الانتهازيون لا يدخلون الجنة
الموت والمدينة
المرحوم
الليل والجبل
المرآة
الكنز
الطفل والفراشة
السيد والعبد
محاكمة جلجاميش
الحكماء السبعة
الانتهازيون لا يدخلون الجنة
الموت والمدينة
المرحوم
الليل والجبل
المرآة
الكنز
الطفل والفراشة
السيد والعبد
محاكمة جلجاميش
الحكماء السبعة
الانتهازيون لا يدخلون الجنة
الانتهازيون لا يدخلون الجنة
مسرحيات مختارة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الانتهازيون لا يدخلون الجنة
مسرحية في ستة مشاهد
مهداة إلى عبد الرحمن فهمي.
الشخصيات
المريض.
زينب:
زوجته.
أحلام:
ابنتهما.
الطبيب.
محمد دربالة:
وهو الشق الآخر من نفس المريض المنقسمة.
صبري:
وكيل وزارة سابق.
الممرضون.
الملاك الأسود الصامت.
جوقة الأطفال. (هذه المسرحية صياغة حرة لقصة «الجلسة» لصديق العمر الكاتب الفنان عبد الرحمن فهمي. ولو سلمنا بوجود عدد من روائع القصة المصرية القصيرة - قد لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين - لكانت «الجلسة» في تقديري هي إحدى هذه الروائع بغير منازع (نشرت القصة في مجموعته الأخيرة «العود والزمان»، القاهرة سنة 1969م، من صفحة 7 إلى صفحة 42).) (حجرة واسعة في عيادة طبيب الأمراض النفسية والعقلية، مكتب كبير في مواجهة النظارة، يجلس الطبيب على كرسي موضوع أمامه أو يقوم أحيانا ليعاين المريض أو يكلمه، على اليمين أريكة مستطيلة يتمدد عليها المرضى أثناء التحليل، يقف خلفها أربعة من الممرضين في ثياب بيض، وهم يمثلون الجوقة التي تراقب الأحداث أو تستفسر عنها وتعقب عليها. المريض جالس على الأريكة بعد أن انتهى الطبيب من فحصه، يدفن رأسه بين كفيه ويبكي. الممرضون يحاولون أن يساعدوه على ارتداء ملابسه، وفي يد كل منهم قطعة منها.)
1
المريض :
ابنتي ماتت يا دكتور. ابنتي ماتت.
الطبيب :
أعرف، أعرف.
المريض :
إنه يتهمني بقتلها، يتهمني بقتلها.
الطبيب :
اهدأ أرجوك.
المريض :
أهدأ؟ كيف أهدأ بالله عليك؟ هل تتصور أنني قتلتها؟ هل سمعت عن أب قتل ابنته؟ (يبكي.)
الطبيب :
كفى بكاء. نريد أن نتناقش في هدوء، هيا ارتد ملابسك أولا. (الممرضون يحاولون أن يساعدوه على ارتداء ملابسه فيصدهم بعنف.)
المريض :
بل قل أنت أولا، هل تعتقد أنني مجنون؟
الطبيب :
مجنون؟ لا لا، لا تبالغ .
المريض :
هو الذي أقنعك بهذا. أليس كذلك؟ وزوجتي أيضا، لم يكتفوا باتهامي بقتل ابنتي، اتهموني أيضا بالجنون.
الطبيب :
قلت لك لا تبالغ في كلامك. نحن الأطباء حريصون في استعمال الألفاظ. إنه مجرد فحص عادي. فحص انتهينا منه ويمكنك أن تطمئن.
المريض :
أطمئن؟ أطمئن وأنت تعتقد أنني مجنون!
الطبيب :
بل أعتقد أنك سليم، الكبد سليم، القلب سليم، الرئة سليمة، اهدأ الآن وارتد ملابسك.
المريض :
اهدأ، اهدأ، أليس عندك غير هذه الكلمة؟ هل جربت فقد عزيز أو حبيب؟ هل رأيت في حياتك إنسانا يحتضر؟ ابنتي ماتت يا دكتور، ماتت. (ينشج نشيجا مؤلما.)
الطبيب :
وهذا هو سبب الأزمة. أزمة طارئة ستزول، كل شيء سيعود أفضل مما كان.
المريض :
وتسميها أزمة؟ موت أحلام واتهامي بالقتل والجنون في رأيك أزمة؟
الطبيب :
قلت لك احترس في استعمال الألفاظ.
المريض :
الجنون أو القتل. ما الفرق بينهما؟ إنهما يطاردانني في كل مكان، أصابعهما تشير إلي حتى في المنام، تآمرا علي يا دكتور تآمرا علي، هل أنت معهم أم معي؟
الطبيب :
سنتناقش الآن، ستحكي كل شيء. وسنعرف الحقيقة.
المريض :
وهؤلاء؟
الممرضون (في صوت واحد) :
نحن مع الحق،
لسنا معك ولا ضدك.
نحن مع الحق.
المريض (يلتفت إليهم فزعا كأنه يكتشفهم فجأة. يرى أيديهم الممدودة بقطع ملابسه) :
سألتك من هؤلاء؟
الطبيب :
ما الذي يخيفك؟ أنهم يمدون أيديهم إليك. يريدون أن يساعدوك.
المريض :
يساعدونني أم يخنقونني؟ ابتعدوا أيها الجلادون!
الممرضون :
لسنا جلادين ولا نحن قضاة.
المريض :
هو الذي أرسلكم.
الممرضون :
لم يرسلنا أحد. من تقصد؟
المريض :
الذي يطاردني ويتآمر علي، هو ولا أحد سواه. محمد دربالة.
الممرضون :
محمد دربالة؟
المريض :
كلكم محمد دربالة. كلكم تتربصون بي. كلكم تمدون إلي حبل المشنقة.
الممرضون (ضاحكين) :
أتسمي السترة مشنقة.
أم تتصور أن المعطف كفن أو تابوت؟
نحن نمد إليك قميصك،
ياقة رقبتك، حزامك.
ساعدنا حتى نقف جوارك ونساعدك ونرعاك.
المريض (ثائرا) :
بل أنتم جلادون وقتلة. أبعدهم يا دكتور؟
الممرضون :
لسنا جلادين ولا قتلة.
نحن شهودك، ظلك، صوت ضميرك،
تابعناك طوال العمر، نظرنا في مرآتك ،
فانفض تذكاراتك،
واجعلنا أهلك وصحابك،
ساعدنا كي نقرأ معك كتابك.
المريض :
اسألوه أن يساعدكم. اذهبوا إليه. اقرءوا كتبه. أنا لا أقرأ كتبا مثله ولا أؤلف كتبا.
الممرضون :
من هو محمد دربالة؟
نحن لا نعرف محمد دربالة،
الحقيقة هي ما نريد أن نعرف.
تهت في الظلام، نريد أن نضع مصباحا في طريقك.
اعوجت شجرة عمرك؛ دعنا نعالج جذورها.
لطخ الدنس ثوبك؛ دعنا نطهره.
مد يديك إلينا، وسوف نضعك على صدورنا.
الطبيب :
مد يديك إليهم، ساعدهم.
المريض :
مرهم أن يبتعدوا، أن يتخلوا عني.
الممرضون :
نحن تخلينا عنك سنين،
فصرت إلى ما صرت إليه.
المريض :
نفس كلامه. هذا هو نفس كلامه.
أبعدهم عني، أبعدهم عني (يبكي).
الطبيب (يتقدم إليه) :
ابتعدوا عنه. ما الذي تخشاه منهم؟
إنهم يعاونونني ويعاونونك،
مد ذراعك، نعم هكذا.
استرح، نحن نريد راحتك،
بعد أن ترتدي ملابسك سنتفاهم في هدوء،
ستحكي لنا عن الملعون محمد دربالة.
المريض (مستجيبا له كالطفل) :
ملعون وقاتل!
الطبيب :
وهو يتهمك ويظلمك.
المريض :
صدقتني أخيرا يا دكتور؟
الطبيب :
أنا أصدقك من البداية.
المريض :
ولكن لماذا يصدقني كل الناس ويكذبني؟ لماذا لا يرحمني؟ حتى الضحية غفرت لي.
الطبيب :
الضحية؟
المريض :
إنه يتصور أنني تسببت في سجنه، يتصور أنني أدخلته السجن وحكمت عليه بالأشغال الشاقة، الحمار لا يريد أن يفهم، لا يريد أن يفهم أنني فعلت كل شيء من أجلها.
الطبيب :
فهمت، من أجل ابنتك.
المريض :
وابنتي ماتت يا دكتور، ابنتي ماتت.
الطبيب :
أعرف، أعرف، سنرى الآن كل شيء.
المريض :
المهم أن يعرف هو، المهم أن يفتح عينيه ويرى، هل تعتقد أني مذنب يا دكتور؟ هل تعتقد أنني قتلتها؟
الطبيب :
بالطبع لا. استرح الآن. مدد ساقيك وأرخ ذراعيك. استرح وتنفس بهدوء، سنعرف كل شيء معا، سيخرج كل شيء إلى النور.
المريض :
النور؛ هذا ما أريده أيضا كي يرى ويفتح عينيه.
الطبيب :
وستحكي لنا كل شيء، كل شيء.
المريض :
ما الفائدة إذا كان لا يصدق؟
الطبيب :
وربما اكتشفنا أنه غير موجود.
المريض (يحاول أن ينهض في غضب) :
هل صدقت كلام زوجتي؟ إنه موجود يا دكتور.
الطبيب :
إذن فهو موجود.
المريض :
كيف يكون غير موجود وهو يبكيني ليل نهار؟
الطبيب :
قلت لك هو موجود، المهم أن تستريح الآن.
المريض :
حذار أن ترجع لاتهامي بالجنون.
الطبيب (صارخا) :
قلت لك لا تنطق هذه الكلمة.
المريض (في خوف) :
خفت أن تتهمني بالجنون كما اتهمني بالقتل، إنني بريء يا دكتور (ينظر للممرضين)
إنني بريء.
الممرضون :
نحن نصدقك تماما.
وسنعرف إن كنت بريئا،
والمجني عليه،
أو إن كان هو الجاني.
المريض :
ساعدوني.
الممرضون :
سنساعدك جميعا.
مدد رجليك، استرخ قليلا.
وتنفس في عمق.
الطبيب :
أعمق، أعمق.
الممرضون :
انفض أحزانك،
ساعد تذكاراتك كي تطفو فوق السطح؛
لنساعدك فيلتئم الجرح.
الطبيب :
هيا تذكر، ماذا حدث عندما عدت إلى بيتك؟
المريض :
وفي يدي اللعبة والدواء.
الطبيب :
تطفر فرحا وتغني.
الممرضون :
تضع المفتاح بثقب الباب. (وتنادي): يا أحلام.
المريض :
أحلام، أحلام. (يخفت الضوء. يرى على اليمين فراش طفلة صغيرة، يتقدم المريض نحوها وهو يثب فرحا. الزوجة والطبيب يجلسان صامتين أمام الجثمان.)
2
المريض :
كنت فرحا كما لم أفرح في حياتي.
الممرضون :
بالطبع؛ فالترقية بجيبك،
في قبضتك المجد،
وفيها جوهرة العمر.
كم عانيت طويلا حتى تصل،
وها أنت وصلت،
لكن وا أسفاه!
صعد السلم حتى طال النجم،
لكن سقط السلم في الطين ولوثه الدم.
وا أسفاه! وا أسفاه!
ماتت أحلام ومات الحلم.
المريض :
أحلام، يا أحلام، افتحي ذراعيك لأبيك، انهضي لنلعب معا، أحلام.
الزوجة :
تأخرت كالعادة، لن تستطيع أن تلعب معك.
المريض :
لماذا؟ هل نامت الليلة مبكرة؟
الزوجة :
نعم نامت.
المريض :
لا بد أن تصحو. سأزف إليك خبرا سارا يا أحلام. لن تفهمي كثيرا ولكنك ستضحكين وترقصين. حتى العروس التي طلبتها سترقص وتغني معنا.
انظري يا أحلام.
الزوجة :
لا تتعب نفسك.
المريض :
ماذا حدث؟ قومي لتري عروسك يا أحلام.
الزوجة :
يسأل ماذا حدث فقولوا له.
الممرضون :
خيم صمت الموت على الإنسان،
جثم على الخدين، على الشفتين،
على الأجفان.
وامتد الظل على الجدران.
الزوجة صامتة كالبوم،
والطب العاجز،
في وجه طبيبك مهموم.
وتمد يديك لكي تتحسس صدر ابنتك،
فلا تسمع نبض القلب،
ولا تلمس إلا الجثمان.
المريض :
صرخت وبكيت، نشجت واختنقت بالدموع، ضربت وجهي على سريرها حتى سال دمي، تكلمي. ماذا حدث؟
الزوجة :
تأخرت عليها بالدواء.
الطبيب :
ونفذ قضاء الله يا محمد، نفذ القضاء.
المريض :
لم أتأخر، الوزير هو الذي وصل متأخرا، أخبرتك أنني سأكون في استقباله.
الزوجة :
وطلبت منك أن تعجل بإحضار الدواء.
المريض :
ما ذنبي إذا كانت طائرة الوزير تأخرت؟ هل كنت أعلم أنها ستتعطل ساعتين؟ هل كنت في علم الغيب؟
الزوجة :
وابنتك؟ ألم تكن أولى بك؟
المريض :
وهل فعلت ما فعلت إلا من أجلها؟ هل سعيت لاستقبال الوزير إلا لأسعدها؟ أكان يرضيك أن تضيع مني الترقية؟
الزوجة :
أفضل من أن تضيع ابنتك.
المريض :
قومي يا أحلام. أبوك أصبح وكيل وزارة، تعب من أجلك حتى وصل. افتحي عينيك يا ابنتي. انظري إلي وكلميني.
الممرضون :
الزوجة صامتة صمت البوم،
والطب العاجز في وجه طبيبك مهموم.
عبثا تصرخ يا مسكين،
عبثا تصرخ يا مسكين.
المريض :
أحلام، أحلام، انتبهي يا ابنتي، تكلمي يا حبيبتي، نادي على أبيك.
الزوجة :
نادت عليك ساعتين.
المريض :
قلت لك لم أتأخر بإرادتي.
الزوجة :
ظلت تبكي وتقول: أريد بابا، أريد بابا.
الطبيب :
وأبوها ينتظر الترقية من الوزير.
المريض :
حصلت عليها من أجلها. تعبت وشقيت طول العمر لأسعدها. هل بنيت الفيلا واشتريت العربة إلا لها؟
الزوجة :
كانت تريدك أنت بجانبها.
المريض :
اسمعيني أنت يا أحلام. أمك لن تفهمني ولن يفهمني أحد سواك. قومي يا حبيبتي، تعالي وانظري عروسك الجميلة، أنت نائمة تحلمين، انهضي لتري الحلم الجديد، قومي، قومي.
الممرضون :
ناديت وناديت فهل سمعت صوتك؟
المريض :
سمعته وقامت، لم يرها أحد غيري.
الممرضون :
كيف يقوم الموتى؟
المريض :
وقفت كعروس تخرج من نبع صاف كالفجر. ما كادت تلمح لعبتها حتى التقطتها، ضمتها للصدر: عروسي، سآخذها معي (تتمثل الرؤيا أمامه في ضوء الحلم الوردي الأخضر، يتابعها بعينيه ولا يراها أحد غيره) .
المريض :
إلى أين يا ابنتي؟
أحلام :
ألا تراه هناك؟
المريض :
من يا حبيبتي ؟
أحلام :
هناك، هناك.
المريض :
ونظرت حيث أشارت. كان يستند على حافة الشباك صامتا حزين العينين، ملاك أسود ضخم، بجناحين كالليل الأسود، يحدق فيها ولا يتكلم، تقدمت منه وقالت:
أحلام :
من أنت؟
هل أنت صديق؟
أم أنت عدو؟
المريض :
والملاك الأسود صامت لا يحول عينيه عنها.
أحلام :
لم لا تتكلم؟ جئت لتأخذني؟
المريض :
أطرق الملاك برأسه. لم يجب، شعرت أنه خجل أو نادم. لكنها مدت ذراعها نحوه وقالت:
أحلام :
ستكون رقيقا وحنونا،
لا تقس علي.
أدفئني تحت جناحيك،
ودثرني،
خذني بين ذراعيك،
ولا تقس علي.
المريض :
مد الملاك يده إليها. وضع يدها في يده وسار صامتا كالنسر الكبير الذي يقبض على فراشة، جريت وراءهما باكيا: تعالي يا ابنتي، تعالي، إلى أين تذهبين؟ رفرفت طيور بيضاء بأجنحة بيضاء، انطلقت تغني:
الموت طفل صغير،
بوجه شيخ عبوس.
والموت باب كبير،
يفضي إلى الفردوس.
المريض :
هللت أحلام وأشارت إلي: افرح يا أبي. موعدنا في الفردوس.
الله دعاني
لبيت الدعوة،
والملك الحاني
يعبر بي الهوة.
جريت وراءها وأنا أبكي: لا تتركيني يا أحلام، لا تتركيني. التفتت إلي وصاحت: تعال يا أبي، تعال! أتعرفون ماذا فعل؟
الممرضون :
من؟ الملاك؟
المريض :
بل هو. محمد دربالة. انشقت عنه الأرض ووقف أمامي. سد علي الطريق كالجبل.
الممرضون :
وماذا قال؟
المريض :
صرخ كذئب جائع: الانتهازيون لا يدخلون الجنة.
الممرضون :
الانتهازيون لا يدخلون الجنة؟
المريض :
بكيت وصرخت وضربت الأرض بقدمي. حاولت أن ألكمه ولكنه كان كالصخر. ابتعد عن طريقي يا محمد، لماذا تطاردني يا محمد؟ دعني أذهب مع ابنتي. دعني أخرج من هذا العالم ما دمت لا أستطيع أن أعيش معك فيه.
الممرضون :
وهو الصامت كالجبل الأجرد، قاس كالصخر.
المريض :
أقسى منه امرأتي، أقسى منه طبيب عجز على يده الطب.
الممرضون :
ماذا فعلا؟
المريض :
راحا يناديان: تعال يا مجنون. ابنتك في فراشها. تعال لا تتعب نفسك. وابنتي تبكي وتشير إلي:
تعال، تعال،
العالم وحش،
فلنهرب منه.
والعالم نعش،
فلنخرج منه.
وأنا أنادي إنهم يمنعونني يا حبيبتي.
إنهم يظلمونني.
الممرضون :
من منهم ظلمك ؟
المريض :
كلهم، كلهم ظلموني.
الممرضون :
الجنة لا يدخلها ...
المريض :
أترددون قوله؟ ألا يكفي ما قاله منذ أيام؟
الممرضون :
ومتى قابلته؟
المريض :
في اليوم التالي. يوم جاء الناس لتهنئتي وتعزيتي.
الممرضون :
ارو علينا ما حدث هناك. احك لنا ما قال.
الطبيب :
نعم هكذا، استرح ومدد ساقيك. أرخ ذراعيك.
الممرضون :
خذ نفسا أعمق
وارو علينا ما قال،
الجنة لا يدخلها ...
لا، لا تغضب.
الأفضل أن نسمعها منك،
أو نسمعها منه،
ارو علينا ما قال. (يخفت الضوء على المريض الممدد على الأريكة، يسلط على الجانب الآخر من المسرح، تظهر حجرة مظلمة كالقبر، معفرة بتراب الملفات والسجلات. شخص يشبه المريض في مظهره وملبسه، يقف بجانب السلم المعدني ويقلب في ملف قديم.)
