شكليا، كما يذهب أندرسون وأودود، يعد المعنى والأهمية العملية للإقليم وظيفة من وظائف معنى وبراجماتية الحدود. ويردفان أن «الإقليمية بالضرورة تنتج وتركز الانتباه على الحدود، وهي متجسدة في «الدولة القومية الإقليمية» السيادية الحديثة» (1999، 598). ولعل من المشروعات العصرية المتداخلة الاختصاصات الأكثر أهمية فيما يتصل بالإقليم؛ نظرية الحدود، التي يمكن استيعابها جزئيا كنقطة التقاء لنظرية العلاقات الدولية الأحدث ونظرية الثقافة. كذلك تعتمد النظرية، ذات الحضور القوي في الأنثروبولوجيا، على مشروعات أخرى عديدة وتشكلها، وتسعى لفهم الصلات بين الثقافة والسياسة والاقتصاد والخبرة في الحيز الاجتماعي. ترفض نظرية الحدود، مثل مشروعات أخرى بحثناها، الرؤية التقليدية للحدود بوصفها تمييزا للحواف الحادة للأقاليم المتجانسة والطرق التي تحدد بها هذه الرؤى التقليدية ما وراء الحدود بوصفه «خارجيا» وخطيرا. وهي قائمة على فرضية رفض الطرق التي ينظر بها إلى الحدود الفاصلة كتحديد للغيرية البديهية. بدلا من ذلك، تكون الحواف في نظرية الحدود متمركزة، ويكون التركيز على الحدود الفاصلة كمواقع للاختلاط أو التهجين.
يتحدى التدقيق النقدي الأدق للحدود تجسيدها المادي، ويكشف عنها بوصفها أبعد ما تكون عن البساطة؛ فهي تبدو، في المقابل، متناقضة وإشكالية ومتعددة الأوجه في طبيعتها. إنها تمثل على نحو متزامن بوابات وحواجز مؤدية إلى «العالم الخارجي»، وحامية وساجنة، ومجالات لفرص جديدة و/أو عدم الأمان، ومناطق للاتصال و/أو الصراع، للتعاون و/أو التنافس، للهويات المتناقضة و/أو التأكيد العدواني للاختلاف. قد تتبدل هذه التفرعات الثنائية مع الزمن والمكان، ولكنها - وهو الأكثر إثارة - من الممكن أن توجد معا في آن واحد لدى الأشخاص أنفسهم، الذين يتعين على البعض منهم التعامل على نحو دائم، ليس مع دولة واحدة بل اثنتين. (أندرسون وأودود 1999، 595-596)
وكما هي الحال مع بعض من المشروعات الأخرى المتداخلة الاختصاصات، تحيد نظرية الحدود عن أي رؤية ثابتة خرائطية للإقليم، وتؤكد على تنوع للتدفقات والحركيات العابرة للحدود كتلك المرتبطة بالعمال المهاجرين (موسميا، أو يوميا، أو خلال دورة الحياة)، واللاجئين، والسياح، والمهربين. وإذا فهمت الحدود بوصفها المواقع الأكثر نشاطا للتعقيدات الإقليمية، فإن انتباهنا يكون موجها نحو مجموعة أوسع من الممارسات الإقليمية وإلى أبعاد لآليات السلطة خلاف تلك التي تعرضها النظرية التقليدية. وقد تشمل هذه الممارسات ممارسات الدولة الرسمية كتلك التي تتضمن «مراقبة الحدود»، ونقاط التفتيش، والمنافذ الجمركية، والمراقبة، والإبعاد، والإدماج، والطرد، والتنظيم؛ وتضم كذلك ممارسات المراوغة، والتفاوض، والمقاومة بمختلف أشكالها. وقد استكشف العديد من الباحثين العلاقة بين مناطق الحدود والتهجين الثقافي، أو مسألة الهويات المتعددة أو المائعة بالنسبة إلى الحدود (فلين 1997؛ فرينش 2002؛ روسلر وفيندل 1999؛ ويلسون ودونان 1998). فيرفض جوبتا وفيرجسون، على سبيل المثال، فهم الحد في إطار «موقع طبوغرافي ثابت بين موقعين ثابتين آخرين (دول، مجتمعات، ثقافات)»، وينظران إلى الحد، بدلا من ذلك، بوصفه «منطقة خلالية للتهجير واللاأقلمة تشكل هوية المواطن المهجن». بل إن الحد، بحسب قولهما، هو ««الموقع» الطبيعي لمواطن ما بعد الحداثة» (1997أ، 18).
