الانتصار لأهل الأثر
المطبوع باسم «نقض المنطق»
تأليف
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (٦٦١ - ٧٢٨ هـ)
تحقيق
عبد الرحمن بن حسن قائد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
راجع هذا الجزء
سُعود بن عبد العزيز العُريفي
عمر بن سَعْدِي الجزائري
المقدمة / 3
مقدمة التحقيق
اللهم حبِّب إلينا الإنصافَ وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا البغيَ في الحكم والفجور في الخصومة، وأغننا بمحجَّة الحق عن بنيَّات الباطل.
أما بعد، فهذا جوابٌ من أجوبة شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ التي عليها خاتمُه، خاتمُ تحقيق المنقول وتحرير المعقول، وفيها نهجُه، نهجُ الاستسلام للوحي والتأسي بصالح السلف، وبها خلائقُه، خلائقُ الصدق والعدل والمرحمة.
سئل فيه عن مذهب السلف في الاعتقاد، وهل أهل الحديث أولى بالصواب من غيرهم، فأوضح مذهبَ السلف وقرَّر سبيلهم، وانتصر لأهل الحديث وبيَّن فضلهم، ثم أنصف من نفسه فكشف عن زلل بعض من لم يُحْكِم طريقتَهم ممن ينتسبُ إليهم، وأبان عما في مذاهب مخالفيهم من الجور عن صراط رشدهم، فكان حريًّا أن يسمى بـ «الانتصار لأهل الأثر»، كما سيأتي تأويله.
وقد طُبِع من قبل باسمٍ اجتهد ناشرُه في وضعه، وهو «نقض المنطق»، فكان اسمًا لا يدلُّ على حقيقة الكتاب ولا يهدي إلى غايته، وإن هو صدَق على جزءٍ منه، إذ ربعُه الأخير قولٌ مختصرٌ في المنطق وجوابٌ عمَّن زعم أنه فرض كفاية.
ثم كان من آثار هذه التسمية أنْ ظنَّ كثيرٌ من العلماء والباحثين وعامة القراء ــ وكنت منهم ــ أنه أحدُ الكتابين المشهورَين لشيخ الإسلام في الردِّ
المقدمة / 5
على المنطق، وهو ظنٌّ فائل، كما سنبيِّنه في موضعه من هذه المقدمة التي ذكرنا فيها كلماتٍ موجزة تضيء الطريق لقارئ الكتاب، وتعرِّفه إليه، وتقفه على ما ليس منه بدٌّ في أمر تصحيح نسبته وتحرير عنوانه وتفصيل موضوعه وتسمية موارده إلى آخر ما هنالك، ونسأل الله سداد القصد وهداية الطريق، فمن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وكتب
عبد الرحمن بن حسن قائد
الرياض ٢٢/ ١٢/ ١٤٣٤
المقدمة / 6
التعريف بالكتاب
* إثبات نسبة الكتاب لمؤلفه
* تحرير عنوان الكتاب
* موضوع الكتاب ومنهج المؤلف
* موارد الكتاب
* وصف الأصل الخطي المعتمد
* طبعات الكتاب
* منهج التحقيق
المقدمة / 7
إثبات نسبة الكتاب لمؤلفه
اجتمع لكتابنا من الدلائل والشواهد التي تصححُ نسبته إلى مؤلفه شيخ الإسلام ابن تيمية ما يُثْلِجُ القلبَ ببرد اليقين ويشفي ذا الغُلَّة الصادي، وإن كان الكتابُ ينادي باسم منشئه من له بهذا القلم الصَّارم معرفةٌ وسابقُ ألفة، لكن الاستدلال على ذلك يزيدُ الحقَّ ظهورًا وينفي عنه معتلجَ الظنون، فإلى بعض القول فيه.
فمن الدلائل والقرائن المستنبطة من الكتاب:
١ - ذِكْرُ المؤلف فيه لبعض كتبه الأخرى وإحالته عليها، كالفتوى الحموية، وقاعدة السُّنة والبدعة.
