45

خاطب العجوز نفسه في حين كان النزيل الجديد يتوجه إلى غرفته: «لا عليك، سأعوض ذلك في التكاليف الإضافية.»

لا بد هنا من أن نقر آسفين بأن ستانديش الشاب كان فنانا. يكثر ذكر الفنانين في الأعمال الأدبية لدرجة أن ذكرهم في سرد للوقائع الفعلية يبعث على الحزن، لكن يجدر بنا أن نتذكر أن الفنانين يفدون بطبيعتهم إلى بحيرة كومو كما يفد سماسرة الأوراق المالية إلى البورصات، ومن سوء حظ الكاتب وهو يسرد الأحداث الفعلية التي جرت في هذه المنطقة أن يزخر سرده للأحداث بسيرة الفنانين. كان ستانديش بارعا في الرسم بالألوان المائية، ولا يعرف كاتب هذه السطور إن كانت معرفة القارئ لذلك ستهون من الجريمة الأساسية في نظره أم ستجعلها أكثر شناعة. شرع ستانديش من فوره يرسم تينا وهي محاطة بالبحيرة والجبال والعناصر الأخرى التي تكون منها المشهد. لقد رسم تينا وهي عند سور الحديقة، كما رآها للمرة الأولى، ثم وهي تحت قوس من الورود، ثم وهي على متن أحد قوارب البحيرة المهترئة التي تبدو جميلة في الصور. رسم ستانديش فأبدع في الرسم. وكان المالك العجوز لينز يحتقر مهنة ستانديش بشدة، كما ينبغي لأي رجل ذي عقلية عملية، لكنه ذهل عندما عرض أحد المسافرين العابرين مبلغا طائلا يستعصي على التصديق مقابل إحدى اللوحات التي كانت على الطاولة في منطقة الاستقبال. لم يكن ستانديش في الجوار، لكن العجوز أراد أن يسدي إلى نزيله معروفا فباعها. وبدلا من أن يمتلئ الشاب بالابتهاج بحظه، أخبر مالك الفندق بجرأة وثبات يميزان أمثاله من الفنانين بأنه سيتغاضى عما حدث هذه المرة لكنه يجب ألا يتكرر ثانية. وأضاف ستانديش أن المالك باع اللوحة بثلث قيمتها الحقيقية. وكان لشيء ما في لهجة الشاب المؤكدة الهادئة وقع أقنع العجوز لينز بصدق ما قال أكثر من كلماته نفسها. إذ يمكن للمرء إقناع محدثه بأكاذيبه المتقنة بطريقة حديثه. ازداد احترام مالك الفندق للشاب إلى أعلى درجة ممكنة، وكان أيضا قد رأى الكثير من الفنانين. لكن إذا كان من الممكن الحصول على مبالغ كهذه ثمنا للوحة لا يستغرق رسمها أكثر من بضع ساعات، فليس امتلاك الفنادق وإدارتها إذن نشاطا مربحا إلى الحد الذي كان يظنه.

يجب أن نقر بصدمة ستانديش الشديدة عند معرفته بأن تينا التي تشبه الحوريات هي ابنة مالك الفندق العجوز الغبي البغيض. كم كان سيكون جميلا جدا لو تبين أنها إحدى الأميرات بدلا من ذلك، وكان ذلك سيليق تماما بالشرفة المكسوة بالرخام التي تطل على البحيرة. بدا متنافرا مع المشهد كله أن تربطها أي علاقة بالعجوز لينز المنشغل بجمع المال. وبالطبع لم تدر بخلده فكرة الزواج من الفتاة؛ بل كانت تلك الفكرة بعيدة عن عقله كبعد فكرة شراء بحيرة كومو ثم تجفيفها، ومع ذلك كان من المؤسف ألا تكون كونتيسة على الأقل، كالكونتيسات الكثيرات في إيطاليا، وبالطبع كان الممكن أن تسكن إحداهن في هذا الفندق الصغير؛ لأن التكلفة تنخفض عند الإقامة به لمدة ثمانية أيام. وكانت تينا مع ذلك تبدو جميلة في اللوحات المرسومة بالألوان المائية. لكن إذا بدأ رجل في الانزلاق على تل مثل التلال المحيطة بكومو، فلا سبيل إلى معرفة الحد الذي سيتوقف عنده. قد يتوقف في منتصف الطريق أو يتدحرج حتى يسقط على رأسه في البحيرة. لو كتب هنا أنه خلال وقت معين لم يهتم ستانديش ولو لدرجة بسيطة بكون تينا أميرة أو خادمة، لما صدق القارئ ذلك؛ لأننا جميعا نعرف برود أعصاب الرجل الإنجليزي وعقله الذي لا يفتأ يضع المخططات، وسالفيه الطويلين، وقبعته التي تحجب وجهه أثناء ترحاله.

من الخطير أن يرسم شاب بالألوان المائية فتاة تضارع في جمالها الساحر الكائنات الخيالية البديعة المنظر في العديد من الأماكن الآسرة، ومن الكارثي أن تعلمه هي لغة يسترسل اللسان في نطقها كالإيطالية، أما الأدهى والأمر فهو أن يعلمها هو الإنجليزية ويشاهد شفتيها الجميلتين تحاولان نطق كلمات لم تخلق لها مخارج صوت لأجنبية مثلها. أثرت كل هذه الأمور في والتر ستانديش، فأي فرصة للنجاة كانت أمامه حينئذ؟ بالتأكيد كانت قليلة كفرصة من يتسلق جبل ماترهورن دون حبال وقد زلت قدمه عن موطئها.

