر عملية إعادة الأقلمة هذه الاستيطان المتسارع لليهود في الأراضي المحتلة، وهي سمة سوف نتناولها بمزيد من التفصيل في موضع لاحق في هذا الفصل. لقد نفذت اتفاقية أوسلو جزئيا، ولكن في أواخر التسعينيات من القرن العشرين بدأت في الانهيار داخل دوامة مريعة من العنف؛ فلم تكتف بعض الفصائل الفلسطينية المقاتلة بالاتفاقية، بل رفضت أيضا الاعتراف بوجود إسرائيل، بل إنها رفضت مشاورات سلطة منظمة التحرير الفلسطينية بشأن ذلك الاعتراف. وفي المقابل بدءوا سلسلة من التفجيرات الانتحارية الشرسة استهدفت المدنيين الإسرائيليين؛ ما أسفر عن مقتل مئات الأشخاص. وردت إسرائيل بدورها بقوة ضخمة؛ فمنذ عام 1987 حتى 2004، قتل ما يقرب من 4000 مدني فلسطيني، وأصيب أكثر من 26000 بجراح خطيرة (بتسلم 2003أ). في الوقت ذاته، انتفضت قطاعات كبيرة من الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال فيما عرف بالانتفاضة (الثانية)، وتعرضت هذه الانتفاضة أيضا لقمع وحشي. لقد أسفرت آليات الحيز والعنف في إسرائيل/فلسطين في مطلع القرن الحادي والعشرين عن إقليمية كارثية كالكابوس.
لقد كان اهتمامي الأساسي في هذا الجزء منصبا على وصف بعض من الوقائع المهمة التي تطورت من خلالها عملية أقلمة وإعادة أقلمة السيادة في المنطقة ما بين البحر المتوسط ونهر الأردن جنوب غرب آسيا؛ ففي خلال 85 عاما ما بين عامي 1915 و2002، بدأ مكان معين، لنقل نابلس، وسكانه كبلدة طرفية إلى حد ما في الإمبراطورية العثمانية، واحتلت من قبل بريطانيا تحت سلطة عصبة الأمم، ثم أصبحت رسميا داخل دولة الأردن، ثم احتلت من قبل إسرائيل، وفي النهاية صارت جزءا من مجموعة غامضة وشاذة من الكيانات غير الحكومية. ثمة أماكن أخرى أدمجت داخل دولة إسرائيل، وسكانها إما طردوا أو تم دمجهم. وقد تحققت إعادة تشكيل الإقليم على هذا المستوى الكلي من خلال التعاملات العقارية، والانتدابات الاستعمارية، ودبلوماسية «القوة العظمى»، والحرب، والإرهاب، ووسائل أخرى. ولكن، بشكل ما، لا تكشف لنا إقليمية السيادة (أو السلطة العسكرية-السياسية الفاعلة) إلا عن السمات الأساسية للغاية لهذا النظام (أو لأي نظام إقليمي). ومما يمثل القدر نفسه من الأهمية على الأقل بالنسبة إلى الحياة اليومية إقليمية الملكية أو حيازة الأرض التي تكيف الجوانب الأخرى للكيفية التي تعاش بها الحياة وكيفية تداول السلطة عبر الحيز الاجتماعي. (3) إعادة تشكيل الملكية
كما رأينا بالفعل، كان للصهيونية في فترات ما قبل نشأة إسرائيل (الحقبة العثمانية وحقبة الانتداب) برنامج إقليمي متكامل كان يطمح لتحقيق السيادة من خلال مراكمة وتجميع وحدات الملكية. لا شك أن جزءا كبيرا من معنى السيادة عمليا هو القدرة التي لا يعوقها شيء على تأسيس قواعد داخل إقليم ما. ومن أهم القواعد، داخل أي إقليم، تلك التي تتعلق بحيازة الأرض، وفي هذا الجزء سوف أتناول بعض جوانب قانون الأرض في حقبة ما قبل الانتداب، والتحولات المهمة في هذا القانون خلال حقبة الانتداب. بعد ذلك سوف أستعرض عددا من الآليات القانونية - أي التوجيهات الحكومية الرسمية - التي حققت بها دولة إسرائيل التهويد شبه الكامل للملكية خلال عقود ما بعد الاستقلال، وهذه عملية لا تزال في طور التطور والتكشف، وتكمن أهميتها فيما يتعلق بأهدافنا في دراسة آليات الإقليمية على مستوى أدق من التحليل نوعا ما من ذلك الذي يتاح من خلال تركيز حصري على السيادة والاستعمار السياسي.
قبل اختراع الصهيونية، أو القومية الفلسطينية، أو وصول أعداد كبيرة من المستوطنين الأوروبيين، صارت أرض فلسطين ذات أهمية من الناحية القانونية بالإشارة إلى منظومة معقدة نوعا ما للحيازة كانت شائعة في معظم أنحاء العالم العربي، وانعكست في القانون العثماني. وينوه كيمرلينج إلى أنه كان يوجد «نوعان أساسيان من حيازة الأرض في فلسطين، وكانت لهما درجات مختلفة تماما من المرونة والانسيابية، وكان الشكل الأكثر شيوعا هو الملكية الريفية الجماعية، أو «المشاع»» (1983، 31). «كان ثاني أبرز الأشكال هو الملكية الشخصية للعقارات الضخمة» (ص33). وقد كتب العالم القانوني الإسرائيلي ألكسندر كيدار أن قانون الأراضي العثمانية قد:
حدد فئات عديدة للأراضي، لكل منها مجموعة محددة من القواعد. كانت الملكية الكاملة للأرض (المسماة «ملك») نادرة، وعادة ما كانت توجد فقط في وسط البلدات والقرى، وكانت الفئة الأكثر شيوعا للأراضي التي توجد في المناطق المأهولة هي «الأميرية»، التي كانت الملكية الرسمية والمطلقة فيها للدولة، على الرغم من بقاء درجة كبيرة من الحيازة وحقوق الانتفاع في أيدي ملاك الأراضي الفرديين. أما الأراضي الأكثر بوارا وخلوا من السكان، فكانت تعرف بالأراضي «الموات» التي سادت فيها قوانين خاصة - وسلسة - على الحيازة والملكية. (2001، 932-933)
بالنسبة إلى أهدافنا، كانت هذه الفئات، التي تشير إلى قطاعات محددة من الحيز الاجتماعي في المساحات المأهولة، مكملة ومؤسسة للمنظومات الإقليمية للمواقع. ونظرا لأن كل فئة «كانت لها مجموعتها الخاصة من القوانين»، فقد أرست هذه القوانين (وتأويلها) الحقوق والمسئوليات والعلاقات فيما يتعلق بالحيز الاجتماعي؛ لذا، على سبيل المثال، «منح القانون العثماني أول شخص يقوم بإحياء أرض ميتة (موات) حقوق امتلاك تلك الأرض، وكانت الأرض البعيدة بما يكفي وغير المستغلة من قبل أي مجتمع محلي هي التي يمكن تصنيفها كأرض موات. ووفقا للمادة 103 من قانون الأراضي العثمانية، فإنه حتى الشخص الذي كان يتبنى أرضا مواتا من أجل الزراعة دون تصريح رسمي كان له الحق في شراء الأرض» (2001، 934-935). أيضا، وفقا لكيمرلينج، «بالإضافة إلى منظومة حيازة الأرض، كانت توجد (كبقايا من المجتمع البدوي-القبلي) حقوق عامة لاستغلال الأرض (الأراضي المتروكة)، سواء أكانت الأراضي ذات ملكية خاصة أم لا، بما في ذلك حقوق الرعي والري واستخدام المياه والمجرى» (1983، 38). وكانت هذه الفئات بعضا من الموارد المفاهيمية التي صارت من خلالها العناصر اليومية للإقليمية ذات معنى وأهمية من الناحية العملية في فلسطين ما قبل الصهاينة. وكما يشير كيدار: «من منظور «عصري»، يمكن وصف منظومة حيازة الأرض في فلسطين خلال الحقبة العثمانية كمنظومة غير منظمة وغير واضحة.» ولكن القرى العربية:
كانت في العادة مجتمعات صغيرة على درجة عالية من التماسك والعلاقات الودية الطويلة المدى بين أفراد المجتمع؛ حيث نشأت الترتيبات الاجتماعية غير الرسمية لامتلاك وحيازة الأرض؛ أي الأحكام التي كانت مفهومة على نحو واضح من قبل المشاركين، كبدائل للمنظومة الرسمية للتسجيل والتوثيق. (2001، 934)
إن قانون الأراضي العثمانية لعام 1858، كان في حد ذاته من صنع سلطة متمركزة على نحو متزايد، «لما يزيد على قرن من الزمان كأحد أسس منظومة الأراضي في فلسطين ثم إسرائيل، إلى أن سن قانون الأراضي الإسرائيلية لعام 1969» (2001، 932). وهكذا كانت إعادة أقلمة الحياة الاجتماعية في المنطقة ماضية على قدم وساق قبل بدء المشروع الإقليمي الصهيوني.
كان تأسيس العقارات الضخمة - بعضها عن طريق المصادرة من قبل الحكومة وإعادة التخصيص لصالح النخب الحضرية الغائبة التي تعيش في بيروت أو القاهرة - قد خلق بالفعل طبقة من ملاك الأراضي المتغيبين، وعددا متزايدا من العمال الذين لا يملكون أرضا (كيمرلينج وميجدال 2003). وكان المشروع الصهيوني سيثبت فشله وعقمه لولا وجود بائعين على استعداد للبيع ودرجة ما من الرضوخ الحكومي (العثماني والبريطاني). ومع ذلك فقد شكل شراء هذه الأماكن والشروط التي كانت تقضي بأن تظل الأراضي يهودية تحولا مهما في حد ذاتهما، وكانا محوريين في الأساس الإقليمي لمزيد من نزع الملكية، والإقصاء، والطرد، والعزل. وكما أشرت من قبل، كانت هذه التحولات متعمدة واستراتيجية إلى حد كبير. فيذهب كيمرلينج إلى أن:
موقع الأرض المشتراة كان محل اهتمام خاص؛ فقد كان الاتجاه السائد هو شراء قطعة أرض كبيرة في منطقة معينة، مثل الأودية أو السهل الساحلي، ثم توسيع حدود الملكية لأكبر قدر ممكن؛ ونتيجة لذلك، تشكلت في العديد من المناطق «سلسلة إقليمية متصلة» يهودية ساهمت في كل من الصورة الخارجية لوحدة سياسية متجانسة وقوية - سارت جنبا إلى جنب مع عملية انفصال بين الاقتصادات اليهودية والعربية - والصورة الذاتية والإحساس بالأمن لدى اليشوف (المجتمع اليهودي). (1983، 40)
وكانت توجد نتائج أخرى أيضا. «عند الضرورة، كان مثل هذا الاتصال الإقليمي يجعل الحماية المتبادلة الفعالة للمستوطنات أمرا ممكنا؛ إذ كانت تستطيع أن تأتي سريعا لنجدة إحداها الأخرى عند تعرضها لهجوم أو تهديد، قبل أن تتحرك التنظيمات القومية أو حتى التنظيمات المحلية شبه المسلحة» (كيمرلينج 1983، 40). علاوة على ذلك، «عندما اتضح أكثر - في الأساس منذ عام 1937 فصاعدا - أن الحدود المادية للكيان الجماعي سوف تتحدد وفقا ل «حقائق المجال» - أي إن أرض الدولة اليهودية سوف تضم جميع الأماكن التي يمتلكها اليهود ويستوطنونها - استشعرت الحاجة إلى شراء الأراضي، خاصة في الجليل والنجف، التي كانت متناثرة بعيدا عن منطقة الاستيطان التقليدية» (ص40). ويعرض كيمرلينج الاقتباس التالي من خطبة ألقيت أمام اللجنة التنفيذية الصهيونية عام 1937:
لا بد أن نبذل جهدا لامتلاك الأماكن البعيدة عن مراكز استيطاننا، من أجل تأمين حدود بلادنا بأقصى قدر ممكن. والحق أنه عند وضع برامج شراء الأراضي، كان هذا الهدف في عقولنا دوما؛ أن نستوطن الأماكن النائية. هذا هو الانتزاع الحقيقي للحدود، من وجهة نظر سياسية. وفي هذا الإطار، قرر الصندوق القومي اليهودي خلال العام الماضي توسيع أنشطته من أجل تأمين الحدود الشمالية والشرقية بأسرع ما يمكن؛ فعلى الرغم من كل شيء، نحن لا نتعامل فقط مع مسألة زراعية؛ لأننا قبل كل شيء نكافح من أجل ضمان أوسع حدود ممكنة لأمتنا. (مقتبس في كيمرلينج 1983، 40)
كانت هذه التحركات إقليمية على عدد من الأصعدة، والشيء الأبرز أن القطاعات أو الأجزاء كانت في حد ذاتها أقاليم تتأسس وفقا لها قواعد الدخول والطرد والحقوق والواجبات الأخرى وتطبق. ولما كانت هذه الأقاليم قد «استردت» وفي حيازة مؤسسات مثل الصندوق القومي اليهودي، كانت أقاليم ذات طابع عرقي أو عنصري. ووفقا لبنود الاستراتيجية فقد كان ينظر إليها أيضا باعتبارها لبنات بناء أساسية إقليمية للملكية أمكن تأكيد السيادة انطلاقا منها.
كان للانتقال من السلطة العثمانية إلى السلطة الاستعمارية البريطانية عواقب مهمة بالنسبة إلى إعادة أقلمة الحياة الاجتماعية بصفة عامة، وتهويد الأرض (ونزع الهوية الفلسطينية عنها) بصفة أخص.
سخر أحد التعديلات الانتدابية على قانون الأراضي العثمانية لعرقلة السهولة التي كان يمكن بها امتلاك الأرض الموات؛ فقد ألغى مرسوم الأرض الموات (الصادر عام 1921) الفقرة الأخيرة من المادة 103 (انظر أعلاه) من قانون الأراضي العثمانية، مستعيضا عنها بالتالي: «أي شخص يقوم بتقسيم أو زراعة أي أرض بور دون الحصول على موافقة السلطة، لن يكون له الحق في الحصول على سند ملكية لمثل هذه الأرض، بالإضافة إلى أنه سوف يكون معرضا للملاحقة القضائية بتهمة الاعتداء على ممتلكات الغير.» ربما كان المضمون القانوني لهذا الجزء ضخما. فتحت الحكم العثماني، كان أي شخص «يحيي» أرضا «مواتا» أو «بورا» كان يحصل في الحال على سند ملكية خالص وشرعي لها، حتى لو لم يكن قد حصل على تصريح السلطات؛ أما تحت حكم الانتداب، كان مثل هذا الشخص يصبح متعديا على ممتلكات الغير، مهما طالت الفترة التي أمضاها الشخص في زراعة الأرض. (كيدار 2001، 936)
كذلك قام البريطانيون ب «تحديث» حيازة الأرض بإنشاء منظومة رسمية للتوثيق.