* قال عن الأول (ص: ٢١٥): «وأما أهل الحديث، فإنما تذكُر مذهبَ السَّلف بالنقول المتواترة، تارةً يذكرون مَن نقل مذهبَهم مِن علماء الإسلام، وتارةً يروون نفسَ قولهم في هذا الباب، كما سلكناه في جواب الاستفتاء، فإنا لما أردنا أن نبيِّن مذهبَ السَّلف ذكرنا طريقين ...».
والألف واللام في «الاستفتاء» للعهد، وهو الاستفتاء الذي ورد إليه سنة ٦٩٨ من حماة عن آيات الصِّفات وأحاديثها، فكتبَ جوابه في قعدةٍ بين الظهر والعصر، وعمرُه إذ ذاك دون الأربعين، واشتهر بالفتوى الحموية، وجرت له بسببه محنةٌ عظيمة، وذكره هكذا في غير موضع (^١).
_________
(^١) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (١/ ٤، ٢٣٤)، و«العقود الدرية» (١١١، ١٤٤، ٢٤٩)، و«الفتوى الحموية» (٢٩٦ - ٥١٧).
المقدمة / 9
وأومأ إليه في موضع آخر (ص: ٢٤٥)، فقال: «وقد ذكرنا في غير هذا الجواب مذهبَ سلف الأمَّة وأئمَّتها بألفاظها وألفاظ من نقل ذلك من جميع الطوائف».
* وقال عن الثاني (ص: ١٥٨): «وقد قرَّرنا في قاعدة السُّنة والبدعة أن البدعة في الدِّين هي ما لم يشرعه الله ورسوله».
وقد سمَّى هذه القاعدة وأحال عليها في «الاستقامة» (١/ ٥)، وانظر: «مجموع الفتاوى» (١٠/ ٣٧١، ٢١/ ٣١٩). وذكرها صاحباه ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (٧٣)، وابن رُشَيِّق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (٣٠٦ - الجامع لسيرة شيخ الإسلام).
* ومما يدخل في هذا: إحالتُه بسط القول في بعض المسائل على ما قرَّره في مواضع أخرى ــ دون أن يسمِّي كتابًا بعينه ــ ووجدنا تصديقَه في تصانيفه.
كقوله (ص: ٢٠٧) بعد أن قرَّر ذمَّ من يمثِّل الله بخلقه: «وقد بسطنا القول في ذلك وذكرنا الدلالات العقلية التي دلَّ عليها كتابُ الله في نفي ذلك، وبيَّنَّا منه ما لم تذكره النفاة الذين يتسمون بالتنزيه ولا يوجدُ في كتبهم ولا يُسْمَعُ من أئمَّتهم ...» (^١).
_________
(^١) وقد بسط ذلك في مصنف أفرده لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، أشار إليه في «درء التعارض» (٤/ ١٤٦) و«منهاج السنة» (٢/ ١٨٥)، وأورده ابن رُشَيِّق في أسماء مؤلفاته (٢٩١ - الجامع لسيرة شيخ الإسلام).
كما ذكر في «بيان تلبيس الجهمية» (٦/ ٤٨٧) أنه بسط الكلام على هذا في «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية»، وهو في القطعة المطبوعة من الجواب (١١٤ - ١٥٣).
المقدمة / 10
وانظر نماذج أخرى في غاية الوضوح (ص: ٦٠، ٧١، ٨٢، ٢٦٩، ٣٠٦).
٢ - توافق ترجيحات المؤلف واختياراته وتحريراته في مسائل العلم، ومسالكه في الحِجَاج ومناقشة الأقوال، مع ما هو معروفٌ في سائر كتبه وتواليفه، وقد وصلتُ بينها في الحواشي برباطٍ وثيق.
٣ - لغة الكتاب وأسلوب مؤلفه وعباراته وألفاظه التي يكثر دورانها في كتبه، وطريقته في الاستطراد والإحالة على مواضع بسط الكلام، كلُّ ذلك هاهنا على المعهود منه لا تخطئه العين.
٤ - وقوع الكتاب ضمن مجموعٍ خطيٍّ يشتمل على مسائل ورسائل لشيخ الإسلام، وكتب ناسخه في صدر الصفحة الأولى من الكتاب: «هذه المسألة وجوابها مفيدة جدًّا، فرحم الله شيخ الإسلام وجزاه خيرًا وكاتبه».