3
المريض :
لم أدر كيف وقفت أمام باب هذه الحجرة، ولا كيف فتحت الباب ودخلت.
الطبيب :
ألم تذهب أولا إلى الوزارة؟
المريض :
في اليوم التالي لدفن ابنتي، أفقت من الكابوس ورجعت لنفسي.
الممرضون (يتضاحكون) :
رجعت لنفسك؟ أم رجعت نفسك لك؟
المريض :
لا تسخروا بي. كان يوم تهنئتي بالترقية هو يوم تعزيتي. تزاحم السعاة والموظفون على بابي. سمعت ضجيجهم وراء الباب فتقززت من كل شيء.
الممرضون :
ولماذا تتقزز منهم سيان
أن يأتوا للتهنئة،
أو التعزية وتقديم القربان،
وصل النسر إلى القمة،
ما وجد سوى الديدان.
المريض :
وهذا ما ضاعف اشمئزازي. واربت الباب قليلا ونظرت. كانوا يقفون في طابور طويل وينتظرون. أيتها الكلاب الشامتة. لو مت وأنا في الدرجة الخامسة ما مشى في جنازتي كلب واحد، ناديت الساعي وصحت به: اطردهم جميعا، لا أريد أن أرى أحدا. (يظهر الساعي.)
الساعي :
مستحيل يا سعادة البيك.
المريض :
ولماذا؟ قل لهم الوكيل مشغول. قل لهم ليس موجودا.
الساعي :
إنهم يراقبون الأبواب من الصباح.
المريض :
قل لهم لا أريد أن أقابل أحدا.
الساعي :
هل ترفض تهنئتهم؟
المريض :
أم تعزيتهم؟ قلت لك اصرفهم حالا.
الساعي :
لا أستطيع يا سعادة البيك.
المريض :
ولماذا لا تستطيع؟
الساعي :
مراقب شئون العاملين يحمل دفترا للتوقيع، كل واحد منهم سيوقع قبل أن يدخل لتهنئتك.
المريض :
هل أعد دفترا آخر للتعزية؟
الساعي :
لا أدري يا سعادة البيك.
المريض :
الصادر والوارد. سركي الابتسامات والدموع.
الساعي :
نعم يا سعادة البيك. والمراقب أعد قصيدة عصماء.
المريض :
قلت لك اصرفهم حالا. قل لهم لا أريد أن أرى أحدا.
الساعي :
سينتظرون حتى الليل. سيبيتون هنا إذا لزم الأمر، إنهم مصممون على تقديم الواجب.
المريض :
أم على إظهار الحسد؟
الساعي :
أستغفر الله يا بيك.
المريض :
قلت لك لا أريد أن أرى أحدا، لا أريد أن أراك أيضا، اذهب، اذهب، أغلق كل الأبواب.
الممرضون :
وغلقت الأبواب،
كم كافحت لتفتح هذي الأبواب،
وتجلس في نفس الحجرة،
وترى الخدم مع الحجاب،
والزوار على الأعتاب،
وكأنك صنم فوق العرش،
مطاع الأمر مهاب.
ماذا حدث؟
انكسر الصنم،
انهار العرش،
وصرت وحيدا،
لا أتباع ولا أحباب.
المريض :
نعم. وجدت نفسي وحيدا، خفت أن أنظر في عيونهم فلا أرى إلا دموع الحسد، أو ابتسامة الشماتة بلا حياء، خفت أن تنطق الدموع والابتسامات: لقد وصلت، وصلت.
الممرضون :
وصلت وصلت،
فما معنى الكلمة؟
كم تتردد بين الناس على كل لسان!
لكن ما غاية تعب الإنسان؟
هل يصل لغير تراب الأرض وللأكفان؟
يسعى البطل الظافر للمجد ويشقى قلب ويدان،
وعلى جبهته يضع الناس الإكليل،
وتحسده الأعين بل يحسده الثقلان.
لكن البطل الظافر بعد زمان،
يصبح مأدبة للديدان،
يصبح مأدبة للديدان.
المريض :
نعم. لقد حسدوني، كانوا دائما يحسدونني، ولهذا هربت من عيونهم.
الطبيب :
إلى أين؟
المريض :
تسللت من الحجرة دون أن يراني أحد، ساقت رجلي قوة مجهولة إليه.
الطبيب :
من تقصد؟
المريض :
محمد دربالة. لم أكن أتصور أنني سأراه هناك، جريت على السلم الخلفي حتى وجدتني في البدروم، أمام هذه الحجرة نفسها، كان الصمت يحيط بي والظلام. وكان الباب مواربا فدفعته ودخلت.
الطبيب :
لا شك أنه كان ينتظرك.
المريض :
لم أعرف هذا في البداية. كان يقف وسط الملفات المعفرة بالتراب كأنه ملف قديم. تقدمت منه وقلت: أنت هنا يا محمد؟ (يظهر محمد دربالة في الضوء الخافت وفي يده ملف وحوله ملفات.)
محمد دربالة :
أنا هنا من ثلاثين سنة، منذ عينا في قرار واحد.
المريض :
وكيف نعمل معا في وزارة واحدة ولا تسأل عني؟ هل نسيتني يا محمد؟
محمد :
لما نسيتني نسيتك.
المريض :
أنا لم أنسك أبدا يا محمد، أنت الإنسان الوحيد الذي بقي لي. لا تتخل عني.
محمد :
تخليت عنك لما تخليت عن نفسك.
المريض (باكيا) :
ابنتي ماتت أمس يا محمد، لا تتركني.
محمد :
لن أتركك بعد اليوم. لقد تركتك ثلاثين سنة فصرت إلى ما صرت إليه.
المريض :
وتقدم مني. ضمني إلى صدره وأخذ يربت على ظهري. شعرت بدموعه على خدي. شعرت أنه الإنسان الوحيد الذي يحزن لحزني. بعد قليل قال لي:
محمد :
يجب أن تتماسك. كنت رجلا فيما مضى.
المريض :
نعم فيما مضى، أما الآن فابنتي ماتت.
محمد :
أنت الذي قتلتها.
المريض :
ما زلت قاسيا كما كنت يا محمد. أنا لم أقصر معها في شيء.
محمد :
قصرت معها في أهم شيء.
المريض :
لا تظلمني يا محمد. لقد شقيت من أجلها ووصلت الليل بالنهار لأجلها.
محمد :
بل شقيت من أجل الوصول، وها أنت قد وصلت.
المريض :
وأنت الوحيد الذي لم تهنئني.
محمد :
أهنئك أم أعزيك؟
المريض :
أرجوك لا تعذبني يا محمد، هل فعلت ما فعلت إلا لها؟
محمد :
وانشغلت عنها طوال الوقت.
المريض :
ربما لم أعطها من نفسي إلا قليلا.
محمد :
لم تعطها شيئا على الإطلاق.
المريض :
أعطيتها لعبة جميلة.
محمد :
ليست أجمل من أبيها.
المريض :
أعطيتها فيلا وحديقة واسعة.
محمد :
الدنيا كلها ضيقة إذا خلت من أبيها.
المريض :
لما مرضت أحضرت لها أعظم الأطباء.
محمد :
الطبيب الوحيد الذي كانت تحتاج إليه كان ينتظر الوزير في المطار.
المريض :
ما ذنبي إذا كانت الطائرة تأخرت أربع ساعات عن موعدها؟ هل كنت أعلم أنها ستتعطل في روما؟
محمد :
كنت تعلم أن ابنتك في انتظار الدواء.
المريض :
أقسم لك أنني اشتريت لها العروس والدواء. قدرت أن الانتظار لن يطول أكثر من ساعة.
محمد :
كانت في انتظارك تنادي: بابا، أريد بابا. وكنت في انتظار الوزير لينعم عليك بالدرجة .
المريض :
هل كنت تريد ألا أنتظره فتطير مني الدرجة التي تعبت طول العمر لأصل إليها؟ هل كنت تريد أن يخطفوها مني؟ بعد أن نزل الوزير من الطائرة وهنأته بسلامة الوصول وهنأني بالترقية سارعت إلى البيت.
محمد :
ووصلت بعد أن ماتت أحلام.
المريض :
وهل أنا طبيب؟ هل اطلعت على الغيب؟ خالها الطبيب كان بجانبها.
محمد :
ولكنها كانت تريد أباها.
المريض :
حضرت ومعي الدواء والعروس.
محمد :
ومعك الدرجة.
المريض :
من أجلها، أقسم لك من أجلها. لماذا لا تريد أن تفهمني؟ لماذا تظلمني؟ (يبكي)
لا تتركني كما تركتني في الماضي.
محمد :
تركتك لما تركتني، لما تجاهلتني ولم تسمع صوتي.
المريض :
ومع ذلك لم ترحمني.
محمد :
لما عرفت أنك أصبحت جلادا.
المريض :
لا تؤلمني يا محمد. كان هذا من عشر سنوات.
محمد :
والضحية قضت في السجن عشر سنوات بسببك.
المريض :
أنا الآن الضحية يا محمد، أنت تعرف أنني لم أكن السبب.
محمد :
ومن الذي هيأ له الطريق للاختلاس؟ من الذي أغراه بالرشاوى وزيف الفواتير؟
المريض :
هو الذي دبر كل شيء، كان كل شيء بخطه، لم يجدوا كلمة واحدة بخطي، وعند التحقيق كانت صفحتي بيضاء. ألا تذكر يا محمد؟
محمد :
أذكر أنك أنت الذي بلغت عنه.
المريض :
بلغت عنه لأنه منحرف، واجب وطني، واجب إنساني. هل أسكت على مختلس ومنحرف؟ ما ذنبي إذا كان قد ضيع أموال الخزينة في الخمر والقمار؟
محمد :
ذنبك أنك أردت أن تصل إلى درجته.
المريض :
السيد الوكيل هنأني بنفسه، هنأني على نزاهتي وعينني مكانه.
محمد :
وصلت، ووصلت الضحية إلى الليمان.
المريض :
قلت لك أنا الآن الضحية يا محمد.
محمد :
مجرد تبادل في الأدوار، كل الجلادين يصبحون في النهاية ضحايا.
المريض :
ولكنه غفر لي يا محمد، الضحية غفرت وأنت لا تريد أن تغفر. لقد قابلته في الأسبوع الماضي.
محمد :
أين قابلته؟
المريض :
في القهوة يا محمد، كان يجلس على القهوة.
محمد :
واحتقرك بالطبع.
المريض :
بل جرى ورائي ودعاني لفنجان قهوة. (يظهر صبري وكيل الوزارة السابق وهو يسحب المريض من يده ليجلس معه.)
صبري :
تعال يا محمد، تعال نشرب فنجان قهوة.
المريض :
تدعوني لفنجان قهوة بعد كل ما حدث.
صبري :
وماذا حدث يا أخي؟ كل شيء انتهى.
المريض :
ألا تكرهني يا صبري بيك؟ ألا تحقد علي؟
صبري :
السجن علمني ألا أكره، علمني ألا أحقد، ثم إنك لم تفعل شيئا.
المريض :
يتهمونني بأنني بلغت عنك.
صبري :
وافرض أنك فعلت. لقد أديت واجبك، ثم إنني أنا المسئول عن كل شيء، أنا الذي شربت وقامرت، أنا الذي أمرتك بتزوير الفواتير واختلست المبالغ الضخمة وبددتها في الليالي الحمراء.
المريض :
هل تصفح عني؟
صبري :
استغفر الله، هو الذي يصفح عنا جميعا، أنت شاب طموح تريد أن تصل.
محمد :
تريد أن تصل.
المريض :
انتظر يا محمد، إنه لم يكتف بالصفح عني، سألني أيضا عن ابنتي أحلام ودعا لها بالبركة، ثم دعا لي بالستر وقبلني.
محمد :
الضحية تقبل جلادها.
المريض :
افهمني يا محمد، افهمني وارحمني، أنا الآن الضحية، أنا الآن الضحية. (ينشج في ألم. ينهض محمد ويضع يده على رأسه.)
محمد :
انهض يا محمد.
المريض :
أتذكر اسمي؟
محمد :
وأذكر ماضينا.
المريض :
كانت أياما حلوة. كل شيء ضاع الآن.
محمد :
الطريق طويل، وما ضاع يسترد.
المريض :
ألا ترى الشعر الأبيض يغزو رأسي؟ ألا تراني وحيدا؟
محمد :
قلت لك لن أتخلى عنك، بعد ثلاثين سنة عدت إليك.
المريض :
ابق معي يا محمد، لم يبق لي أحد بعد أن ماتت ابنتي.
محمد :
ماتت لما مات ضميرك، لما ضاع صوته وسط أصوات السياط التي ألهبت ظهرك للوصول إلى القمة، وها أنت تتمرغ في الحضيض.
المريض :
ساعدني يا محمد.
محمد :
ستعود للحياة إذا عاد ضميرك.
المريض :
وابنتي؟ لقد مت يا محمد بموتها.
محمد :
ستعود هي أيضا للحياة.
المريض :
معقول يا محمد؟ هل أنت المجنون أم أنا؟
محمد :
ستعيش في قلبك يوم تنصت لقبك. انهض، كن رجلا وانهض على قدميك.
المريض :
إلى أين يا محمد؟
محمد :
إلى بيتنا القديم، حجرتنا القديمة المظلمة في الحسين. يوم كنا شبانا نحلم ونغضب ونجوع.
المريض :
أما زلت تذكرها يا محمد؟
محمد :
وما زلت أسكن فيها مع أولادي وزوجتي.
المريض :
هل تدعوني إلى بيتك؟
محمد :
أنت لا تحتاج للدعوة.
المريض :
ولماذا لا تأتي معي؟ هل تخجل مني؟
محمد :
أنت تعرف العنوان. (ينصرف طيف موظف الأرشيف، ينهض المريض ويناديه.)
المريض :
محمد، محمد، لا تتركني وحدي، يا محمد دربالة. لا تتركني في الظلام والحضيض والوحل. أنت الوحيد الذي بقي لي، الكل يحتقرني فلا تحتقرني أنت، لا تتركني، لا تتركني!
الممرضون :
لا لن يتركك وحيدا.
لن يتخلى عنك،
فامض الآن لبيته.
وسنعرف منك ومنه،
إن كان الذنب عليه،
أو كان الذنب عليك. (ينطفئ الضوء، يسقط من جديد على المريض الذي يجلس على نفس الأريكة في حجرة مظلمة.)
4 (المريض ممدد على الأريكة في استرخاء، يمر بيده على جبهته بين الحين والحين، كأنه يحاول أن ينفذ من الضباب الذي يغشى بصره. الطبيب أمامه، والممرضون من حوله، وذكرياته تتمثل في مشهد الحجرة المظلمة التي يدور فيها الحوار بينه وبين محمد دربالة ...)
الطبيب :
وبحثت عن العنوان.
المريض :
لم أكن في حاجة للبحث عنه، سرت في الحسين فإذا بأيام صباي وشبابي تبرز من كل ركن ومنعطف، تصافحني وتأخذ بيدي وتتأمل وجهي.
الممرضون :
ووجدت البيت المتداعي،
كعجوز فان منهار،
وهبطت السلم للقاع،
والليل يخيم في الدار،
كالأعمى يحلم بشعاع،
من فرح أو ضوء نهار،
وطرقت الباب.
المريض :
وصحت، يا محمد! كيف تتحمل كل هذا الظلام؟ وخرج محمد وفتح الباب، ضحك، وأمسك بذراعي وقال:
محمد :
وأتحمل كل شيء.
المريض :
كادت رقبتي تنكسر.
محمد :
هل نسيت ما كنت تقوله لي: أنت أستاذ في الصبر؟
المريض :
وأولادك يا أخي، ما ذنبهم؟
محمد :
تعلموا في المدرسة نفسها.
المريض :
ودخلت الحجرة، هي بعينها التي كنا نسكنها معا أيام شبابنا، الظلام بعينه، الفقر نفسه، والمصباح الزيتي الذي يرتعش ضوءه على الحائط القديم، والحصيرة المتهرئة على البلاط الأجرب، صحت: هي نفس الحجرة يا محمد!
محمد :
والساكن هو نفسه.
المريض :
الدنيا كلها تحركت يا محمد، وأنت واقف في مكانك، الناس كلهم صعدوا إلى النور.
محمد :
وأنا في بير السلم!
المريض :
ثلاثون سنة في نفس الحجرة، في الظلام والبؤس والمرض.
محمد :
الحمد لله، أنا راض على كل حال.
المريض :
إذا كنت ترضى بهذا لنفسك، فكيف ترضاه لزوجتك وأولادك؟
محمد :
نحن مستورون والحمد لله، زوجتي قانعة وأولادي سعداء.
المريض :
سعداء، في هذا الجب المعتم؟ لماذا لم تتصل بي وأنت تعمل معي في نفس الوزارة؟
محمد :
ولماذا أتصل بك؟
المريض :
أدلك على شقة أخرى، أساعدك يا أخي، هل نسيت أننا إخوة؟
محمد :
لست أنا الذي نسي.
المريض :
أنا مثلا أسكن في فيلا على النيل، حديقتها باتساع أربعمائة متر، يمضي الزمن ولا تسأل عني، لا تزورني.
محمد :
ولماذا أزورك؟
المريض :
كنت أنتظر زيارتك.
محمد :
لما نسيتني نسيتك.
المريض :
أنت جاحد يا محمد، وحسود أيضا، هل تنكر أنك تحسدني؟
محمد :
ولماذا أحسدك؟
المريض :
لأنني وصلت، هذا هو السبب. هل تدرون ماذا فعل؟ ظل يضحك ويضحك، غاظني ضحكه، نفس الضحكات التي كانت تجلجل أيام كنا في الجامعة، في نفس الحجرة، أتعلمون ماذا قال بعدها؟
الممرضون :
ماذا قال؟
محمد :
أحسدك؟ إنني أشفق عليك وأرثي لك. تصوروا، هذا اللئيم الحسود يشفق علي، هذا الموظف درجة خامسة يرثي لي!
الممرضون :
أنت تحركت كثيرا،
والويل لمن لا يتحرك قط.
وبلغت الذروة،
والويل الويل لمن يسقط.
وجلست على عرش القوة،
وصديقك باق في الهوة.
لكني أرجع لسؤالي:
أوصلت؟ فما معنى الكلمة؟
ما الغاية منها؟ ما الحكمة؟
المريض :
غاظني ضحكه فقلت له: أهكذا تستقبلني في بيتك يا محمد؟ أما زلت تحتقرني؟
محمد :
لم أحتقرك أبدا.
المريض :
الشفقة نوع من الاحتقار.
محمد :
ربما كنت أنت الذي تحتقرني وترثي لي.
المريض :
نعم، أرثي لك.
محمد :
لأنني ما زلت فقيرا؟ لأنني أسكن في نفس الحجرة في البدروم، وأعمل في نفس الأرشيف في البدروم؟
المريض :
لأنك تظلم أولادك معك، تسكت على نفسك ولا تلجأ إلي.
محمد :
ولماذا ألجأ إليك؟ كنت أراقبك فتزداد سعادتي بما أنا فيه. إنني أقرأ وأكتب، أرسم وأسمع الموسيقى، أربي أولادي بشرف، وأنتظر الدرجة في شرف، ماذا أريد من دنياي أكثر من هذا؟
المريض :
ونسيت طموحك القديم؟ نسيت طموحك النبيل؟
محمد :
لم أنس شيئا ... فعلت ما استطعت.
المريض :
وأحلامك بالعدالة والحرية وبمستقبل البشرية؟ وتمردك وغضبك واستعدادك أن تشنق في سبيل الإنسان؟
محمد :
عندما يطلبني الإنسان، سيجدني مستعدا لأن أشنق في سبيله.