مارست المنظمات الصهيونية ضغوطا على الحكومة البريطانية لتنفيذ مسح شامل للأراضي، من أجل المساعدة في تحديد أرض الدولة البور التي سيستطيع اليهود بناء مستوطناتهم عليها في ضوء إعلان بلفور. كذلك أيدوا تنفيذ عملية استيفاء سندات الملكية، التي كان من شأنها تدعيم إمكانية الاعتماد على حقوق الملكية للمساعدة في تسهيل شراء الأراضي ذات الملكية الخاصة. وقد كان ينظر إلى توليفة الاستحواذ اليهودي والملكية غير المتنازع عليها في الأرض في مناطق فلسطين الممتدة كوسيلة مهمة لتحقيق الصهاينة للسيادة اليهودية في فلسطين (كيدار 2001، 937-938).
قام البريطانيون:
بتنفيذ عملية استيفاء السندات على نحو انتقائي، مع التركيز على المناطق التي أعلنت رسميا «مناطق استيطان» من قبل السلطات. وقد سرت هذه التخصيصات في المقام الأول على المناطق اليهودية أو المناطق الخاضعة للنزاع بين اليهود والعرب، ولكن ليس في منطقة الجليل أو النجف العربيتين. وأدرج معظم الأراضي التي خضعت للاستيطان فيما بعد ضمن الإقليم الذي دمج داخل دولة إسرائيل. (كيدار 2001، 939)
بينما كانت التحولات في منظومة حيازة الأراضي خلال فترة الانتداب (التي شملت سياسة ترمي إلى تحجيم الحيازة اليهودية في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين) تعد ذات أهمية في سياقها؛ فإنها تبدو باهتة أمام تلك التحولات التي حدثت منذ تأسيس السيادة الإسرائيلية؛ فبينما كان 6 بالمائة فقط من الأرض التي كان يخطط لأن تصبح دولة إسرائيل فيما بعد مملوكا للمنظمات اليهودية في عام 1947، فقد صارت بحلول ستينيات القرن العشرين تمتلك أكثر من 94 بالمائة (كيمرلينج 1983). وقد تحقق جزء كبير من هذا التحول عن طريق القوانين والتفسير القضائي لهذه القوانين (كيدار 2001). تذكر أنه كان من بين أهم عواقب حرب 1948 ظهور ثلاثة أرباع مليون لاجئ فلسطيني (ما يعادل نحو 80 بالمائة من السكان)، من خلال استخدام القوة والهروب، ومنع عودة أولئك الذين فروا إلى أماكن في مناطق خارج دولة إسرائيل إلى بيوتهم وبلداتهم وقراهم. وقد كتب حسين وماكاي في كتابهما «الدخول محظور: حقوق الفلسطينيين في الأرض في إسرائيل» (2003):
كانت الأداة القانونية الأساسية التي استخدمتها إسرائيل من أجل الاستحواذ على الأرض المملوكة للاجئين الفلسطينيين والمهجرين داخليا والسيطرة عليها، هي قانون أملاك الغائبين لعام 1950. بموجب هذا القانون، تنتقل جميع الحقوق في أي أملاك تخص أولئك المصنفين ك «غائبين» تلقائيا إلى القيم على أملاك الغائبين. وكان أي شخص يستولي على أملاك الغائبين ملزما بتسليمها إلى القيم ، وكان العجز عن القيام بذاك يشكل جريمة جنائية. (ص70)
كان تعريف «الغائب» يشمل أي مواطن فلسطيني هجر محل إقامته المعتاد، وكان من الممكن أن ينطبق هذا التعريف من الناحية الاصطلاحية على اليهود الذين تم تهجيرهم بفعل الحرب، مثلما ينطبق على العرب. ويستشهد كيدار (2003، 425) بأحد المعلقين القانونيين في قوله: «هل كان المشرعون ينتوون تطبيق هذه اللوائح أيضا على اليهود الإسرائيليين المقيمين في إسرائيل؟ لو كان مقررا أن تطبق اللوائح على العرب فقط، للزم قول ذلك بوضوح وجلاء.» ويردف كيدار: «في الواقع، احتوت اللوائح على آليات معقدة أسفرت عن الاستثناء الروتيني لليهود من وضع «الغائبين». وفي الوقت نفسه، فإن عشرات الآلاف من العرب الذين أصبحوا مواطنين إسرائيليين صاروا غائبين، بالرغم من ذلك، واكتسبوا اللقب المتناقض «غائبين حاضرين»؛ ذلك اللقب الذي طاردهم لما تبقى من حياتهم» (ص425). وقد يفهم ذلك على نحو منطقي بأنه تجسيد لمفهوم ساك عن «المساحة القابلة للإخلاء مفاهيميا» مصحوب بنزعة انتقامية.
منح القيم على الأملاك سلطات كاسحة لطرد المواطنين من الأرض، ليس لطرد المحتلين الخارجين عن القانون فقط، بل أيضا لطرد الملاك المتمتعين بالحماية؛ حيث يقرر القيم على الأملاك أن إخلاء الأرض مطلوب ل «أغراض تنمية المكان أو المنطقة الموجودة فيه». في عام 1953، قام القيم على الأملاك بنقل كل الأملاك القابلة للنقل التي تحت سلطته إلى سلطة التنمية، وكانت سلطة التنمية بدورها مخولة بحكم هيئتها التشريعية التأسيسية بنقل الأملاك التي في حوزتها إلى الدولة، أو إلى وكالات تقوم بتوطين اللاجئين الداخليين العرب، أو إلى سلطة محلية، على شرط أن يمنح الصندوق القومي اليهودي خيارا أول لشراء الأرض. خلال خمسينيات القرن العشرين وستينياته، كان يتم إرسال مفتشين تابعين للحكومة الإسرائيلية إلى القرى والبلدات الفلسطينية للمطالبة بأراضي أولئك الذين كان يمكن تصنيفهم كغائبين نيابة عن القيم. ولم يقتصر التأثير على القرى التي أخليت خلال الحرب فحسب، بل أكد القيم على الأملاك أيضا حقوقه على مساحات كبيرة من الأرض داخل المجتمعات العربية التي نجت من الحرب، واضعا نفسه موضع اللاجئين، ومؤكدا حقوقهم في الأملاك سواء كملاك فرديين أم جماعيين لقطعة أرض بعينها. (حسين وماكاي 2003، 70-73)
ثمة فئة قانونية مثيرة للاهتمام على نحو خاص، هي فئة «الغائبين الحاضرين»، أو الفلسطينيين البالغ عددهم نحو 75000 الذين ظلوا في إسرائيل (وأصبحوا مواطنين)، ولكنهم لم يكونوا في منازلهم في 29 نوفمبر 1947. فكما كتب بيريتز: «كل العرب الذين كانت لهم أملاك في مدينة عكا الجديدة، بصرف النظر عن حقيقة أنهم ربما لم ينتقلوا قط إلى أبعد من المدينة القديمة التي كانت على مسافة بضعة أمتار قليلة؛ صنفوا كغائبين، وأي فرد ربما يكون قد ذهب إلى بيروت أو بيت لحم في زيارة ليوم واحد، خلال أيام الحرب الأخيرة، كان يصنف تلقائيا كغائب» (1958، 152، مقتبس في كيدار 2003، 426). وأخيرا، وكما يشير كيمرلينج:
كان نقل ملكية الأراضي إلى إسرائيل يتم بأساليب مخالفة للقانون أيضا؛ ففيما بين عامي 1949 و1959، كان العرب - أفرادا، وقرى، وقبائل - يجبرون على ترك أراضيهم، وطرد البعض إلى مناطق أخرى داخل إسرائيل، وآخرون إلى أماكن تقع وراء خطوط الهدنة. كان عدد سكان بلدة مجدل يبلغ 9910 في عام 1944، بينما لم يبق من السكان بعد الحرب سوى نحو 2500 شخص. وفي أغسطس 1950 كان جميع سكان البلدة تقريبا قد نقلوا إلى قطاع غزة. (1983، 139-140)
لم تكن أنظمة أملاك الغائبين هي القوانين الرسمية الوحيدة التي استهدفت (وبررت) إعادة الأقلمة الجذرية للحياة في إسرائيل/فلسطين؛ فقد كانت توجد أدوات أخرى مهمة شملت أنظمة الطوارئ التي تم تفعيلها في البداية خلال فترة الانتداب. وهكذا، «بموجب اللائحة 125، كان الحاكم العسكري مخولا بإعلان «المناطق المغلقة» التي لم يكن يمكن لأحد دخولها أو مغادرتها دون إذن كتابي. كانت المناطق التي يعيش فيها الفلسطينيون مقسمة إلى جيوب صغيرة، وأعلن كل منها منطقة مغلقة؛ حيث كانت التحركات بداخلها وإلى خارجها مقيدة على نحو بالغ» (حسين وماكاي 2003، 80). كذلك، «خولت لوائح الطوارئ (المناطق الأمنية) لعام 1949 وزير الدفاع سلطة إعلان المناطق المتاخمة للحدود الإسرائيلية منطقة أمنية، وإصدار أمر لأي أشخاص بمغادرة مثل هذه المناطق. واستخدمت هذه السلطة لطرد الفلسطينيين من قريتي إقرت وبرعم بالقرب من الحدود اللبنانية» (2003، 83). كذلك أعلنت الدولة مناطق الأراضي المملوكة للفلسطينيين «مناطق عسكرية» أو أرض مصادرة بموجب مرسوم الأغراض العامة، حيث كلمة «عامة» تعني يهودية على نحو شبه دائم. ثمة جزء آخر من الآلة القانونية لنزع الملكية هو قانون العقارات لعام 1969، الذي ألغى رسميا تصنيفات الأراضي التي صدرت في العهد العثماني في كل من أرض إسرائيل والأراضي المحتلة. «كانت الأرض «المتروكة» تسجل لدى سلطة الدولة أو السلطة المحلية، والأرض «الموات» لدى الدولة، والأرض خارج إطار الملكية الفردية كان يعاد تصنيفها إما كعقار عام وإما كعقار مخصص (للمنفعة العامة)، مثل الشريط الساحلي، وشبكات الطرق» (هوم 2003، 297).
كان لنزع الملكية والطرد والإقصاء والدمار الممنهج المدبر الذي صاحب النظام الإقليمي قبل عام 1948 و«تهويده» الشامل؛ عدد من العواقب الاجتماعية والوجودية البالغة. وكان من بين هذه العواقب، عاقبة لها أهمية كبيرة في فهم الإقليمية، وهي خلق ما يطلق عليه عالم الاجتماع الإسرائيلي دان رابينوفيتش «أقلية محاصرة». يهدف هذا المفهوم إلى توضيح وتفسير بعض النتائج والآثار التي خلفتها عملية إعادة الأقلمة هذه على الهوية والوعي بين الإسرائيليين الفلسطينيين؛ أي نسل العرب الذين يقطنون أرض إسرائيل، والذين يعدون مواطنين تابعين للدولة الإسرائيلية إن لم يكونوا أعضاء في الأمة اليهودية. يكتب رابينوفيتش قائلا:
إن الحرب التي خسرها الفلسطينيون أمام إسرائيل في عام 1948 محت عمليا حواضرها القديمة بوصفها بؤرا للانتماء والهوية؛ فقد تقلصت المراكز الفلسطينية مثل يافا والرملة وليد وبئر السبع ومناطقها الداخلية، أو اختفت تحت المعاقل الإسرائيلية اليهودية السريعة الامتداد، التي صار يسكنها مهاجرون يهود وصلوا حديثا من الخارج. ولم يتبق للفلسطينيين عموما سوى قرى معزولة ومفتتة. وشهدت فترة خمسينيات القرن العشرين فقدان الكثير من تلك القرى لأجزاء كبيرة من الأراضي والمراعي المزروعة لصالح الدولة اليهودية، عن طريق المصادرة على نحو أساسي. (2001، 66)
ويردف: «إن مواطني إسرائيل الفلسطينيي الأصل لديهم ادعاءات واضحة بامتلاكهم حقوقا، بما في ذلك الحق في الأرض، ومع ذلك دائما ما يستبعدون من معظم العمليات السياسية التي تحدد استخدام الأرض والتنمية والرفاهية في وطنهم» (ص66). علاوة على ذلك، «أدت الفجوة المكانية التي نتجت إلى تدمير إحساس الفلسطينيين بالزمن الجماعي، وقدرتهم على تشكيل هوية متماسكة» (ص66-67). ويشير رابينوفيتش إلى أن إعادة أقلمة الحيز الاجتماعي قد جلبت نوعا من تقسيم الوعي والهوية الجماعيين، ولكن النتيجة الرئيسية لهذا هي خلق إحساس ب «الاختناق» (ص67). «يستطيع الفلسطينيون في شمال إسرائيل الاستقرار والتنقل فقط داخل مثلث صغير يضم أجزاء من عكا والناصرية وحيفا؛ أما بقية البلاد، فبينما يتاح دخولها شكليا للجميع، فإنها فعليا محظورة عليهم» (ص67).
