Intikasat Muslimin
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية: التشخيص قبل الإصلاح
Genres
وهكذا تتم برمجة الشعوب الإسلامية بحيث يتجه عداؤهم نحو عدو متفق عليه هو الذي تسبب بفقدنا ماضينا الذهبي، فيكون الخطأ الكارثي في وجهتنا وفي اختيارنا للتوقيت؛ فالوجهة يجب أن تبدأ بتوجيه العيون والآذان والعقول كلها صوب الداخل أولا وليس الخارج، وقبل فلسطين والعراق والبوسنة والشيشان، بل قبل الكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى؛ لأنه بحالنا هذا لن نضيف للكعبة وفلسطين والمسجد الأقصى سوى المزيد من النكبات والخسائر، بعكس أن نبدأ مشوارنا الاستراتيجي بخطوات تكتيكية تبدأ بنقد الذات وتقويتها حتى يمكنها أن تتخذ في المستقبل ما يناسب واقع الزمن من قرارات صوابية. وسواء أكانت همومنا القومية والإسلامية التي تشغلنا اليوم، موجودة في حسابات الزمن الآتي أم لم تكن.
ومع الغضب العارم والشعور بالقهر والدونية، يرفض المسلمون أن يشكوا في ذاتهم بالمرة، ولا أن يراجعوا مناهجهم وطرائقهم في التفكير وفي أسلوب الحياة، ويلقون بشكوكهم على الواقع الموجود الذي يخرق العيون ويبهر العقول في بلاد أقامت الفراديس على أرضها، ويكون الملوم هو الاستعمار وأذنابه من حكام تابعين أو كما يزعمون. إن المسلمين يقرءون الواقع بعد تمريره على ذائقتهم، وفلترته حسب اختياراتهم وأخيلتهم وتصوراتهم وأوهامهم، لا كما هو على الأرض، رغم ما أثبتته كل النعرات والتجارب الثورية أكانت إسلامية أم عربية على الأرض عبر تاريخها القديم والحديث من مظالم واستبداد لحق بعباد الله المسلمين، دون الكفار في بلاد الغرب الحر الذين يعيشون فردوس الحريات على الأرض، وارتكبت مجازر وشنت حروب وانهارت بلاد وسقطت حدود، وانحسرت قوميات وصعدت أخرى على أشلائها، في حروب إبادة صفرية متتالية.
نحن مع الأسف نريد إعادة صياغة الدنيا كما نحب، لا كما هي عليه في واقع الحقيقة. المصيبة أن هؤلاء أنفسهم من يتصورون أن بيدهم كل الحلول السحرية لمشاكلنا قاموا يدلون بدلوهم في عملية الإصلاح، ليصوغوا لنا الآتي كما الماضي. بعد مضي أكثر من أربعة عشر قرنا، جاءوا يعلنون لنا أنهم مصلحون وأنهم سيصلحون! انظر قارئي (وأنا وأنت من مساكين هذه الأمة) ماذا جنى علينا أصحاب الرؤى الطائفية أو القومية؟ ثم ما دامت بيدهم الحلول السليمة التامة فلماذا لم يصلحوا منذ قرون متطاولة، رزح فيها المسلمون تحت أنظمة حكم اصطلح علم فلسفة التاريخ في العالم كله على تسميتها بمنظومة الاستبداد الشرقي، التي امتدت بطول العالم الإسلامي من الشرق الأوسط حتى الصين. لماذا لم يصلحوا بما لديهم من وسائل وأدوات إصلاح لا تبلى ولا تفنى؟ لكانوا أراحوا تاريخنا مما أثقل ضميره من فتن ونوازل هائلة كما وكيفا، ولأدى ذلك لتقدم هائل مبكر عن كل الدنيا، وكنا سبقنا به العالمين منذ قرون، بدلا من وضعنا المزري على جدول سلم الأمم اليوم، وهو العار بعينه وذاته.