ومن الشواهد المستقاة من خارجه:
٥ - اعتماد تلميذه وصاحبه الإمام ابن القيم عليه، وهو من أعرف الناس بكلامه، فقد نقل عنه نصًّا طويلًا في «الوابل الصيب» (١٣٥ - ١٣٩) دون أن يسمِّيه، على عادته المألوفة في الانتفاع بكلام شيخه وتضمينه في كتبه (^١)، والنصُّ في كتابنا (ص: ١٣٧ - ١٤٠).
_________
(^١) كما قال عنه ابن حجر في «الدرر الكامنة» (٥/ ١٣٩): «وكل تصانيفه مرغوبٌ فيها بين الطوائف، وهو طويلُ النفس فيها يتعانى الإيضاحَ جهده فيسهبُ جدًّا، ومعظمها من كلام شيخه، يتصرَّف في ذلك، وله في ذلك ملكةٌ قوية، ولا يزال يدندن حول مفرداته وينصرُها ويحتجُّ لها».
المقدمة / 11
٦ - اطلاع طائفةٍ من أهل العلم عليه وتصريحهم بالنقل عنه، وإن كان بعضهم ربما نقل بواسطة.
ومن أولئك:
- الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت: ١٢٠٦) في كتابه «مفيد المستفيد» (٢٨٩، ٢٩٠، ٢٩٨، ٢٩٩، ٣٠٥)، وفي رسائله الشخصية (٧/ ٢٢٢ - ٢٢٤) ضمن مجموع مؤلفاته، ولخَّص مواضع منه في الجزء الذي جمعه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (١٣/ ١٧٨ - ١٩٨).
ولا ريب أنه وقف على نسخة تامة من الكتاب، فإنه ينقل من مواضع متفرقة منه، ويحتمل أن تكون هي نسخة المكتبة المحمودية بالمدينة وقف عليها أثناء طلبه العلم هناك وعلَّق منها هذه المواضع، وربما استنسخ منها نسخةً عاد بها إلى نجد وعنها ينقلُ مَن بعده من أحفاده وسائر علماء تلك البلاد، كما يحتمل أن تكون نسخةً أخرى غيرها هي التي رآها الشيخ سليمان بن سحمان وسمَّاها بالاسم الآتي إن صحَّ أن ذاك الاسم كان ثابتًا عليها ولم يكن من اجتهاده، ومما يُبْعِدُه أن الشيخ محمدًا لم يسمِّ الكتاب به.
- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبا بطين (ت: ١٢٨٢) في كتابه «الانتصار لحزب الله الموحدين» (٥٧ - ٥٨)، وفي بعض رسائله وفتاويه، انظر: «الدرر السنية» (١٠/ ٣٥٥، ٣٧٢، ٣٨٨).
- الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت: ١٢٨٥) في بعض رسائله. انظر: «الدرر السنية» (١١/ ٤٥٠).
المقدمة / 12
- الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (ت: ١٢٩٣) في كتابيه «مصباح الظلام» (٣٣٨)، و«منهاج التأسيس» (٢٤٩)، وغيرهما.
- الشيخ سليمان بن سحمان العسيري النجدي (ت: ١٣٤٩) في كتبه «الضياء الشارق» (٣٧٣، ٦٥٤)، و«كشف الشبهتين» (٩٣)، و«كشف غياهب الظلام» (١٦٩ - ١٧٣). وقد اطلع على الكتاب ونقل عنه نقلًا طويلًا، وسمَّاه «الانتصار لأهل الأثر»، كما سيأتي.
* * * *
المقدمة / 13
تحرير عنوان الكتاب
هذا الكتاب جوابٌ مبسوطٌ عن استفتاء وُجِّه لشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، شأن كثير من كتب الشيخ ورسائله التي يتعذَّر إحصاؤها لكثرتها مما هي في أصلها جوابٌ عن سؤال سائل (^١).