ويبرز رابينوفيتش بعضا من الأبعاد التجريبية لهذه العملية الإقليمية قائلا: «يعد استخدام أسلوب نصب الفخاخ تطورا مثيرا. مكان ينظر إليه في البداية على أنه آمن، يتعرض لتدخل خارجي يؤدي إلى عزله وحصاره: باب يغلق، سور ينصب، جدار أسمنتي ينشأ؛ وهكذا يصبح المكان مسيجا وخطيرا، وفجأة يصبح المواطن سجينا» (ص73)، وهذا السجن بدوره أدى إلى نتائج أخرى. ويذهب رابينوفيتش إلى أن الأقليات المحاصرة تعاني تهميشا مزدوجا؛ ففي البداية يتعرضون للتهميش داخل الدولة، ثم «تميل المجموعة المهيمنة التي تبسط نفوذها على الدولة الجديدة التي تحاصر الأقلية إلى التعامل مع أفرادها بدونية» (ص73). ولكن في الوقت نفسه، «عند النظر إليهم من العالم العربي»:
يبدو مواطنو إسرائيل الفلسطينيون عنصرا غامضا وإشكاليا لم يتحدد وضعه على الساحة القومية، وولاؤه للأمة الفلسطينية محل شك؛ ففي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، على سبيل المثال، كان مواطنو إسرائيل من الفلسطينيين يعاملون من قبل القيادة الفلسطينية المنفية باعتبارهم كيانا جماعيا انتهازيا فاسدا، يتعاون مع الاحتلال الصهيوني الذي انتزع وطنهم. ومن المحتمل أن تظل الأقلية المحاصرة غير مندمجة؛ فنظرا لتمزقهم بين دولتهم الأم ودولتهم المضيفة، يواجه أفراد أي أقلية محاصرة صعوبة في المشاركة في إنتاج واستهلاك اللغة، والمسرح، والموسيقى، والسينما، والإعلام، والفولكلور في الثقافة السائدة للدولة، خاصة أينما يحتوي مثل هذا الإنتاج على محتوى خالص يتعلق بالهوية القومية. (رابينوفيتش 2001، 74، 76-77)
على نحو متصل، «ربما يظهر أعضاء الأقليات المحاصرة انقسامات داخلية أيديولوجية وسياسية مزمنة، ويواجهون صعوبات في تشكيل جبهة موحدة داخل وخارج الدولة على حد سواء» (ص77). أي إن عمليات إعادة التشكيل الإقليمي ينظر إليها هنا بوصفها مثيرة لانقسامات وتباينات أيديولوجية، ولكن الأمر بالطبع لا يقتصر على مجرد أن الإسرائيليين من أصل فلسطيني والفلسطينيين خارج «أرض إسرائيل» (خاصة أولئك القاطنين في الأراضي المحتلة) يوجدون على الجوانب المختلفة لحدود ما (وفي هذا المقام من المهم أن ندرك أن العائلات قد تنقسم، وأن أفراد العائلات المنقسمة إقليميا قد يعيشون على بعد بضعة أميال أحدهم من الآخر)؛ فهم يحتلون مواقع مختلفة داخل تمركزات للسلطة هي ذاتها خاضعة بقوة للأقلمة، وإن كان ذلك على نحو غير تام. والحصار ليس مكانيا فقط؛ فهو له أيضا جوانب زمنية تتقاطع مع الإقليمية. ومن منظور الخطاب الصهيوني السائد، «كانت الأقلية العربية تعامل كما لو كانت قد ظهرت من العدم؛ فتاريخها قد بتر، واتصالها المكاني مع الفلسطينيين والعرب في الأقاليم المجاورة قد أوقف. لقد أصبحت محاصرة تماما ضمن الوجود الإسرائيلي» (رابينوفيتش 2001، 80). ولكن على الجانب الآخر، من داخل الخطاب نفسه، يمكن بسهولة طمس الفروق والاختلافات التي قد يصنعها الإقليم؛ أي الفروق المحتملة بين مواطني الدولة الفلسطينيين والعدد الأكبر من أعداء الدولة من الفلسطينيين. «إن الأقلية المحاصرة، بطبيعة الحال، ليس من السهل احتواؤها؛ فهي تمتد عبر الحدود متوغلة داخل أقاليم أخرى، مجاورة أو بالخارج، لتصوغ معاهدات مع الأعداء والغرباء. إن المجاز الذي يصور الغرباء على أنهم وكلاء للمرض - كيان أجنبي يغزو جسد الأمة، مهددا بتدميرها من الداخل - غالبا ما يطفو على السطح في الخطاب البلاغي الذي يعكس أشد حالات الخوف والكراهية للأجانب من جانب الأغلبية. وهكذا يبدو كون جماعة ما أقلية محاصرة ليس مجرد أمر معقد ومربك، ولكنه قد يكون خطيرا أيضا» (ص78-79). (4) منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية
إذا كان مواطنو إسرائيل من الفلسطينيين أقلية محاصرة، فإن الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة أغلبية محاصرة. هم يتضاعفون داخل تلك المنطقة المحاصرين فيها. في هذا القسم سوف أضع مخططا أوليا للعناصر الأساسية لمنظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة على مستوى من التفصيل أدق من ذلك المتاح من خلال تحليل الملكية والسيادة. وما هو متضمن هنا في الأساس هو شيء أشبه ب «أقاليم النفس» التي ناقشناها في الفصل الثاني.
ونقطة البداية هي الحقيقة البسيطة الخاصة بالاحتلال في حد ذاته. تذكر أن الضفة الغربية وقطاع غزة لم يتم ضمهما من قبل إسرائيل (باستثناء القدس الشرقية ومرتفعات الجولان)؛ فهما محتلتان، أي يسيطر عليهما الجيش والجهات الفاعلة الأخرى التابعة للدولة، بينما تظلان رسميا مستثناتين من تلك الدولة وتقعان خارجها. وكما سنناقش لاحقا بمزيد من التفصيل، تتعرض الأراضي أيضا للاحتلال على نحو متزايد من قبل المدنيين الإسرائيليين في «مستوطنات» حصينة. إن الاحتلال، بالطبع، نوع من العلاقات الإقليمية؛ فالإقليم هو الحيز الذي يحدث بداخله الاحتلال، ولكن ليست الأقاليم فقط هي التي تحتل؛ فالأشخاص، والحياة، والزمن - الواقع الاجتماعي - جميعها تحتل؛ أي يسيطر عليها الآخرون لمصلحتهم الخاصة. ما من شيء لا يمس بعمليات الاحتلال وممارساته. والاحتلال لا يعني شيئا دون النشر الروتيني للعنف والإذلال بغرض الحفاظ على السلطة؛ فالاحتلال يصبح ذا معنى للمحتلين والمراقبين المعنيين من خلال خطاب «أمني» مقترن بالخطاب الصهيوني الخاص باسترداد السامرة ويهودا. فالأراضي المحتلة لا تمثل دولة، وهي مساحات بلا سيادة، ورسميا الأشخاص الذين يعيشون في هذه المساحات، البالغ عددهم 3,6 ملايين شخص، لا يعدون مواطنين، وليس لهم دولة لحمايتهم من عنف الآخرين. ورسميا، لهم حقوق إنسان بالطبع، ولكن هذه الحقوق أيضا تنتهك على نحو روتيني (منظمة العفو الدولية 2003). لذا تعد الأراضي المحتلة، عمليا، مستعمرات إسرائيلية. في هذا الجزء سوف أضع ببساطة قائمة ببعض المكونات الأساسية للمنظومة الإقليمية: الخط الأخضر، والمخيمات، ونقاط التفتيش، وعمليات الإغلاق وحظر التجوال، والمستوطنات، والسياسة الجغرافية للعمودية، والجدار العازل ومنطقة التماس. (4-1) الخط الأخضر
تقع الأراضي المحتلة في منطقتين منفصلتين (انظر خريطة
4 ). والضفة الغربية محاطة باليابسة، وتسيطر إسرائيل، على أي حال، على الحدود مع أرض إسرائيل ومع الأردن. وكما سبقت الإشارة، يمكن النظر إلى الضفة الغربية بأكملها باعتبارها نظيرا لمحمية أهلية كبيرة. وكما رأينا، عقدت أيضا مقارنات مع البانتوستانات التي تعود لعهد التمييز العنصري والسجون المكشوفة. تسيطر إسرائيل على حق الدخول، والخروج، والمجال الجوي. وغزة عبارة عن شريط أرضي صغير للغاية وشديد الكثافة السكانية يقع على الساحل، وحدودها مع مصر مغلقة؛ غير أن الأراضي المحتلة متكاملة اقتصاديا على نحو وثيق على المستوى الاقتصادي مع إسرائيل. لا يوجد الكثير من فرص العمل، خاصة منذ تسعينيات القرن الماضي، ومعدلات البطالة بالغة الارتفاع. منذ عام 1967 حتى تسعينيات القرن العشرين كانت الحدود بين أرض إسرائيل والأراضي الفلسطينية مفتوحة نسبيا، وكان الفلسطينيون مصدرا مهما للعمالة الرخيصة نسبيا للشركات الإسرائيلية. ومنذ الانتفاضة كانت الحدود تغلق على نحو دوري، وكان لهذا بالطبع تأثير بالغ على الظروف الاقتصادية الفلسطينية. ومؤخرا أقدمت إسرائيل على جلب عمال بدلاء من أماكن نائية مثل بوليفيا وغانا (بارترام 1996).
يقول إفرام بورنشتاين، وهو أنثروبولوجي أمريكي عاش في الضفة الغربية وكتب وصفا عرقيا للخط الأخضر:
بالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية، كان الخط الأخضر (وهو خط الهدنة الأردني الإسرائيلي السابق الذي يفصل الضفة الغربية عن أرض إسرائيل) يشكل الحياة اليومية، أكثر من أي وقت مضى، فيما يتعلق بفرص كسب الرزق؛ فقد كانت السياسات الحدودية تقيد الزراعة والصناعة الفلسطينيتين؛ ما دفع الكثيرين للعمل بخدمة المنتجين والمستهلكين الإسرائيليين. وكان عشرات الآلاف من عمال الضفة الغربية يعبرون الحدود للعمل في إسرائيل كل يوم تقريبا، وعمل عشرات آلاف آخرون، مثل ميكانيكيي السيارات وعمال النسيج، لدى إسرائيليين في الضفة الغربية. حجمت الحدود من المطالب التي كان يمكن لمعظم هؤلاء العمال فرضها على من يحصدون الأرباح والمكاسب. كذلك عانى وكلاء التعاقد من الباطن - الذين جعلوا المعاملات التجارية عبر الحدود أمرا ممكنا - من القيود على الحدود، إلا أن الحدود جلبت لهم مصادر جديدة للثروة؛ ما خلق توترات داخلية جديدة. كانت العمالة وعمليات الإنتاج في منطقة الحدود جزءا مهما من الصراع القومي غالبا ما يغفل في توصيفات الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. (2002ب،
ix )
إذا فالخط الأخضر لا يفصل فحسب، بل يحدث تكاملا واندماجا؛ غير أنه يفعل ذلك تحت ظروف من اللامساواة المفرطة؛ وهذا من شأنه تيسير ما سماه بورنشتاين في موضع آخر «الاستغلال المفرط» (2002أ). ولكن بينما قد يحدث تكاملا من بعض النواحي، إلا أنه يعزز من نواح أخرى تباعد الهويات الفلسطينية وانفصالها :
أصبحت الحدود موقعا يفصل بين العوالم الثقافية؛ فقد كانت تقاليد النوع والسن والزواج لدى معظم أهالي الضفة الغربية مختلفة اختلافا واضحا عن تلك الخاصة بأقربائهم الذين يعيشون على بعد بضعة كيلومترات فقط عبر الحدود. وكان الفلسطينيون يميزون الحدود الثقافية العرقية المتبادلة والداخلية، وكانت التقاليد والأعراف تشير إلى أشكال التباين والتضامن، وتعيد صياغة العلاقات التي تؤسسها الحدود وكذلك الهويات الشخصية التي تتضمنها. لقد أرست إقامة الحدود اختلافا ورباطا بين الضفة الغربية والفلسطينيين الإسرائيليين، وأيضا ميزت أولئك الذين ظلوا داخل فلسطين التاريخية وأولئك الذين يعيشون في مجتمعات الشتات في الأردن والخليج وما وراءهما. (2002ب،
xi )
كذلك تيسرت نتائج الإقليمية وآثارها من خلال انتشار ما يطلق عليه بورنشتاين «بيروقراطية مشفرة لونيا»:
كان سكان الضفة الغربية يحملون بطاقة إثبات هويتهم في حافظات برتقالية اللون، وحمراء للغزيين، وزرقاء للإسرائيليين. بالمثل، كانت السيارات تميز بسهولة من لوحات الترخيص ذات الشفرة اللونية؛ فكانت لوحات الإسرائيليين صفراء، ولوحات سكان الضفة الغربية زرقاء. كذلك كانت لوحات سكان الضفة الغربية الزرقاء تحوي حرفا عبريا كان يحدد الدائرة التي جرى تسجيل السيارة فيها. (2002ب، 206)
يتم فتح وإغلاق الحدود، كما سنرى، بحسب مشيئة السلطات، وأحيانا بطرق تبدو تعسفية للغاية:
حتى عند فتح نقطة التفتيش، كانت مكانا يبحث فيه جنود مسلحون تسليحا قويا عن أسباب لفتح النيران، أو احتجاز الناس. وكان هذا وحده كفيلا بجعل عبورها أمرا خطيرا؛ فقد كان من الممكن أن يكون عبورها أول خطوة نحو الاحتجاز، الذي يمكن أن يتطور إلى تجربة مع الاعتقال والتعذيب بينما يكون الشخص رهن الاستجواب والتحقيق. وهذا التهديد المحتمل بالعنف الجسدي جعل العنف الرمزي أيضا شائعا للغاية؛ فغالبا ما كان الفلسطينيون يواجهون الإذلال البسيط والمؤلم في الوقت نفسه عند خضوعهم للاستجواب أو التفتيش المهين من قبل أحد الجنود. حتى إذا لم يحدث أي شيء من هذا، كان عبور الخط الأخضر بسلام يعد شكلا من أشكال العنف الاقتصادي الذي كان من شأنه تقييد حقوق العمال والشركات الفلسطينية المحتملة. إن الحدود الجيوسياسية شكل مهم من أشكال العنف الحاد الذي غالبا ما يكون أساسا لأشكال تنظيمية من العنف. (2002ب، 16)
هذه هي الإقليمية في شكلها العملي في حياة كل من المسيطر عليهم والمسيطرون.
إن الحد الذي يفصل قطاع غزة عن إسرائيل عبارة عن سياج مكهرب، وفي سبيل دخول إسرائيل من غزة ينبغي أن يعبر الفلسطينيون خمس محطات فحص. ووفقا للصحافية الإسرائيلية والناشطة المناهضة للاحتلال أميرة هاس: «محطة الفحص الخامسة عبارة عن صف من تسع عشرة بوابة دوارة تفتح على ما يسمى «مربع إسرائيل»؛ أي المنطقة الإسرائيلية. هنا تفرض شاشات الكمبيوتر وأجهزة كشف المعادن والبوابات الإلكترونية أمنا فعالا لا هوادة فيه؛ فأي شخص أفلت حتى الآن لن يستطيع التحرك لأبعد من ذلك» (1999، 268). ولا يواجه المستوطنون الإسرائيليون أي عقبات في المرور إلى غزة، ولما كان ذلك يعكس نوعا من الوعي الإقليمي المعكوس، تكتب هاس قائلة: «كانت كلمة «الداخل» مقلوبة؛ فقد كانت الأرض داخل حدود إسرائيل عام 1967، بما فيها كل المدن والقرى الفلسطينية، يشار إليها ب «الداخل»، جزئيا كوسيلة لتجنب النطق باسم إسرائيل، ولكن أيضا بسبب الحقيقة الجيوسياسية التي مفادها أنه حتى عام 1967 كان جميع اللاجئين من داخل الحدود يعيشون خارجها. ففي شريط أرضي مساحته 147 ميلا مربعا لا مخرج له، أصبحت كلمة «الداخل» مرادفة للمساحات المفتوحة على مصراعيها» (1999، 170). (4-2) المخيمات
من المكونات الرئيسية لمنظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية معسكرات اللاجئين المزعومة حيث استقر المهجرون وذريتهم. وهي «مزعومة» لأنه في الوقت الذي يحتفظ به معظم سكان هذه الأماكن بصفة «اللاجئ» القانونية، ولدت الغالبية العظمى حاملة هذه الصفة المحددة إقليميا، ولم يذهبوا مطلقا إلى موطنهم. كذلك، إذا كانت كلمة «مخيم» تشير إلى مأوى مؤقت، فإن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، التي مر عليها الآن أكثر من 50 عاما، أشبه بأحياء حضرية قذرة. وإذا كان الفلسطينيون على الجانب الآخر من الخط الأخضر «حاضرين غائبين»، فالكثير خارجه «مؤقتون دائمون»؛ فثلث الفلسطينيين مقيدون كلاجئين، وثلث هؤلاء اللاجئين يعيشون في مخيمات في سوريا والأردن ولبنان، و40 بالمائة من الناس في الضفة الغربية و70 بالمائة من الغزيين لاجئون (
www.un.org/unrwa ). وتشكل المخيمات جغرافيا للتشتت والاحتواء؛ فبعض الخدمات تقدم من قبل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وتعد هذه أكبر الوكالات التابعة للأمم المتحدة، وهي أيضا أكبر جهة تشغيل للفلسطينيين.
