Intikasat Muslimin
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية: التشخيص قبل الإصلاح
Genres
أول ملحوظة هي أن الدعوة في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة قد اختفت وانتقل أبو بكر مباشرة إلى الجهاد في سبيل الله، دون وجوب تعميم الدعوة على الدنيا أولا في حمله دعاية لشرح هذا الدين القيم للناس؛ لذلك كان شعار الفاتحين لبلادنا: «الإسلام أو الجزية أو القتال» دون أن يعلم المفتوحون شيئا عن ذلك الدين المطلوب دخولهم فيه حتى لا يذلوا بأداء الجزية أو الموت قتلا. خاصة أن مراجعة معرفة صحابة الرسول الفاتحين لما يعلمونه عن الإسلام، ستكشف أنه لم يكن، ذلك العلم الكافي لإجراء المناظرات بين المسلمين وغيرهم لعرض الدين الجديد، نعلم أن صحابة النبي الأقربين وأهله المبشرين بالجنان لم يكونوا عارفين بكل تفاصيل الدين، ألا ترون عمر عند وفاة النبي يصيح ويهدد من يقول بموت النبي بالقتل، وأنه لم يمت وسوف يعود، ناسيا أو جاهلا أن هناك آيات قرآنية قد أفادت بحتمية موته كما يموت الناس. ثم نجد فاطمة الزهراء بنت النبي وعمه العباس يذهبان لأبي بكر يطالبان بميراثهما عن النبي وكانا لا يعلمان بحديث عدم التوريث الذي قاله أبو بكر «نحن الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة.» كانا لا يعلمان وأحدهما بنته الأثيرة والثاني عمه الأثير.
وهذا العباس بن عبد المطلب يأخذ بيد علي بن أبي طالب ويقول له: «ألا ترى أنك بعد ثلاث (بعد موت النبي) ستكون عبد العصا، وإني أرى رسول الله سيتوفى في وجعه هذا، وإني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب إلى رسول الله فسله فيمن يكون هذا الأمر من بعده؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإذا كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا، فقال علي والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطينا إياها الناس أبدا، لا والله لا أسالها رسول الله أبدا.»
السؤال هنا يقفز قفزا يريد من أنصار الدولة الإسلامية اليوم جوابا لا يحيرونه، إذا كان الصحابة والأقربون وأهل بيت النبي لا يعلمون كثيرا من شئون الدين، فكيف كان حال من فتحوا بلادنا؟ وهل سيكون حكامنا الجدد في الدولة الإسلامية المرتقبة أعلم من هؤلاء جميعا وهم رفقة النبي وأهله بوجود دولة ونظام حكم في الإسلام؟
تعال قارئي نتابع جولتنا لنختر عشوائيا ما يصادفنا حول تولي أبي بكر الخلافة، لنقرأ مثلا ابن الأثير في الكامل، ج2، ص424، يقول: «كان أبو بكر يحلب للحي أغنامهم «بالأجر»، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم : الآن لا يحلب لنا مناتح دارنا فسمعها فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيروا ما بي ما دخلت فيه، فكان يحلب لهم. ثم تحول إلى المدينة بعد تسعة أشهر من خلافته وقال: لا تصلح أمور الناس مع التجارة وما يصلح إلا التفرغ لهم، والنظر في شأنهم، فترك التجارة وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله يوما بيوم ويحج ويعتمر، فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم، وقيل فرضوا له ما يكفيه.»
إن مثل تلك الرواية تفيد بوضوح أن النبي لم يحدد مهام وظيفة الخليفة وسلطاته وما هو عليه وما هو له، حتى يتبعها أبو بكر قناعة بأوامر النبي، إن الكونفدرالية القبلية برئاسة قريش هي نظام عربي يفهمه العرب وليس بحاجة لإعادة تعريف أو تحديد؛ لأنه مأثور قديم من فجر تاريخهم لم يتغير، كل ما تغير هو سيادة قبيلة على بقية القبائل ولكنه لم يكن البتة دولة كالدول المجاورة في بلاد فارس أو بلاد الروم.
ونلاحظ أيضا أن المسألة كانت تتم بالتجربة والخطأ والصواب واجتهاد الشخص، فعندما قرر أبو بكر التفرغ كان للنظر في أمور الناس وليس في سياسة الدولة، كان من حقه أن يبقى بالحلب والتجارة، ولا يرتكب إثما؛ لأن الدين لم يقرر عليه نظاما بعينه يدير به هذه الكونفدرالية.
لقد وحد الإسلام القبائل في قبيلة أكبر تقوم على عصبية الدين بديلا لعصبية الدم، ووجه طاقاتهم القتالية نحو الخارج بدلا من الداخل.
نتابع لننتقل إلى مصدر آخر هو المنتظم في التاريخ أحداث سنة 12ه (مواصلة الفتوحات) نختار عشوائيا فنقرأ: «ولما صالح خالد أهل الحيرة خرج إليه صلوبا صاحب قس الناطف، فصالحه على بانقيا وبسما على ألوف في كل سنة، ثم أن خالد كتب كتابين إلى أهل فارس وهم في المدائن مختلفون لموت أردشير (ملكهم)، وكان في أحد الكتابين: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد؛ فالحمد الله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك كان شرا لكم، فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوز إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة. وكان الكتاب الآخر: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس ، أما بعد فالحمد لله الذي فرق كلمتكم وفل حدكم وكسر شوكتكم، فأسلموا تسلموا وإلا فأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الخمر.»
ابن الوليد يطلب منهم في أمر قاطع التبعية بالدخول الطائع في دين يجهلونه، أو أن يدفعوا الجزية أو أن يقوم بذبحهم؛ ومن ثم لم يكن الدين في الموضوع أصلا، فإما الدفع ويظلون على أديانهم الوثنية دون مانع، أو يتحولون إلى عبيد وجوار بعد قتل المقاتلين، أو أن يتحولوا جميعا إلى الإسلام والاشتراك في فتوحاته كمرتزقة مقدسين والنهل من نعيمه الدنيوي الواضح والفوز بنعيمه الأخروي، وهو الأمر الذي لم يحدث مرة دون إكراه؛ لأنه لا يوجد صاحب دين يترك دينه لدين آخر ببساطة، خاصة في تلك العصور البدائية.
تعالوا ندقق أكثر في ما سردناه، لنجد السلطة التنفيذية كلها بيد خالد؛ فهو كان وزير الخارجية، وكان هو قائد الجيوش، فكان هو المهيمن على هذا الكيان عسكريا وسياسيا، يعقد المصالحات ويوجه رسائل إعلان الحرب للملوك الأجانب، دون الرجوع في أي من تلك التصرفات إلى الخليفة، فكأن هناك سلطتين قد ظهرتا بعد وفاة النبي الذي جمع كل السلطات بيده، وأصبح هناك خليفة ديني هو أبو بكر، وخليفة عسكري هو سيف الله المسلول، وكان خالد هو من يحدد مقدار الجزية ومواعيد استلامها، وتكليف من يتولى مهامها، وينظم الجيوش ويخاطب الملوك باسمه لا باسم الخليفة، وهو من يضع قواعد المعركة، ويقرر متى يمكن إبادة الأسرى كما في فتح أليس التي ذبح فيها سبعين ألف أسير، أو متى يطلق سراحهم، وكيفية التصرف فيهم بالبيع عبيدا أو بالفداء بالمال.
Unknown page