المريض :
وكتبك التي تؤلفها وتسهر فيها؟
محمد :
ها هي أمامك.
المريض :
ولكنها مخطوطات، كل هذه المخطوطات ولم تفكر في نشرها؟
محمد :
عندما أحس أن الناس في حاجة إليها سأنشرها، أو ينشرها من يحتاجون إليها بعد موتي.
المريض :
وأحلامك؟ أين ذهبت أحلامك؟
محمد :
تقصد أحلامنا؟
المريض :
أنا حققت أحلامي.
محمد :
نمت نوما سيئا، فرأيت أحلاما سيئة.
المريض :
أتعود لاتهامي والحقد علي؟ ألا يكفيك أنها ماتت؟
محمد :
ولهذا لا أحقد عليك ولا أتهمك.
المريض :
ولكنك تحتقرني وترثي لي.
محمد :
ولا هذا أيضا، إنما أذكرك.
المريض :
بأيام الفقر والجوع؟
محمد :
وأيام الحب والغضب والثورة على الفقر والجوع. تعال تعال، تذكر نفسك الأخرى التي لم تحلم بالوصول. لم تفكر في الفيلا والمرسيدس والدرجة والكرسي.
المريض :
آه يا محمد! ما زلت قاسيا كما كنت.
محمد :
لم أقس عليك أبدا. كانت لنا قيم قدسناها وأردنا لها أن تعيش، تعاهدنا على الثورة في سبيلها والموت في سبيلها، وعندما كنت أراك تنحرف عنها كنت أقسو عليك.
المريض :
أذكر كيف شتمتني ولعنت أجدادي بسبب تلك المرأة البيضاء السمينة.
محمد :
لأنني أردت ألا تمرغ حبك في الوحل.
المريض :
نعم نعم، حبي لزينب.
محمد :
كنت أعرف أن حبك الطاهر لها هو الذي سينقذك، وحكمت عليك بأن تمشي على قدميك من الدراسة إلى العباسية وتحج إلى بيتها.
المريض :
وطفت حوله سبع مرات.
محمد :
وكفرت عن علاقتك بالحشاشة التي أغرتك بأن تتزوجها وتعمل معها.
المريض :
لا تقس عليها يا محمد، كانت طيبة القلب. أرادت أن تتزوجني على سنة الله ورسوله. أتذكر يوم قالت لي: اترك الملعونة التي يسمونها الشيوعية وتعال اعمل معي، ستأكل ذهبا؟
محمد :
وفضلت أن تجوع على أن تأكل ذهبا.
المريض :
وجعت وتمردت في سبيل الحب.
محمد :
وفي سبيل زينب .
المريض :
زينب؟ نعم نعم. كانت جميلة كفينوس، شفافة كالملائكة في الفردوس، ولكن ما الفائدة؟ لقد تزوجت بأخرى.
محمد :
تزوجتها هي نفسها.
المريض :
لا لا، لا تدنس ذكرى زينب القديمة. زوجتي الآن لا تفهمني، هي مثلك لا ترحمني.
محمد :
لأنك لم تشعر بوجودها، لم تشعر بوجود ابنتك.
المريض :
تصور أنها تتهمني بقتلها! لا يمكن أن تكون هي زينب.
محمد :
هي الحبيبة التي عبدتها وطفت حول بيتها.
المريض :
تقدمت منه وحدقت في عينيه، صممت أن تنزل عليه الحقيقة كالصاعقة. قلت له: لقد أحبتك أنت يا محمد! سألني وكأنه لا يعرف: أحبتني أنا؟
المريض :
وهجرتني بسببك.
محمد :
ومتى كان هذا؟
المريض :
من عشر سنين، لا لا، ربما من عشرين.
محمد :
ألم تسأل نفسك عن السبب؟
المريض :
قلت لك أنت السبب. بدأت ألاحظ أنها لا تكف عن ترديد اسمك. كلما عدت في آخر الليل مهدودا من التعب تقول: ليتني تزوجت محمدا. وأقول لها: ألا تخجلين من ذكر اسمه أمامي؟ فترد علي: بل أنت الذي تخجل منه. تثور عندما يذكرك أحد بشبابه وأحلامه وحبه القديم. حتى بعد أن بنيت لها الفيلا على شاطئ النيل واشتريت لها العربة ظلت تحلم بالحياة معك. وبعد أن أنجبنا «أحلام» لم تتورع عن الكلام عنك وإلقاء سمومها في وجهي: لو كنت محمد دربالة لاهتممت بها ورعيتها. وأصرخ في وجهها: لمن أتعب وأشقى إلا لها ولك؟ لمن بنيت الفيلا؟ فتواصل كالنمرة المفترسة: كنت سعيدة معه في حجرته المظلمة. وأصيح من جديد: في ذلك القبر؟ فتثبت عينيها في: كانت الحياة فيها جنة. كنا سعداء ومستورين. وتركتني يا محمد بعد أن ماتت أحلام.
محمد :
إلى أين تركتك؟
المريض :
ثرت عليه ومددت يدي أريد أن أصفعه. صحت في ثورة عارمة: تسألني إلى أين؟ هجرتني وجاءت إليك، فضلت أن تعيش معك في هذا القبر. أجاب وهو يبتسم في سخرية.
محمد :
ألم تقل إنه جنة؟
المريض :
هي التي قالت هذا. هي التي فضلت الحياة في جنتك الرطبة المظلمة على الحياة في الفيلا. هي التي هجرتني وجاءت إلى هذا القبر. لمعت ابتسامته على فمه كأنها عين ثعبان لئيم.
محمد :
ليس قبرا يا محمد ما دام الحب والشرف يسكنان فيه.
المريض :
صحت غاضبا القبر قبر ولا يمكن أن يكون جنة. ابتسم ولمعت السخرية على فمه كالسم: بل هو الجنة يا محمد. ما دامت السعادة ترفرف عليه. رفعت صوتي وناديت: يا زينب! هل أنت سعيدة معه يا زينب؟ هل أنت سعيدة في هذا القبر؟ قال في هدوء: لا ترفع صوتك هكذا. لن ترد عليك.
صحت ولماذا لا ترد علي؟
قال وابتسامة السخرية تتسع كبركة ماء آسن: لأنها تخجل أن تراني معك. نزل علي قوله كالصاعقة: تخجل أن تراني معك؟ وأولادك؟
عاد يبتسم في هدوء : يخجلون أن يروك معي.
المريض :
إلى هذا الحد يا محمد؟ تخجلون مني أنا؟ تطردونني من جنتكم؟
محمد :
الانتهازيون لا يدخلون الجنة.
المريض :
بكيت وسقطت على قدمي. لا تكن قاسيا يا محمد. حتى إبليس يعفو الله عنه وأنت لا تعفو.
محمد :
الانتهازيون لا يدخلون الجنة.
المريض :
تطردني وتخجل مني؟ تطردني وتخجل مني؟
محمد :
اذهب يا محمد دربالة، اذهب وطهر ثوبك، اذهب، اذهب، اذهب.
5
الطبيب :
وماذا بعد؟
المريض :
وجدتني وحيدا في الشارع، غريبا في الحي الذي احتضن أيام شبابي، مطرودا من الحجرة التي جعت فيها وتمردت وأحببت.
الطبيب :
تقصد من الجنة؟
المريض :
نعم نعم، تلك المغارة الرطبة بدت لي كأنها الجنة، ولكن رضوان وقف على بابها كالجلاد القاسي.
الطبيب :
رضوان؟
المريض :
أقصد محمد دربالة، هذا الموظف الحقير درجة خامسة، هذا الفقير الفظ يطرد وكيل الوزارة. والذي أغاظني أكثر ...
الطبيب :
ماذا؟
المريض :
أن أولاده وزوجته رفضوا أن يسلموا علي، أن زينب خجلت من أن تراه معي!
الطبيب :
زينب الجميلة كفينوس، الشفافة كالملائكة في الفردوس؟
المريض :
نعم هي، لقد تركتني وتزوجته.
الطبيب :
هل كنت نسيت هذا؟ هل تذكرته فجأة؟
المريض :
بل كنت أعرفه؛ ولهذا تناسيته متعمدا. قررت بيني وبين نفسي أنهما قد ماتا إلى الأبد. صممت أن أتركهما في الوحل وأصعد بجهدي وعرقي إلى النجوم. اندفعت في طريق المجد وتركتهما ورائي في الغبار والضباب. كنت أريد أن أحطم صنم غرورهما.
الطبيب :
وغاظك أنه لم يتحطم.
المريض :
هذان التعيسان، بقيا على غرورهما الكاذب، فضلا الحياة في الوحل والظلام وتصورا أنهما في الجنة.
الطبيب :
وزرته بعد ثلاثين سنة فطردك منها.
المريض :
الحسود الحقير، ظل يلاحقني كالكلب المسعور بشتائمه.
الطبيب :
ووجدت نفسك تقف وحيدا في الخلاء.
المريض :
آه! إنك لا تدري ماذا جرى لي في هذه الليلة.
الممرضون :
طرد الشيطان من الجنة.
يا للكارثة ويا للمحنة!
المريض :
أنا الشيطان أم هو؟ حتى الشيطان يمكنه أيضا أن يبكي.
الطبيب :
كنت حزينا؟
المريض :
الحزن لا يكفي، سمها الزلزلة أو الصاعقة. أحسست كأني أتعرى في الشارع.
الممرضون :
من ثوبك المستورد البديع
من عرشك المنمق الرفيع.
الطبيب :
أرجوكم.
المريض :
لو كنتم معي لوقفتم بجانبي في تلك الليلة.
الطبيب :
أكمل، كنت وحيدا.
المريض :
عاريا من كل شيء؛ المنصب سقط مني، الفيلا تداعت وأصبحت حطاما. أنوار المجد انطفأت، والمرسيدس بدت كعربة كارو يسوقها حصان عجوز أجرب. وملت على جدار جامع الحسين وأخذت أبكي وأنادي ابنتي.
الطبيب :
تناديها؟ ألم تكن تعرف أنها ماتت؟
المريض :
لا لا، كان العالم كله قد مات، إلا ابنتي، هي الوحيدة التي استجابت لندائي؛ هي الوحيدة التي هرعت إلي ... تقدمت نحوي في ثوبها الأبيض المرصع بالذهب وهي تقول: أبي، تعال يا أبي. (يبكي.)
الطبيب :
لا تبك، أرجوك تماسك ولا تبك.
الممرضون :
ها أنت وحيد ضائع،
مع فيلتك وعربتك وزيف المجد الخادع،
ترقص مذبوحا وسط الشارع،
كمهرج سيرك يقف على جثمان ابنته،
يندب بالصوت الدامع.
نهاز الفرص البارع،
ذئب مسعور جائع،
اختلط الأمر عليه،
فحسب الطمع طموحا،
والجشع كفاحا،
وتسلل كالثعبان إلى العش الهاجع،
وجد الرزق متاحا؛
قطعا من لحم الفقراء،
ومزقا من ثوب الفقراء،
وبقايا عفن سماه نجاحا.
نهاز الفرص البارع،
ذئب مسعور جائع.
ها أنت وحيد ضائع،
ها أنت وحيد ضائع.
الطبيب :
بكيت كثيرا.
المريض :
ككلب مريض يستند إلى جدار وينتظر الموت.
الطبيب :
الدموع جسر ينقلك إلى بر الشفاء.
المريض :
حذار أن تعود لاتهامي بالجنون!
الطبيب :
إنني طبيب.
المريض :
هم الذين أوحوا إليك بهذا، هم الذين تآمروا علي. إنني وحيد يا دكتور.
الطبيب :
لست وحيدا. إنهما معنا الآن.
المريض :
من؟ الذين تآمروا علي؟
الطبيب :
لم يتآمر أحد عليك.
المريض :
بالطبع يا دكتور، محمد دربالة يتهمني بقتل ابنتي.
الطبيب :
أنت محمد دربالة.
الممرضون :
أنت محمد دربالة.
المريض :
إنه يتهمني بقتل ابنتي.
الممرضون :
لم يقتلها غيرك.
المريض :
أنا أقتل ابنتي؟ كيف تصدقونه؟ إنه يحسدني ويحقد علي.
الممرضون :
لم يحسده ولا حقد عليه سواك.
المريض :
أنا أحسد هذا الحقير؟ موظف الدرجة الخامسة؟ الجثة المتعفنة كالضفدعة الغبية.
ثلاثون سنة في الأرشيف؟
الممرضون :
أنت محمد دربالة،
أنت الجثة والضفدع،
كنت ربيب الأرشيف،
وكنت الوحل، المستنقع.
المريض :
وخرجت منه بعزيمتي. بهمتي طفوت على السطح، صعدت القمة وتركت محمد دربالة في السفح.
الممرضون :
أنت محمد دربالة،
ومحمد دربالة هو أنت.
المريض :
مستحيل، مستحيل، قل لهم أيها الطبيب.
الممرضون :
وطبيبك يعرفك الآن،
ويعلم أنك حين سرقت السلم وتسلقت،
وتوهمت بأنك فوق القمم جلست،
وللمجد وصلت،
قد خنت محمد دربالة.
المريض :
أنا لم أخن أحدا.
الممرضون :
نفسك خنت،
نفسك خنت.
المريض :
ساعدني يا دكتور، مساعدوك تخلوا عني.
الممرضون :
أنت الآن وحيد ضائع،
أنت الآن وحيد ضائع.
الطبيب :
لا ليس وحيدا، ها هي زينب.
المريض :
زينب ماتت، ماتت عندما تركتني وتزوجت محمد دربالة.
الممرضون :
الصمت الصمت،
يموت الموت،
وحبك لا يعرف طعم الموت.
المريض :
زينب ماتت.
زينب (تظهر بجوار الطبيب) :
لم أمت يا محمد، أنا زوجتك.
المريض :
أنت زينب أخرى، قتلتني واتهمتني بالقتل والجنون.
زينب :
أنا حبيبتك.
الممرضون :
جميلة كأنها فينوس، شفافة كأنها الملاك في الفردوس.
المريض :
لا لا، قلت لكم لقد تركتني وتزوجت محمد دربالة.
الممرضون :
أنت محمد دربالة،
زينب لم تتركك ولم تتزوج دربالة،
هي هي تقف أمامك.
تدعوك: تعال، تعال.
المريض :
محمد دربالة هناك، في حجرته المظلمة في الحسين.
زينب :
ليتنا بقينا فيها، هل تذكر أيامنا الأولى؟ كنا مستورين كأنا في الجنة.
المريض :
سمعتم؟ وأنا أخرجتها من جنتها لتحيا في جحيم الفيلا على شاطئ النيل؛ ولهذا تركتني وذهبت إليه.
زينب :
لم أتركك ولم أذهب إليه.
المريض :
وتذكرين؟ ذهبت إليه وخلفت منه عشرة أولاد وخمس بنات.
زينب :
لم نخلف إلا بنتا واحدة يا محمد، وابنتنا (تبكي) .
المريض :
قوليها، أنا الذي قتلتها؟
زينب :
تأخرت عليها بالدواء.
المريض :
نفس القصة، ماتت وهي تنادي بابا، تعال يا بابا.
زينب :
طالما نادت عليك، طالما اشتاق صدرها لحنانك، وعندما اشتدت عليها الحمى ...
المريض :
وهل أنا طبيب؟ هل كنت في علم الغيب؟ ألم أفعل كل شيء من أجلها؟ هل تعبت إلا لإسعادها؟
زينب :
وسعادتها بك، هل فكرت فيها؟
المريض :
والمبلغ المحترم في البنك بعد وفاتي؟ والمركز والمنصب والسمعة؟ ألم تكن لإسعادها؟
زينب :
لا تساوي قبلة على وجهها، بسمة على فمها، ومرور يديك على شعرها ورأسها قبل أن تنام.
المريض :
أحلام نساء، تريد أن أتركها للكلاب تنهشها، للمستقبل المجهول يفترسها، تريد أن أجلس في البيت لأداعبها.
زينب :
كنت دائما مشغولا عنا، هل رأيتني لحظة واحدة؟ هل لاحظت المرأة التي في نفسي وجسدي؟ هل نظرت في المرآة لترى الشخص الآخر الذي يأكل وينام معي.
المريض :
لهذا تخليت عنه؟
زينب :
نعم، ذهبت لمحمد دربالة الذي أحببته وأحبني عندما كنا في حجرتنا المظلمة في الحسين، لموظف الأرشيف الذي عشت معه تحت سقف الستر والشرف.
المريض :
سمعتم؟ تعترف بخيانتها، بعظمة لسانها تقول إنها تركتني.
زينب :
بعد أن تركتنا أنا وابنتي ورحت تلهث وراء الدرجة والفيلا والمرسيدس.
المريض :
نفس كلام محمد دربالة.
زينب :
أرأيت؟ أنت تتهم نفسك بنفسك. محمد دربالة خان محمد دربالة. كل شيء تغير فيك، نظرة عينيك وحركة شفتيك، وجهك تغير من كثرة الخطوط التي حفرها عليه التعب والخوف، والقلق والأرق، حتى جسدك لم أعد أعرفه من كثرة الانحناء والركوع.
المريض :
ولماذا لا تقولين من شدة الجهد والتعب. قضى علي المجتمع بالسقوط في الحضيض. لكنني تحديته وارتفعت بكفاحي إلى السماء، أصبحت غولا لكي أحميكما من الغيلان.
الممرضون :
حجة كل الأبطال بهذا العصر وكل الفرسان؛
ولهذا صار المجتمع بفضلك،
أنت وأمثالك غابة غيلان .
وتوارى عنه الفرسان.
زينب :
ولهذا لم تنشغل عنا وحدنا، حتى أمك.
المريض :
أمي؟
زينب :
نعم أمك، كانت في القرية تحتضر وأنت مشغول عنها.
المريض :
أرسلت إليها كل شهر ما يكفيها، كلفت أحسن الأطباء بعلاجها.
زينب :
وماتت وهي تنادي باسمك.
المريض :
هل قصرت أبدا في حقها؟ هل بخلت عليها بشيء؟
زينب :
قصرت في أهم شيء، في نفسك.
المريض :
عملت لها مأتما لم تشهده البلد كلها، أحضرت لها أعظم المقرئين.
زينب :
كانت تريد ابنها ولا تريد ماله. ماتت وهي تردد اسمك. كما ماتت أحلام، كما ماتت أحلام (تبكي) .
المريض :
نفس كلام محمد دربالة.
الممرضون :
أنت محمد دربالة.
المريض :
لقد تآمر مع زوجته علي.
الممرضون :
زوجته هي زوجتك حبيبة عمرك.
المريض :
لا لا، إنهما يتآمران علي، كلكم تتآمرون علي. إنني وحيد، وحيد.
الطبيب :
ابك فإن دموعك هي جسر شفائك.
المريض :
وأنتم أيضا؟ ألم يبق لي أحد؟
الطبيب :
يبقى أن تعرف نفسك.
الممرضون :
تعرف سر دوائك،
أنت محمد دربالة،
فاعلم أن رداء الشرف،
على كتفيه نفس ردائك.
زينب هي زوجتك، حبيبة عمرك،
قبلة أملك ورجائك.
المريض :
زينب تركتني، تركتني.
الطبيب والممرضون :
تركت كلب السلطة والسلطان لترجع للإنسان.
وتخلت عن جنتك الزائفة؛
لتسقط في نيران الأحزان.
المريض :
أنتم ضدي، هذا حكم بالإعدام.
الطبيب والممرضون :
لسنا بقضاتك، نحن شهود عيان.