وكدأب تلك الرسائل والفتاوى التي لم يحفل الشيخ بتسميتها، وإنما عُرِفت بموضوعها أو باسم السائل المستفتي أو بلده ونحو ذلك من القرائن المعرِّفة، لم تُسَمَّ مسألتنا هذه في الأصل الخطي الذي اعتمدنا عليه، وهو مجموعٌ مشتملٌ على مسائل كثيرة ورسائل لشيخ الإسلام، بل ابتدأ الناسخ المسألة بقوله: «مسألة: ما قولكم في مذهب السلف ...».
وعندما أراد الشيخ محمد حامد الفقي أن يطبع الكتاب أول مرة سنة ١٣٧٠ عن نسخةٍ نُسِخَت من هذا الأصل، ولم يجد له اسمًا، قال في مقدمة نشرته: «ثم شاورت العلامة السلفي الصالح المحقق ــ ضيف مصر الكريم ــ الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ــ ﵀ ورضي عنه ــ في اختيار اسم للكتاب، فإن شيخ الإسلام لم يسمِّه، فوقع الاختيار على: نقض المنطق، قال ابن عبد الهادي في «العقود الدرية»: وله كتابٌ في الردِّ على المنطق مجلد كبير، وله مصنفان آخران في الرد على المنطق مجلد».
وواضحٌ من هذا عدُّه الكتاب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد
_________
(^١) انظر: «العقود الدرية» (٨٤، ٨٦، ٩٥، ٩٦، ٩٧، ١٠٧، ١٠٩).
المقدمة / 14
على المنطق التي أشار إليها ابن عبد الهادي، ويؤيده قوله في المقدمة قبل ذلك: «وبعد، فقد تفضل السلفي الكبير ... فأعطاني النسخة الخطية لرد شيخ الإسلام ... على المنطق».
وشاع هذا الظن بين كثير من أهل العلم والباحثين، وسأكتفي بمثالين لاثنين من جِلَّة العلماء المعاصرين.
الأول: علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار (ت: ١٣٩٦)، فقال في مقال تعريفيٍّ بالكتاب (^١) تعليقًا على قول ابن عبد الهادي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «وله كتاب في الرد على المنطق مجلدٌ كبير، وله مصنفان آخران في الرد على المنطق» (^٢): «قلت: أحدها كتاب الرد على المنطقيين، وقد طبع في بمباي سنة ١٣٦٨ في نحو خمسمئة وخمسين صفحة. والثاني نقض المنطق، وهو هذا. ولم أهتد إلى الثالث، ولعله كتاب الموافقة بين المعقول والمنقول ...».
والثاني: الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين (ت: ١٤٢١)، وقال: «وممن كتب في الرد على المنطق شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، فقد كتب في الرد عليهم كتابين أحدهما مطول والآخر مختصر، المطول: الرد على المنطقيين، والمختصر: نقض المنطق، والأخير أحسن لطالب العلم لأنه أوضح وأحسن ترتيبًا ...» (^٣).
_________
(^١) مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (المجلد ٢٧، الجزء ٢، رجب ١٣٧١).
(^٢) «العقود الدرية» (٥٣، ٥٤).
(^٣) «شرح السفارينية» (٧١٥).
المقدمة / 15
والحقُّ أن هذا بعيدٌ عن الصواب، ولبيان ذلك لا بدَّ من تحرير أمرين، أولهما: ما كتبه شيخ الإسلام في الرد على المنطق. والثاني: لم لا يكون كتابنا أحد تلك الكتب؟
* فأما الأمر الأول، فلنأخذه عاليًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية من لفظه، ثم نثني بكلام أصحابه.
حدَّث شيخ الإسلام عن نفسه في مقدمة كتابه «الرد على المنطقيين» فقال: «أما بعد، فإني كنتُ دائمًا أعلمُ أن المنطق اليوناني لا يحتاجُ إليه الذكيُّ ولا ينتفع به البليد، ولكن كنتُ أحسبُ أن قضاياه صادقة؛ لِمَا رأيتُ مِن صدق كثيرٍ منها، ثم تبين لي فيما بعدُ خطأ طائفة من قضاياه وكتبتُ في ذلك شيئًا.