إن الإجابة عن سؤال الدكتور رفعت السعيد المتكرر: «ماذا جرى لمصر؟» هي في جانب منها هام مسألة تكوينية بنيوية تكمن في بنية تكوين الأمة وبنية تفكيرها، فقد تمكنت مصر زمن محمد علي ومن خلفه من بعده طيب الذكر الخديوي إسماعيل، من الخطو نحو الدولة الحديثة المدنية بخطو واثق عبقري، حتى أصبحت في سنوات قليلة تجربة رائدة، ومدرسة يأتيها زوار شرق آسيا للتعلم من التجربة، وزوار شرق آسيا هم الذين أصبحوا اليوم في المقدمة، بينما أصبحت مصر ومعها عربها دملا مؤرقا في مؤخرة الأمم، والعامل الجوهري هنا هو مجموعة صدف نادرة ومتوالية خلال حقبة زمنية قصيرة لا تتجاوز نصف القرن، تمثلت إحداها في ظهور النفط في البلاد العربية؛ مما أدى إلى تغير بنيوي مواز هائل، وحوالى الوقت ذاته كانت الحركات العسكرية الانقلابية قد عمت معظم العالم الإسلامي، لتفرض حكومات وطنية لكنها فاشية بامتياز، ألغت من العقول والضمائر فكرة قبول التعددية المفرطة المتسامحة، لمصلحة التعصب للفكرة الواحدة والزعيم الأوحد والمذهب الأوحد؛ مما يسر السبيل بشدة لما عرف بعد ذلك بالصحوة الإسلامية، التي عمدت وجودها في مصر بمقتل الشيخ الذهبي ثم التضحية لعيد النصر بذبح الرجل الذي ترك لهم مصر سداحا مداحا فقتلوه يوم احتفاله بنصره الأكتوبري الملحمي حقا وصدقا.
وتمكن البترودولار من إعادة غزو مصر وبقية دول الإمبراطورية الإسلامية السابقة، بإسلام صحراوي دخلته عادات وتقاليد وأنظمة ومفاهيم عرب قبائل الجزيرة، بزيادات توازي تراكم أربعة عشر قرنا من الزمان. ليترافق المد البترودولاري مع الحرب ضد الروس في أفغانستان، ثم انتصار الحلف الغربي العربي الأفغاني وانسحاب الروس من أفغانستان؛ مما اعتبر في حينها علامة سماوية على صحة المنطلقات والأهداف، ووجوب السير في الخطة لإسقاط كل الحكومات الطاغوتية في العالم، وما تلا ذلك من تفكك المنظومة السوفييتية كلها. مع ثورة إسلامية في إيران حققت انتصارا عجائبيا في أيام، وفشلت حملة أمريكا العسكرية لإنقاذ رهائنها في إيران في صدفة عجائبية أخرى (ولكل بالطبع عوامله الموضوعية الواضحة لكننا لا نرى سوى العجائب)، مع أموال هائلة لم تخف وكالة المخابرات الأمريكية أنها دعمت بها مئات المؤتمرات للصحوة الإسلامية، إبان حقبة الحرب الباردة، تجييشا للمسلمين ضد الكفر الشيوعي ليحاربوا عن الغرب بالنيابة.