لا شأن لنا بالحكم أو الأحكام.
المريض :
الكل تخلى عني. لم تبق سوى أحلام.
الطبيب والممرضون :
أحلام، في القبر الآن.
المريض :
بل في الجنة، يا أحلام، يا أحلام.
الطبيب والممرضون :
ارجع يا مسكين.
الزوجة :
ارجع لحبيبة عمرك.
المريض :
عودي أنت إليه.
الزوجة :
قلبي هو نفس القلب،
وفي لك وأمين،
تعال، تعال.
المريض :
هي تدعوني.
الزوجة :
ردوه، ردوا العقل إليه.
مدوا جسرا ليسير عليه.
لا تدعوه يسقط منكم في جوف الموج.
هل قضي علي بموت الابنة وجنون الزوج؟ ...
المريض :
أحلام تنادي.
الطبيب والممرضون :
ارجع يا مسكين، ارجع يا مسكين.
المريض :
أحلام، أحلام.
6 (تظهر الرؤيا التي عرفناها في المشهد الثاني. النور الأخضر الشاحب يغمر المكان، الملاك الأسود الصامت يسحب «أحلام» من يدها، والممرضون في ثياب بيض وأجنحة ملائكة يزفونها، إلى اليمين باب الجنة، تحيط به جوقة ملائكة في صورة أطفال مجنحين مكللين بالزهور، أما في عمق المسرح فيبدو الطبيب والزوجة كأنهما شبحان في الظلام.)
المريض :
إلى أين تذهبين يا أحلام؟
أحلام :
الله دعاني،
لبيت الدعوة.
والملك الحاني،
يعبر بي الهوة.
المريض :
انتظريني يا حبيبتي.
الممرضون :
انتظرتك طويلا وتأخرت
راحت تحتضر وفات الوقت.
المريض :
تأخرت يا حبيبتي، لم يكن الأمر في يدي.
الممرضون :
نادت باسمك حتى اختنق الصوت،
نادت فأجاب الموت،
ورد الصمت.
المريض :
وأحضرت الدواء معي.
الممرضون :
لكن بعد فوات الوقت، بعد فوات الوقت.
المريض :
والعروس يا حبيبتي، العروس الجميلة لم أنسها.
أحلام :
ها هي يا أبي، تعال العب معي.
المريض :
مدي ذراعيك يا حبيبتي.
أحلام :
تعال يا أبي.
المريض :
خذي بيدي.
أحلام :
ساعده أيها الملاك. (الملاك الأسود ينظر إليه في صمت.)
الممرضون :
مثلك لا يدخل من باب الجنة.
طهر ثوبك، طهر قلبك؛
فلعلك تجتاز المحنة.
المريض :
أرجوكم، دعوها تساعدني.
الممرضون :
لا تستطيع، لا تستطيع.
المريض :
إنني أتألم يا حبيبتي.
أحلام :
أيا حبيب روحي،
فراشتي تطير،
للنار أو للنور،
في صدرك الجريح.
المريض :
ساعديني يا حبيبتي.
أحلام :
لا تبك يا أبي،
فإنني فداك.
غدا سنلتقي،
موعدنا هناك.
المريض :
الجرح عميق يا ابنتي.
أحلام :
ستسكت الجراح،
وينطفي الحريق.
وزهرة الصباح،
تضيء لي الطريق.
المريض :
طريقي مظلم يا حبيبتي.
أحلام :
ودموعي ستضيء طريقك.
المريض :
ذنبي أكبر من أن يغفر.
أحلام :
غفراني أكبر من ذنبك.
المريض :
إن أنت عفوت فهل يعفون؟
أحلام :
باب الجنة أوسع مما يدرون.
المريض :
باب الجنة؟
الممرضون :
لا يتسع لمثلك يا ملعون.
المريض :
سمعت؟
أحلام :
وشل الخوف جناني،
شل عيوني،
لم تقسون عليه،
وتسدون الباب،
وتتجنون؟
يا أبت، كفكف دمعك.
الممرضون :
طهر ثوبك يا مسكين،
واغسل بدموعك رجس سنين،
لن نغفر ذنبك نحن،
فهل تغفره أرض الوادي؟
هل يغفره ماء النيل، العشب، الطين؟
بنيت الفيللا، هل فكرت،
فيمن يسكن وسط الأموات؟
وتسلقت على الأعناق، نهبت الفرص ،
وفي رأسك أحلام المجد،
وفي جيبك دفتر شيكات،
ونسيت ألوف المحرومين من الأقوات،
ألوف حفاة وعراة،
إلا من حظ الأموات.
عشت لنفسك والنفس،
إذا لم تحي لغيرك، قبر وجحيم.
وظننت بأنك حلقت من الوحل إلى الأنجم،
لم تدر بأنك في الوحل مقيم.
طهر قلبك يا مسكين،
واغسل ثوبك بدموع العين،
لعلك تغسل رجس سنين.
أحلام :
يا أبتي طهر ثوبك.
الممرضون :
كفر ذنبك.
أحلام :
والله غفور يا أبت، حنون.
الممرضون :
سنسوق ابنتك إلى الجنة.
أحلام :
وغدا ألقاك، ويهنأ قلب محزون.
الممرضون :
لن يدخلها نهاز الفرص لعين،
لن يدخلها غير شريف ونزيه وأمين.
أحلام :
يا أبت وداعا،
ها أنا ذا أسبقك إليها.
المريض :
هذا يكفيني. (الممرضون يلتفون حول الصبية ويغنون):
تقدمي يا صغيرة،
كنجمة أو أميرة،
على جناحي ملاك،
تزفك الأفلاك.
أحلام :
يا أبت، وداعا،
لا تتأخر.
المريض :
لن أتأخر،
لن يشغلني شيء عنك.
أحلام :
يا أبت، سلاما.
المريض :
لا تنسيني
لا تنسيني. (الممرضون والجوقة من الأطفال الملائكة يحيطون بها. تتقدمهم إلى الباب الذي يفتح للموكب الجميل بينما تغني.)
أحلام :
الله دعاني
لبيت الدعوة
والملك الحاني
يعبر بي الهوة
الجميع :
ستدخلين الحديقة
تحفك الأنغام
وتعرفين الحقيقة
وتقرئين السلام
على الزهور الرقيقة
والفجر والأنسام
أحلام :
يا أبت، وداعا،
لا تنس الموعد.
المريض :
لا، لن أتأخر،
فامضي بسلام،
هذا يكفيني.
الممرضون (يلتفتون إليه قبل أن يغيبوا وراء الباب) :
طهر قلبك،
كفر ذنبك،
رد الدين،
واغسل ثوبك،
يا مسكين بدمع العين.
أحلام (هي تختفي وراء الباب) :
يا أبت، وداعا.
المريض (وهو ينشج) :
سأطهر قلبي،
وسأغسل ثوبي،
فامضي بسلام،
امضي بسلام،
هذا يكفيني.
أحلام :
يا أبت، وداعا.
المريض :
لا، لا تنسيني،
لا، لا تنسيني.
الموكب :
تقدمي يا صغيرة،
كنجمة أو أميرة،
على جناحي ملاك،
تزفك الأفلاك. (بينما تتردد أنغام الأغنية الأخيرة يتقدم الطبيب والزوجة إلى النور، ينحنيان على المريض ويمدان إليه أيديهما. ينهض في هدوء ويسلم إليهما يديه ويمضي الجميع ليختفوا في قاع المسرح وتسدل الستار.)
1982م
الموت والمدينة
مسرحية في مشهدين
الشخصيات
الراوية.
الشبح.
الملك .
الكاهن.
القائد .
الوزير.
الكاتب.
الحكيم.
المتعب من الحياة.
رسول من ملك الهكسوس.
حراس.
أفراد من الشعب.
أصوات. (تقوم هذه المسرحية على قصة مصرية قديمة هي قصة «الشبح». وتروي عن ملك عجوز تطارده وتؤرق نومه روح ميت تهدم قبره ولا تهدأ حتى يأمر الملك ببناء قبر جديد له (انظر كتاب «روايات وقصص مصرية»، ترجمها إلى الفرنسية جوستاف لوفيفر وإلى العربية الدكتور علي حافظ). أما قصة ملك الهكسوس المتبجح - الذي تزعجه أصوات أفراس البحر في طيبة بينما هو في شرق الدلتا! - فهي أشهر من أن تذكر، وأما الأشعار المنبثة في المسرحية فقد استوحيت بعضها من «نذر أيب أور» وبعضها الآخر من حديث متعب من الحياة مع نفسه - في ترجمتي أرمان وفوكنر - وكلاهما من أروع نصوص الأدب المصري القديم، وكنت قد قرأت نص حديث المتعب في أصله الهيروغليفي قبل أكثر من عشرين عاما. كتبت المسرحية بعد نكسة 1967م وقامت بتمثيلها فرقة المسرح الوطني ببنغازي وبعض فرق الهواة من جامعات الأزهر والمنصورة والثقافة الجماهيرية ببورسعيد وكلية الآثار، كما أذيعت من البرنامج الثاني بإذاعة القاهرة من إخراج الأستاذ هلال أبو عامر.)
المشهد الأول (قاعة العرش والعدالة في قصر فرعون العجوز. إلى الخلف شرفة كبيرة بابها مفتوح. يدخل الراوية في الظلام يقف في مقدمة المسرح ويسلط عليه الضوء. يلاحظ أن الشبح لا يراه طوال المسرحية إلا الملك ولا يكلم أحدا سواه.)
الراوية :
في أوقات المحن والأزمات،
وحين تتكاثر على الناس الظلمات،
ويبتعد النور ويغيب،
يتلفت القلب للتاريخ،
تقلب اليد أوراقه وسجلاته،
يحس دبيبه في قطرات دمه،
يشعر بعبئه فوق كاهله،
يقول: آه! ماذا فعل أجدادي؟
وإذا رأى أنهم كانوا عاجزين،
يسأل نفسه: لماذا عجز الأجداد؟
ونحن قد بحثنا كثيرا في الأوراق والنقوش والسجلات؛
فقفز أمامنا ملك عجوز،
والقفز هنا من قبيل المبالغة والتهويل؛
فهو في الحقيقة شيخ مريض مسكين
يعجز حتى عن تحريك إصبعه،
ينام على نفسه بالليل والنهار،
وإذا صحا فلكي يسأل: ما العمل يا أولادي؟
ثم يعود للنوم أو للموت من جديد.
يقال إنه حكم أربعا وتسعين سنة،
وهذا أيضا، كما ترون، من قبيل المبالغة والتهويل،
على أن هذا كما قلنا لكم تاريخ قديم،
فلا تحكموا عليه بميزان العقل والتفكير،
بل عيشوا لحظة في جنة الخرافات والأساطير،
وشاهدوا ذلك الملك المسكين،
وارثوا له إن شئتم أو اضحكوا عليه؛
لأنه سيظهر لكم بنفسه بعد قليل. (ينحني الراوية معتذرا ويختفي.) (بينما يدخل الملك العجوز وهو يجري مذعورا.)
الملك :
الشبح عاد، الروح يطاردني، أيقظني من النوم وجرى ورائي، ها هو يتبعني، ها هو يتقدم ويبتسم ويضحك، أنقذوني يا أولادي، أين أنتم يا حراس، يا حراس؟
الحارس :
مولاي ينادي؟
الملك :
مولاك يصيح يا ولدي، مولاك يستغيث.
الحارس (متثائبا) :
ادع الآلهة يا مولاي.
الملك :
ادعها أنت يا ولدي، اطلب منها الحماية والأمان لمولاك.
الحارس :
أيها الإله رع، أيها الإله بتاح، يا كبير الآلهة آمون ...
الملك :
ألم يتزحزح من مكانه؟!
الحارس :
من يا مولاي؟
الملك :
ألا تراه، أيمكن أن يضحك ولا تسمعه؟
الحارس :
أيها الآلهة العظام، رع وآمون ...
الملك :
كفى كفى، اذهب ونادهم، قل لهم يحضروا جميعا.
الحارس :
من يا مولاي؟ من الذي تريده جلالتك الملكية؟
الملك :
أيها الغبي، إنك تنام فكيف توقظ النيام؟ اذهب ونادهم جميعا، أفزعهم وهزهم من أكتافهم. قل لهم مولاك ينتفض ويرتعش ويصيح.
قل لهم: عاد يطارده من جديد. قل لهم.
الحارس (متثائبا) :
ولكن هل يتكرم مولاي ويقول لي من هم؟
الملك (صارخا) :
حرسي وحاشيتي يا غبي، الكاهن والوزير، والقائد، والكاتب، هيا، هيا. (يذهب الحارس متباطئا وهو يهز رأسه تعجبا.)
الملك :
ما زلت تقف هناك وتبتسم. ماذا تريد؟ هل أقذف بنفسي من الشرفة؟ هل يرضيك أن تبقى البلاد بلا راع؟ تكلم. اصرخ في أذني قبل أن يأتوا. قل أي شيء، اطلب من تشاء، من أين أتيت؟ عم تبحث؟ ماذا يرضيك؟ في كل ليلة تفزعني. ألا ترى ضعفي؟ ألا ترحم شيخوختي؟ ألا تعلم أنني أحكم البلاد؟ (الشبح يبتسم من بعيد ويقترب منه)
أرجوك، ابتسم كما تحب ولكن لا تقترب مني، تسعون سنة وأنا أحكم البلاد، أتبتسم أيضا ؟ ألا يرضيك هذا العدد؟ ألا تقول كلمة واحدة؟ أتريد أن تتكلم أمامهم؟ هل تخشى أن أكون قد أصبت بالصمم؟ هل تصدق أنني لا أحرك حتى إصبعي؟ تكلم. تكلم. لا تنس أنني فرعون. لا تنس أن لدي القوة والرهبة والجلال، حتى ولو كنت في التابوت، أما زلت تبتسم؟ ها هي خطواتهم قادمة، أتوسل إليك. (يدخل الكاهن الأكبر، يتبعه بعد قليل الوزير فالقائد. يرتبون ملابسهم بسرعة أو يمسحون عيونهم أو يسوون شعورهم - فيما عدا الكاهن الأصلع بالطبع - من أثر النوم.)
الملك :
ها هم قد جاءوا.
الكاهن :
مولاي الملك العظيم.
الملك :
مولاك مسكين، مولاك مطارد.
القائد (يدخل مسرعا) :
من يجرؤ أن يطارد مولاي؟ أليس في القصر حراس؟ أليست معهم خناجر وسيوف؟
الوزير (مسرعا) :
تكلم يا مولاي، أين هم الأعداء؟
الملك :
لا لا. لا تقولوا هذا، أخفوا الخناجر والسيوف. اخفضوا أصواتكم.
الكاتب (مسرعا بدفاتره وأوراقه) :
ها أنا قد جئت يا مولاي، معي الدفاتر والوثائق والسجلات، ومعي الريشة والمحبرة والأقلام. أمل علي وليسجل التاريخ.
الملك :
إنه يقف هناك.
الجميع :
أين يا مولاي؟
الملك :
ألا ترونه؟ ألا تخيفكم ابتسامته؟ ألم يطاردكم أيضا في الليل؟ ألم يهزكم من النوم؟
الجميع :
نحن لا نرى شيئا يا مولاي، لكن عينكم الملكية ...
الملك :
عيني الملكية؟ أيمكن أن تبصر ما لا تبصرون؟ تكلموا إليه يا أولادي، تكلموا.
الجميع :
ماذا نقول يا مولاي؟
الملك :
اسألوه ماذا يريد؟ لماذا يفزع مولاكم العجوز؟
الجميع :
تكلم، تكلم (يذهب كل في اتجاه) .
الملك :
هنا هنا، ها هو أمامي، ما يزال يبتسم.
الجميع :
قل ماذا تريد؟
الملك :
تكلم أيها الروح الجليل، قل للكاهن: ماذا تريد؟
الكاهن (يتقدم إليه ولا يراه) :
أخبرني: ماذا تريد؟ لماذا خرجت من قبرك المقدس؟ من أنت حتى أقدم باسمك قربانا للآلهة وأعمل كل ما يجب علي. ألا تريد قربانا باسمك؟ باسم أبويك العظيمين؟
الملك :
إنه يهز رأسه، تكلم تكلم.
الكاهن :
أنا على استعداد لتنفيذ رغبتك، أقسم بآلهة السماء والأرض، والشرق والغرب، والجنوب والشمال، قل لي أين تقع مقبرتك. سأعمل على تجديدها. سآمر لك بتابوت جديد. لن تحتمل برد الشتاء إن كنت عاريا، وإذا جعت فلن تحرم من الخبز والنبيذ.
الملك :
ما يزال يهز رأسه، استمر، استمر.
الكاهن :
لا تجعل قلبي يضطرب كالنيل في الفيضان. هل يرضيك أن أصوم عن الأكل والشرب؟ إن لم تتكلم فلن أبصر أشعة الشمس ولن أتنسم نسيم الشمال. ما دمت أيها الروح تأتي كل يوم ومعك الظلمات.
الملك :
أرجوك، قل لهم: من أنت؟
الوزير :
أكنت رئيسا لخزائن الملك؟
القائد :
أم أميرا للجيش؟
الوزير :
أم رئيسا للديوان؟
الكاتب :
أم الكاتب الأول لفرعون؟
الكاهن :
ألم تمنح أوعية التحنيط الأربعة؟ ألم يضعوك في النعش المصنوع من الرخام الأبيض؟ ألم تدفن في قبر مذهب الأبواب والجدران؟
الملك :
تكلم تكلم. هل تهدم القبر وانهار؟ هل أصبحت الرياح تهب داخله؟
الوزير :
أقسم أنني سأعيد بناءه.
الكاهن :
وسأجعل لك خمسة عبيد من الرجال وخمسا من النساء.
الوزير :
ليصبوا لك الماء ويقدموا لك زكيبة قمح كل يوم.
الكاهن :
ومن أجلك سنقدم القرابين ونريق الخمر والماء.
الكاتب :
كلمني عن اسم أبيك وأمك العظيمين. الوثائق معي والسجلات.
الوزير :
أو اسم أولادك وأحفادك. أقسم لك أن أعينهم في أعلى المناصب وأعفيهم من الضرائب والرسوم.
القائد :
وسآمر لكل منهم بخنجر من الذهب وسيف من البرونز، وسيذهبون معي لتأديب البدو في الصحراء (الشبح يبتسم) .
الملك :
ما زال يبتسم، بل إن ابتسامته تتسع.
الجميع :
تكلم تكلم أيها الروح العظيم.
نتضرع إليك باسم الآلهة المقدسين،
وباسم هذا الملك الشيخ الجليل.
سيصعد الرجال بقارب في النيل نحو الشمال،
وسيبحثون عن المكان العظيم،
الذي ستخلد فيه أيها الروح.
الملك :
شكرا يا أولادي. ها هو يفتح فمه.
الجميع :
ماذا يقول؟ ماذا يقول؟
الملك :
أنصتوا. تكلم أيها الروح، لم جئت من بلد الموت؟
الروح :
عليك أن تحسن السؤال؟
الملك :
وماذا أقول؟ ماذا أقول؟
الروح :
تقول: لم جئت إلى بلد الموت والأموات؟
الملك :
بلد الموت والأموات؟ أين هي أيها الروح؟ من هم؟
الروح :
تحت أقدامك، أمام عينيك، في كل مكان.
الملك :
لا أفهم أيها الروح. ما اسم هذه البلد ؟ صفها لي.
الروح :
هي البلد التي يحكمها الموت.
الملك :
ألا تفسر كلامك أيها الروح؟ أهناك حاكم غيري؟ (الروح يبتسم.)