ثم لما كنتُ بالاسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظِّم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرتُ له بعض ما يستحقه من التجهيل والتضليل، واقتضى ذلك أني كتبتُ في قعدةٍ بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علَّقته تلك الساعة، ثم تعقَّبته بعد ذلك في مجالس إلى أن تمَّ، ... فأراد بعض الناس أن يكتب ما علَّقتُه إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق، فأذنتُ في ذلك؛ لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فُتِح من باب الردِّ عليهم يحتملُ أضعاف ما علقتُه تلك الساعة، فقلت: ...» ثم ابتدأ فصول الكتاب.
ففي هذا النص يخبر شيخُ الإسلام أنه حين تبيَّن له خطأ طائفة من قضايا المنطق كتب فيه شيئًا، وهو تعبيرٌ يدلُّ على قلة ذلك المكتوب واختصاره،
المقدمة / 16
وهو وصفٌ مناسبٌ لكتاب صغير، ثم حين كان بالاسكندرية (^١)
واجتمع به بعض من يعظِّم المتفلسفة بالتقليد والتهويل ــ وما أكثر خفافيش العقول والبصائر في كل زمان، وما أهونهم على أنفسهم! ــ وذكر له الشيخُ بعض ما يستحقُّه من التجهيل= رأى الحاجة لكشف خطل هذه الصناعة ودفع صيال أهلها قائمة، فاقتضاه واجبُ النصح والبيان أن يكتب كتابًا أوسعَ من تلك الكتابة السابقة المختصرة، فابتدأه في قعدةٍ بين الظهر والعصر، ثم أتمَّه في مجالس بعد ذلك، وذلك هو كتاب «الرد على المنطقيين»، ويغلبُ على ظني
_________
(^١) أمر أعداء الشيخ بالقاهرة سنة ٧٠٩ بنفيه إلى الاسكندرية لعل أحدًا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة فيستريحون منه، وكانت معقل متفلسفة المتصوفة أتباع ابن سبعين وابن عربي، وبقي فيها ثمانية أشهر، في برج متسع مليح نظيف، يدخل عليه من شاء، ويتردد إليه الأكابر والأعيان والفقهاء يقرؤون عليه ويستفيدون منه، كما قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (١٨/ ٨٥).
وفي هذا المنفى كتب شيخ الإسلام كتابه الكبير في الرد على المنطقيين.
وكتب فيه كذلك: الرد على رسالة «الألواح» لابن سبعين، المطبوع بعنوان «بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية»، ويسمى «المسائل الاسكندرية في الرد على الملاحدة والاتحادية»، ويسمى «السبعينية» نسبة إلى ابن سبعين. انظر: «الصفدية» (١/ ٣٠٢)، و«النبوات» (٣٩٨)، و«الرد على المنطقيين» (٢٧٥).
وكتب فصولًا في الفقه، كما في «مجموع الفتاوى» (٢٣/ ٢١٠).
وكتب لصاحب سبتة إجازة بأسانيده في عشر ورقات، كتبها من حفظه ويعجز عن عمل بعضها أكبرُ محدِّثٍ يكون! كما يقول الذهبي في «الدرة اليتيمية» (٤٠ - تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام).
وكتب إلى أصحابه رسالةً تفيض حبًّا وصدقًا ورضًا ويقينًا بالله، اقرأها في «مجموع الفتاوى» (٢٨/ ٣٠ - ٤٦)، وهي من كريم الرسائل.
المقدمة / 17
أنه لم يكتب له مقدمةً إذ ذاك، بل افتتح الكلام في الرد، ثم حين أراد أحدُ أصحابه نسخَ الكتاب (آخر حياته سنة ٧٢٨) قابله على أصل الشيخ الذي بخطه وعرَضه عليه، فنظر فيه وصحَّحه وزاد بخطه زيادات، وكتب له هذه المقدمة وحكى قصَّته، وعن هذه النسخة الفريدة نُشِر الكتاب. وهو ظاهرٌ لمن تدبَّره إن شاء الله.
وكِبَر حجم كتاب «الرد على المنطقيين» بالنسبة إلى الكتاب الصغير الذي تقدمت الإشارة إليه قرينةٌ صالحةٌ ليوصف بأنه كتابٌ كبير.
