Intikasat Muslimin
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية: التشخيص قبل الإصلاح
Genres
وعندما تولى عمر رضي الله عنه وأحب اختيار لقب، فقالوا ليكن خليفة رسول الله، فقال والله إنه لشأن طويل، واختار لقب «أمير المؤمنين» بدلا من «أمير العرب» أو «أمير الحجاز»، وهو اختيار في وقته موفق إلى حد عظيم؛ فهو ما يعني أنه ليس أميرا لفريق دون فريق؛ فهو أمير كل المؤمنين، والمقصود بالمؤمنين هنا هم أهل الجيل الأول من الدعوة مهاجرين وأنصارا وقوادا وعسكريين وهم من قام الدين الجديد على سواعدهم، فكان لقب أمير المؤمنين طمأنة أنهم تحت الرعاية القصوى، وأنهم الأولى برعاية الأمير، هو أميرهم وهم المؤمنون. أمير المؤمنين يعني أنه لا يحكم على إمارة ولا على مملكة ولا على إمبراطورية ولا على دولة، إنما إمارته هي للمؤمنين وحدهم بعوائدها الجزيلة الآتية من غير المؤمنين، واتسعت رقعة البلاد المفتوحة وكان معظم سكانها من غير المؤمنين، وكان المؤمنون هم الأقلية الحاكمة؛ لذلك جاء لقب أمير المؤمنين كإعطاء عهد أمان للعرب النازحين من الجزيرة إلى البلدان المفتوحة، فأميرهم الحاكم الأعلى للإمبراطورية مسئول عن رعايتهم وعن مصالحهم دون غيرهم أينما كانوا، فهم وحدهم رعية أمير المؤمنين، وهو ما يفسر موقف الخليفة عمر عندما طلب الغوث زمن الرمادة من والي مصر عمرو بن العاص، فعرض عليه إعادة حفر قناة سيزوستريس لإيصال المعونة، لكن ذلك سيعني خراب مصر عدة سنوات، فقال عمر قولته المشهورة: اعمل فيها وعجل، أخرب الله مصر في عمران مدينة رسول الله، لم يكن المصريون من رعية عمر وخراب مصر في عمار مدينة رسول الله هو قيمة عليا عمرية وقربة إلى الله.
الفصل السادس
إنهم يغشون القيم
إذا كان ممكنا كسر قيمة «الوفاء بالعهد» لأهداف سياسية ودنيوية؛ فهو أمر معتاد في الشأن السياسي والعسكري، تفعله الدنيا كلها كلما تعارضت المصالح مع العهود بتطور الأحداث بعد العهد. لكن أن يكون هذا الكسر من الدين، ويتم في سبيل الله؛ فإنه يصبح بالإمكان كسر كل القيم في سبيل الله، ومع تعدد الفرق الإسلامية والمذاهب، تتعدد الطرق لهذا السبيل، حتى يكاد يكون تفسير شخص واحد تفسيرا للدين كله، ويمكنه تفعيل هذا التكسير للقيم من أجل مصالحه الذاتية الشخصية، بحسبانه مسلما الحق كله في جانبه؛ وبتفعيل ذلك وتوزيعه على مساحة الكاسرين لقيمة الوفاء بالعهد في سبيل الله، لن تجد على أرض الواقع شيئا بالمرة اسمه الوفاء بالعهد. وعليك دوما أن تتربص بالجميع حولك مهما كتبت من عهود؛ فالكل جاهز لنقض عهده في سبيل الله. لهذا أصبح حال الأخلاق في بلادنا ما نراه من انهيار قيمي حاد ومخيف، رغم انتشار الحجاب والنقاب واللحية والزبيبة في كل شارع وحارة، والقرآن يغمرنا والحديث يسمرنا، والشريعة بالمادة الدستورية الثانية تظللنا، والبسملة قبل كل كسر لقيمة باب مشروع في سبيل الله تتبعها الحوقلة. وإعمالا لذلك، وضع فقهنا الأصول لعدم احترام العهود في بنود هي كالآتي:
لا تزيد مدة المصالحة على أربعة أشهر، وإذا زادت لضرورات فلا تجوز الزيادة على عشر سنوات، فلا بد أن تكون المصالحة معلومة محددة لأن تركها من غير تقدير يفضي إلى ترك فريضة الجهاد.
تكون المهادنة والمصالحة لضعف طرأ على المسلمين؛ لذلك تحدد مدتها إلى أن يزول سبب الضعف.
إذا كان المسلمون في حال الضعف رخص لهم في الموالاة إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة المعاشرة الظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع.
الدعوة إلى السلم بمعنى ترك الحرب نهائيا كفر بالله مخرج عن الملة لأن الأصل في العلاقة بين المسلمين والكافرين هو القتال، وأن الاستثناء فيه هو السلم في هدنة أو صلح مؤقت، ولا يتم اللجوء إلى هذا الاستثناء إلا لضرورة عجز أو ضعف أو نحوه. (مالك، 1، 289. الطبري وابن كثير والقرطبي في تفسير آية 35 من سورة محمد، وآية 5 من سورة التوبة، وآية 28 من سورة آل عمران)
تعالوا نترك الفقه القديم إلى الفقه المعاصر، نستمع إلى الرجال الهامات والعلامات ذوي القامات الأبرز في الهيئات الإسلامية المعاصرة، الذين لا شك يمثلون القيم كأفضل ما تكون النماذج. منهم مثلا الدكتور أحمد الريسوني، الخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذي يرى أننا لسنا بحاجة إلى الديمقراطية، و«أن معظم الدول الإسلامية قد أصبحت لها مؤسسات شورية، إضافة للمجامع الفقهية الدولية»، هذا بينما يرى «الديمقراطية نظاما أو تنظيما إداريا لا يمكن أن نحل به مشاكلنا، الديمقراطية فيها عيوب معروفة، لقد جردت من الأخلاق، ونحن إذا مارسنا الديمقراطية فيجب أن نصحح الديمقراطية، فتكون ديمقراطية الأخلاق، ديمقراطية الصدق لا ديمقراطية الكذب، ديمقراطية الإخلاص لا ديمقراطية الغش، ديمقراطية الوضوح والصراحة، لا ديمقراطية التلاعب والتناور» (برنامج الشريعة والحياة، الجزيرة، حلقة رأي الأكثرية في الشريعة الإسلامية). وهو الكلام المؤدي في النهاية إلى تحريض المسلمين ضد الديمقراطية لأنها تتنافى وقيمنا وأخلاقنا!
وقيمنا (قيمنا وحدنا فيما يبدو) هي مثل الصدق والإخلاص والوضوح والصراحة ... إلخ من جماليات أخلاقية راقية، نتحدث عنها لكنها غير موجودة بالفعل في أرضنا، حتى إن ناصحنا الأمين الدكتور الريسوني قد مارس في عبارته القصيرة تلك كل ما هو كذب وعدم وفاء مع انعدام تام للصراحة والوضوح، فما بالك برجل الشارع المسلم الاعتيادي إذا كان هذا شيخه الفقيه الخبير؟!
Unknown page