ماذا عن تينا؟ كانت تلك الشابة المسكينة على وشك تلقي انتقام الأقدار منها على كل القلوب الإيطالية أو الألمانية أو السويسرية التي كسرتها. لقد وقعت في حب ذلك الإنجليزي الموفور الحيوية ولم يكن لها حيلة لها في ذلك، وأدركت أنها لم تعرف المعنى الحقيقي للحب من قبل. لقد ندمت ندما مريرا على المعارك التافهة التي خاضها قلبها قبل ذلك الحين. ولم ينتب ستانديش أدنى شك في أنه أول من لامست شفتاه شفتيها (واعترفت هي بتكون هذه الفكرة لديه)، وأرقها في كل يوم وساعة خوف من أن يعرف الحقيقة. وفي ذلك الحين كان بيترو يزيح عن روحه ألم الهجر بالتلفظ بلعنات غريبة لو سمعها ستانديش الذي لم ينل قسطا كافيا من التعليم لظنها صلوات ميمونة، رغم التقدم الذي كان يحرزه في تعلم الإيطالية على يد تينا. ومع ذلك كان لدى بيترو علاج واحد لكل ما يؤرقه، فطفق في ذلك الحين يشحذ هذا العلاج بعناية استعدادا لاستخدامه.

وذات مساء كان ستانديش يتجول شارد الذهن وسط الضباب الخفيف القرمزي اللون، وهو منشغل البال بالطبع بتينا ويتساءل كيف سيستقبل ذووه الرزينون مزيج الغلظة الملحوظ والجمال الجنوبي الذي تتمتع به. كانت تينا سريعة البديهة وتجيد التكيف، ولم يساوره أدنى شك في قدرتها على إتقان أي دور يطلب منها أداءه، وتردد أيقدمها بوصفها فتاة تربطها بالعائلة الإيطالية الحاكمة صلة بعيدة، أم بوصفها كونتيسة. إذ سيكون من السهل جدا إضافة «دي» أو «دا» أو أي مقطع صوتي إلى اسم عائلتها يجعل من يسمعه يظنها عائلة من النبلاء. كل ما عليه هو أن يختار الأحرف الصحيحة، وكان يعرف يجب أن تبدأ بحرف «د». ثم كان عليه أن يعطي الانطباع بأن الفندق الصغير هو: «قلعة مطلة على البحيرات الإيطالية»، وفي واقع الأمر كانت نيته أن يغلق الفندق فور تمكنه من السيطرة على المكان، أو يحوله إلى قلعة. كان يعلم أن معظم قلاع تايرول والعديد من قصور إيطاليا قد تحولت إلى فنادق صغيرة، فسأل نفسه لم لا يعكس اتجاه التحول؟ وكان متأكدا أن بعض شركات الأثاث في لندن يمكنها تولي هذه المهمة إذا استأجرها لهذا الغرض . وكان يعرف صحيفة صباحية رائجة كانت تنشر إعلانات شخصية، وخطر بباله أن الإعلان الآتي سيبدو لافتا ويستحق تكلفة نشره:

يقضي السيد والتر ستانديش ابن سان جونز وود، وقرينته الكونتيسة دي لينزا هذا الصيف في مقر أسلاف السيدة دي لينزا، قصر دي لينزا، المطل على بحيرة كومو.

أسعده تخيل ذلك للحظة، حتى خطر بباله احتمال أن يتذكر أحد المعارف قصر لينزا عندما كان فندق لينز الذي يفصح عن أسعاره عند طلب الإقامة فيه. وتمنى لو يحمل انهيار صخري المباني والأراضي وكل شيء إلى مكان مجهول على بعد بضع مئات من الأقدام من الجبل.

وهكذا ظل الشاب ستانديش يهيم شاردا بفكره إلى عنان السماء ويؤرجح عصاه في الهواء، ثم حدث ما أعاده إلى أرض الواقع فجأة. ظهر شخص من وراء شجرة مسرعا، فرفع الفنان ذراعه اليسرى يحتمي بها في حركة غريزية لم يقصدها. ثم أمسك بالسكين المغروز في الجزء اللحيم منها، وكان الألم شبيها بلدغة شديدة ساخنة من دبور ضخم. خطر بباله سريعا في تلك اللحظة أن الأحرى أن يرتبط الفولاذ في الأذهان بالحرارة وليس البرودة. وفي اللحظة التالية كانت يده اليمنى قد أنزلت المقبض الثقيل لعصاه المتينة على رأس بيترو المغطى بالشعر المجعد، فسقط ذلك الإيطالي عند قدميه كقطعة من الحطب. صر ستانديش أسنانه، وسحب الخنجر من ذراعه برفق بالغ، ومسح نصله في ملابس الرجل الجاثي أمامه. وفضل أن يلطخ ملابس بيترو بدلا من ملابسه هو التي كانت أجدد وأنظف، واعتبر أنه من العدل أن يتحمل الإيطالي المعتدي أي تبعات تنتج عن اعتدائه. وفي النهاية وضع الخنجر في جيبه وهرع إلى الفندق وهو يشعر ببلل كوعه.

تراجعت تينا واستندت إلى الجدار وصرخت فور أن رأت الدماء. وكادت تفقد الوعي لولا أن انتابها هاجس دفعها إلى الانتباه وشحذ حواسها تلك اللحظة.

Unknown page