الملك :
عدت للابتسام. (الروح يضحك.)
الملك :
وتضحك أيضا؟
الجميع :
نحن لا نسمع الضحك ولا نرى الابتسام.
ليته يتكلم لنعرف ما يقول،
ليته يتكلم لنعرف ما يريد.
الروح (ضاحكا) :
لا يسمعون ولا يبصرون ولا يشعرون. ألم أقل لك إنها بلد الأموات؟
الملك :
لكن يا ولدي، ماذا تريد بهذا الموت؟ من تقصد بالأموات؟
الروح :
الموت في الضمير، والموت في الصدور، والموت في التراب.
الملك :
رجعت للألغاز؟
الروح :
أتريد أن تراهم؟ ها هو أحدهم.
الملك :
أين؟ أين؟ (يسمع صوتا عميقا مهيبا يأتي من بعيد) : لديك الحكمة والعدالة، لكنك تترك الفساد ينتشر في البلاد.
الروح :
سمعت؟
الملك :
من هذا؟
الروح :
أتحب أن تراه؟
الملك :
إن كان هذا يرضيك.
الروح :
ها هو يطرق الباب، هل تأذن له بالدخول؟
الملك :
أدخلوه، أدخلوه.
الجميع :
من يا مولاي؟ من؟
الملك :
أيها الموتى، ألا تسمعون الطرق على الباب؟ (الشبح يبتسم بينما يهرع الجميع لفتح الباب، يدخل شيخ عجوز أعمى يتوكأ على عصا طويلة، يتحسس طريقه إلى الملك بعد أن يقترب من الكاهن والوزير ... إلخ. ويلمسهم بيده واحدا بعد الآخر.)
الملك :
إنه أعمى.
الروح :
إنه حكيم.
الملك :
أهذا هو الموت؟
الروح :
استمع أولا لما يقول.
الحكيم :
أين أنت أيها الملك؟
الملك :
إنه يتجه نحوي.
الحكيم :
يا من تقبع في قصرك من مئات السنين؟
الملك :
غير صحيح. إنني، كما يقولون، لم أحكم أكثر من تسعين.
الحكيم (بعد أن يتعرف عليه يمد يديه نحوه ويهزه من صدره) :
كذبوا عليك، كذبوا عليك.
الملك :
من أيها الحكيم؟ من؟
الحكيم :
يقولون: لديك الحكمة والبصيرة والعدالة.
الملك (للكاهن والوزير ... إلخ) :
سمعتم؟ يقول لدي الحكمة والبصيرة والعدالة.
الجميع :
يا له من شيخ حكيم!
الحكيم :
ولكنهم كذبوا عليك.
الملك :
هل كذبتم علي حقا؟
الحكيم :
فتركت الفساد ينتشر في البلاد،
والبلاد تشتعل والشعب على شفا الهلاك.
الملك :
الشعب؟ سمعت هذه الكلمة من قبل. لماذا لم تقولوا لي من هو الشعب ؟
الروح :
لا تقاطعه أيها الملك. انتظر ولا تقاطعه.
الحكيم :
انظر. إن السرور قد مات.
ولم يبق حيا على الأرض إلا أنين المظلومين.
أنني أقف في قاعة العدالة ...
لكن العدالة موجودة باسمها فقط.
وحين يلجأ الناس إليها لا يلقون إلا الظلم.
الملك :
ليس هذا صحيحا. لم يلجأ إلي أحد أيها الشيخ.
الروح :
انتظر. قلت لك انتظر.
الحكيم :
العظيم والحقير كلاهما يقول: ليتني كنت ميتا. الطفل الصغير يصرخ ويقول: ليتني لم أولد. القطعان قلوبها تبكي.
الملك :
حتى القطعان أيها الحكيم؟
الشبح (يبتسم) :
ألم يقل إنهم كذبوا عليك؟
الملك (صائحا) :
لم كذبتم علي؟ كيف حجبتم الناس عني؟
ألم يهزكم بكاء الطفل وأنين القطعان؟
الجميع :
أتكلمنا يا مولاي؟
أم تكلم الروح الخالد العظيم؟
الكاهن :
باسم الآلهة المقدسين.
الروح :
أسكتهم.
الملك :
اسكتوا، أنصتوا لما يقول الحكيم.
الجميع :
الحكيم؟ يا له من أخرس حكيم! (يضحكون بصوت عال.)
الملك :
تكلم أيها الحكيم، تكلم إلي بالحكم والأمثال.
الحكيم :
ليتني كنت أعرف كلاما لا يعلمه أحد، أو أمثالا جديدة لم يرددها لسان، أو أحاديث خالية من التكرار لم يقلها الأجداد.
انظر. القلب الشجاع هو رفيق صاحبه في الملمات، فتعال إذن يا قلبي لأتحدث إليك.
الملك (للروح) :
سمعت؟ إنه لا يريد أن يتحدث إلي. أنا مولاك. إنني أسمعك. إنني أقف أمامك.
الروح :
قلت لك لا تقاطعه.
الحكيم (مستمرا) :
أجبني يا قلبي، وفسر لي ما يقع في البلاد.
الملك (للروح) :
أيعجبك هذا؟ أيرضيك أن يتجاهلني؟
الروح :
هش.
الملك :
إنني لا أطيق هذا.
الروح :
طالما تكلموا وتكلمت. تعلم الآن أن تسمع وتنصت.
الملك :
وهل تقول الحقيقة أيها الحكيم؟ حذار.
الروح :
حاذر أنت واستمع.
الحكيم :
إن المصائب تقع اليوم، وكوارث الغد لم تأت بعد،
والناس كلهم لاهون،
مع أن البلاد في اضطراب عظيم.
إنهم يستيقظون كل صباح ليتألموا،
ولكن قلوبهم راضية بما حدث،
وما من أحد يدفعه الغضب إلى الكلام.
آه! ماذا أقول؟ ماذا أقول؟
إن همي ثقيل ومرضى طويل.
ومن المؤلم أن يظل الإنسان ساكتا على ما يسمعه ويراه.
الملك :
يسألني: ماذا أقول؟ هل قال لي: ماذا أفعل؟
الروح :
الحكيم لا يفعل، الحكيم يقول.
الملك :
لكن صوته لم يصلني.
الروح :
أتظن أنك كنت تصدقه؟ (يشير إلى الكاهن والقائد ... إلخ.)
الملك :
كنت أظن أن كل شيء على ما يرام.
الكاهن :
نعم، هذا ما قاله بتاح حوتب من أزمان.
الروح :
لكنه انتهى إلى الأبد. ألا تفهم ما قاله الحكيم؟
الملك :
ألا يزال لديه ما يقول؟
الروح :
هل تحب أن يحكي لك عن اللصوص والأشرار الذين يجوبون الطرق ويملئون مخازنهم بالغلال؟ أم عن قوانين العدل التي يدوسها الناس بالأقدام؟
الحكيم :
كل شيء يدور مقلوبا على رأسه كما تدور عجلة صانع الفخار.
الملك :
قل له يكف عن الكلام، اسأله ماذا أفعل؟ ماذا لو كان مكاني؟
الروح :
ألا تنتظر حتى يحدثك عما فعله الأعداء؟
الملك :
الأعداء؟ وهناك أعداء ولا أدري؟
الروح :
ألم يقل لك لديك الحكمة والبصيرة؟
الحكيم (صارخا وضاربا بعصاه متجها إلى باب الخروج) :
ولكنك تترك البلاد ينتشر فيها الفساد.
الملك :
انتظر أيها الحكيم، إلى أين تذهب وتتركني؟ من هم هؤلاء الأعداء؟ من هم هؤلاء الأعداء؟
الجميع :
الأعداء؟
الملك :
ألم تسمعوا بهم؟ ألم تروهم؟
الجميع :
نحن نعيش هنا يا مولاي في أمان،
والقصر يحيطه الحراس من كل مكان،
وكل شيء في طيبة على ما يرام.
الأعداء؟ من هم هؤلاء الأعداء؟ (يلتفتون بعضهم إلى بعض.)
الصوت :
الذي لم يكن يجد رغيفا يمتلك مخازن الغلال،
ومن لم يكن يملك زوجا من الثيران،
قد أصبح يملك القطعان.
الملك :
أيحدث كل هذا ولا أعلم؟ لماذا كذب علي الكاهن والقائد والكاتب والوزير؟ لماذا قالوا كل شيء على ما يرام؟
الملك (يناجي نفسه) :
آه! لا تهتم بأخ، ولا تصاحب صديقا ولا تثق بأحد؛ فليس في ذلك كمال.
إن نمت فاسهر على قلبك بنفسك؛
إذ ليس للرجل في وقت البلية إخوان.
آه! لقد أعطيت الفقراء وأطعمت اليتامى،
وسمحت بدخول من لا قيمة له ومن له قيمة،
ولكن أولئك الذين أكلوا خبزي كذبوا علي،
وذلك الذي مددت له يدي نشر الذعر في البلاد،
والذين لبسوا كتاني الرقيق عادوني،
والذين تعطروا بعطري غدروا بي،
لا، ليس كل شيء على ما يرام،
ليس كل شيء على ما يرام.
الروح (يصفق) :
أكل هذا بسبب هذا العجوز الحكيم؟
الملك :
نعم. كان عجوزا، فهل من حقك أن تسميه الحكيم؟
الروح :
ربما أسميه باسم آخر.
الملك :
ماذا تسميه؟
الروح :
هو الذي ذكرته لك.
الملك :
إنني أنسى. أعده على عقلي المسكين.
الروح :
الموت في الضمير.
الملك :
الموت في الضمير؟
الروح :
جاء يقول إن العدالة نبذت، والظلم أخذ مكانه في قاعة العدل.
الملك :
كان عليه أن ينصحني بما أفعل. انصحني أنت أيها الروح، تكلم أيها الحي بين الأموات.
الروح :
انتظر. كان يريد أن يقول: الرجال ينامون ويأكلون ويشربون، وينسون أن الأعداء في البلاد.
الملك :
تكلم عن الأعداء فلم أعرف معنى الكلمة، ولم يعرف أيضا هؤلاء. أرجوك أيها الروح.
الروح :
إنه الموت الأخير.
الملك :
الموت الأخير؟ ذكرني أيها الروح.
الروح :
هو الذي سميته الموت في التراب. أتريد أن يدخل عليك؟
الملك :
يدخل علي؟
الروح :
كما دخل الحكيم. ألا تسمع وقع أقدام؟
الملك :
قل لي أولا: ماذا أفعل؟
الروح :
لا أستطيع الآن (يبدأ في الاختفاء) .
الملك (يجري وراءه) :
لا تستطيع؟ من يستطيع إذن؟
الروح :
ألا ترى الفجر يطلع؟ ألا تسمع الديك يصيح؟
الملك :
لكن ماذا أفعل؟ تكلم، تكلم.
الروح :
انتظر حتى يحضر الرسول. مر الوزير أن يكرم وفادته. اجعل الكاهن. لكن لم التسرع؟ انتظر قليلا حتى يشرق النهار (يختفي) .
الملك :
أنتظر؟ أرجوك أيها الروح، هل قلت إنه رسول الأعداء؟ إلي أنا الملك العجوز المسكين؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ (يهرع الكاهن والوزير ... إلخ، إليه ويحيطون به ويحاولون العناية به.)
الجميع :
مولاي، عوفيت يا فرعون.
الملك :
ها هم الأعداء في الطريق، قولوا ماذا أفعل؟ (الراوية يظهر بعد أن تسدل الستار ببطء ويقول):
الراوية :
لكنهم وجموا وأصابهم الذهول.
دعا الكاهن باسم الآلهة أن يشفى المريض.
هز القائد رأسه وقال:
من قال إن هناك أعداء؟
أليس هناك حصون؟
أليس هناك حراس أشداء؟
فتش الكاتب في الوثائق والسجلات والأوراق .
قال بعد أن نام فرعون من الإرهاق:
لا، ليس هناك ذكر للأعداء،
هذا شيء قديم شطب من النقوش والسجلات.
أما الوزير فخاف أن يكون في الأمر شيء، وسأل نفسه:
والوزارة؟ والأرض؟ والقصر؟ والأتباع؟
أتكون مؤامرة دبرها اللصوص والرعاع؟
فلنتركهم الآن حتى يفيق الملك الجليل.
لنسمع ما سيقوله الرسول بعد قليل. (يختفي بسرعة.)
المشهد الثاني (نفس المنظر. نفس الأشخاص. الكاهن والوزير والقائد والكاتب يستيقظون. الملك نائم.)
الكاهن (يستيقظ) :
آه! ظهري يؤلمني.
الوزير :
أف. من يصدق أن الوزير ينام على الأرض؟ (يهز الكاتب والقائد.)
الكاتب :
أين أنا؟
الكاهن :
وأين تريد أن تكون؟ في حضن إيزيس؟
الكاتب (مذعورا) :
أين أوراقي؟ أين وثائقي وسجلاتي؟
الوزير :
نائمة بجوارك، حذار أن توقظها.
الكاهن :
وإلا تحرك التاريخ (يضحكون)
أيها القائد، أيها القائد.
الوزير :
أليس عجيبا أن نصحو جميعا بينما يعلو شخيره؟
الكاتب :
وما العجب في هذا؟
الوزير :
ألم يدخل الروح إلى القصر دون أن يفطن الحراس؟
ألم يقل إن الأعداء في البلاد؟
القائد (متثائبا) :
كل ما لا أراه بعيني فلا وجود له عندي. ليس هناك روح. ليس هناك أعداء.
الكاهن :
والضجة التي أثارها فرعون؟
الوزير :
وحديثه الطويل معه؟
الكاتب :
وصوت الحكيم الذي يردد حكمة التاريخ؟
القائد :
شيخ مريض وعجوز. ألسنا ننتظر موته من عشرات السنين؟ ألم ينتظره آباؤنا وأجدادنا؟
الكاهن :
والروح، هل تشكون في عودته؟ هل تشكون في ظهوره؟
الوزير :
ليظهر عندكم في المعابد كما يشاء، أما أن يظهر ليلا لفرعون ...
القائد :
فهذا تخريف رجل عجوز.
الوزير :
وهو دليل على أنه يحتضر.
القائد :
وأن روحه تدعوه إلى الغرب بعد أن ملت الانتظار.
الكاهن (مشيرا إلى فرعون النائم) :
انظروا. ها هو ينعس في النوم كطفل شاب شعره. انظروا كيف يبتسم. إن شفتيه تتحركان (يلتفون حوله) ...
الكاهن :
ربما يناجي الروح.
الوزير :
الروح؟ الروح؟ نحن لم نر شيئا.
الكاهن :
الروح لا ترى يا ولدي. إنها تشعر وتحس.
الوزير :
كيف خرجت من قبرها؟ كيف فتحت التابوت؟
الكاهن :
إنها تسكن مع الآلهة والأجداد. أيها الإله رع العظيم، أيمكن أن تشك؟
الوزير :
لست أشك يا أبي . أنا أيضا لي روح؛ ومن أجل أن تعود إلي بعد الموت أبني الآن مقبرتي الفخمة وأزين تابوتي بالذهب والفضة، ولكن هذه الروح التي تزعج سيدنا ...
القائد :
بعد أن نام في سلام تسعين سنة.
الوزير :
هذه الروح الضالة الهائمة.
القائد :
بلا اسم ولا أب ولا أم.
الكاتب :
ربما كانت روح التاريخ، هذه الوثائق.
الوزير :
اسكت أنت بوثائقك وسجلاتك.
الكاهن :
ولكنني أشعر بوجودها.
القائد :
قلت لك أنا لا أشعر إلا بما أراه أمامي، بما أطعنه بخنجري وأنفذ فيه رمحي.
الوزير :
روح كهذا يعكر سلام المملكة.
القائد (للكاهن) :
يجب أن تطرده بتعاويذك ودعواتك.
الكاهن :
هش. إنه يتحرك، يفرك عينيه، يبتسم ويهز رأسه، قولوا معي: أيها الفرعون العظيم، لا تخف من الروح.
الوزير :
سوف نبني له قبرا جديدا إن كان قبره تهدم.
القائد :
ونجعل عليه من الحراس أربعة رجال وأربع نساء.
الكاهن :
ونقدم القرابين من اللحم والفاكهة والنبيذ.
الكاتب :
لكيلا يجوع أو يعطش أو يعرى في برد الشتاء.
الوزير :
ولا يعكر صفو المملكة التي تعيش في سلام.
القائد :
ولا يزعجنا بأخبار الموت والحرب والأعداء. (يسمع طرق شديد على الباب يستيقظ له الملك من نومه.)
الملك :
هل سمعتم؟ ها هو يطرق الباب.
الجميع :
الروح؟
الروح (يظهر على البعد ويقترب من الملك دون أن يراه أحد سواه) :
وهل مثلنا يطرق الأبواب؟
الملك (مذعورا) :
إذن فمن الطارق؟
الكاهن :
أيتها الآلهة، عاد الملك يتحدث إلى نفسه.
القائد :
أف. ما أطول ساعة الاحتضار عند الملوك!
الروح :
ألم أقل لك؟
الملك :
إنني أنسى. ألا ترى أنني مريض وعجوز؟
الروح :
إنه الموت.
الملك :
أي واحد فيهم؟
الروح :
الموت الأخير، الموت الأكبر.
الملك :
أكبر من الموت في الضمير؟
الروح :
أكبر، أكبر.
الملك :
تكلم بحق الآلهة المقدسين. أيكون موتى أنا؟ (الروح يضحك.)
الملك :
إذن اقتربت ساعتي؟ هل آمرهم بتجهيز الجنازة وإعداد التابوت؟
الروح :
ليته اقتصر على هذا.
الملك :
إذن ماذا يكون؟ أتحل كارثة بالقصر؟ مجاعة بالبلاد؟ زلازل؟ براكين؟ هل يفيض النيل؟ هل يجف ماؤه؟
الروح :
أكبر، أفظع. إنه الموت في التراب.
الملك :
سمعتك تقول هذا. فسره بحق رع وآمون وبتاح.
الروح :
عندما تموت الأرض. عندما يموت التراب. عندما يموت الوطن.
الملك :
الأرض؟ التراب؟ الوطن؟
الكاهن :
تكلم أيها الروح الجليل. ارحم شيخوخة الملك وضعفه.
الروح :
الطرق يشتد على الباب.
الملك (صارخا) :
افتحوا الأبواب، افتحوا الأبواب. (يدخل أحد الحراس مندفعا.)
الحارس :
مولاي، سيدي القائد، سيدي الوزير (يلهث) .
الملك :
تكلم، تكلم.
الحارس :
رجل عجيب يقف بالباب. يركب شيئا غريبا سألته عنه فقال اسمه عربة، لهذا الشيء الغريب أربعة أشياء مستديرة سألته عنها فقال اسمها العجلات، وأمام هذا الشيء الغريب الذي اسمه العربة التي تقف على أشياء غريبة اسمها العجلات يقف مخلوق أشد غرابة. سألته عنه قائلا: ما هذا الشيء الغريب؟ فقال: اسمه حصان.
الملك :
أيها الأبله، ماذا يريد؟ لم جاء؟
الحارس :
انتظر يا مولاي. لم أصف لك شكله بعد. لم أصف لك ملبسه.
الملك :
أيها الأحمق، ألم يكن الأولى أن تسأله من هو وماذا أتى به؟
الحارس :
هداني تفكيري يا مولاي أن أعرف لبسه وشكله ووجهه لكي يسهل بعد ذلك معرفة مهمته.
القائد :
ما شكله أيها الحارس؟ ماذا يرتدي؟
الحارس :
بعد أن سألته عن الشيء الغريب الذي يقف عليه فقال إنه العربة، وعن ...