كان الإسلام في مصر بعد أن فتحها الغزو العربي (بمرور الوقت) قد تمصر، ومع قيام الدولة الحديثة على يد محمد علي أخذ صبغة تسامحية هائلة، فكنت تجد الجميع متعايشا، محبو أهل البيت إلى جوار المتصوفة، إلى جوار عباد الأضرحة من البسطاء، إلى جوار أهل السنة، إلى جوار الأقباط، إلى جوار اليهود، إلى جوار ملل ونحل وأعراق متعددة وجدت في مصر جاذبا للهجرة إليها واكتساب جنسيتها، هربا من مواطن فقيرة أو استبدادية، وانتهى كل هذا بداية من طرد أصحاب الأصول غير المصرية مع اليهود في الزمن الناصري؛ مما سلب عن تلك الأنظمة صفة العلمانية الليبرالية ومنحها صفة الديكتاتورية الفاشية بامتياز، رغم ما رفعته الأنظمة القومية الثورية من أيديولوجية تحارب الإسلام السياسي وتقوم على قيم وحدوية واشتراكية، لكن هزيمة هذا المشروع المروعة خاصة في 1967م، وسقوطه اقتصاديا وفشله التام في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، فلم يحقق لا عدلا اجتماعيا ولا مساواة ولا تنمية، ولا هو ترك البلاد على حالها الأول تسير مسيرها الطبيعي دون قفز فوق المراحل. بينما انكمش دور العلمانيين الحقيقيين، خاصة بعدما تراجعوا في النهاية إلى جماعة نخبوية، وتابع بعضهم السلطة العسكرية ونافح عنها، وظل البعض الآخر متهما بالعمالة للغرب ما دام لم يؤيد النظام الحاكم؛ ومن ثم كان يسيرا أن يصب هذا كله، من بعد تتالي الهزائم والنكسات، بيد الحركة الجديدة التي لبست هذه المرة زي سدانة الدين والدنيا معا، ومع صحوة ملتبسة بإسلام صحراوي وهابي جاف قاس، وهو ما لا تعرفه بلاد الخصب والوفرة في الوديان الخضراء، تم غزو البداوة لبلاد الخصب مرة أخرى، بمنهج بدوي لا يسمح بأي سؤال أو رأي ممكن؛ طوارئ عسكرية وأمنية واقتصادية؛ لأن القبيلة في موطنها بالبوادي هي في حالة طوارئ دائمة لا تعرف السلم ولا الاستقرار، بل هي في سعي وراء خير الطبيعة الشحيح، وعنده يتقاتلون قتالا صفريا ينتهي بسيادة أحدهما واستيلائه على ما بيد خصمه، وما بقي من بشر يستعبدهم أو يعسكرهم في قبيلته؛ لذلك لم تسمح هذه الحركة للقبيلة بغير نظام الحكم الاستبدادي؛ لأنه الذي يضمن تماسك القبيلة بصرامة، في بيئة متوحشة وقاسية، كذلك لم يسمح لها هذا الارتحال الدائم بأي استقرار؛ ومن ثم لم يسمح لها بأي إنجاز ممكن.
إلى هذا النهج الصحراوي ارتكس المصريون مع إعادة فتح مصر وهابيا هذه المرة، وارتدوا إلى ما قبل زمن مينا موحد القطرين؛ لأن المصريين كانوا بدوا رحلا ذات يوم، قبل أن تتوحد القبائل وتشكل مئات الأقاليم، وعبر السنين والدهور بألوف السنين توحدت هذه الأقاليم العديدة سلما أو حربا حتى أصبحت إقليمين عظيمين بعد حوالي سبعة آلاف سنة من الاستقرار في الوادي، حتى جاء مينا ملك الإقليم الجنوبي ليضم الإقليم الشمالي وليقيم أول دولة إمبراطورية قوية قائمة بحدودها التاريخية كما هي حتى اليوم، وقد قام مينا بهذا التوحيد منذ حوالي سبعة آلاف عام مضت، لكن بفضل الغزوة الوهابية يكون المصريون قد عادوا إلى ما قبل أربعة عشر ألف عام إلى الوراء من تاريخهم في بلادهم، عاد المصري قبليا بدويا لا فلاحا يرتبط بالأرض منتجا مبهجا، وأصبح يعرف نفسه بأنه ابن الحتة وابن القبيلة وابن الناحية، يترك أرضه ويرتحل لأن أرض الله واسعة فيهاجر فيها؛ منطق بدوي كان هو عيبة العار ذاتها ونفسها، ترددها الملحمة الشعبية «عواد باع أرضه يا ولاد، شوفوا طوله وعرضه يا ولاد»، وهي كلها مستجدات على دولتنا الحديثة لم تعرفها مصر القرن العشرين، ولا قبل العشرين. أصبح كل مواطن قبيلة وحده، لا يشغله ما يحدث على الأرض في بلاده؛ فالقبيلة لا تعرف شيئا اسمه «بلاده»، لا يشغله سوى نفسه ومصالحه فقط؛ مما أدى إلى ما نراه في الشارع من تفشي كل الأوبئة الاجتماعية العلنية رشوة وفسادا يمارس في بلادنا كاعتياد هو الأصل في الأخلاق وليس الاستثناء، حتى أصبح الباطل والكذب والخداع والسرقة هي العملة المتفق عليها، وهي القاعدة، أما الشرف وعفة اليد وسلامة الضمير، فهي عملة جيدة نعم لكنها الاستثناء؛ لأنها مؤرقة ومزعجة، في وطن يتهاوى، يعمل فيه كل مواطن بالمثل الشعبي: «إن وقع بيت أبوك إلحق خدلك منه قالب.»