فتحصَّل من كلام شيخ الإسلام هذا أن له في الرد على المنطق كتابين: صغيرًا مختصرًا متقدم التأليف، وكبيرًا هو «الرد على المنطقيين» (^١).
وصرَّح بهذا في «الصفدية» (٢/ ٢٨١) وزاده بيانًا بقوله: «أما تقسيم الصفات اللازمة إلى ثلاثة أنواع ... فهذا من الخطأ الذي أنكره عليهم نظَّار المسلمين، كما قد كتبنا بعض كلام النظَّار في ذلك في غير هذا الموضع في الكلام على المحصَّل، وعلى منطق الإشارات، وعلى المنطق اليوناني مصنَّف كبير ومصنَّف مختصر، وغير ذلك».
وذكر كتابه الكبير في «منهاج السنة» (٢/ ٣٤٧ - ٣٤٨) بقوله: «... كما قد بُسِط الكلام على المنطق اليوناني وما يختص به أهل الفلسفة من الأقوال الباطلة في مجلد كبير».
_________
(^١) هذا هو الاسم المثبت على تلك النسخة التي عليها خط شيخ الإسلام، وهو أولى من الاسم المسجوع الذي ذكره له السيوطي في مختصره «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان».
المقدمة / 18
وأشار إليه في «شرح الأصبهانية» (٤٥٥)، فقال: «... وقد بُسِط الكلام على هذا في مواضع غير هذا الموضع، كالرد على الغالطين في المنطق، وغير ذلك».
وأشار إلى ما كتبه في الرد على منطق «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا كذلك في «الرد على المنطقيين» (٦٤، ٤٦٣)، و«منهاج السنة» (٥/ ٤٣٤).
وأحال على كلامه على «المحصَّل» ــ وهو «محصَّل أفكار المتقدمين والمتأخرين» للرازي ــ في «درء التعارض» (١/ ٢٢)، و«الرد على المنطقيين» (٣٧، ١١٠، ١٢٢، ٣٤٥، ٣٥٧)، و«الصفدية» (٢/ ١٥١، ١٨٧)، و«منهاج السنة» (١/ ١٦٨)، و«الفتاوى» (٨/ ٧)، وقد شرح شيخُ الإسلام أول «المحصَّل» (^١)،
_________
(^١) ذكر ابن رشيق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (٢٩٥ - الجامع لسيرة شيخ الإسلام)، وابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (٥٧) أنه في مجلد، وذكر الصفدي في «أعيان العصر» (١/ ٢٤٠) و«الوافي» (٧/ ٢٤) أنه بلغ ثلاث مجلدات.
وقال الشيخ في «منهاج السنة» (٥/ ٤٣٣): «وحدثني غير مرة رجلٌ ــ وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين ــ أنه كان قد قرأ على شخص سمَّاه لي ــ وهو من أكابر أهل الكلام والنظر ــ دروسًا من المحصَّل لابن الخطيب، وأشياء من إشارات ابن سينا. قال: فرأيت حالي قد تغير، وكان له نورٌ وهدى، ورُئيت له منامات سيئة، فرآه صاحب النسخة بحال سيئة، فقص عليه الرؤيا، فقال: هي من كتابك.
وإشارات ابن سينا يعرفُ جمهورُ المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادًا كثيرًا، بخلاف المحصَّل يظنُّ كثيرٌ من الناس أن فيه بحوثًا تحصِّل المقصود. قال: فكتبت عليه:
محصَّلٌ في أصول الدين حاصلُه ... من بعد تحصيله أصلٌ بلا دين
أصلُ الضلالات والشكِّ المبين فما ... فيه فأكثره وحيُ الشياطين
قلت: وقد سئلتُ أن أكتب على المحصَّل ما يُعْرَفُ به الحقُّ فيما ذكره، فكتبتُ من ذلك ما ليس هذا موضعه، وكذلك تكلمتُ على ما في الإشارات في مواضع أخر، والمقصود هنا التنبيه على الجمل ...».