القائد (نافد الصبر) :
وعن الأشياء الغريبة التي يقف عليها هو والعربة فقال إنها العجلات والمخلوق الغريب الذي يقف أمامها ...
الحارس :
فقال إنه الحصان.
القائد (صارخا) :
قلت لك ما شكله؟ ما لون وجهه؟ ماذا يرتدي؟
الحارس :
مهلا يا سيدي. لقد تفرست فيه جيدا، وتأملته من أصابع قدميه إلى شعر رأسه. هل تعرف من هو؟
القائد :
من؟ من؟
الحارس :
رجل أسمر الوجه، ذو لحية طويلة، يبدو لون بشرته كأنه من رمال الصحراء وعليه ملابس مصنوعة من الجلد والوبر.
القائد (لنفسه) :
وجه أسمر، لحية طويلة.
الملك :
أدخلوه، أدخلوه.
القائد (لنفسه) :
هل هجم البدو من الصحراء؟ أم الأعداء الذين حدثني عنهم الأجداد؟ ...
الملك (للقائد) :
هل قلت شيئا أيها القائد؟
القائد :
أنا؟ أبدا يا مولاي.
الملك :
أليس عندك شيء تقوله؟
القائد :
إن كان لا بد فكل شيء على ما يرام.
الملك :
أحقا يا وزير؟
الوزير :
بالطبع يا مولاي، كل شيء على ما يرام.
الملك :
وأنت؟
الكاتب :
التاريخ يؤكد هذا بالتمام.
الملك :
والأعداء، ماذا يقول عن الأعداء؟
الكاتب :
كلمة قديمة شطبت من الأوراق والسجلات.
الوزير :
بعد أن اشتدت طيبة وهزمت كل الأعداء.
الكاهن :
ببركة رع وآمون وباقي الآلهة الأجلاء.
الحارس (يدخل) :
ها هو الرجل الغريب يا مولاي.
الرسول :
سلاما أمير مدينة الجنوب.
الروح (مبتسما) :
أو أمير مدينة الموت.
الجميع :
سلاما أيها الفارس.
الملك (ينتبه) :
سلاما أيها الفارس. لماذا جئت إلى مدينة الجنوب؟ لم قمت بهذه الرحلة حتى مثلت بين يدي؟
الجميع :
تكلم أيها الفارس الشجاع؛ فمولانا يحب أن يسمع ما تريد.
الرسول :
إنه أميري أبو فيس الذي أرسلني إليك لأقول.
الملك :
ماذا يقول يا ولدي؟
الرسول :
أخل البحيرة الواقعة شرقي المدينة من أفراس البحر لأنها تحول بيننا وبين النوم في الليل والنهار، وتملأ آذان سكان المدينة بالضوضاء.
الملك :
أية مدينة يا ولدي؟
الرسول :
مدينة أواريس أيها الملك.
الملك :
أواريس؟ لأول مرة أسمع هذا الاسم. أين هي أيها القائد؟ في الشمال أم في الجنوب؟ في الشرق أم في الغرب؟
القائد :
أواريس؟ أواريس؟
الكاتب :
انتظر يا مولاي حتى أبحث في السجلات.
القائد :
سمعت الأجداد يحكون عنها.
الكاتب :
والوثائق والأوراق تقول ...
القائد :
إنها في أقصى الشمال.
الوزير :
والتحصينات المنيعة تحرسها.
القائد :
وحائط الحاكم يحميها من غارات الآسيويين.
الرسول (ضاحكا) :
يحرسها ويحميها؟ مولاي وأجداده يقيمون فيها من مائة وخمسين سنة. الحصون تهدمت والحائط خربه الفرسان الآسيويون.
الملك :
فرسانكم الآسيويون؟ من هم يا ولدي؟ صفهم لي.
الرسول :
لا يستقرون في مكان واحد،
أقدامهم صنعت لكي تتجول بهم بعيدا.
إنهم يحاربون منذ أيام الإله ست،
لا يقهرون ولا يقهرون،
يقاتلون ولا يحددون يوما للقتال،
كاللص الذي يفاجئ الإنسان إذا كان بمفرده،
ولا يهاجم مدينة بها سكان كثيرون.
الملك :
أكمل يا ولدي. هل قلت التماسيح؟
الرسول :
أفراس النهر.
الملك :
ماذا فعلت يا ولدي؟ ذكرني فقد نسيت.
الرسول :
تزعج مولاي وتملأ آذان سكان المدينة ...
القائد :
ولكن مدينتكم بعيدة، هناك في أقصى الشمال ونحن هنا في أقصى الجنوب!
الملك :
نعم نعم. هل سمع سيدك حقيقة وهو في تلك المدينة النائية عن البركة الواقعة شرقي مدينة الجنوب؟
الرسول :
وسمع أصوات أفراس البحر التي تمنعه أن ينام بالليل أو بالنهار.
الملك :
كيف يسمعها يا ولدي؟ كيف يسمعها؟
الرسول :
فكر فيما بعثني من أجله مولاي. (الروح يضحك.)
الملك (متجها إليه) :
لماذا تضحك؟ أيمكن أن يحدث هذا؟ أيمكن أن يسمعها من هذا المكان البعيد؟
الروح :
ما دمت لا تسمع ولا ترى،
فالعدو حاد البصر مرهف الآذان،
وأفراس البحر في البحيرة الهادئة،
التي لا يزعج صوتها أي إنسان،
يسمعها العدو في أقصى الشمال،
وتزعجه في الصحو كما تزعجه في المنام.
الجميع :
مولاي، دع الروح الآن. كلم الرسول.
القائد :
ما كنت أعرف أن أفراس البحر تزعجه إلى ها الحد.
الملك :
هل قلت العدو؟ أهذا هو العدو؟
الروح :
بل هو الموت، الموت الأكبر.
الملك :
ماذا أفعل؟
الروح :
من يسأل هذا السؤال لا يفعل شيئا.
الملك :
أحب أن أعرف. أين ذهبت قوتي؟
الروح :
وأنا أحب أن تكرم الرسول.
الملك (منتبها) :
هيا، أكرموا وفادة الرسول، قدموا له الأشياء الطيبة.
الرسول :
فكر فيما بعثني من أجله مولاي.
الملك :
قل لسيدك إن الملك سيستجيب لطلبه.
لكن ليس قبل أن تذوق الفطائر واللحوم.
هيا أيها الحارس.
مره بما يجب عليه أيها الوزير. (الوزير ينادي على الحارس، يذهب معهما ثم يعود بعد قليل.)
أيها الروح، يا رسول الأجداد.
الروح :
تريد أن تعرف ماذا تفعل؟
الملك :
أغثني، أرجوك.
الروح :
ألا تسأل مستشاريك؟
الملك :
من؟ هؤلاء؟
الروح :
إن الذهول يبدو على وجوههم.
الملك :
تخلوا عني، كذبوا علي.
الروح :
ولكنهم مستشاروك.
الملك (ملتفتا إليهم) :
أشيروا علي.
هل حلت الكارثة بالبلاد؟
هل فاض النيل أم جف الماء؟
قل أيها القائد: أين عساكري وأسودي؟
وأنت يا وزير: أين كنوزي وماشيتي وعبيدي؟
وأنت أيها الكاهن: لمن توجه الدعوات وعلى من تصب اللعنات؟
ويا كاتبي: ماذا ستكتب عني في الوثائق والأوراق؟
ماذا ستنقش على قبري ليذكره التاريخ؟
هل ضاعت قوتي؟ هل داسني الأعداء؟
أهذا هو اليوم الذي تنبأ به الحكيم؟
أهذا هو الموت الأكبر الذي توعدني به الروح. (الجميع واجمون.)
الملك :
تكلموا، تكلموا، أحقا يقول الطفل ليتني لم أولد؟
ويسير الأمير عاريا في الطرقات؟
ويمتلك اللص مخازن الغلال؟
أحقا أنني تركت الفساد ينتشر في البلاد؟
والآسيويين يهدمون حائط الحاكم؟
أين إذن ما قاله عني الحكيم؟
الكاهن :
مولاي، لديك الحكمة والبصيرة والعدالة.
القائد :
ولديك القوة التي تهزم الأعداء.
الكاتب :
والمجد الذي ورثته عن الأجداد.
الوزير :
والمدينة العامرة باللحم والفطائر والنبيذ.
الملك :
المدينة؟ أليست هي مدينة الموت؟ تكلم أيها الروح.
الروح :
دعهم أولا يتكلموا.
الملك :
أشيروا علي. ماذا أفعل؟ ماذا تفعلون؟
الكاهن :
سأصب اللعنات على الأعداء.
الروح (ضاحكا) :
بالسحر بدلا من السلاح.
الكاهن :
سنكتب أسماءهم على الدمى والأواني ومعها الأوعية والتعاويذ.
الروح :
ونحطمها في حضور الملك والملكة حسب المراسم والطقوس.
الوزير :
ما لنا نحن وللأعداء في الشمال؟
انظر. إن وسط البلاد معنا.
والناس هنا تعيش في أمان.
إنهم يزرعون لنا أحسن الأراضي، وماشيتنا ترعى في الحقول والمستنقعات.
والقمح والشعير يرسل علفا للخنازير.
وقطعاننا سعيدة لم يسرقها اللصوص.
القائد :
والأعداء الذين تخشاهم ليس لهم وجود؛
فلو رأيناهم لذبحناهم وبقرنا البطون،
وأخذنا النساء والعبيد ومحونا الحصون،
وحرقنا مدنهم بأمر صادق المشورة آمون.
الكاتب :
لم يأت ذكرهم في البردي والنقوش.
الملك :
والرسول الذي بعثوه؟
الوزير :
سنكرم الرسول.
الملك :
وأفراس البحر التي تزعجهم؟
القائد :
سنؤكد لهم أن صوتها عذب محبوب.
الملك :
وأرقهم في الليل والضوضاء؟
الكاهن :
سندعو آمون ورع وسائر الآلهة الكبار أن يريحهم في الليل ويمتعهم في النهار.
الملك :
ألم يرسلوا هنا الرسول ليتحدانا؟ أليسوا أعداءنا؟
الكاتب :
سنثبت لهم من النصوص أن كلمة الأعداء لم تكتب على المعابد من مئات السنين.
الجميع :
بذلك نعيش في سلام وأمان،
فتملأ مخازننا بالغلال،
ومعابدنا بالبخور والتماثيل والصلوات،
وبيوتنا بالنبيذ واللحوم والنساء،
ونعيش في سلام، نعيش في سلام.
الروح (ضاحكا) :
ولكنهم لن يتركوكم في سلام.
الملك (مرددا) :
لن يتركوكم في سلام.
الجميع :
ما دمنا نعيش في سلام ،
فسوف يتركوننا في سلام.
صوت :
آه! أين ذهبت قوتي؟
أين جيشي ليسير أمامي كالريح أو كالنار؟
أصابتنا، ولست أدري لماذا، نقمة من الإله،
فاندفع نحونا أقوام مجهولون،
هدموا حائط الحاكم، واحتلوا أواريس.
صوت :
بينما الحراس نائمون، بينما الحراس نائمون.
صوت :
غزوا الأرض، وأخضعوا البلاد،
أحرقوا المدن، وهزموا حكام الإمارات.
صوت :
دون أن ندخل معهم في حرب. دون أن ينشب بيننا قتال.
صوت :
أتلفوا المعابد وأحرقوا التماثيل،
نهبوا الحقول وسرقوا القطعان،
غنموا الزوجات وذبحوا الرجال.
صوت :
بينما نحن نأكل ونشرب وننام،
لا نفيق من الكابوس من مئات السنين.
صوت :
آه! الدماء تنزف منا، متى تسكت الجراح؟
متى نجفو النوم ما دام العدو يقظان؟
متى نرفض اللقمة المعجونة بالعار؟
متى نهجر القصور والبيوت التي يتربص بها الأعداء،
لنتعلم مثلهم كيف نضرب الخيام في الصحراء؟
ونصاحب العطش والقحط والعواصف والرمال؟
صوت :
متى يترك الفلاح أرضه ومحراثه ومواشيه ليحمل الخنجر والسهم والرماح؟
متى ينزع أظافره من الطين ليغرزها في أعناق الأعداء؟
متى يطهر الأرض السمراء من خيول الغرباء؟
متى يكف عن قوله: كل شيء على ما يرام؟
الملك :
متى؟ متى؟ متى؟
الجميع :
عاد يكلم الروح.
الكاهن :
لا بد من تحضير الجنازة.
الوزير :
سأسرع بإعداد المقبرة وتجهيز التابوت.
الكاتب :
وأجمع الكتبة والرسامين والحفارين.
القائد :
وأعلن في البلاد، على رأسي سيستقر التاج.
الوزير :
ألم نتفق أنني الوريث الوحيد؟
الكاهن :
بل على رأسي سيستقر التاج.
الكاتب :
ألا تسألونني؟ إنني أدرى الناس بشجرة الأنساب.
الوزير :
أنا.
القائد :
أنا.
الكاهن :
أنا (يتنازعون) .
الملك :
اخرجوا، اخرجوا، آه! (يخرجون.)
الروح :
أتتألم؟
الملك :
تعبت من الحياة.
الروح :
أم تعبت من الموت؟
الملك :
الموت، الموت، أليس عندك إلا الموت؟
الروح :
الموت يحكم المدينة.
الملك (صارخا) :
أنا الذي أحكم المدينة. (الروح يضحك.)
الملك :
قل لي: ماذا تريد؟
الروح :
أريد ما لا تستطيع.
الملك :
هل هناك شيء لا يستطيعه فرعون؟ (الروح يضحك.)
الملك (يائسا) :
لم تقل ماذا تريد؟
الروح :
أن ترفع الموت عن المدينة.
الملك :
دلني عليه.
الروح :
إنه الموت في الضمير . ألم تسمع ما قاله الحكيم؟
الملك :
ذلك المخرف العجوز؟
صوت الحكيم :
لديك الحكمة والبصيرة والعدالة.
لكنك تترك الفساد ينتشر في البلاد.
الملك (باكيا) :
تخلوا عني.
الروح :
والموت في النفوس والصدور.
الملك :
كيف أعرفه؟ أين أراه؟
الروح :
ألم يحدثوك عن ذلك الرجل المشهور؟ ذلك الرجل المسكين؟
الملك :
ما اسمه؟ في أي مكان ألقاه؟
الروح :
يسمونه المتعب من الحياة، وأسميه المتعب من الموت.
الملك :
آه! الموت راحة، كيف يتعب من الموت؟
الروح :
اسمع.
الملك :
لا، إنني أحتضر، لا أريد أن أكلم أحدا.
الروح :
لا تخف؛ فهو لا يجد من يكلمه أو يشكو إليه.
صوت (ويمكن أن يدخل شخص نحيل عليه أسمال بالية أشبه بشبح من الماضي ويقول) :
لمن أتكلم اليوم؟
الظلم الذي يجوب البلاد،
ليس له آخر،
لا يوجد رجل عادل،
والبلاد تركت للأشرار والظالمين.
الملك (هامسا) :
نفس ما قاله الحكيم.
الروح (هامسا) :
لأن الشكوى خالدة.
الصوت :
لمن أتكلم اليوم؟
الأخوة سوء،
القلوب جشعة،
وما من أحد يمكنك أن تثق فيه.
الملك :
ألم يكن له أم أو أب؟ ألم يكن له صديق؟
الروح :
كان له صديق واحد.
الملك :
اذكر له اسمه.
الروح :
ها هو يناديه.
الصوت :
لمن أتكلم اليوم؟
الموت أمامي، كالشفاء للمريض،
كرائحة بخور المر،
الموت أمامي،
كالجلوس تحت ظل الشراع في يوم عاصف الريح،
كعطر أزهار اللوتس، كالسماء عندما تصفو السماء من الغيوم.
الموت أمامي اليوم،
كعودة الرجل إلى بيته بعد سنوات في الأسر،
كالجلوس على شاطئ الحب والسكر.
الملك :
إلى هذا الحد يشتاق للموت؟
الروح :
سيجد هناك من يشكو إليه.
الصوت :
حقا. إن من يعيش هناك سيصبح إلها حيا.
إن من يعيش هناك سيصبح حكيما،
ولن يمنعه أحد من الشكوى لرع.
الملك :
الموت الموت. أيمكن أن يحبه كل هذا الحب؟
الروح :
بحث حوله فلم يجد سواه.
الملك :
والأمل؟ والحب والنور؟ والزوجة؟ والأولاد؟
الروح :
لم تكن إلا أسماء لشيء واحد.
الملك :
حذار أن تقول إنه الموت.
الروح :
ومن غيره؟ منذ القدم وهو يحكم المدينة، بنى الهرم والمصطبة والمعبد.
أقام التمثال ونقش على المسلة وزخرف التابوت.
أحب الأخت وأنجب الأولاد ليقدموا لروحه القرابين. أنشد الأشعار ونطق بالأمثال وحفظ الوصايا لكيلا ينسى اسمه. عصر النبيذ وشرب الجعة وتمتع بيوم سعيد قبل أن يغيب في الظلام. تعب في الحقل وحارب في الميدان وبرع في البناء ليرضى عنه فرعون وينعم عليه بقبر صغير. الموت، الموت، الموت. يا أرض الأكفان والتوابيت والندابين، يا أرض الجثث المحنطة وكتاب الموتى والمتعب من الحياة والعازف الأعمى على القيثار، يا أرض السجلات والملفات واللجان والدواوين، يا أرض البردي والجعارين والمساكين والدجالين والجلادين.
الملك :
إنه التاريخ. أتريد أن تلغي التاريخ؟
الروح :
ومن يستطيع أن يلغيه؟
الملك :
ماذا تريد إذن؟
الروح :
أريد أن نتحرر منه.
الملك :
تتحرر منه؟ كيف؟
الروح :
نفك الأربطة عن الجثة الخالدة، نتخلص من تاريخ الموت لنبدأ تاريخ الحياة.
الملك :
يا لك من طموح! وهل هناك من تحرر منه؟ منذ زمن الأجداد الراقدين في الأهرام هل هناك من تحرر منه؟
الروح :
ليس هذا ما أعنيه، أعني الموت الآخر.
الملك :
أيهم يا ولدي؟ حيرتني فهم كثير.
الروح :
ألم أقل لك إنه يحكم المدينة؟
من عهد مينا وخوفو وهو يسكن القلوب والقبور.
الخوف في العيون،
الذل فوق الظهر والجبين،
الجوع والحرمان في البطون،
القهر والهوان والعذاب والأنين.
صوت :
العدل يا مولاي للمظلوم.
صوت :
من يفتح السجون؟
صوت :
من يقتل التنين؟
صوت :
من يطعم المسكين؟
صوت :
من ينصف المغبون؟
صوت :
من يهزم الظلام في الصدور والعيون؟
صوت :
من يمسك الميزان والأشرار من يدين؟
صوت :
العدل يا مولاي، العدل يا فرعون.
الملك :
فرعونكم مسكين، فرعونكم مسكين (يبكي) .
الروح :
أتبكي؟
الملك :
تخلوا عني، كذبوا علي.
الروح :
تركت الفساد ينتشر في البلاد.
الملك :
أنت أيضا؟ إنني أموت كاليتيم.
الروح :
ما زلت بجانبك.
الملك :
ما الذي جاء بك؟ لم طاردتني؟ من أنت؟
الروح :
أنا؟
الملك :
ما اسمك؟ ما اسم أبويك؟
الروح :
ليس لي اسم، أنا أيضا يتيم مثلك.