يوجد ثمانية مخيمات في قطاع غزة، ويقيم فيها نحو 339 ألف نسمة، يشكلون 55٪ من اللاجئين. أما بقية اللاجئين، ويبلغ عددهم نحو 320 ألف نسمة، فقد انتشروا عبر أحياء غزة السكنية القديمة والحديثة؛ ففي مخيم الشاطئ الذي يقع على مشارف مدينة غزة، يعيش 66 ألف نسمة على 186 فدانا. أما مخيم البريج، الواقع في وسط القطاع، فقد كان معسكرا للجيش البريطاني. وفي عام 1948، تم إيواء نحو 13 ألف لاجئ ممن تجمعوا هناك في سقيفات قديمة تابعة للجيش، بينما عاش الباقون في خيام بالقرب من المخيم على إجمالي مساحة 132 فدانا، وقد تضخم هذا العدد اليوم ليصل إلى 27 ألفا. (هاس 1999، 171)
ومثلما يقسم الخط الأخضر هوية الفلسطينيين ووعيهم، كذلك تزيد المخيمات من تقسيم هويات الفلسطينيين ووعيهم في الأراضي المحتلة؛ فثمة اختلافات ملموسة بين سكان المخيمات والغزيين الأصليين غير اللاجئين، أو المواطنين. وكما يقرر أحد مصادر معلومات هاس:
كلما توجهت إلى السوق بصحبة والدتي، تشير لي إلى الحد الفاصل بين المخيم والمدينة؛ فنحن المهجرون نخرج للتظاهر ضد الجنود، ولكن أبناء «المواطنين» لم يكونوا لينضموا إلينا. وحين كنا نهرع إلى بساتين البرتقال للهروب من الجنود، كان «المواطنون» يطاردوننا لأنهم كانوا خائفين، وبدأت في الاعتقاد بأن أبناء المدينة كانوا على علاقات طيبة مع الاحتلال. (هاس 1999، 176)
كذلك في الضفة الغربية، يقرر بورنشتاين أن:
الصبية القادمين من المخيمات كانوا ينظر إليهم بعين الشك حين يكونون في القرية؛ فلم يكونوا يحيون، كما في القرى الأخرى، بعبارات الترحيب اللطيفة. كانت توجد بعض علاقات الصداقة، ولكنها بدت نادرة، وكان طلاب المدارس الثانوية القادمون من القرى يضطرون للسير كيلومترا إضافيا للوصول إلى المدرسة في البلدة الرئيسية نظرا لأنهم كانوا يلتفون حول المخيم بدلا من السير عبره. (2002ب، 20)
تتضح أقلمة الوعي أيضا بين فلسطينيي الشتات؛ فيزعم بيريتز، الذي يكتب تحديدا عن اللاجئين في الدول العربية الأخرى، أن «اختلافا كبيرا في وجهة النظر بين الفلسطينيين في المخيمات وأولئك الذين خارجها هو السبب الذي جعل سكان المخيمات يتوارون في الوعي الفلسطيني. وعلى الرغم من أن الأطفال - وآباءهم في كثير من الأحيان - لم يروا فلسطين قط، فهم يعتقدون أن فلسطين هي وطنهم» (1993، 27). وبوصفها أقاليم احتواء، يمكن إغلاق المخيمات بحسب مشيئة السلطات الإسرائيلية، ويدخل الجيش المخيمات على نحو روتيني بحثا عن المجاهدين. (4-3) نقاط التفتيش
سواء في مخيمات رسمية أم لا، تمارس منظومة إقليمية متغلغلة للسيطرة عملها عبر أرجاء الأراضي المحتلة. لقد أسفرت اتفاقية أوسلو، كما أشرنا، عن «مجموعة مركبة من الأقاليم ذات وضع متباين («أ» و«ب»، و«ج») اعتمادا على طبيعة السيطرة الأمنية عليها. ومعظم السكان الذين يعيشون في جزيرتي «أ» و«ب» المفترقتين، اللتين تفصل بينهما أراضي المنطقة «ج» الشاسعة، ومئات القرى وست بلدات؛ قد تصاب بالشلل بفعل الحواجز والخنادق الموضوعة بطريقة استراتيجية والدبابات والرماة التابعين للجيش الإسرائيلي؛ مما يؤدي إلى تدمير اقتصاد كامل وتعطيل الحياة الاجتماعية برمتها» (هاس 2002، 9). وقد تم تفعيل «مصفوفة سيطرة» ضخمة عبر أنحاء الضفة الغربية وغزة (هالبر 2002)، تتألف من نقاط تفتيش وتصاريح وممرات وعمليات إغلاق وحظر تجوال، شلت حركة الشعب الفلسطيني بأكمله فعليا لأيام أو حتى أسابيع.
وتشير منظمة العفو الدولية إلى أنه في أغسطس 2003 كان يوجد ما يزيد على 300 نقطة تفتيش وحاجز طريق إسرائيلي في الأراضي المحتلة.
عند نقاط التفتيش، غالبا ما يقوم الجنود بتفتيش السيارات أو المارة ببطء، وأحيانا ما يوقفون حركة المرور ويرفضون فحص بطاقة هوية دون شرح وتوضيح. وبين حين وآخر، كانت الحشود تتزايد عند نقاط التفتيش، ويطلق الجنود النيران في الهواء أو يلقون قنابل صوت أو غاز مسيل للدموع لتفريقهم. وكثيرا ما تسير عمليات الإغلاق الداخلي على نحو تعسفي. وحقيقة أن الجنود يحظون بحرية فردية واسعة في السماح بحركة الفلسطينيين أو منعها؛ تقوض ادعاء السلطات الإسرائيلية بأن الإغلاق الداخلي هو نظام رشيد قائم على احتياجات أمنية صارمة. (منظمة العفو الدولية 2003، 19)
تم تناول النتائج التجريبية لأولئك القابعين على الطرف المتلقي لهذه العمليات الإقليمية تفصيليا أيضا في تقرير منظمة العفو الدولية. «تؤدي الأنشطة العادية، مثل الذهاب إلى العمل أو المدرسة، أو اصطحاب طفل رضيع للحصول على اللقاحات، أو حضور جنازة أو حفل زفاف، إلى تعريض النساء والرجال، والكبار والصغار، لمخاطر من هذه النوعية؛ ومن ثم يحد العديد من الناس من أنشطتهم خارج المنزل لتقتصر على الضروري منها قطعا» (2003، 4).
ويتم التعبير عن الإقليمية الجزئية للسلطة من خلال منظومة معقدة من التراخيص وتصاريح الدخول. وقد ذكرت هذه المنظومة بالفعل فيما يتعلق بالخط الأخضر، ولكنها أكثر تغلغلا بكثير.
لقد حولت منظومة الدخول حقا الحقوق الأساسية العالمية إلى امتياز مطلوب - أو جزء من امتياز - مخصص لأقلية على أساس كل حالة على حدة. فلم يكن الامتياز كاملا؛ إذ كان له تدرجات؛ فكان بعض تصاريح الدخول يسمح بإقامة لمدة ليلة واحدة في إسرائيل، والبعض الآخر يشترط العودة بحلول الظلام، والبعض منها كان لمدة شهر كامل. واليد التي تمنح هي اليد التي تأخذ أيضا؛ ففي بعض الشهور قد يمنح ما يقرب من 1000 رجل أعمال تصاريح دخول، وفي شهور أخرى 300 فقط؛ وأحيانا تكون تصاريح الدخول للغزيين إلى إسرائيل والضفة الغربية، وأحيانا إلى الضفة الغربية فقط. وهكذا كان مجتمع بأكمله مقسما ومجزأ على أساس ما إذا كان لدى الشخص حق الحصول على «امتياز» حرية الحركة أم لا، وبأي قدر يسمح له بذلك. (هاس 2002، 8)
وقد أدلى أحد المحامين الحقوقيين بشهادته لمنظمة العفو الدولية بشأن تجربة منظومة الترخيص وتصريح الدخول: «في كل مرة أقود السيارة على هذه الطرق وأرى دبابة من بعيد، أتساءل عما إذا كنت سأنجح في العودة إلى المنزل لأرى أطفالي مجددا أم لا. إن لدي تصريحا، لمدة شهر، ولكن إذا صوب الجنود نيرانهم نحوي وقتلت، فلن يحقق التصريح أي نفع لي أو لعائلتي» (منظمة العفو الدولية 2003، 17).
تصف هاس هذه الأقلمة المفرطة بأنها تؤدي إلى «سرقة الزمن»؛ إذ إن الشعب الفلسطيني «وجد أنه لم يعد يستطيع وضع أي خطط؛ فقد كان من المستحيل معرفة ما إذا كان الشخص سيستطيع الحصول على التصريح اللازم حتى اللحظة الأخيرة. وبينما لم يكن لديهم القدرة على التخطيط للمستقبل، فقد فقدوا أيضا القدرة على التصرف بعفوية؛ والعفوية حق من حقوق الإنسان لا يقل عن حق التنقل أو الغذاء» (2002، 10). وتشير إلى أن هذه الأبعاد التجريبية للمنظومة هي عاقبة مقصودة، وتتحدث عن «الحاجة إلى التوسل، والاستجداء، واحتمال رفض الطلب، والغضب، والرحلات المتكررة إلى مكتب الاتصال، وزيارة أحد الضباط الإسرائيليين الذي يقترح أنه: «إذا ساعدتنا، فسوف نساعدك.» بمعنى: «كن متعاونا، وستحصل على تصريحك»» (ص11). (4-4) عمليات الإغلاق وحظر التجوال
ثمة جانب آخر للمنظومة الإقليمية هو سياسة «الإغلاقات». يشير «الإغلاق الداخلي» إلى إغلاق الأراضي المحتلة بالقوة. وتحت ظروف الإغلاق تعلق جميع التصاريح. وتشير منظمة العفو الدولية إلى أن:
أول إغلاق داخلي شامل، في مارس 1996، استمر لمدة 21 يوما. وفي عام 1997 فرض إغلاق داخلي بإجمالي 27 يوما على جميع أنحاء الضفة الغربية أو جزء منها؛ وفي عام 1998 كان الإجمالي 40 يوما. وتبين عمليات الإغلاق الداخلية كيف أن إسرائيل استطاعت إيقاف حياة الفلسطينيين وتركيع الاقتصاد الفلسطيني، من خلال سيطرتها على المناطق والطرق الرئيسية المحيطة بالجيوب الفلسطينية المفترض أنها مستقلة. (2003، 14)
وتقول هاس إن «الإغلاق لم يعد الإجراء البيروقراطي المجرد لطلب تصريح ورفضه؛ لقد أصبح الإغلاق جزءا من الطبوغرافيا الطبيعية والبشرية الفلسطينية» (2002، 12). ومن نتائج الإغلاق أيضا تفتت الضفة الغربية وغزة وفصل إحداهما عن الأخرى، وكما قال أحد الفلسطينيين: «نحن مثل طيور في قفص» (مقتبس في سميث 2001).
ثمة آلية ذات صلة لأقلمة الحياة اليومية تتمثل في فرض حظر التجوال الذي يقيد مساحة التحرك بحدود منزل الفرد. مرة أخرى، ومن واقع تقرير منظمة العفو الدولية: «أغلق بعض القرى تماما ووضعت مناطق حضرية رهن حظر التجوال على نحو متكرر على مدى 24 ساعة، لا يسمح خلاله لأحد بمبارحة المنزل لفترات طويلة في الغالب» (2003، 3). وتفيد المنظمة بأنه خلال شهري مارس وأبريل من عام 2002، «ظلت بيت لحم تحت حظر التجوال لمدة 40 يوما متتالية» (ص20)، وأنه «في يوم 9 يوليو 2002 كان نصف سكان الضفة الغربية تقريبا، الذين يشكلون نحو 900 ألف من 2,2 مليون فلسطيني، تحت حظر التجوال في 71 موضعا مختلفا» (ص21)، وعقوبات كسر حظر التجوال - أي مغادرة المنزل - بالغة وتشمل احتمالية القتل الواقعية للغاية. وثمة قرى بأكملها، مثل قرية المواصي في غزة، «أعلنت مناطق عسكرية مغلقة؛ فيسمح للسكان بدخول هذه المناطق ومغادرتها سيرا على الأقدام فقط، وبين فترات زمنية محددة فقط، ولكن في بعض الأوقات يقوم الجيش بمنع جميع السكان من مغادرة المناطق أو العودة إليها لأيام في المرة الواحدة. وعادة ما يطبق حظر تجوال من حلول الليل حتى الفجر» (ص23). (4-5) المستوطنات والطرق الفرعية
ولكن ثمة عنصرا بالغ الأهمية في منظومة السيطرة الإقليمية في الأراضي المحتلة، هو مجموعة «المستوطنات» اليهودية الخالصة التي أقيمت في الضفة الغربية وغزة (وكذا في مرتفعات الجولان) منذ عام 1967. ويؤكد ديفيد نيومان أن «المستوطنات قد لعبت، ولا تزال تلعب، دورا جوهريا في تعيين الحدود بين الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية المنفصلة، بصرف النظر عما إذا كانت قد بنيت على أساس قانوني أم لا» (2002، 635). وتملك إسرائيل أكثر من نصف الضفة الغربية، وقد تدخلت الشرطة الإسرائيلية، خاصة منذ عام 1977 وعلى نحو متسارع خلال تسعينيات القرن العشرين، في الاستعمار المدني للأراضي المحتلة من خلال بناء جيوب ل «المستوطنين» الإسرائيليين. في عام 1977، كان 5000 إسرائيلي يعيشون في مستوطنات في الضفة الغربية، وبحلول عام 2001 كان أكثر من 200 ألف إسرائيلي يعيشون في 137 مستوطنة في الضفة الغربية وسبع مستوطنات في قطاع غزة. وكان العديد من هذه المستوطنات يقام من قبل أصوليين دينيين مدفوعين بأيديولوجية «استرداد» يهودا والسامرة (وهي أسماء إنجيلية للضفة الغربية) (نيومان 1985)؛ والبعض منها عبارة عن فيلات من غرفة نوم واحدة للمرتحلين يوميا للإسرائيليين الذين يعملون في القدس أو تل أبيب؛ والبعض منها، مثل معاليه أدوميم، عبارة عن مدن حضرية في حد ذاتها.
كما في عهود الانتداب وما قبل الانتداب، يكمن الهدف في تأسيس «حقائق على الأرض»؛ فكما قال مصمم مستوطنة معاليه أدوميم، توماس ليترسدورف: «كانت الاستراتيجية المتبعة في يهودا والسامرة في ذلك الوقت هي «الاستيلاء على الأرض»؛ أن تستولي على أكبر مساحة ممكنة بتوطين بعض الناس على تلال عديدة. كانت الفكرة الكامنة خلف ذلك هي أنه كلما وضعنا مستوطنين داخل الأراضي المحتلة، امتلكت إسرائيل مزيدا من الأرض حين يحين وقت تعيين الحدود الدولية الدائمة؛ لأننا كنا بالفعل موجودين هناك» (تمير طويل 2003، 152). والواقع أن منظومة عمليات الإغلاق وحظر التجوال والتصاريح غالبا ما تبرر على نحو صريح بأنها موجودة لمصلحة المستوطنين؛ ومن ثم يتم إيقاف مئات الآلاف من الفلسطينيين في غزة على نحو روتيني لتسببهم في إزعاج ومضايقة بضعة آلاف من المستوطنين. ويكتب ديفيد نيومان:
بينما يتوخى الإسرائيليون الحذر في استخدام المصطلح، فإن إقامة مستوطنات مدنية على هذا النحو يعد جزءا من عملية استعمار المشهد التي يتم من خلالها إخضاع الأقاليم لسيطرة طويلة المدى من قبل السلطة المهيمنة و/أو أولئك الذين يتطلعون إلى إقامة دولة وهيمنة في المستقبل. ويتحقق هذا بزرع سكان مدنيين من المتوقع أن يستقروا وأن ينمو لديهم إحساس بالارتباط بالأرض محل الجدل. والأجيال المستقبلية التي تولد داخل هذه المجتمعات سوف تدرك هذه الأرض بوصفها «موطنهم الطبيعي» (2002، 636).