وأظن الرجل الذي يشير إليه شيخ الإسلام من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين هو الإمام ابن القيم، فقد قرأ أكثر المحصَّل على الصفيِّ الهندي كما ذكر الصفديُّ في «أعيان العصر» (٤/ ٣٦٧)، وكان الصفيُّ من أكابر أهل الكلام والنظر لعهده، وقول شيخ الإسلام: «حدثني غير مرة» يفيد صحبته له، ثم إن البيتين يشبهان شعر ابن القيم ونسج كلامه، وقد أخبر في «الكافية الشافية» (٥٧٠، ٨٣٦) عن طول بحثه عن الحق ووقوعه في شباك المتكلمين حتى لقي شيخ الإسلام ابن تيمية فأخذ بيديه وسار به حتى أراه مطلع الإيمان. وانظر: «مفتاح دار السعادة» (٤٤٦) وتعليقي عليه.
المقدمة / 19
وفي أوله القول في التصوُّرات والتصديقات، وهما عماد المنطق.
فهذه أربعة كتب تضمَّنت الردَّ على المنطق نصَّ عليها شيخ الإسلام: كبير، وصغير، وآخران في الردِّ على منطق «الإشارات» والكلام على «المحصَّل».
ولشيخ الإسلام في هذا الباب فصولٌ وفتاوى لا ينتظمها كتاب (^١)، سوى ما تعرَّض لبحثه في مثاني مصنفاته، وهو كثير.
أما أصحابه، فمنهم من لم يذكر إلا الكتاب الكبير، وهو ابن رُشَيِّق (^٢).
ومنهم من ذكر كتابين: صغيرًا وكبيرًا، وهو ابن القيم (^٣).
_________
(^١) انظر: «مجموع الفتاوى» (٩/ ٢٥٥ - ٢٧٠).
(^٢) «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (٢٩٥ - الجامع لسيرة شيخ الإسلام).
(^٣) «مفتاح دار السعادة» (٤٤٨)، و«إغاثة اللهفان» (١٠٢٢).
ومن طبقة أصحاب شيخ الإسلام، وما هو من أصحابه: الصفدي، ذكر له كذلك في «الوافي» (٧/ ٢٤) و«أعيان العصر» (١/ ٢٤٠) كتابين: مجلدًا، وآخر لطيفًا.
المقدمة / 20
ومنهم من ذكر ثلاثة كتب: كبيرًا، ومصنَّفين آخرَين نحو مجلد، وهو ابن عبد الهادي (^١).
* وهنا موضعُ الأمر الثاني، وهو: لم لا يكون كتابنا هذا أحد تلك الكتب الثلاثة، فتصحُّ تسميته بنقض المنطق؟
والجواب: أما الكتاب الكبير فقد تقدم أن المقصود به كتاب «الرد على المنطقيين»، وكتابنا صغيرٌ بالنسبة إليه.
وأما الرد على منطق «الإشارات» والكلام على «المحصَّل»، فليس بهما كما هو ظاهر، ولم يسمِّ ابن تيمية في الكتاب الذي معنا كتابَي «الإشارات» و«المحصَّل» أصلًا.
فلم يبق إلا الكتاب الصغير، ولا يصحُّ أن يكون هو المراد؛ لأمرين:
أولهما: أن كتابنا غير متمحِّض للرد على المنطق، بل جلُّه في الانتصار لعقيدة أهل الحديث والذبِّ عنهم والردِّ على مخالفيهم، والقدر المختصُّ بالمنطق لا يتجاوز الربع منه، فكيف يوصفُ بأنه كتابٌ في الرد على المنطق والحال هذه؟ !
ثانيهما: أن شيخ الإسلام لا يفتأ يذكر في كتابنا هذا أنه ليس موضع بسط فساد المنطق وبيان ما فيه من الخلل، ويحيل على ما بسطه من الكلام في
_________
(^١) «العقود الدرية» (٥٣، ٥٤).
المقدمة / 21
مواضع أخرى.
فمن ذلك قوله (ص: ٣٠٦): «وقد ذكرتُ في غير هذا الموضع ملخَّص المنطق ومضمونَه، وأشرتُ إلى بعض ما دخل به على كثيرٍ من الناس من الخطأ والضلال، وليس هذا موضع بسط ذلك».