الملك :
من أي قبر خرجت؟ هل جئت من عند الآلهة والأجداد؟
الروح :
أنا من تراب هذه الأرض . ليس لي اسم ولا مكان؛ لأنني في كل اسم وكل مكان.
في الجبل وحبة الرمل، في الريح وقطرة النيل، في زهرة اللوتس وأغصان النخيل، في الثور والفراشة، في التمساح والعصفور، في قلب المحتضر وابتسامة الوليد.
الملك :
تكلم. ماذا أفعل؟
الروح :
فات الوقت.
الملك :
هل تتخلى عني؟
الروح :
أنا بجانبك.
الملك :
أهناك أمل؟
الروح :
إذا خرج الموت من المدينة ...
الملك :
فسيأخذني معه.
الروح :
وسيأتي غيرك.
الملك :
أيستطيع أن يحكم بعدي؟ أيستطيع أن يهزم الموت في الضمير، والموت في الصدور؟
الروح :
والموت في التراب.
الملك :
والذي يزعجه صوت أفراس البحر؟
الروح :
عندما يزعجه بصوت الفئوس والرماح والحراب.
الملك :
ليتني أراه قبل أن أموت.
الروح :
اسمع. ها هم يتحدثون عنه.
صوت :
سيد كل الناس،
الراعي الشجاع الذي يجمع قطعانه الباكية،
يطفئ حريق الفتنة،
لا يحمل في قلبه شرا،
أين هو اليوم؟
أين هو اليوم؟
هل هو نائم؟
انظر. إن بأسه لا يرى،
ولكنه سيظهر عما قريب،
سيظهر عما قريب.
الروح :
أيها الملك (يتحسسه فيجد أنه مات)
نعم نعم. سيظهر عما قريب. (الراوية يظهر في هالة من الضوء.)
هكذا يكون الملك قد مات،
الملك الذي عاش ومات في قصره كاليتيم،
بعد أن حكم، كما يقول التاريخ، من السنين أربعا وتسعين.
وبعد أن مات هذا الشيخ المسكين،
ظل الحكماء ينذرون، والندابون يندبون،
والمتعبون من الحياة يتألمون ويشكون،
حتى خرج من الشعب الذي نسيه الملك العجوز،
رجل عرف كيف يغضب وينتفض ويثور،
ويجمع حوله القطعان الباكية في الحقول،
والجياع من الشوارع، والمساجين من السجون،
أزعجه صوت ذلك المتبجح المغرور،
الذي أزعجته أصوات أفراس البحر،
نادى على المظلومين والمتعبين والفلاحين،
فخرجوا بالعصي والحجارة والفئوس،
وهجموا بالأظافر والأسنان على الهكسوس.
في أوقات المحن والكوارث والأزمات،
يرجع الإنسان للتاريخ وينبش الذكريات.
صوت :
تذكروا العدو الذي لا يزال هناك.
صوت :
لا تنسوا أنه هدم حائط الحاكم العجوز.
صوت :
تذكروا أن أفراس النهر لا تزال تزعجه.
صوت :
لا تنسوا أنه يذبح الرجال والأطفال والنساء.
صوت :
تذكروا، تذكروا، تذكروا!
صوت :
لا تنسوا ، لا تنسوا، لا تنسوا! (ستار)
1968م
المرحوم
مسرحية في خمسة مشاهد
الشخصيات
الأرملة.
الخادمة.
الفيلسوف (ممدد في تابوته).
الحارس.
حارس آخر.
تقديم (تقوم هذه المسرحية على حكاية صغيرة وردت في الفصل الثالث من رواية «ساتيريكون» للكاتب الروماني بترونيوس (أجبره نيرون على الانتحار سنة 66 ميلادية). وكنت قد قرأتها لأول مرة في كتاب يضم مجموعة من الحكايات والقصص اليونانية والرومانية القديمة التي اختارها الأستاذ هورست جاسه (سلسلة كتب ديتريش، ليبزج، 1969م) ووضعت لها تخطيطا مسرحيا بقي مع غيره من المشروعات التي قضي عليها أن تكفن في الصدر والأدراج، ثم أتيح لي الاطلاع على مسرحية «أكثر من عنقاء» للشاعر المسرحي الإنجليزي «كريستوفر فراي» التي تتناول الموضوع نفسه تناولا حسيا مرحا شديد العذوبة والصفاء، فذكرتني بالمشروع القديم. وربما تسربت إليه منها بعض الصور والمشاعر، على الرغم من الاختلاف الكبير بين الصياغتين.
أما «الإليزيوم» و«هاديس» فترمز بهما الأساطير اليونانية القديمة إلى نعيم المخلدين من الأبطال والأتقياء العادلين، وإلى ملك العالم السفلي أو عالم الظلال السفلي نفسه. وأما خارون فهو الملاح الذي ينقل في قاربه أرواح الموتى إلى النعيم أو الجحيم.)
المشهد الأول (ضريح بالقرب من مدينة أفيسوس. تبدو من فتحة بابه ونافذته أرملة جميلة منحنية على جثمان زوجها، وشعرها الأسود الطويل منسدل على التابوت. الضريح مبني في شبه نفق سفلي على اليمين، أمام بابه سلالم درج يفضي إلى أعلى في مستوى سطح الأرض، حيث نرى إلى اليسار مساحة نصبت فيها ستة صلبان علقت عليها جثث رجال ستة، ويظهر بين الحين والحين حارس يقطع الساحة جيئة وذهابا. من الضريح تنسرب أشعة ضوء خافت يرسله مصباح زيتي مثبت على جداره من الداخل، أما الساحة فشبه معتمة إلا من انعكاسات النجوم البعيدة في سماء يوم من أيام الصيف الحار. نرى الخادمة واقفة أمام الدرج، تطل برأسها حينا من حافة السور الواطئ المحيط بالضريح، وحينا آخر من فتحة الباب على الأرملة التي غلبها النوم. تتنهد بصوت عال، ويبدو على حركاتها الحيرة والقنوط.)
الخادمة :
لا، لا، يجب أن أبكي ! لا بد أن أبكي! أيتها الدموع الملعونة! لماذا تهربين حين أطلبك، وتفاجئينني دون أن أدعوك؟ لماذا تمتنعين وكل شيء يدعو إلى البكاء؟ هل جئت هنا إلا لأبكي معها؟ ألم أقسم لسيدتي أن أموت معها؟ فكيف أراها تغرق في بحر دموعها بينما أقف أنا على الشاطئ؟ لأفكر قليلا. لماذا يجب أن أبكي؟ هل هذا شيء يحتاج لتفكير؟ لا، لا، اذهب أيها الفكر، لا تكن سدا يوقف نهر دموعي. أبكي بالطبع على سيدي، الرجل الحكيم الذي تركنا منذ ثلاثة أيام؛ أبكي الفضيلة نفسها، صمته ووحدته وإشاراته الطيبة لي، مجده وشهرته على كل لسان في المدينة. (تحاول أن تبكي)
تبا لي. ولكن الدموع لا تريد أن تأتي. إذن فلأبك سيدتي، حبيبة أفروديت الجميلة التي تقتل جمالها بيديها، عروس البحر الفاتنة التي تذوي على الرمال وتنعى حظها. ها هي آلهة النوم تضعها على صدرها بعد أن مزقت خدودها، وجرحت عينيها من البكاء. ومع ذلك فلم تسقطي أيتها الدموع الجاحدة وأنا أعزيها وأحاول أن أصبرها. لم تسقط قطرة واحدة منك حين كان ينبغي أن تنهمري كالمطر في ليلة عاصفة. وا خجلي منك! وا خيبة أملي فيك! كيف يسمح لي خارون بركوب قاربه بعيون لم تندها الدموع؟ كيف يكون نهر الموت إن لم يكن من دموعنا؟ إذن فلأجرب أن أبكي على زوجي. نعم، نعم، أنا أيضا كان لي زوج، وكم أشتاق إلى الوغد! لكنه خانني وغدر بي. لا، لا، إنه لا يستحق دمعة واحدة، آه! بل إن ذكراه تكاد تضحكني. لا بد أن أبكي لأنني لا أستطيع أن أبكي، حتى عندما رأيتهم يبكون لم تسقط قطرة على خدي، لم أحس ملمسها على يدي. انصرفوا وهم يبكون، رجال المدينة ونساؤها الطيبون، بكوا عليك يا سيدي وقطعوا أوتار القلوب، ولكنني صرفتهم ووقفت أودعهم كأنني تمثال من الحجر. آه يا سيدتي الجميلة! يا سيدتي الحزينة! (تطل عليها فتجدها لا تزال مستسلمة للنوم)
ثلاثة أيام وثلاث ليال لا تأكلين ولا تشربين، نذرت الصوم والعطش وفشلت كل محاولاتي معك. ربما لو أكلت وشربت كأسا واحدة، ربما أبكي عندئذ كما أريد وأكثر مما أريد. ربما ربما، ولكن من أين وقد حرمت علي أن أحضر معي الزاد والماء؟ ثم أنني أقسمت أن أشاركها كل شيء. فكيف يا عيني لا تشاركان عينيها؟ ها هي ذي تحرك رأسها الجميل، وشعلة المصباح تحرك رأسها النحيل أيضا، تريد أن تنطفئ كما تنطفئ حياتها وحياتي، فلأدخل إليها سريعا وأسقيها قطرات من الزيت، حتى المصباح لا يمكنه الصمود للعطش والجوع. (تفتح الباب وتدخل. تتحرك سيدتها قليلا ثم تسكن. الخادمة تضع الزيت في المصباح وتتأملها!)
آه يا سيدتي! عندما أتصور جسدك ممددا بجانبه كالوردة الجميلة الذابلة، وأنا أيضا بجانبك كشجرة البلوط اليابسة، والظلام من حولنا بعد أن ينطفئ المصباح. لا، لا، سيضيء مصباح جسدك هذا الضريح، سترف حوله فراشات الطهر والوفاء وترقص حوله وتدور كالباخيات في سكرة الحب والنشوة. وأنت يا سيدي المسكين (تقترب منه وتتأمله)
دائما صامت ووحيد. سترقبنا كما كنت تفعل في حياتك وتوصد عليك أبواب حكمتك. هل يرضيك أن تموت من أجلك؟ هل يسرك أن أموت أنا أيضا؟ أرأيتها وهي تشق صدرها وتدمي وجهها وتنثر التراب على شعرها؟ آه! لماذا أكلمك وأنت كما كنت دائما صامت ووحيد؟ (تتحرك الأرملة ثم تهتف.)
الأرملة :
دعني، دعني.
الخادمة (تسرع إليها) :
سيدتي، هل صحوت؟
الأرملة :
قلت لك دعني، دعني.
الخادمة :
أنا بجانبك يا سيدتي، أنا ...
الأرملة :
من؟ (تفتح عينيها.)
الخادمة :
لم تنادي علي. لقد ناديت عليه، ناديت رجلا.
الأرملة :
رجل؟ أية رجل؟ كيف يدخل رجل إلى هنا!
الخادمة :
رجل يدخل إلى هنا؟
الأرملة :
ألم أحرم عليك هذا؟ ألم أحذرك من أفروديت؟
الخادمة :
وما شأنهم بنا؟ ونحن هنا في ضريح يا سيدتي.
الأرملة :
نعم نعم لم يبق إلا أن نتأهب للموت. لقد ودعنا الحياة والنور والأمل، ودعنا الرجال وكل ما يذكرنا بهم.
الخادمة :
ولكنك ناديته، ناديت رجلا.
الأرملة :
لا، لا، لم يكن رجلا.
الخادمة :
وماذا كان؟ تذكري يا سيدتي.
الأرملة :
كان نسرا.
الخادمة :
كان نسرا وأنت الحمامة. فهمت.
الأرملة :
لم تفهمي شيئا . هل رأيت حلمي؟ هل كنت معي؟
الخادمة :
كنت معك طول الوقت. ولكني لم أر حلمك. دعيني الآن أره.
الأرملة :
لماذا تذكرينني به؟ الحمد لزيوس أنه كان حلما.
الخادمة :
ومن يدري؟ ربما كان زيوس نفسه.
الأرملة :
رب الأرباب؟ ولماذا يهبط من عليائه ويحملني معه؟
الخادمة :
هذا ما يفعله دائما. أرملة جميلة مثلك. هل يمكن أن يغفل عن هذا الصيد؟
الأرملة :
النسور لا تصيد الجثث. إنني أنتظر من يدفنني بجانبه. آه يا زوجي!
الخادمة (ضاحكة) :
الزوج نام إلى الأبد. والأرملة الجميلة ...
الأرملة :
قلت لك لست أرملة ولست جميلة. ثم كيف تضحكين في هذا المكان؟
الخادمة :
معذرة يا سيدتي، كان يجب أن أبكي. (تشهق وتحاول أن تبكي فلا تسقط دمعة. الأرملة تبتسم رغما عنها)
إنه الحلم يا سيدتي.
الأرملة :
لا بأس. كان حلما عجيبا.
الخادمة :
هل اختطفك يا سيدتي؟
الأرملة (تغالب الضحك) :
حاول فلم يستطع. انقض علي. كنت بسفح الجبل وحولي الغربان والبوم، تتشممني وتقفز على جسدي. وإذا به ينقض علي فجأة. لم أفق إلا على عينيه الكبيرتين الواسعتين تحدقان في، وجناحيه الهائلين يرفرفان فوقي كالظل المخيف. وقبل أن أصرخ حملني وطار إلى أعلى (صرخت غاضبة) لا أريد أن أحلق إلى أعلى، دعني هنا في السفح، هنا مكاني مع زوجي، مع البوم والديدان والغربان، لم أعد أصلح للسماء ولا للقمم والنور، دعني، دعني، دعني.
الخادمة :
وسمعت صراخك يا سيدتي.
الأرملة :
سمعتني؟
الخادمة :
نعم.
الأرملة :
هل يمكن أن يكون هو زيوس؟
الخادمة :
أو إله غيره، رآك فأشفق عليك واختطفك.
الأرملة :
ولكنه كان حلما، وأنا الآن بجانب زوجي.
الخادمة :
سيدي المسكين لا يزال كما هو، لم يتحرك لينتشلك.
الأرملة :
ماذا تقولين؟ كيف يتحرك وهو ميت؟ ألم أجئ إلى هنا لأموت معه؟
الخادمة :
وأنا أيضا لأموت معك.
الأرملة :
لم أطلب منك هذا. أنت التي صممت.
الخادمة :
وأقسمت ألا أتركك.
الأرملة :
يمكنك أن تذهبي. إني آمرك. اذهبي.
الخادمة :
إلى أين؟ ليس لي أحد غيرك. أقسمت أن أعيش معك أو أموت معك.
الأرملة :
ولماذا أحمل ذنبك على رأسي ؟ لماذا أحمله معي إلى قبري ؟ إني أموت من أجل زوجي.
الخادمة :
وأنا من أجلك ومن أجل زوجك.
الأرملة :
ولا أحد سوانا؟
الخادمة (ضاحكة) :
معذرة، ولكنه لا يستحق، عاش وغدا ومات كالأوغاد. لن يصدق أحد أنني دفنت نفسي حزنا عليه. أما أنت فالمدينة كلها تعرفك وتفتخر بك.
الأرملة :
وماذا يقولون عني؟
الخادمة :
يقولون؟ إنهم يبكون يا سيدتي. ليتك رأيتهم وهم يئنون ويتأوهون حزنا عليك. ليتك سمعتهم وهم يرددون اسمك كما يرددون الصلاة في المعبد. هذه الأرملة الطاهرة، تمثال الوفاء ومثال العفاف. لقد سمعت النسوة وهي تطلب من أعضاء مجلس المدينة أن يقيموا لك تمثالا في وسط المدينة؛ حتى يمر عليه أزواجهم الجاحدون فيتعلموا. أتعرفين ماذا خطر ببالي؟ تذكرت زوجي وقلت لنفسي: ليتك كنت حيا لتتعلم!
الأرملة :
هل كنت تأتين معي لو كان حيا؟
الخادمة :
بالطبع يا سيدتي، كنت سأجد سببا كافيا لأدفن نفسي حية.
الأرملة :
من شدة غيرتك عليه. أما الآن فمن شدة شوقك إليه.
الخادمة :
أنت تسيئين الظن بي يا سيدتي.
الأرملة :
ألا تشتاقين للقائه هناك؟
الخادمة :
وهل يمكن أن ألقاه هناك؟ إن روح سيدي ترفرف الآن فوق أشجار الإليزيوم. أما الوغد فلا بد أن روحه الشقية تهوي في قاع هاديس.
الأرملة :
سنعرف قريبا أين هو، لا، لا، سأعرف أنا وحدي.
الخادمة :
اطمئني. إنني أعرف من الآن. لا حاجة بي للبحث عنه هناك.
الأرملة :
هكذا رجعت لعقلك. كانت صراحتك دائما تعجبني. إنني أموت من أجل زوجي وحبيبي. أما أنت، فلأي شيء؟
الخادمة :
لأجلك ولأجله أيضا يا سيدتي. هل تتصورين أن أتركك وحدك؟ وإلى أين أذهب بعدك؟
الأرملة :
وما ذنبك أنت؟
الخادمة :
ذنبي أنني أحبك أيضا. قلت لك لن أتركك وحدك.
الأرملة :
آه!
الخادمة :
سيدتي!
الأرملة :
آه آه!
الخادمة :
ماذا بك؟
الأرملة :
بدأت الرحلة يا عزيزتي. سألقاه هناك. إنه يشير إلي.
الخادمة (تنهض وتنظر للميت) :
إنه لم يتحرك يا سيدتي، ما زال كما هو، لا يتحرك ولا يتكلم.
الأرملة :
بل يدعوني إليه. انظري ابتسامته.
الخادمة :
لم أرها أبدا يا سيدتي، وجهه صارم كما كان، جبهته عابسة كما هي.
الأرملة :
إنها الحكمة يا ساذجة. ألا ترين كيف يتزاحمون حوله؟
الخادمة :
من يا سيدتي؟
الأرملة :
الأرواح، الأشباح والظلال تتسابق نحوه.
الخادمة :
أنا لا أرى إلا ظلال المصباح يا سيدتي، تتثاءب حوله كما كانت تفعل، سيدتي.
الأرملة :
أحس أن قدمي لا تحملاني، الزحام شديد.
الخادمة :
إنه الضعف يا سيدتي، الصوم والعطش هما السبب، لا بد أن تأكلي شيئا.
الأرملة :
ماذا قلت؟ آكل؟!
الخادمة :
إذا فاشربي يا سيدتي. إنك لم تعاهديه على العطش أيضا.
الأرملة :
وتقولين هذا يا خائنة؟ هل أخفيت الطعام والشراب من ورائي؟
الخادمة :
أنا يا سيدتي؟ إنني أموت مثلك من الجوع والعطش. عليك أن تأكلي شيئا يقويك على الرحلة.
الأرملة :
وتكررينها يا خائنة؟
الخادمة :
جرعة ماء واحدة، لا يمكن أن أتركك على هذه الحال. لا أستطيع أن أواصل الرحلة معك.
الأرملة :
وماذا يقول الناس عني؟ ماذا تقول المدينة؟ الطاهرة تراجعت بعد أول خطوة؟ عجزت عن تقديم أول تضحية؟
الخادمة :
لن يقول أحد شيئا، لن يرانا إنسان. إنهم يتصورون أننا متنا وانتهى الأمر.
الأرملة :
بينما نبحث عن الطعام والماء.
الخادمة :
لن تبحثي عن شيء، سأذهب أنا وأعود.
الأرملة :
بل تذهبين ولا تعودي أبدا (تئن) .