تلعب المستوطنات أدوارا متعددة داخل استراتيجية إقليمية معقدة؛ فهي في المقام الأول بمثابة بذور متجاوزة للحدود الإقليمية لأرض إسرائيل منتشرة عبر الأراضي المحتلة. على سبيل المثال، كما تورد منظمة بتسلم لحقوق الإنسان الإسرائيلية في تقريرها بعنوان «انتزاع الأرض: سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية»:
يخضع أي مواطن إسرائيلي، وأي يهودي في الواقع في الأراضي المحتلة، أينما قد يكون، لسلطة القانون المدني الإسرائيلي، وليس لسلطة القانون العسكري المطبق على هذه الأقاليم؛ فينتخب المستوطنون مجلسهم المحلي أو الإقليمي، ويشاركون في انتخابات الكنيست، ويدفعون الضرائب، والتأمين القومي، والتأمين الصحي، ويتمتعون بجميع الحقوق الاجتماعية التي تمنحها إسرائيل لمواطنيها. (2002، 52)
بعبارة أخرى، لا ينظر إلى الإسرائيليين باعتبارهم قد عبروا حدا ذا أهمية بينما هم في الأراضي المحتلة؛ فهم لا يزالون فعليا ب «الداخل»، ودائما ما يحيط بهم الخط الأخضر على نحو ما. ولسنا بحاجة لأن نذكر أن الفلسطينيين ممنوعون من دخول جيوب الاستيطان إلا بصفتهم عمالا. وتفيد منظمة بتسلم بأنه حتى المستوطنات القليلة السكان قد تحوي أجزاء شاسعة من الأراضي المحتلة:
تضم مناطق الاختصاص والولاية للمجالس الإقليمية مساحات شاغرة ضخمة (نحو خمسة وثلاثين بالمائة من مساحة الضفة الغربية ) لا تتصل بالمنطقة الخاصة بأي مستوطنة بعينها. وتشكل هذه المناطق احتياطيات الأرض للتوسع المستقبلي للمستوطنات، أو لإقامة مناطق صناعية. ويعرف الكثير من المناطق الكائنة داخل مناطق الاختصاص التابعة للمجالس الإقليمية في الضفة الغربية بأنه «مناطق إطلاق نار»، وتستخدم من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي للتدريبات العسكرية. ثمة مناطق أخرى تعرف الآن بوصفها «محميات طبيعية»؛ حيث يمنع أي شكل من أشكال التنمية. (2002، 70)
قد يحيط الحيز الاستيطاني فعليا ببلدات فلسطينية، لدرجة أن التوسع قد يكون محظورا فعليا؛ وهذا من شأنه أن يفاقم الازدحام الشديد بقوة. فتفيد منظمة بتسلم، على سبيل المثال، بأن: «المنطقة الحضرية من مدينة نابلس، التي تضم ثماني قرى ومخيمين للاجئين متاخمين تماما للمدينة المحاطة من جميع الجهات تقريبا بمستوطنات تعيق تنميتها وتطويرها» (2002، 95). قد تكون حدود كل مستوطنة مرسومة بحيث تشكل «كتلة» متاخمة (ص96). كذلك قد تكون الأرض الفلسطينية «محصورة» داخل المستوطنات. «البناء على هذه الجزر غير مصرح به؛ فهي قانونيا لا تزال تخص المالك الفلسطيني، الذي ليس له - على الرغم من ذلك - حرية الدخول إليها في أغلب الأحيان» (وايزمان 2002). (4-6) السياسة الجغرافية للعمودية
من بين أكثر الدراسات شمولا وتكاملا للوظائف والآثار الإقليمية للمستوطنات، تلك الدراسة التي أجراها المعماري الإسرائيلي إيال وايزمان وزملاؤه، خاصة في كتاب «سياسة العمودية» (2002) و«احتلال مدني: سياسة المعمار الإسرائيلي» (سيجال ووايزمان 2003). يصف وايزمان الوظيفة الإقليمية للمستوطنات على النحو التالي: «المستوطنات اليهودية ليست أماكن للسكنى فحسب، إنها تصنع شبكة واسعة النطاق من «التعزيز المدني»، الذي يعد جزءا من خطة الجيش الإقليمية للدفاع؛ ما يولد رقابة إقليمية تكتيكية. ووجود شكل بسيط للحياة العائلية، كمنزل لأسرة واحدة متوار داخل واجهة جمالية من القرميد الأحمر والمروج الخضراء؛ يتماشى مع أهداف السيطرة الإقليمية» (2002). وينعكس مشروع السيطرة الإقليمية في التصميم الطبيعي للمستوطنات حيث:
يشيد شكل المستوطنات الجبلية وفقا لنظام هندسي يوحد تأثير المشهد مع النظام المكاني؛ ما يسفر عن «حصون شاملة الرؤية»؛ ما يولد بدوره إطلالات تؤدي إلى أهداف عديدة مختلفة: السيطرة (في الإطلال على القرى والبلدات العربية)، والاستراتيجية (في الإطلال على العديد من الطرق المرورية الرئيسية)، والدفاع عن النفس (في الإطلال على البيئة المباشرة وطرق الولوج لمختلف الجهات). يمكن رؤية المستوطنات كأدوات بصرية حضرية للمراقبة وممارسة السلطة. (2002)
والمشروع الإقليمي، على مستوى أدق من التحليل، يكيف الهندسة الداخلية للمستوطنات؛ فيسري مبدأ «الحصون الشاملة الرؤية» بأقصى قدر من السهولة على الدائرة الخارجية من البيوت. أما الدائرة الداخلية، فتقع في مواجهة الفراغات التي بين بيوت الدائرة الأولى. وهذا الترتيب للبيوت حول القمم، بإطلالتها نحو الخارج، يفرض على السكان رؤية محورية (وتعذر الرؤية الجانبية)، موجهة في اتجاهين: «إلى الداخل وإلى الخارج» (2002). والواقع أن المشروع يتجلى حتى في التصميم الداخلي للمنازل؛ فيكتب وايزمان أن التوجيهات المعمارية بشأن التصميم توصي بأن يتم:
توجيه غرف النوم جهة المنشآت العامة الداخلية، وتوجيه غرف المعيشة نحو المشهد البعيد؛ فالإطلالة الموجهة إلى الداخل تحمي عورات المستوطنات، أما الإطلالة الموجهة إلى الخارج فتعرض المنظر بالأسفل . لقد أملت الرؤية نظام التصميم وأسلوبه على كل مستوى، وصولا حتى إلى الوضع الصحيح للنوافذ. (2002)
وأخيرا تدمج أجساد المستوطنين أنفسهم داخل منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية. «سواء عن معرفة سابقة أم لا، فإن أعين المستوطنين، التي تبحث عن مشهد مختلف تماما «تختطف» لأهداف استراتيجية وجيوسياسية» للدولة الإسرائيلية (2002). وهذا التكوين الإقليمي المفصل والمعقد على نحو مذهل يتجاوز حدود نموذج التصنيف والتواصل وفرض السيطرة؛ فالتجمع الاستيطاني يشكل ما سماه وايزمان سياسة العمودية.
ثمة عنصر تكاملي لمنظومة السيطرة الإقليمية هو شبكة «الطرق الفرعية»، وهذه الطرق عبارة عن طرق موصلة محدودة (يحظر على الفلسطينيين استخدامها) تربط المستوطنات بإسرائيل وكلا منها بالأخرى. وتمتد لإجمالي طول يزيد على 340 كيلومترا، وترتب عليها مصادرة آلاف الأفدنة من الأرض في الأراضي المحتلة. وقد نتج عن ذلك تدمير مئات البيوت الفلسطينية وحدائق الزيتون والأراضي الزراعية الأخرى ذات الإنتاجية (ميان 1996). ويقرأ وايزمان الطبوغرافيا السياسية الناشئة على هذا النحو:
تسعى الطرق الفرعية إلى فصل شبكات المرور الإسرائيلية عن الشبكات الفلسطينية، ويفضل أن يتم ذلك دون السماح لها بالتقاطع معا أبدا. وهي تؤكد على تشابك الجغرافيتين المنفصلتين اللتين تسكنان المشهد نفسه. وفي النقاط التي تتقاطع فيها الشبكتان، يقام فصل بديل مؤقت. وفي أغلب الأحيان، تحفر طرق ترابية صغيرة للسماح للفلسطينيين بالمرور أسفل الطرق السريعة الواسعة التي تندفع عليها الشاحنات والمركبات العسكرية الإسرائيلية بين المستوطنات. يكتب ميرون بنفينستي قائلا: «والواقع أن الشخص الذي يتنقل على أكبر جسر في البلاد، ويخترق الأرض في أكبر نفق، قد تجاهل حقيقة أن ثمة بلدة فلسطينية كاملة توجد فوق رأسه، وأنه وهو في طريقه لا يصادف أي عربي، عدا بعض السائقين الذين يتجرءون ويسيرون على الطريق اليهودي». (2002)
والواقع أن بنفينستي، وهو نائب سابق لعمدة القدس، قد وصف التكوين الإقليمي الناشئ كعملية تصادم ل «حيز ثلاثي الأبعاد في ستة أبعاد؛ ثلاثة يهودية وثلاثة عربية.» وتمتد السياسة الجغرافية للعمودية إلى المجال الجوي وإلى الحيز تحت السطح؛ فإسرائيل تسيطر على المجال الجوي فوق الضفة الغربية، وتستغل هيمنتها على المجال الجوي والطيف الكهرومغناطيسي من أجل إنزال شبكة من الرقابة وتحديد حالات الإعدام التي تحدث على أرض الإقليم.
يمارس جيش الدفاع الإسرائيلي حاليا سيطرة كاملة على المجال الجوي للضفة الغربية. في معاهدة كامب ديفيد، وافقت إسرائيل على مفهوم دولة فلسطينية، إلا أنها طالبت بالسيادة على المجال الجوي فوقها في سياق التوصل إلى حل نهائي. وفي أثناء مفاوضات أوسلو وكامب ديفيد أصرت إسرائيل على السيطرة على الموارد الباطنية في سياق أي حل دائم. ولأول مرة يرد ذكر شكل جديد من السيادة الباطنية، التي تفتت أساسيات السيادة القومية، في اتفاقية أوسلو المؤقتة. (وايزمان 2002) (4-7) منطقة التماس والجدار
كانت أحدث الإضافات لمنظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية هي «الجدار العازل»، أو بتعبير واضح وبسيط «الجدار» (بتسلم 2003ب؛ كوك 2003؛ ليفي 2003؛ بيري 2003). هذا الجدار عبارة عن بناء من الخرسانة والفولاذ والأسلاك الشائكة يبلغ ارتفاعه 25 قدما، بدأ بناؤه في عام 2002، وحين يكتمل سوف يمتد لأكثر من 600 كيلومتر عبر الضفة الغربية. يقال إنه يشبه في الشكل «شريطا من المضايق النرويجية» (رابابورت 2003) نظرا للتعاريج والمنعطفات والحلقات التي تعكس القرارات التي لا تحصى بشأن ما ومن سيتم توطينه غرب وشرق البناء. والهدف المعلن للجدار هو منع دخول الإرهابيين إلى أرض إسرائيل، ولكن الجدار لا يتبع الخط الأخضر، وفي بعض الأماكن يخترق الأراضي المحتلة. وحين يتم الانتهاء منه سيكون عشرات الآلاف من الفلسطينيين وعدة قرى كاملة واقعين شرق الخط الأخضر، ولكن الجهة الغربية من الجدار تقع داخل إقليم غير منتظم على نحو مفرط يسمى «منطقة التماس» (بتسلم 2003ب). على سبيل المثال: سوف يعزل الجدار فلاحي باقة الشرقية وبرطعة الشرقية:
عن إخوانهم الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومن أجل الذهاب إلى جنين لشراء أو بيع شيء ما، سوف يضطرون لاجتياز معبر حدودي، ليس واضحا متى وأين سيكون. وليس واضحا أيضا كيف سيحصلون على الخدمات الأساسية مثل المدارس أو الخدمات الصحية من السلطة الفلسطينية، التي ستكون على الجانب الآخر من الجدار. وبينما لن يكون هناك جدار بينهم وبين إسرائيل، فإنهم سينظر إليهم في إسرائيل باعتبارهم مقيمين غير شرعيين، ولا توجد نية لضمهم أو تحويلهم إلى مواطنين إسرائيليين. (رابابورت 2003)
وليس من باب المصادفة أن نحو 40 بالمائة من المنطقة الزراعية بالضفة الغربية وثلثي مواردها المائية سيكون على الجانب الإسرائيلي من الجدار. كما أن بعض القرى سوف تشطر إلى نصفين بفعل الجدار، وسوف تكون منازل العديد من المزارعين على جانب وحقولهم وبساتينهم على الجانب الآخر. وستكون بعض المنازل محاطة على نحو شبه كامل بالجدار (آرتشر 2004)، وستكون للجدار بوابات مغلقة لا يمكن فتحها إلا بواسطة أفراد الجيش. وتفيد منظمة بتسلم بأن:
جميع الفلسطينيين فوق سن العشرين الذين يعيشون في منطقة التماس، سوف يتعين عليهم الحصول على «تصريح إقامة دائم» من الإدارة المدنية لتمكينهم من مواصلة العيش في ديارهم. والفلسطينيون الذين سيقابل طلبهم بالرفض قد يناقشون قضيتهم أمام لجنة عسكرية؛ فإذا رفضت اللجنة الاستئناف، فلا بد أن يغادروا بيوتهم. سوف يكون على الفلسطينيين الذين يملكون أراضي زراعية في منطقة التماس تقديم «وثائق تشير إلى حق المدعين في الأرض»؛ وسيكون على المعلمين في القرى الواقعة في منطقة التماس تقديم شهادات تثبت أنهم معلمون معتمدون. ولا بد أن تشير التصاريح إلى بوابة معينة لا بد أن يعبر منها حامل التصريح، والأوقات من اليوم التي يسمح خلالها لحامل التصريح بالمرور. أما المبيت في منطقة التماس، وإدخال مركبة إلى المنطقة، ونقل بضائع إلى داخل المنطقة، فيستلزم تصاريح منفصلة. (بتسلم 2003ب)
وكما كتب ميرون رابابورت: «الشيء الوحيد الذي تبقى للفلسطينيين هو العيش في حظائر ضخمة، والعمل في المناطق الصناعية التي سيجري بناؤها بلا شك في المستوطنات، بالقرب من الفتحات المؤدية إلى الحظائر» (2003). (5) ملاحظات ختامية
لقد تتبع هذا الفصل تطور بعض من المكونات الأساسية لواحدة من أكثر منظومات السيطرة التي تتخذ طابعا إقليميا مركزا وضع على الإطلاق، وكان هدفه هو تقديم مثال توضيحي مفصل للعديد من الموضوعات التي جرت مناقشتها في الفصول السابقة. وفي سياق تكوين منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية، وإعادة تكوينها، وتشغيلها؛ يمكن رؤية الدور الجوهري للعديد من الأيديولوجيات والأساليب الخطابية (السيادة، القوميات، الملكية، الاستعمارية، الأصوليات الدينية، حقوق الإنسان)، والتفاعل بين الهياكل الإقليمية والمسارات المتعددة للتحرك والتنقل (الهجرة، الإجلاء، الطرد، الغزو، الاحتلال)، ومجموعة من الممارسات المتباينة (عمليات شراء الأراضي، الدبلوماسية، الحرب، التفسير القانوني، العنف المخالف للقانون)، والتركيب والتفكيك الانسيابي للمستويات «العمودية» للتحليل والتجربة (المادي، المحلي، القومي، الإقليمي، الدولي). وقد اعتمدت في تقديم هذا المخطط التمهيدي على ملاحظات الباحثين من عدد من التخصصات والنشطاء، وحري بنا هنا أن نتذكر كلمات ديفيد نيومان التي بدأ بها هذا الفصل: إن دراسة وبحث التحليل الإقليمي لمصطلح «فلسطرائيل» «يبينان مدى أهمية بقايا البعد الإقليمي لفهم التنظيم السياسي للمكان، حتى في هذا العالم «الخالي من الحدود والأقلمة» وفي أصغر الأقاليم» (2002، 632).