إن هذا الانهيار المفزع ليس إلا نتيجة طبيعية للعودة إلى نظام القبيلة البدائي، والتعصب للعنصر والقبيلة والدين والمذهب والأيديولوجيا، بينما ضاع الجامع الشامل لكل هذه الألوان والأطياف مللا ونحلا وعناصر وأعراقا؛ جامعنا المقدس الحقيقي الذي يحوينا جميعا ويقبلنا جميعا في محرابه على التساوي بذات القدر والقيمة هو ما ضاع منا؛ ضاع الوطن، ضاع طين الأرض بعدما هجرها الفلاح إلى المدينة أو إلى بلاد ابن عبد الوهاب، وضاع عندما فقدت الأرض الطهور قدسيتها فقمنا نبني على ثراها الممتلئ خيرا وطهرا حجرا وأسمنتا شائها قبيحا، ضاعت المواطنة الجامعة، فإلى الله وإلى الوطن أشكوكم يا أهلي وناسي حكاما ومحكومين، ويا لوعة كبدي عليك يا وطن. (1) سقف المعرفة غاية مستحيلة
نرصد مظاهر الحالة الإسلامية كأعراض لمرض عضال بحاجة ماسة إلى علاج، ولعل أهم الأعراض المستعصية هو الاعتقاد السائد بين معظم المشتغلين بالشأن الإسلامي، وهو الاعتقاد الذي عمموه بين المسلمين بامتلاك الحقائق النهائية والمطلقة، عبر امتلاك الحكومات المسلمة لوسائل التثقيف العام من إذاعة وتلفاز ومسجد ومدرسة، وهي أقوى عوامل تشكيل الرأي العام اليوم. هذا العرض المستعصي يقوم على اعتقاد أن السلف لم يتركوا شيئا للخلف ليبحثوا فيه، وأن الأمة قد عقمت من بعد خصب، رغم أنها كانت خصبة إلى حد تعاصر فقهاء المذهب السني الأربعة خلال أربعين سنة فقط. ولكن لأن الزمان لم ولن يجود بمثلهم، كما توافق على ذلك الفقهاء من بعدهم، فقد أصبحوا خاتمة البحث ونهاية الأزمان، بعد أن وضعوا كل علم ممكن وانتهوا منه؛ باختصار، بلغوا نهاية العلم وسقفه الأخير. هذا رغم قصور البشرية جميعا عن بلوغ هذا السقف، ومعرفتها أنها قاصرة عن بلوغه، وأن هذا هو السبب الأساسي في التطور العلمي، والفكري النظري، والتقني، والفني ، والحقوقي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي. بينما يقول قوم إنهم قد بلغوا سقف العلم؛ فهو ما يعني أنه لا مجال لكلام آخر، ولا مجال لقول جديد، ولا مساحة لقبول أي تغير. هذا كله في واد، والواقع قد تغير تغيرات هائلة بلغت فيه ما تحققه البشرية كل عام منذ عام 2005م، ما يعادل ما حققته منذ وجود الإنسان على الأرض. ونصيب المسلمين من بلادهم في هذه الكشوف الهائلة كما وكيفا هو صفر عظيم.
إن عدم قدرة بلوغ نهاية العلم والمعرفة، هو أس جوهري في عملية التطور اللازمة للبشرية، وزاد البشر على التطور الفيزيائي البيولوجي الميكانيكي الدائب والمستمر للكائنات، أنهم تمكنوا من إعمال عقلهم في الطبيعة مما سرع بعملية التطور الإنساني بدرجات هائلة ما خطرت على قلب بشر. ومن هنا فإن الاعتقاد بكمال المعرفة عند المسلمين هو عرض واضح وجلي لتردي أحوالهم هذا التردي المثير للشعور بالخزي والعار.
Unknown page