إن لهذه الأفكار تداعيات بالنسبة إلى أي فهم للإقليم؛ على الأقل فيما يتعلق بإقليمية الدول القومية. حتى مع التسليم بالفاعلية المستمرة للممارسات الإقليمية للدول - مثلما يتبين، على سبيل المثال، من خلال عسكرة تلك الأرض الحدودية الأكثر خضوعا للفحص والتدقيق، التي تضم المكسيك والولايات المتحدة (ألفاريز 1999؛ كيرني 1998؛ أورتيز 2001؛ بالافوكس 2000) (ومن خلال حقيقة أنه على الرغم من مزاعم اللاأقلمة، فإن العديد من المشاركين المتنقلين «المهجنين» أنفسهم قد يعتنقون آراء أكثر تقليدية بشأن تماثل الثقافة، والسياسة، والإقليم) - تؤكد نظرية الحدود ما بعد الحداثية على أوجه الانفصال، والتشابك، وعدم الاستقرار بين الأقاليم المنظمة على أساس أفكار وممارسات غالبا ما تكون متعارضة، وهذه السمات تحديدا هي التي عادة ما يعتم عليها أو ترفض من قبل أساليب الخطاب المتخصصة التقليدية والتفضيل المجرد من التفكير لمفاهيم الإقليم القائمة على سيطرة الدولة.
ولكن إذا كانت مناطق الحدود بدلا من أن تكون تمييزا للثبات واليقين والاستقرار والتعارض، ينظر إليها بوصفها مولدا للسيولة والغموض والبنائية المتبادلة؛ فقد يتساءل المرء أين تقع حدود المناطق الحدودية؟ إحدى الإجابات هي «ليس في أي مكان». وفي مقال «العرق، والحيز، وإعادة استحداث أمريكا اللاتينية في شيكاجو المكسيكية» (1998)، يرى نيكولا دي جينوفا جميع سمات الحدود في الوسط. «تزداد صعوبة تخيل أن أمريكا اللاتينية (والمكسيك و«العالم الثالث») تبدأ فقط عند الحدود ، وتزداد ضرورة إدراك التخوم ذات الطابع العرقي لحيز دولة الولايات المتحدة المتفجرة داخليا في أعماق خريطتها الإقليمية». ويرى أن الحد هو «كل مكان» داخل الولايات المتحدة (1998، 106)؛ ومن ثم أيضا فهو «كل مكان» داخل الحيز الإقليمي للمكسيك. ولكن هذه ليست أطروحة حول «اختفاء» التخوم، بل تخطيط ل «تكاثرها وانتشارها» على مدى المساحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إنها، في الأساس، أطروحة حول الحيز الاجتماعي ذاته، وإذا كانت الحدود المكسيكية-الأمريكية توجد في مواقع متعددة على امتداد حيزي الولايات المتحدة والمكسيك، فقد يكون بالإمكان دراسة مواقع حدود الولايات المتحدة-جوانتانامو، أو الحدود الباكستانية-الكندية، أو الحدود الأمريكية-الأفغانية. وقد يكون بالإمكان أيضا دراسة ظواهر إقليمية مثل الحدود الهندية-الباكستانية مثلما قد تقابل على نحو مختلف في لندن، أو مدينة الكويت، أو لوس أنجلوس. وربما نكون هنا قد واجهنا الانعكاس - أو الانحراف - التام للتفسيرات التقليدية للإقليم.