إن هذا العرض بلا شك «أحادي الجانب»؛ إذ إن تركيزه ينصب على بناء وتشغيل منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية وتأثيرها على الشعب الفلسطيني. ويعد هذا على الأخص نتاجا للتفاوتات الجذرية للسلطة المتضمنة هنا؛ فبينما لا يعد الشعب الفلسطيني عاجزا على نحو مطلق عن تشكيل الأماكن التي يعيش ويموت بداخلها مع الشعب الإسرائيلي، فإن هذه القدرة على القيام بذلك أقل بكثير من قدرة الدولة الإسرائيلية على نحو واضح. غير أن «أحادية» عرضي مخففة نوعا ما باعتمادي البالغ على تأويل الباحثين والنشطاء والإسرائيليين من منتقدي منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية التي تطوق حياتهم وحياة أحبائهم. والصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ينعكس إلى حد ما (وإن لم يكن على نحو تام) في المجادلات والمناقشات بين الصهيونيين والمناهضين للصهيونية، والمتدينين والعلمانيين، والمحافظين والليبراليين، والراديكاليين من شباب وشيوخ الإسرائيليين الذين سيواصلون إعادة أقلمة ظروف الوجود الإنساني في الأرض المتاخمة للركن الجنوبي الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. والتشكيلات الإقليمية القائمة الآن تعكس قوى الخوف، والكراهية، والوحشية، والفساد، والخيانة، والتضحية. وبالرغم من الصعوبات، يتطلع كثيرون إلى خلق تشكيلات تؤدي إلى ترسيخ وتدعيم الأمل والاحترام والكرامة الإنسانية.
الفصل الخامس
استكشافات إضافية
حاولت الفصول السابقة إثبات أن الإقليم والإقليمية أكثر تعقيدا مما هو معترف به على نحو شائع، وأنه يوجد مع ذلك عدد من السمات التي تسمح لنا بفهمهما في إطار مجموعة كبيرة من السياقات. والمقاربة المتداخلة الاختصاصات مفيدة في النظر إلى الإقليم والنظر من خلاله وفيما حوله من زوايا مختلفة. وفي حين أن كلا من هذه الاختصاصات يزودنا بموارد تأويلية مفيدة، فإن الرؤية الشديدة المحدودية غالبا ما تؤدي إلى إضفاء نوع من الغموض - بتضييق الحدود أو الخروج عنها - على الرؤى الكاشفة المتعلقة بالاختصاصات الأخرى؛ فالإقليم - حسبما رأينا - لا يقتصر على حدود دولية ولا فناء أمامي لمنزل؛ فنحن جميعا نخوض غمار الحياة عبر عدد غير محدود من الأقاليم، ونقابل عددا لا حصر له من حالات الأقلمة، ونشارك في تحديد أو تجنب حدود وحواجز لا حصر لها. ولأن الأقاليم تعبيرات عن دمج السلطة والمعنى والحيز الاجتماعي، ولأن هذه الارتباطات غالبا ما تكون عارضة أو محل نزاع أو غير ثابتة؛ فإننا نشارك في عمليات لا تنتهي أبدا تتعلق بتشكيل وإعادة تشكيل عوالمنا. وكما أكدت عبر صفحات هذا الكتاب، أهم ما في الإقليم هو تكييفه للتجربة أو الخبرة الإنسانية. ولكن في حين تشكل وتتشكل جميع حيواتنا عن طريق عمليات التشكيل الإقليمي، يتحدد موضع كل منا على نحو مختلف فيما يتعلق بعدد هائل من المداخل والمخارج التي تفرضها الإقليمية على عوالمنا.
والمقاربة المتداخلة الاختصاصات التي حددت معالمها لا تكون مكتملة إذا تم تناولها في مقدمة قصيرة كهذه؛ فمن البديهي أنه كي تفرد حيزا لمجموعة أكبر من الرؤى الاختصاصية، سوف يتم التعامل بالضرورة مع كل رؤية بصورة أقل دقة واكتمالا. وكما أشير في الفصل الثاني، يمكن النظر إنصافا إلى الحقبة الحالية باعتبارها عصرا ذهبيا بدرجة ما أو بأخرى للجدل حول الإقليمية وإعادة تنظيرها. المزيد من الباحثين، المنتمين إلى عدد أكبر من الاختصاصات، يجلبون مجموعة تزداد تنوعا من الموارد النظرية ودراسات الحالة التجريبية ذات الصلة بالموضوع أكثر من أي وقت مضى. وكما أشرنا أيضا، يمكن أن يكون هذا ناتجا عن حقيقة أن عمليات التشكيل الإقليمي التي تكيف حياتنا لا تتوقف عن التغير كما هو واضح. والهدف من هذا الفصل الموجز هو لفت الانتباه إلى بعض الموارد التي لم تناقش في الفصول السابقة. في الجغرافيا السياسية ، تعد الكتب التي ألفها كل من كوكس وستوري على الأخص إضافات تكميلية جيدة للكتاب الذي بين أيدينا. (1) الكتب (1-1) الأنثروبولوجيا
Cieraad I ed. 1999
At Home: An Anthropology of Space
Syracuse University
Coakley P ed. 2003
The Territorial Management of Ethnic Conflict
Frank Cass, London.
Das V and Poole D eds. 2004
Anthropology in the Margins of the State
School of American Research Advanced Seminar Series, Santa Fe.
Donnan H and Wilson T eds. 1994
Border Approaches
University Press of America, Lanham, MD.
Setting Boundaries: The Anthropology of Spatial and Social Organization
Bergin & Garvey, Westport, CT. (1-2) التصميم
Deutsch R 1996
Evictions: Art and Spatial Politics
MIT Press, Cambridge, MA.
Architecture and Order: Approaches to Social Space
Routledge, London.
Unwin S 2000
An Architecture Notebook: Wall
Routledge, London. (1-3) الحدود
Berg E and Van Houtum H 2003
Routing Borders Between Territories: Discourses and Practices
Ashgate, Burlington, VT.
Buchanan A and Moore M eds. 2003
States, Nations and Borders: The Ethics of Making Boundaries
Cambridge University Press, Cambridge.
Miller D and Hashmi S eds. 2001
Boundaries and Ethics: Diverse Ethical
(1-4) السياسة الجغرافية النقدية
Herod A, Ó Tuathail G and Roberts S eds. 1998
Unruly World: Globalization, Governance and Geography
Routledge, London.
Newman D ed. 1999
Boundaries, Territory and Post-modernity
Frank Cass, London.
Ó Tuathail G and Dalby S eds. 1998
Rethinking Geopolitics
Routledge, London.
Ó Tuathail G, Dalby S and Routledge P eds. 1998
The Geopolitics Reader . Routledge, London. (1-5) علم النفس البيئي
Altman I 1975
The Environment and Social Behavior: Privacy, Personal Space, Territory and Crowding
Brooks-Cole, Monterey, CA.
Kirby K 1996
Indifferent Boundaries: Spatial Concepts of Human Subjectivity
Guilford, New York. (1-6) السياسة الجغرافية
Agnew J 2003
Geopolitics: Re-Visioning World Politics
Routledge, London.
Cohen S 2003
Geopolitics of the World System
Rowman & Littlefield, Lanham, MD.
Derlugian G and Greer S eds. 2000
Questioning Geopolitics: Political Prospects in a Changing World System
Greenwood Press, Westport, CT.
Kliot D and Newman D eds. 2000
Geopolitics at the End of the 20th Century: The Changing World Map
Frank Cass, London.
Sempra F 2002
Geopolitics from the Cold War to the 21st Century
Transactions, New Brunswick, NJ. (1-7) العلاقات الدولية
Anderson M 1996
Frontiers, Territory and State Formation in the Modern World
Huth P 1996
Standing Your Ground: Territorial Disputes and International Conflict
University of Michigan Press, Ann Arbor.
Kacowicz A 1994
Territorial Change
University of South Carolina
O’Leary B, Lustwick I, and Callaghy T eds. 2001
Right-Sizing the State: The Politics of Moving Borders
Oxford University Press, Oxford.
Walker R and Mendlovitz S eds. 1990
Contending Sovereignties: Redefining Political Community
Lynne Reiner, Boulder, CO.
Of particular interest is the
Borderline
series of monographs published by the University of Minnesota Press, including:
Shapiro M and Alker H, eds. 1996
Challenging Boundaries: Global Flows, Territorial Identities .
Soguk N 1999
States and Strangers: Refugees and Displacements of Statecraft . (1-8) الجغرافيا السياسية
Chisolm M and Smith D eds. 1990
Shared Space: Divided Space: Essays on Conflict and Territorial Organization
Unwin Hyman, London.
Cox K 2002
Geography: Territory, State and Society
Blackwell, Oxford.
Dikshit R 1997
Developments in Political Geography: A Century of Progress
Sage, New Delhi.
Glassner M and Fahrer C 2004
3rd edn. John Wiley, New York.
Hooson D ed. 1994
Geography and National Identity
Blackwell, Oxford.
Muir R 1997
Geography: A New Introduction . John Wiley, New York.
O’Laughlin J ed. 1994
Dictionary of Geopolitics
Greenwood Press, Westport, CT.
Shelley J et al. 1996
Guilford, New York.
Storey D 2001
Territory: The Claiming of Space
UK.
Taylor P 1989
Geography: World Economy, Nation-State, Locality
2nd edn. Longman Scientific, London. (2) أعمال ذات صلة (2-1) العولمة الاقتصادية
Cox K ed. 1997
Spaces of Globalization: Reasserting the Power of the Local
Guilford Press, New York.
Sassen S 1996
Losing Control? Sovereignty in an Age of Globalization
Columbia University Press, New York.
Sassen S 1998
Globalization and its Discontents: Essays on the New Mobility of People and Money
New Press, New York. (2-2) السكان الأصليون لأمريكا الشمالية
Biolsi T 2001
Deadliest of Enemies: Law and the Making of Race Relations On and Off Rosebud Reservation
University of California
Fixico D 1998
The Invasion of Indian Country in the Twentieth Century
University Press of Colorado, Niwot, CO.
Fouberg E 2000
Tribal Territory, Sovereignty, and Governance: A Study of the Cheyenne River and Lake Traverse Indian Reservations
Garland Press, New York.
Frantz F 1999
Indian Reservations in the United States: Territory, Sovereignty, and Socioeconomic Change
University of Chicago
Harris C 2002
Making Native Space: Colonialism, Resistance, and Reserves in British Columbia
University of British Columbia Press, Vancouver.
Sutton I ed. 1985
Irredeemable America: The Indians’ Estate and Land Claims
University of New Mexico Press, Albuquerque. (2-3) الخصوصية
McGrath J 2004
Loving Big Brother: Performance, Privacy and Surveillance Space
Routledge, London.
McLean D 1995
its Invasion
CT.
The Soft Cage: Surveillance in America: From Slavery to the War on Terror
Basic Books, New York.
Boundaries of Privacy: Dialectics of Disclosure
State University of New York Press, Albany, NY. (2-4) الحدود الأمريكية المكسيكية
Andreas P 2000
Border Games: Policing the U.S.-Mexico Divide . Cornell University Press, Ithaca, NY.
Dunn T 1996
The Militarization of the U.S.-Mexican Border 1978-1992: Low Intensity Conflict Doctrine Comes Home
Center for Mexican American Studies, Austin.
Martinez O 1994
Border
Borderlands . University of Arizona Press, Tucson.
Nevins J 2002
Operation Gatekeeper: The Rise of the “Illegal Alien” and the Making of the U.S.-Mexico Boundary
Routledge, New York. (3) دوريات
في حين أن التناول العلمي لموضوع الإقليمية يمكن أن نجده في العديد من الدوريات الأكاديمية، فإن الدوريات التالية هي الأكثر إفادة من غيرها على الأرجح:
Alternatives
Annals of the Association of American Geographers
Antipode
Diaspora
Environment and Behavior
Environment and Planning D (Society and Space)
Geopolitics
Global Society
International Migration
International Migration Review
International Studies Review
Millennium
Geography
Refugees (4) الإنترنت
لقد أحدثت شبكة الإنترنت تغييرا عميقا في الطرق التي تنتج بها المعلومات - صحيحها وخطؤها - ويتم من خلالها تداولها واستهلاكها. ونظرا لأن الإقليمية على هذا القدر من التغلغل والأهمية، فمن المنطقي أن يكون هناك عدد لا يحصى من المواقع الإلكترونية التي تتصل بهذا الموضوع بطريقة ما أو بأخرى. بداية، آلاف من الوحدات الحكومية المحددة إقليميا، صغيرة كانت أم كبيرة، لها وجود على شبكة الإنترنت، ومما لا شك فيه أن معظمها لا ينظر إلى الإقليمية باعتبارها مشكلة، لكن البعض منها قد يكون مفيدا في فحص السياسات الرسمية المتعلقة بالإقليم؛ فمثلا موقع هيئة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية - وهي هيئة تابعة لوزارة الأمن الوطني - يشتمل على كم هائل من المعلومات حول الآلية العملية للعمل الحدودي (
www.cbp.gov ). والأكثر إثارة للاهتمام في هذا الموقع «مكتبات الصور»، مثل «مكتبة صور حرس الحدود» و«مكتبة صور طرق التخفي» التي يمكن الوصول إليها عبر «مجموعة صور خط الجبهة الأمريكي». وبالمثل، لدى وزارة الهجرة وشئون الأجانب والسكان الأصليين في أستراليا موقع إلكتروني (
www.immi.gov.au ) يحتوي على معلومات عن الهجرة غير الشرعية وحرس الحدود ومرافق الاحتجاز. كما يمكن استخدام الإنترنت أيضا للوصول إلى معلومات عن نزاعات إقليمية بعينها؛ على سبيل المثال: قد يعقد المرء مقارنة بين تأويلات تتعلق بجامو وكشمير تقدمها وزارة الشئون الخارجية الهندية (
www.mea.jov.in ) وتلك التي تقدمها الحكومة الباكستانية (
www.infopak.gov.pk/public/kashmir/kashmir.htm ). كما أن باكستان تعد أيضا موضوع عدد من المواقع الإلكترونية مثل:
akakurdistan.com
و
krg.org ، وهو الموقع الإلكتروني الرسمي للحكومة الإقليمية الكردستانية في العراق.