فكأنه يحيل هاهنا على كتابه المختصر في نقض المنطق حقًّا.
وقوله (ص: ٢٦٥): «وأما المنطق، فمن قال: إنه فرض كفاية، وأنه من ليس له به خبرةٌ فليس له ثقةٌ بشيءٍ من علومه = فهذا القولُ في غاية الفساد من وجوهٍ كثيرة التَّعداد، مشتملٌ على أمورٍ فاسدةٍ ودعاوى باطلةٍ كثيرةٍ لا يتَّسعُ هذا الموضع لاستقصائها».
وقوله (ص: ٢٦٩): «فإنهم يزعمون أنه آلةٌ قانونيةٌ تمنعُ مراعاتُها الذِّهنَ أن يزلَّ في فكره، وفسادُ هذا مبسوطٌ مذكورٌ في موضعٍ غير هذا».
وقال في ختام الجواب (ص: ٣٤١): «فالتحقيقُ أنه مشتملٌ على أمورٍ فاسدة، ودعاوى باطلةٍ كثيرة، لا يتسعُ هذا الموضعُ لاستقصائها».
وهذه النصوص دليلٌ على المطلوب من جهتين:
الأولى: أنه لو كان مصنَّفًا مقصودًا للردِّ على المنطق لحرَّر القول في بيان فساده، ولخَّص مقاصد الكلام فيه ما دام كتابًا مختصرًا، فإنه موضعُ ذلك ومظنَّتُه، وليس من السائغ والمألوف أن يحيل على غيره في ما حقُّه البيان فيه.
والواقع أنه إنما ذكر في هذا الكتاب ما يناسبُ جوابَ السؤال على جهة
المقدمة / 22
الاختصار، وهو الكلام عن فساد جعل المنطق من فروض الكفاية، ثم استطرد إلى بيان بعض ما اشتمل عليه من الدعاوى الباطلة، وأحال على مظانِّ بسط ذلك في الكتب التي خصَّصها للرد على المنطق، كما يفعلُ في سائر كتبه عندما يعرض لشيءٍ من مسائل المنطق والردِّ عليه فإنه يذكر ما يناسبُ المقام ثم يحيل على المواضع التي بسط فيها الكلام (^١).
الثانية: أن الكتاب الصغير المختصر لشيخ الإسلام في الرد على المنطق متقدمُ التأليف، لم يسبقه شيءٌ كتبه الشيخ في موضوعه على جهة الانفراد، كما هو بيِّنٌ من مقدمة كتاب «الرد على المنطقيين» التي سلفت، وكتابنا هذا متأخرٌ يحيل فيه على ما بسط من الرد على المنطق في مواضع أخرى.
فإن قيل: فإن لم يكن كتابنا هو الكتاب الصغير المختصر الذي صنَّفه شيخ الإسلام في الردِّ على المنطق، فأين هو ذلك الكتاب؟
فالجواب أنه لم يصلنا بعد، وما هو بأول ما لم يُعْثَر عليه من تراث شيخ الإسلام، ولعله في زاوية من زوايا خزائن المخطوطات التي لا تزال ترفدنا كلَّ حين بجديدٍ من التصانيف التي لم نكن نعرف من أمر وجودها شيئًا.
وتلطَّف الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع (ت: ١٣٨٥) في تخريج تسمية الكتاب بـ «نقض المنطق»، فقال معلِّقًا على صفحة العنوان من نسخته المطبوعة من الكتاب: «هذا الاسم من باب المجاز المرسل، وهو ذِكرُ الجزء نيابةً عن الكل؛ لأن ما تضمنه الكتاب جوابُ سؤالٍ عن المنطق
_________
(^١) انظر: «الصفدية» (٢/ ١٤٥)، و«منهاج السنة» (٢/ ١٩١، ٢٧٢، ٣/ ٣٠٣، ٣١٥، ٥/ ٤٣٣، ٤٥١، ٤٥٤، ٨/ ٣٥)، و«شرح الأصبهانية» (٣٢٥)، وغيرها.
المقدمة / 23