ولكنه ليس كاملا تماما؛ فمن الموضوعات المهمة الأخرى لدراسات الحدود التي تحيد عن الآراء التقليدية، التركيز على آثار الحدود والإقليم على «الحياة اليومية» وعلى الخبرات المجسدة، وهو ما يبدأ في تسليط الضوء على التخوم المعقدة بين «الدولة» و«المواطن»، أو بحسب تعبير ويلسون ودونان: «كيفية معايشة الناس مفهومي الأمة والدولة في حياتهم اليومية على الحدود الدولية» (1999،
xiii ). ويعبر عن الاتجاه نحو «الحياة اليومية» فيما يتعلق بنظرية العلاقات الدولية من قبل مايكل نيمان الذي يذهب إلى أن «الخبرات المعيشة - بعيدا عن كونها بقايا تخلفت بعد أن كشفت مكائد «السياسة الكبرى» نفسها - هي مكونات بالغة الأهمية للعلاقات الدولية، وفهمنا النظري للمجال سوف يظل منقوصا إلى أن يجري دمج خبرات الحياة اليومية » (2003، 115). أو بحسب تعبير روكسين دوتي في مقال «البقاع الصحراوية: إدارة الدولة في الأماكن النائية»: «يوجد بشر ربما لم يسمعوا من قبل قط بمصطلح إدارة الدولة، ولكن حياتهم مقحمة بعمق في هذا اللاشيء، في هذه العملية، في هذه الممارسة، في هذه الرغبة التي تشغل وعي رجال الدولة وباحثي العلاقات الدولية بعمق بالغ» (2001، 526). وتردف قائلة: «إن هؤلاء الناس وأحلامهم يعرقلون مشروع إدارة الدولة ، ذلك المشروع الذي يتطلب تخوما واضحة تستدعي حسا آمنا بمعرفة من «نحن»» (ص527). «إن هؤلاء الناس لديهم علم بالصحاري والظمأ والحر الخانق، ويعرفون أن الحدود تعني كل شيء ولا شيء. فالحياة توجه ضربات عنيفة إلى حدود العالم؛ مما يقيد حوافها» (ص538). في هذا المقام قد يتبادر إلى الذاكرة أن أعداد المكسيكيين الذي يموتون أثناء عبور الحدود كل عام، يفوق أعداد الجنود الأمريكيين الذين قتلوا في العراق قبل إعلان «النصر» في مايو 2003. ويكتب آشيل ميمبي يقول: «بالنسبة إلى الإقليم، فهو في الأساس نقطة تقاطع لأجسام متحركة، ويعرف أساسا بمجموعة الحركات التي تحدث بداخله. وبالنظر إليه على هذا النحو، فإنه إذا مجموعة من الاحتمالات دائما ما كانت الجهات الفاعلة التابعة للدولة القائمة تاريخيا تقاومها أو تدركها» (2000، 261).
ربما يمكننا أن نرى كلا من الانهيار المطلق للمفاهيم التقليدية للإقليم، والفاعلية المتواصلة لممارسات الدولة القائمة على أساس هذه المفاهيم فيما يتعلق بالأجسام والذاتية المجسدة؛ بالشعور بتأثيرات العطش والحر، بكونك تطارد، وتؤسر، وتعتقل، وتسلم. ويكتب ويلسون ودونان عن «تلك القوى التي تحدد الحيز الجغرافي والسياسي كخطوط على الخريطة تنقش في ذات الوقت طبوغرافية الجسد» (1999، 129). والمراقبة الشرطية لتدفق البضائع والأفراد «قد تنطوي أيضا على عمليات تفتيش من نوعية أكثر شخصية وتفصيلا وفي أشد الحالات تطرفا، قد تتضمن مثل هذه العمليات التفتيشية للشخص «تفتيشا ذاتيا عاريا». وهذا يتطلب نزع الملابس من أجل فحص مفصل، بل فحص الجسد ذاته» (ص130).
إن مثل هذه الممارسات تعزز فكرة أن نقاط التفتيش الحدودية والمنافذ الجمركية هي مساحات حدية؛ مساحات يتوقف بداخلها سريان العادات الغربية المألوفة للاحتكاك الجسدي ... إنها مساحات حدية تكون سلطة الدولة في نطاقها مطلقة، ويمكن فرضها حتى على أجسادنا؛ تلك العناصر الأكثر ذاتية من كياننا. وفي التحليل الأخير، حتى أجسادنا لا تصبح ملكا لنا في مثل هذه المواقع؛ إذ يستعاض عن إدارتنا لها بالسلطة الخرقاء للدولة التي يمكن أن تتجلى هناك. (ص131)
ويردفان: «تصبح تخوم الجسد مماثلة لحدود الأمة والدولة القومية؛ فلكتاهما عرضة للاختراق والإتلاف من الخارج، وقابلة للتعرض للمرض والاعتداء الخارجي على التوالي » (ص136). وهنا نرى كيف أن الأقاليم الكلية لنظرية العلاقات الدولية و«أقاليم النفس»، خاصة «غلاف» جوفمان، قد تتداخل كل منها مع الأخرى، حتى لو لم تكن كل واحدة منها نسخة من أخرى. (3-5) العولمة
Unknown page