وإضافة إلى المواقع الرسمية (أو شبه الرسمية) يوجد أيضا عدد من مواقع الدعم التي تتحدى السياسة الرسمية. ولاستخدام الأساليب نفسها المبينة سابقا، قد يعقد المرء مقارنة مفيدة بين هيومان بوردرز (
http://www.humaneborders.org )، وهي مؤسسة تقدم المساعدات الإنسانية للأشخاص الذين يعبرون الحدود الأمريكية المكسيكية («ينبغي أن نخرج الموت من معادلة الهجرة»)، وبين مؤسسة رانش ريسكيو (
www.ranchrescue.com )، التي تنظر إلى المهاجرين المكسيكيين باعتبارهم «جيشا حقيرا»، وتتساءل: «هل يوجد شك في أن جميع الأمريكيين بحاجة إلى تسليحهم بأقصى درجات التسلح؟»
بالمثل، يوجد عدد من المنظمات المهمة بالنسبة إلى سياسة أستراليا حيال اللاجئين وطالبي اللجوء (على سبيل المثال: مؤسسة رفيوجيز أستراليا (
refugeesaustralia.org )، وجمعية اللاجئين الأسترالية (
ausref.net )، ومجلس اللاجئين الأسترالي (
refugesaouncil.org.au ).) يمكن الاطلاع على المواقف المتنازعة بشأن عدد من القضايا الإقليمية على شبكة الإنترنت.
ومن منظور علمي أكثر، يوجد عدد من المواقع الإلكترونية المفيدة التي تناسب الموضوع وتسهل الوصول إلى كم وفير من المعلومات؛ فيمتلك مركز الأبحاث الحدودية التابع لقسم الجغرافيا بجامعة نايميخن في هولندا موقعا إلكترونيا (
www.ru.nl/ncbr ) يتيح الوصول إلى «جورنال أوف بوردر ستاديز»، ويوجد به العديد من الروابط الأخرى المفيدة. ومن بين المواقع الإلكترونية الأكاديمية الأخرى تلك التي تملكها شبكة دراسات الأبحاث الحدودية (
www.crossborder.ifg.dk )، ومركز أبحاث السياسة الجغرافية والعلاقات الدولية بجامعة لندن (
www.soas.ac.uk )، ومركز دراسة العولمة والأقلمة التابع لجامعة واريك (
www2.warwick.ac.uk/fac/soc/csgr )، ومركز أبحاث الحدود الدولية التابع لجامعة كوينز في بلفاست (
www.qub.ac.uk/cibr )، وهذا الأخير به روابط ذات أهمية خاصة.
تجدر بنا الإشارة إلى نوع عام من مصادر الإنترنت لأغراض عقد المقارنات، وهو يشمل تلك المواقع التي قد يكون أفضل وصف لها هو «المواقع البديلة المعارضة للإقليمية»، وهذه المواقع تشمل المواقع التي تروج للتسلل والاستكشاف والتعدي، مثل:
www.urban_exploration.com (الاستكشاف هو «ارتياد مناطق محظورة يراها عدد محدود للغاية من الناس، وهذا هو سر إثارتها»)، و
www.infiltration.org («الذهاب إلى أماكن لا يفترض أن تذهب إليها»)، و
www.thederilectsensation.com (وهذا الموقع «معني بالتحرر من المتاهة»). وهذه المواقع كثيرا ما تحتوي على روابط لمشروعات مشتركة في أنحاء العالم. أيضا ثمة مواقع أخرى تستحق الذكر، وهي تدور حول اغتصاب الأراضي أو الممتلكات، مثل:
www.squat.freeserve.co.uk
و
www.squat.net (قارن هذين ب
www.landlordzone.co.uk ). وهناك مواقع أخرى معارضة للإقليمية تشمل:
www.noborder.org
و
www.antimedia.net/xborder
و
www.borderwatch.net
و
www.contrast.org . وبالطبع، استنادا إلى طبيعة الإنترنت والطبيعة العابرة للمواقع البديلة، ربما تصبح هذه القائمة ذات أهمية مرجعية عند نشر الكتاب الذي بين أيدينا.
المراجع
Acuña R 1996
Anything but Mexican: A History of Chicanos
Harper & Row, New York.
Agnew J 1993 Representing Space: Space, Scale and Culture in Duncan J and Ley D eds.
Routledge, London 251-271. --- 1998
Geopolitics: Re-Visioning World
Routledge, London. --- 1999 Mapping Political Power Beyond State Boundaries: Territory, Identity and Movement in World Politics
Millennium
28, 499-521. --- 2000 Commentary
Geography
24, 91-93. --- and Corbridge S 1995
Mastering Space: Hegemony, Territory and International Political Economy
Routledge, London.
Aiken S et al. eds. 1998
Making Worlds: Gender, Metaphor and Materiality
University of Arizona Press, Tucson.
Altman I 1975
The Environment and Social Behavior: Privacy, Personal Space, Territory and Crowding
Brooks-Cole, Monterey, CA.
Alvarez R 1999 Toward an Anthropology of Borderlands: The Mexican-U.S. Border and the Crossing of the 21st Century in Rosler M and Wendl T eds.
Frontiers and Borderlands: Anthropological Perspectives
225-238.
Amnesty International 2003
Israel and the Occupied Territories. Surviving under Siege: The Impact of Movement Restrictions on the Right to Work
London.
Anderson E 2000
The Middle East: Geography and Geopolitics
Routledge, London.
Anderson J and O’Dowd L 1999 Borders, Border Regions and Territoriality: Contradictory Meanings, Changing Significance
Regional Studies
33, 593-604.
Appadurai A 1990 Disjuncture and Difference in the Global Cultural Economy
2, 1-23. --- 1996 Sovereignty Without Territoriality: Notes for a Postnational Geography in Yeager P ed.
The Geography of Identity
University of Michigan Press, Ann Arbor 40-58.
Archer C 2004 A Prison with your own Key all in the Name of Security!
March 21 (
http://www.palestinemonitor.org ).
Ardley R 1966
The Territorial Imperative
Athenaeum, New York.
Ashley R 1987 The Geopolitics of Geopolitical Space: Toward a Critical Social Theory of International Politics
Alternatives
12, 403-434. --- 1988 Untying the Sovereign State: A Double Reading of the Anarchy Problematique
Millennium
17, 227-262.
Barnard A 1992 Social and Spatial Boundary Maintenance among Southern African Hunter-Gatherers in Casimir M and Rao A eds.
Mobility and Territoriality: Social and Spatial Boundaries among Foragers, Fishers, Pastoralists and Peripatetics
Berg, Oxford 137-152.
Barth F 1969
Ethnic Groups and Boundaries: The Social Organization of Cultural Difference
Little Brown, Boston.
Bartram D 1996 Foreign Workers in Israel: History and Theory
International Migration Review
32, 303-326.
Bassin M 2003 Politics from Nature in Agnew J, Mitchell K, and Ó Tuathail G eds.
A Companion to Political Geography
Blackwell, Malden, MA 13-29.
Bauman Z 2004
Wasted Lives: Modernity and its Outcasts
Blackwell, Malden, MA.
Benda-Beckmann F von 1979
Social Continuity: Continuity and Change in the Maintenance of Property Relationships through Time in Minangkabau, West Sumatra
Martinus Nijhoff, The Hague. --- 1999 Multiple Legal Constructions of Socio-Economic Spaces: Resource Management and Conflict in the Central Moluccas in Rosler M and Wendl T eds.
Frontiers and Borderlands: Anthropological Perspectives
131-158.
Berland J 1992 Territorial Activities among Peripatetic Peoples in Pakistan in Casimir M and Rao A eds.
Mobility and Territoriality: Social and Spatial Boundaries among Foragers, Fishers,
Berg, Oxford 375-396.
Bickerton I and Klausner C 1995
A Concise History of the Arab-Israeli Conflict
2nd edn.
Bornstein A 2002a Borders and the Utility of Violence: State Effects on the “Superexploitation” of West Bank Palestinians
Critique of Anthropology
22, 201-220. --- 2002b
Crossing the Green Line Between the West Bank and Israel
University of Pennsylvania
Brawley M 2003
The Politics of Globalization: Gaining Perspectives, Assessing Consequences
Broadview, Peterborough, ON.
Bregman
A Israel’s Wars: A History Since 1947
Routledge, London.
Brenner N 1999 Beyond State Centrism? Space, Territoriality, and Geographical Scale in Globalization Studies
Theory and Society
28, 39-78.
Brown B 1987 Territoriality in Stokols D and Altman I eds.
Handbook of Environmental Psychology
John Wiley, New York 505-531.
Brown C 1992
International Relations Theory: New Normative Approaches
Columbia University Press, New York.
B’Tselem 2002 Land Grab: Israel’s Settlement Policy in the West Bank (
www. btselem.org ). --- 2003a Attacks on Israeli Civilians (
www.btselem.org ). --- 2003b Behind the Barrier: Human Rights Violations as a Result of Israel’s Separation Barrier (
www.btselem.org ). --- 2003c New Orders in Barrier Enclaves: 11,400 Palestinians Need Permits to Live in their Homes (
www.btselem.org ).
Buzan B 1996 The Timeless Wisdom of Realism in Smith S, Booth K, and Zalewski M eds.
International Relations Theory: Positivism and Beyond
Cambridge University Press, Cambridge 47-65.
Casimir M 1992 The Determinants of Rights to Pasture: Territorial Organization and Ecological Constraints in Casimir M and Rao A eds.
Mobility and Territoriality: Social and Spatial Boundaries among Foragers, Fishers, Pastoralists and
Berg, Oxford 153-204. --- and Rao A eds. 1992
Mobility and Territoriality: Social and Spatial Boundaries among Foragers, Fishers,
Berg, Oxford.
Clark I 1989
The Hierarchy of State: Reform and Resistance in the International Order
Cambridge University Press, Cambridge.
Cohen A 1985
The Symbolic Construction of Community
Ellis Horwood, Chichester.
Cohen S 1973
Geography and Politics in a World Divided
Oxford University Press, New York. --- 1994 Geopolitics in the New World Order: A New Perspective on an Old Discipline in Danko G and Wood W eds.
Reordering the World: Geopolitical Perspectives for the 21st Century
Westview, Boulder, CO 15-48.
Connolly W 1996 Tocqueville, Territory and Violence in Shapiro M and Alker H eds.
Challenging Boundaries: Global Flows, Territorial Identities
University of Minnesota Press, Minneapolis 141-164.
Cook J 2003 A Cage for Palestinians
International Herald Tribune
May 27.
Cusimano M ed. 2000
Beyond Sovereignty
Bedford, Boston.
Dalby S and Ó Tuathail G 1996 The Critical Geopolitics Constellation: Problematizing Fusions of Geographical Knowledge and Power
15, 451-456.
Darby P 2003 Reconfiguring “the International”: Knowledge Machines, Boundaries, and Exclusions
Alternatives
28, 141-166.
Davis U 1987
Israel: Apartheid State
Zed, London.
De Genova N 1998 Race, Space and the Reinvention of Latin America in Mexican Chicago
Latin American
102, 87-116.
Decker S and Van Winkle B 1996
Life in the Gang: Family Friends and Violence
Cambridge University
Delaney D 1998
Race, Place and the Law 1836-1948
University of Texas Press, Austin.
Deutsch J-G et al. eds. 2002
African Modernities: Entangled Meanings in Current Debate
Heinemann,
Dieckhoff A 2003
Invention of a Nation: Zionist Thought and the Making of Modern Israel
Columbia University Press, New York.
Dikshit R 1975
The Political Geography of Federalism: An Inquiry into Origins and Stability
John Wiley, New York.
Dodds K and Atkinson D eds. 2000
Geopolitical Traditions: A Century of Geopolitical Thought
Routledge, London.
Dodge T 2003
Inventing Iraq
Columbia University Press, New York.
Domosh M and Seager J 2001
Women in Place: Feminist Geographers Make Sense of the World
Guilford, New York.
Donnan H and Wilson T 1999
Borders: Frontiers of Identity, Nation and State
Berg, Oxford.
Doty R 2001 Desert Tracts: Statecraft in Remote Places
Alternatives
26, 523-543.
Egan T 2004 Risky Dream and a Rising Toll in the Desert at the Mexican Border
New York Times
May 23.
Falah G 1996 The 1948 Israeli-Palestinian War and its Aftermath: The Transformation and De-signification of Palestine’s Cultural Landscape
Annals of the Association of American Geographers
86, 256-285. --- 2003 Dynamics and Patterns of the Shrinking of Arab Lands in Palestine
22, 179-209.
Farsoun S 1997
Westview, Boulder, CO.
Finnie D 1992
Shifting Lines in the Sand: Kuwait’s Elusive Frontier with Iraq
Harvard University
Flynn D 1997 “We Are the Border”: Identity, Exchange, and the State along the Bénin-Nigeria Border
American Ethnologist
24, 311-330.
Forsberg T 1996 Beyond Sovereignty, Within Territoriality: Mapping the Space of Late-Modern (Geo)politics
Cooperation and Conflict
31, 355-386.
Frazier D 1998
The U.S. and Mexican War: 19th-Century Expansionism and Conflict
Macmillan, New York.
French L 2002 From Politics to Economics at the Thai-Cambodian Border: Plus ça change ...
International Journal of
15, 427-470.
George J 1994
Discourses of Global
Relations
Lynne Reiner, Boulder, CO.
Giddens, A 1991
Modernity and Self-Identity: Self and Society in the Late Modern Age
Blackwell, Cambridge.
Glazer D 2003 Zionism and Apartheid: A Moral Comparison
Ethnic and Racial Studies
26, 403-421.
Glossop R 1993
World Federalism? A Critical Analysis of Federal World Government
McFarland, Jefferson, NC.
Goffman E 1971
Relations in Public: Microstudies of the Public Order
Basic Books, New York.
Gottmann J 1973
The Significance of Territory
University of Virginia Press, Charlottesville, VA.
Greenwald E 2002
Reconfiguring the Reservation: The Nez Perces, Jicarilla Apaches and the Dawes Act
University of New Mexico Press, Albuquerque.
Griggs N 2002 Atzlan and Amalgamation
The New American , May 6, 16-21.
Grosby S 1995 Territoriality: The Transcendental, Primordial Feature of Modern Societies
Nations and Nationalism
1, 143-162.
Gupta A and Ferguson J 1997a Beyond “Culture”: Space, Identity and the Politics of Difference in Gupta A and Ferguson J eds.
Culture, Power, Place
Duke University Press, Durham, NC 33-51. --- 1997b Discipline and Practice: The Field as Site, Method and Location in Anthropology in Gupta A and Ferguson J eds.
Anthropological Locations: Boundaries and Grounds of a Field Science
University of California Press, Berkeley.
Halper J 2000 Palestine: Dismantling the Matrix of Control
February (
www.afsc.org/pwork ). --- 2002 Bantustans and Bypass Roads: The Rebirth of Apartheid?
Global Dialogue
4, 35-44.
Hanieh A 2003 Israel’s Clampdown Masks System of Control
Middle East Report
February 14 (
www.merip.org ).
Hartshorne R 1950[1969] The Functional Approach in Political Geography reprinted in Kasperson R and Minghi J eds.
The Structure of Political Geography
Aldine, Chicago 34-49.
Harvey D 1985 The Geopolitics of Capitalism in Gregory D and Urry J eds.
Social Relations and Spatial Structures
St. Martins, New York 129-163. --- 2000
Spaces of Hope
University of California Press, Berkeley.
Hasenclever A et al. eds. 1997
Theories of International Regimes
Cambridge University Press, Cambridge.
Haskell T 1977
The Emergence of
University of Illinois Press, Urbana.
Hass A 1999
Drinking the Sea at Gaza: Days and Nights in a Land under Siege
Metropolitan Books, New York. --- 2002 Israel’s Closure Policy: An Ineffective Strategy of Containment and Repression
Journal of Palestine Studies
31, 5-20.
Heffernan M 2000 Fin de Siècle, Fin du Monde? On the Origins of European Geopolitics in Dodds K and Atkinson D eds. 2000
Geopolitical Traditions: A Century of Geopolitical Thought
Routledge, London 27-51.
Held D and McGrew A 2002
Globalization/Anti-Globalization
Cambridge.
Herek G and Berrill K eds. 1992
Hate Crimes: Confronting Violence against Lesbians and Gay Men
Sage, Newbury Park, CA.
Hiro D 2001
Neighbors not Friends: Iraq and Iran after the Gulf Wars
Routledge, New York.
Home R 2003 An “Irreversible Conquest”? Colonial and
Social and Legal Studies
12, 291-310.
Hudson Y ed. 1999
Globalism and the Obsolescence of the State
E. Mellen, Lewiston, NY.
Hussein H and McKay F 2003
Access Denied: Palestinian Land Rights in Israel
Zed, London.
James P 1972
All Possible Worlds: A History of Geographical Ideas
Odyssey, Indianapolis.
Kantor M 1998
Homophobia: Description, Development, and Dynamics of Gay Bashing
CT.
Kasperson R and Minghi J eds. 1969
The Structure of Political Geography
Aldine, Chicago.
Kearney 1998 Transnationalism in California and Mexico at the End of Empire in Wilson T and Donnan H eds.
Border Identities
Cambridge University Press, Cambridge 117-142.
Kearns G 2003 Imperial Geopolitics in Agnew J, Mitchell K, and Ó Tuathail G eds.
A Companion to Political Geography
Blackwell, Malden, MA 173-186.
Kedar A 2001 The Legal Transformation of Ethnic Geography: Israeli Law and the Palestinian Landholder 1948-1967
New York University Journal of International Law and
33, 923-1000. --- 2003 On the Legal Geography of Ethnographic Settler States: Notes Towards a Research Agenda in Holder J and Harrison C eds.
Law and Geography
Oxford University Press, Oxford 401-444.
Khalidi R 1997
The Construction of Modern National Consciousness
Columbia University Press, New York.
Kimmerling B 1983
Zionism and Territory: The Socio-Territorial Dimensions of Zionist
Institute of International Studies, Berkeley. --- 1989 Boundaries and Frontiers of the Israeli Control System: Analytical Conclusions in Kimmerling B ed.
The Israeli State and Society: Boundaries and Frontiers
State University of New York Press, Albany. --- and Migdal J 2003
The Palestinian
Harvard University Press, Cambridge, MA.
Klein J 1990
Interdisciplinarity: History, Theory and Practice
Wayne State University Press, Detroit.
Krasner S 1983
International Regimes
Cornell University Press, Ithaca. --- 1999
Sovereignty: Organized Hypocrisy
NJ. --- 2001 Rethinking the Sovereign State Model
Review of International Studies
27, 17-42.
Lapid Y 2001 Identities, Borders, Orders: Nudging International Relations Theory in a New Direction in Albert M, Jacobson D and Lapid Y eds.
Identities, Borders, Orders: Rethinking International Relations Theory
University of Minnesota Press, Minneapolis 1-20.
Latham M 2000
Modernization as Ideology: American Social Science and “Nation Building” in the Kennedy Era
University of North Carolina Press, Chapel Hill, NC.
Lefebvre H 1991
The Production of Space
Blackwell, Oxford.
Levy G 2003 The Occupation’s Latest Wrinkle is a Separation Fence and its Permanent Gates: A Visit at “Open Sesame” Time
Ha’aretz
August 8.
Ley D 1983
A Social Geography of the City
Harper & Row, New York.
Little R 1996 The Growing Relevance of Pluralism in Smith S, Booth K and Zalewski M eds.
International Relations Theory: Positivism and Beyond
Cambridge University Press, Cambridge 66-86.
Livingstone D 1993
The Geographical Tradition: Episodes in the History of a Contested Enterprise
Blackwell, Oxford.
Lukes S 1986
New York University Press, New York.
Lyman S and Scott M 1967 Territoriality: A Neglected Sociological Dimension
Social Problems
12, 236-249.
Maghroori R 1982 Introduction to Major Debates in International Relations in Maghroori R and Ramberg B eds.
Globalism versus Realism: International Relations’ Third Debate
Westview, Boulder, CO 9-22.
Mandaville P 1999 Territory and Translocality: Discrepant Idioms of Political Identity
Millennium
28, 653-673.
Martinez R 2001
Crossing Over: A Mexican Family on the Migrant Trail
Metropolitan Books, New York.
Mbembe A 2000 At the Edge of the World: Boundaries, Territoriality, and Sovereignty in Africa
Culture
12, 259-284. --- 2003 Necropolitics
Culture
15, 11-40.
McDonnell J 1991
The Dispossession of the American Indian 1887-1934
Indiana University Press, Bloomington.
McDowell L and Sharp J eds. 1997
Space, Gender and Knowledge: Feminist Readings
Arnold, London.
Meehan M 1996 The By-pass Roads Destroy Hopes for Future
Washington Report on the Middle East
April 8-9.
Migra A 1992 Roma Territorial Behaviour and State Policy: The Case of the Socialist Countries of East Europe in Casimir M and Rao A eds.
Mobility and Territoriality: Social and Spatial Boundaries among Foragers, Fishers, Pastoralists and
Berg, Oxford 259-279.
Migration News
2001 INS: Border Deaths, Trafficking vol. 8, July.
Minghi, J 1963[1969] Boundary Studies in Political Geography reprinted in Kasperson R and Minghi J eds.
The Structure of Political Geography
Aldine, Chicago 140-159.
Moore S 1986
Social Facts and Fabrications: “Customary Law” on Kilimanjaro 1880-1980
Cambridge University Press, Cambridge.
Morrill R 1981
and Geographical Theory
Association of American Geographers, Washington.
Newman D ed. 1985
The Impact of Gush Emunim: Politics and Settlement in the West Bank
St. Martin’s, New York. --- 2002 The Geopolitics of Peacemaking in Israel-Palestine
21, 629-646. --- 2003 Boundaries in Agnew J, Mitchell K and Ó Tuathail G eds.
A Companion to Political Geography
Blackwell, Malden, MA 123-137.
Niemann M 2003 Migration and the Lived Spaces of Southern Africa
Alternatives
28, 115-140.
Ó Tuathail G 1994 Displacing Geopolitics: Writing on the Maps of Global Politics
Society and Space
12, 525-546. --- 1996
Critical Geopolitics
University of Minnesota Press, Minneapolis.
Ohmae K 1999
The Borderless World:
Harper, New York.
Ortiz V 2001 The Unbearable Ambiguity of the Border
Social Justice
28, 96-112.
Hagar
1, 91-113.
Human Geography
24, 93-95. --- 2003 Territory in Agnew J, Mitchell K and Ó Tuathail G eds.
A Companion to Political Geography
Blackwell, Malden, MA 109-122.
The Gang as an American Enterprise
Rutgers University Press, New Brunswick, NJ.
U.S.-Mexico Militarization Discourse
Social Justice
27, 56-72.
A History of Modern
Cambridge University Press, Cambridge.
Geopolitics: Past,
the Middle East Peace Process
United States Institute of
Barrier.
Electronic Intifada
August 1 (
www.electronicintifada.net ).
A Time of Our Choosing: America’s War in Iraq
Times Books, New York.
Rabinowitz D 2001The Palestinian Citizens of Israel, the Concept of a Trapped Minority and the Discourse of Transnationalism in Anthropology
Ethnic and Racial Studies
24, 64-85.
Rappaport M 2003 A Wall in their Heart
Yedioth Aharonoth
May 23.
Ratzel F 1896[1969] The Laws of the Spatial Growth of States in Kasperson R and Minghi J eds.
The Structure of
Aldine, Chicago 17-28 (originally published in German).
Research Unit for Political Economy 2003
Behind the Invasion of Iraq
Monthly Review
Reuveny R 2003 Fundamentalist Colonialism: The Geopolitics of Israeli-Palestinian Conflict
Geography
22, 347-380.
Rösler M and Wendl T 1999
Frontiers and Borderlands: Anthropological Perspectives
Frankfurt am Main.
Ross D 1991
The Origins of American Social Science
Cambridge University Press, Cambridge.
Routledge P 1996 Critical Geopolitics and Terrains of Resistance
15, 509-531.
Royster J 1995 The Legacy of Allotment
University of Arizona Law Review
27, 1-78.
Ruggie J 1993 Territoriality and Beyond: Problematizing Modernity in International Relations
International Organization
47, 139-174.
Sack R 1986
Human Territoriality: Its Theory and History
Cambridge, Cambridge University
--- 1997
Homo Geographicus: A Framework for Action, Awareness and Moral Concern
Johns Hopkins University Press, Baltimore. --- 2003
A Geographical Guide to the Real and the Good
Routledge, New York.
Said E 2001 Palestinians Under Siege in Carey R ed.
The New Intifada: Resisting Israel’s Apartheid
Verso, London 27-44.
Sauer C 1927 Recent Developments in Cultural Geography in Hayes E ed.
Recent Developments in the Social Sciences
J A Lippincott, Philadelphia.
Schimato T and Webb J 2003
Understanding Globalization
Sage, London.
Scholte J A 1996 Beyond the Buzzword: Towards a Critical Theory of Globalization in Kofman E and Youngs G eds.
Globalization: Theory and Practice
London.
Segal R and Weizman E eds. 2003
A Civilian Occupation: The Politics of Israeli Architecture
Verso, London.
Sibley, D 1995
Geographies of Exclusion
Routledge, London.
Sifry M and Cerf C eds. 2003
The Iraq War Reader: History, Documents and Opinions
Touchstone, New York.
Silltoe P 1999 Beating the Boundaries: Land Tenure and Identity in the Papua New Guinea Highlands
Journal of Anthropological Research
55, 331-360.
Smith C 2001 Closure: The Daily Reality of Israel’s Occupation
Middle East Report
August 27 (
www.merip.org ).
Smith S 1995 The Self-Images of a Discipline: A Genealogy of International Relations Theory in Booth K and Smith S eds.
International Relations Theory Today
1-37.
Soguk N 1996 Transnational/Transborder Bodies: Resistance, Accommodation, and Exile in Refugee and Migration Movements on the U.S.-Mexico Border in Shapiro M and Alker H eds.
Challenging Boundaries: Global Flows, Territorial Identities
University of Minnesota Press, Minneapolis 285-326. --- and Whitehall G 1999 Wandering Grounds: Transversality, Identity, Territoriality and Movement
Millennium
28, 675-698.
Soja E 1985 The Spatiality of Social Life: Towards a Transformative Retheorization in Gregory D and Urry J eds.
Social Relations and Spatial Structures
St. Martins, New York 91-27. --- 1989
Reassertion of Space in Critical Social Theory
Verso, London.
Storper M and Scott A 1986
Work and Territory
Allen & Unwin, Boston. --- and Walker R eds. 1989
The Capitalist Imperative: Territory, Technology and Industrial Growth
Blackwell, Oxford.
Strathern A and Stewart P 1998 Shifting Places, Contested Spaces: Land and Identity Politics in the Pacific
Australian Journal of Anthropology
9, 209-224.
Tamir-Tawil E 2003 To Start a City from Scratch: An Interview with Architect Thomas M. Leitersdorf in Segal R and Weizman E eds.
A Civilian Occupation: The Politics of Israeli Architecture
Verso, London 151-161.
Taylor C 1989
Sources of the Self
Harvard University Press, Cambridge, MA.
Taylor P 1994 The State as Container: Territoriality in the Modern World-System
Geography
18, 151-162. --- 1995 Beyond Containers: Internationality, Interstateness, Interterritoriality
Geography
19, 1-15.
Taylor R 1988
Human Territorial Functioning
Cambridge University Press, Cambridge.
Tesche B 2003
The Myth of 1648: Class, Geopolitics and the Making of International Relations
Verso, London.
Tocancipá-Falla J 2000-01 Civilization and the Politics of Territorial Boundaries in Columbia
Cambridge Anthropology
22, 36-61.
Torpey J 2000
The Invention of the
Cambridge University Press, Cambridge.
US Department of State 2004 USINFO.STATE.GOV/gi/archive/2004/May.
Van Valkenburg S 1940
Elements of
York.
Walker R 1984 The Territorial State and the Theme of Gulliver
International Journal
39, 529-552. --- 1989 History and Structure of the Theory of International Relations
Millennium
18, 163-183. --- 1993
Inside/Outside: International Relations as Political Theory
Cambridge University Press, Cambridge. --- and Mendlovitz S eds. 1990
Contending Sovereignties: Redefining Political Community
Lynne Reiner, Boulder, CO.
Weizman E 2002 The Politics of Verticality (
http://www.opendemocracy.com/debates ).
Wilson T and Donnan H eds. 1998
Border Identities: Nation and State at International Frontiers
Cambridge University Press, Cambridge. --- 1999 Nation, State and Identity at International Borders in Wilson T and Donnan H eds.
Border Identities: Nation and State at International Frontiers
Cambridge, Cambridge University Press, 1-30.
Yetman D and Búrquez A 1998 A Case Study in Ejido Privatization in Mexico
Journal of Anthropological Research
54, 73-95.
Yiftachel O 1998 Democracy or Ethnocracy: Territory and Settler
Middle East Report
Summer 8-13. --- 2000 “Ethnocracy” and its Discontents: Minorities,
Critical Inquiry
26, 725-756. --- 2002a Territory as the Kernel of the Nation: Space, Time, and Nationalism in Israel/Palestine
Geopolitics
7, 215-248. --- 2002b the Shrinking Space of Citizenship: Ethnographic
Middle East Report
Summer 38-45.
Unknown page