الخادمة :
بل سأعود. قل لها يا سيدي، لا تتخل عنها.
الأرملة :
تعلمين أنه سكت إلى الأبد.
الخادمة :
ما دمت تعلمين هذا، فلماذا تدفنين نفسك حية؟
الأرملة (تبكي) :
وتسألين لماذا؟
الخادمة :
لو كان حيا لدعاك للحياة.
الأرملة (تبكي) :
وعدته أن أذهب معه.
الخادمة :
وتضحين بحياتك قبل اليوم المحتوم؟ ستذهبين يوما ما، سنذهب جميعا.
الأرملة :
قلت لك اذهبي. دعيني لدموعي.
الخادمة :
لن أذهب ولن أدعك. إلى متى أقول لك هذا؟ معذرة يا سيدتي (تركع عند قدميها وتضع يديها على ركبتيها)
أتظنين أن دموعك تهم تراب القبر؟ هل تهم روح المرحوم؟
الأرملة :
ولكنه يراني. ينتظرني هناك ويشير إلي.
الخادمة :
ويبتسم أيضا، يبتسم كما لم يفعل طول حياته؛ لأنك ما زلت تحت الشمس، لأنك تستطيعين أن تستمتعي بالنور وتخرجي للحياة.
الأرملة :
أخرج؟ بعد أن دخلت بقدمي إلى عالم الظلال؟
الخادمة :
لم تدخليه بعد. قدمك لا تقوى على حملك. قدمي أيضا لا تقوى على حملي.
الأرملة :
ولكنها ستقوى على أن تخرجك من هنا. هيا اذهبي واتركيني. (يسمع صوت بالخارج.)
الخادمة :
ما هذا؟
الأرملة :
قلت لك اذهبي واتركيني.
الخادمة :
سأذهب. ولكني لن أتركك، سمعت؟
الأرملة :
لم أسمع شيئا.
الخادمة :
إنه صوت أقدام، لا بد أن أحدا ...
الأرملة :
لا أحد هناك، لا أحد سوى الموت القادم.
الخادمة :
أذني لا تكذبني. أكاد أراها وأشمها أيضا. إنها أقدام رجل!
الأرملة :
لا مكان هنا إلا لرجل واحد. أخرجي إذا شئت ولا تعودي (يسمع صوت أقدام تسرع صاعدة على الدرج) .
الخادمة :
قلت لك أقدام رجل.
الأرملة :
وأنا قلت لك اخرجي.
الخادمة :
حالا، حالا، سأخرج وأعود، لا بد أن نعود! (تفتح الباب وتخرج مسرعة.)
المشهد الثاني (الخادمة تصعد الدرج مسرعة، الحارس واقف أمام الجثث المصلوبة، يقوم بنوبته ولا يلتفت إليها، تتقدم منه غاضبة.)
الخادمة :
أنت! أنت!
الحارس :
ما هذا؟ من أنت؟
الخادمة :
سمعت خطواتك على الدرج. لا تنكر. أنا التي تسألك.
الحارس :
بل علي أن أسألك أنت: ما الذي جاء بك إلى هنا؟
الخادمة :
لا تحاول أن تهزأ بي. ألم تتلصص علينا الآن؟ كان ظني في محله.
الحارس :
وماذا ظننت؟
الخادمة :
قلت لسيدتي: أقدام رجل. وها هو يقف أمامي ويدعي الجهل والخبل. كأنه لم يرنا ولم يسمعنا.
الحارس :
رأيت، نعم، ولكن ليس بما فيه الكفاية. وسمعت الأنين الذي جذب قلبي.
الخادمة :
أم جذب قدميك؟ ألا يمكن أن تتركوا الناس تموت في هدوء؟
الحارس :
أهذا ما تفعلانه هنا؟
الخادمة :
لا شأن لك بما نفعل. ماذا تفعل أنت؟
الحارس :
كما ترين. أحرس هذه الجثث من اللصوص.
الخادمة :
لص يحرس لصوصا. لا يكفيه هذا بل يتلصص أيضا على الغرباء المساكين.
الحارس :
إنني حارس ولست لصا. ألا ترين هذه الجثث؟
الخادمة :
وهل تحتاج إلى حراسة؟ إنها لن تهرب على كل حال. من يسرق جثة عفنة؟
الحارس :
اللصوص. الكل هنا لصوص يسرقون لصوصا؛ ولهذا عينوني لحراستها .
الخادمة :
شاب مثلك يحرس الموتى ؟ ألم يجدوا سواك؟ ألم تجد عملا آخر؟
الحارس :
إنها قصة طويلة، لا أظن أنك جئت في هذا الوقت من الليل لأحكيها لك.
قصة طويلة يا عزيزتي.
الخادمة :
ومتكررة أيضا، لا بد أنك غدرت بهم؟
الحارس :
أما زلت تتصورين أنني لص؟
الخادمة :
لا تكتفي بسرقة الجثث وتسرق أسرار الناس.
الحارس :
قلت لك إنني حارس، ثم إن هؤلاء ...
الخادمة :
لصوص بالطبع.
الحارس :
لا، ليسوا لصوصا، انظري إليهم. إنهم إخوتي ورفاقي، إخوتي ورفاقي (يخفي رأسه بين يديه) .
الخادمة :
لقد صدق ظني. والآن تبكي لأنك خنتهم.
الحارس :
كيف ستفهمين هذا؟ هو الذي خاننا.
الخادمة :
هو؟ من؟
الحارس :
ومن غيره؟ الطاغية بالطبع. المستبد الذي داس على جثة المدينة، وأنا الذي ثرت عليه مع رفاقي أصبح حارسا على جثثهم (يبكي) .
الخادمة :
لا تبك يا رجل. دعهم فلن يهربوا.
الحارس :
لو هرب واحد منهم فسيعلقونني مكانه.
الخادمة :
قلت لك لن يهرب أحد. إنهم ساكنون كالتماثيل في قاع البحر. أليس كذلك أيها الطيبون؟
الحارس :
قلت لك إنها قصة طويلة. لو عرفتهم قبل أن يقتلوا لأحببتهم.
الخادمة :
يظهر أن السماء لا تمطر في هذه الليلة إلا جثث الموتى والقتلة.
الحارس :
قلت لك المقتولين. إنهم يسمونها جريمة سياسية.
الخادمة :
لا أحب الجريمة ولا السياسة. أعطهم ظهرك وانظر للسماء. ألا تستحق النجوم أن تنظر إليها في ليلة كهذه؟
الحارس :
النجوم؟ إنها هي الأخرى جثث محترقة، انظري إليها، إنها تحرسهم وتحرسني.
الخادمة :
إذن لا تنظر إليها. دع كل الجثث واسمعني.
الحارس :
لا أستطيع. قلت لك سأعلق مكانها. إن عقابه صارم وقاس (يشرب من زجاجة في يده) .
الخادمة :
ودعك من هذه أيضا.
الحارس :
الحر شديد يكاد يخنقني، هل لك في جرعة؟
الخادمة :
ليتني أستطيع.
الحارس :
ولماذا لا تستطيعين؟
الخادمة :
أقسمت ألا أبلل فمي بقطرة واحدة، ثم إن سيدتي أقسمت أيضا.
الحارس :
أهي التي في الضريح؟
الخادمة :
نعم هي. أقسمت أن تموت جوعا وعطشا.
الحارس :
كيف تتركينها لتثرثري؟ لماذا لم تقولي من البداية؟
الخادمة :
لقد قلت إنها أقسمت أن تصوم عن الأكل والشرب، حتى النوم أرادت أن تصوم عنه لولا أن غلبها في النهاية فاستسلمت له. إنني أقسمت معها أيضا.
الحارس (يشرب) :
ولماذا؟ لماذا تفعلان هذا؟
الخادمة :
بعد أن مات زوجها لم تجد معنى للحياة بعده.
الحارس :
زوجها؟
الخادمة :
نعم، المدينة كلها تتحدث عنه وعنها، مات من ثلاثة أيام، ألم تسمع عنه؟
الحارس :
أنا هنا لا أسمع ولا أرى، ومن يكون زوجها؟
الخادمة :
من يكون؟ من يكون؟
الحارس :
ماذا كان يفعل؟
الخادمة :
لم يكن يفعل شيئا، كان يفكر، بالنهار والليل يفكر، أحيانا يرفع صوته ويطلب كتبا أو أوراقا، لا أعرف إلا إنه كان يفكر، تذكرت، كانوا يسمونه الفيلسوف.
الحارس :
الرواقي؟ تذكرت أنا أيضا.
الخادمة :
لا أعرف. كل ما أعرفه أن سيدي مات منذ ثلاثة أيام.
الحارس :
أخيرا، هذا الأخرس الأبكم.
الخادمة :
لا تقل هذا عنه، سيدي لم يفعل شيئا يستحق هذا.
الحارس :
حقا، لم يفعل شيئا، وهذه أرملته؟
الخادمة :
أرملته الوحيدة المسكينة، تركها كالقطة الصغيرة تموء وسط القبور.
الحارس :
وتموت جوعا وعطشا، هيا أيتها الجاحدة.
الخادمة :
إلى أين؟ لو رأت ظل رجل لتحولت إلى قطة متوحشة.
الحارس :
هذه التي تحتضر من الجوع والعطش؟ إن كانت قطة فأنت نمرة مفترسة.
الخادمة :
أنا؟ وماذا أفعل؟
الحارس :
نذهب إليها الآن.
الخادمة :
وتراني مع رجل؟ لن تغفر لي هذا أبدا.
الحارس :
المهم أن ننتشلها من الغرق.
الخادمة :
ليتك تفعل هذا، قل لها أنت خارون نفسه، جئت تصحبها إلى هناك، جئت ومعك القارب.
الحارس :
فهمت فهمت، ومعي طعام وشراب كاف، هيا، هيا. (يهبطان الدرج سريعا، يقفان على باب الضريح.)
الخادمة :
انتظر.
الحارس :
هل بقي وقت للانتظار؟
الخادمة :
المسكينة عادت للنوم.
الحارس :
أو سقطت فيه بلا وعي.
الخادمة :
ننتظر قليلا حتى تفيق، أنا أيضا أسقط على الأرض. (تجلس.)
الحارس :
خذي هذه الجرعة، لا وقت نضيعه.
الخادمة :
لا أستطيع.
الحارس :
قلت لك اشربي، إنه الجوع والظمأ، ألا ترين كيف غابت عن كل شيء؟
الخادمة :
لا أستطيع أن أشرب قبل سيدتي.
الحارس :
هي أيضا شاحبة الوجه، أراه على ضوء المصباح كنجم ينطفئ على البعد، سيدتي الرائعة، سيدة الحزن الجميل والألم المعبود، وجهك هذا أم وردة الفجر المحتضرة؟ جسدك أم شلال ضياء ينثر بلوره في الظلام؟ هل يمكن أن تذبلي ومعي ندى الخمر؟ هل أترك نهرك تطويه الرمال ومعي القارب والماء؟ أفيقي يا عروس البحر! أمواج الحياة تناديك وتتشهى لمسة جسدك، أفيقي واضربي الأرض بخطاك وارقصي مع الجدي المرح، نعم إنني أستطيع أن أرقص وأضحك وأغني على الرغم من الجثث المعلقة، قومي يا شمسي الصغيرة لتراك الشمس في الصباح، لم تخلق الأرض لتكون قبرا لك بل لترقصي عليها كالشعلة الضاحكة، أفيقي! أفيقي! جاء خارون ومعه قارب النجاة (يهم بالدخول فتوقفه الخادمة) .
الخادمة :
مهلا مهلا، أليس لي مكان في القارب؟
الحارس :
ولك جرعة من الزجاجة (يقدم لها الزجاجة) .
الخادمة :
لن أشرب قبلها.
الحارس :
جرعة في صحتها.
الخادمة :
هي أولا، ليتها تقبل منك.
الحارس :
ستقبل وتشرب، هل تراهنين؟
الخادمة :
وستلعنني وتطردني.
الحارس :
هل تراهنين؟
الخادمة :
ليس عندي ما أقدمه.
الحارس :
أما أنا فأقدم الأمل والمصير، أقدم الحياة، ألا تشربين نخب الحياة؟
الخادمة :
قلت لك لن أذوق جرعة قبلها.
الحارس :
صوتك يقول إن فمك كالصحراء، دعيني أسقه.
الخادمة :
كالصحراء أو كالجحيم، هيا لا تضع الوقت.
الحارس :
أما أنا فأسقي النهر المتدفق للصحراء أو الجحيم. (يشرب.)
الخادمة :
هيا، هيا.
الحارس :
هيا (يدخلان) .
المشهد الثالث (في داخل الضريح، الحارس والخادمة والأرملة، تتقدم الخادمة على أطراف قدميها يتبعها الحارس مبهوتا.)
الخادمة (تنادي) :
سيدتي! سيدتي!
الحارس :
دعيها نائمة، يمكننا أن ننتظر (يتلفت حوله) .
الخادمة :
ننتظر حتى تغرق؟ ألست خارون؟
الحارس :
ماذا؟ نعم، نعم (يتجه نحو التابوت ويطل على الميت) .
الخادمة (همسا) :
ألم تره قبل هذا؟ نفس الصمت والسكون، كوكب يسبح في فلكه، بعيد ومكتف بذاته.
الخادمة :
حقا حقا، بعيد ومكتف بذاته.
الخادمة :
سيدتي هي التي تقول هذا.
الحارس (يتأمل النائمة) :
بالطبع، لا يمكن أن تقول غير هذا.
الخادمة :
وتقول أيضا: الربة أثينا أعطته الحكمة، والرب أبولو أعطاه العقل.
الحارس :
ووجهه؟ من أعطاه وجه البومة؟
الخادمة :
تبا لك، لو كان حيا لما جرؤت على هذا.
الحارس :
لو كان حيا.
الخادمة :
لوقفت أمامه كالعابد أمام تمثال الإله.
الحارس :
وكسرت التمثال نفسه (الأرملة تحرك رأسها وتئن) .
الخادمة :
ما هذا الهراء؟ تثرثر وسيدتي تحتضر، سيدتي! سيدتي!
الأرملة :
من؟ من يدعوني؟
الخادمة :
جاء يا سيدتي، جاء ومعه القارب والمجذاف.
الأرملة (مفزوعة) :
النسر؟
الخادمة :
لا تخافي، لن يحلق إلى أعلى، سيسبح فوق النهر.
الأرملة (تفتح عينيها) :
من هذا؟ ماذا أري؟
الخادمة :
إنه هو يا سيدتي، خارون بنفسه.
الأرملة (تتأمله) :
كاذبة، ألم أقل لك اذهبي؟
الخادمة :
وقلت لك لن أذهب، لن أتركك وحدك وسأعود إليك.
الأرملة :
تعودين ومعك رجل؟
الخادمة :
هذا؟ ليس رجلا. إنه خارون.
الحارس (الذي ظل يتأملها كالعابد) :
ومعي الطعام والماء، لا بد منه قبل الرحلة.
الأرملة :
ويريدني أن آكل وأشرب؟ ألا يكفي أنه رجل وأنه تسلل إلى مخدع امرأة تريد أن تكون وحيدة مع زوجها؟ اذهب أيها الغريب، لا مكان لك هنا، ألا ترى بنفسك؟ ألا تراه؟
الحارس :
وأراك يا سيدتي. لم أتحمل أن تكوني وحدك.
الأرملة :
لست وحدي، لا أريد حارسا علي.
الحارس :
كلانا يقوم بالحراسة، أنت تحرسين جثة واحدة وأنا ...
الخادمة :
يحرس ستة يا سيدتي.
الأرملة :
زوجي ليس جثة، إنه حي، أكثر حياة منك (للخادمة)
أتكذبين علي؟
الخادمة :
لم أكذب يا سيدتي، لقد رأيتها بنفسي، لصوص مساكين معلقون من أقدامهم في الليل والبرد.
الأرملة :
خارون ويحرس الجثث؟
الحارس :
أوامر الآلهة يا سيدتي، وقد أمرته من الليلة أن يحرس الأرواح أيضا، وها هو أمامك لينقل روحك الجميلة جمال جسدك.
الخادمة :
إنه قوي وشاب يا سيدتي، ثقي به وسوف يحملك إلى هناك.
الأرملة :
يظهر أنك مغرور بقوتك وشبابك. وجثثك المعلقة في الليل والبرد والريح؟ هل تتركها لتذهب معي؟
الحارس :
أتركها؟ لا أستطيع، لا أستطيع.
الخادمة :
اطمئن، لن تستطيع أن تهرب.
الحارس :
تعرفين الجزاء الذي ينتظرني لو سرقها أحد.
الأرملة (ضاحكة) :
يسرقون جثة؟
الحارس :
ويعلقونني مكانها، لا بد أن أطمئن عليها. (يتجه فزعا نحو الباب.)
الأرملة :
الآن عرفت كم أنت قوي وشاب (للخادمة)
اذهبي أنت ، انظري وطمئنيه.
الخادمة :
والرحلة يا سيدتي؟ رحلتك إلى العالم السفلي. ألا تأخذاني معكما؟
الحارس :
انتظري، سأذهب بنفسي.
الخادمة :
بل ابق أيها الشاب، أريد أن أقول يا خارون، لست بحاجة للذهاب معكما، إذا رأيتما كلب الجحيم المسعور فاعرفا أنه هو ...
الحارس :
من؟
الأرملة (ضاحكة) :
زوجها بالطبع.
الخادمة (وهي تنصرف) :
خانني في الدنيا ولا بد أنه يخونني في الآخرة، المصلوبون أولى منه.
الحارس :
افتحي عينيك جيدا، حذار أن تغمضيهما.
الخادمة :
أعرف أعرف، حتى لا تجد نفسك مكانهم، لا تنس أن تسلم على الكلب المسعور (تنصرف، يتضاحكان ثم تخيم الكآبة فجأة على وجه الأرملة، تنظر إلى الحارس المدله بإعجاب خفي) .
الأرملة :
هل استعد خارون؟
الحارس (منتبها) :
بالطبع يا سيدتي. وهل جئت إلا لهذا؟ (يتجه مرتبكا ناحية الزوج الراقد في التابوت وكأنه يريد أن يحمله على ظهره.)
الأرملة :
ماذا تفعل؟ أتريد أن تحمله على ظهرك؟
الحارس :
ولم لا؟ ما دمت تريدين هذا.
الأرملة :
أنا أريد هذا؟ الآن فهمت.
الحارس :
ماذا فهمت؟
الأرملة :
أنك خارون مبتدئ، هل نسيت أنه ينقل الأرواح؟
الحارس :
ألم تنتقل روحه بالفعل إلى هناك؟
الأرملة :
وتسألني أنا؟
الحارس :
بالطبع، بالطبع، إنه هناك، في هاديس.
الأرملة :
بل مع الخالدين المنعمين.
الحارس :
هاديس أو الإليزيوم، لا يهم أنه هناك، هيا نذهب إليه، أيها الحكيم! أيها الحكيم (يمد ذراعه نحوها، تمد يدها مترددة، يقبض عليها بشدة) .
الحارس :
أولا لا بد أن تهبطي القارب، هيا، لا تخافي. (الأرملة ترتعش يدها في يده، تترنح وتكاد تسقط، يضمها إليه بشدة.)
الحارس :
امسكي ذراعي بقوة، لا بد أنها الريح.
الأرملة :
دعني (تستسلم له) .
الحارس :
نعم نعم، نسيت أنك منهوكة من الصوم والعطش (يبحث عن حزمة الطعام والزجاجة ويقدمهما مرتبكا) .
الأرملة :
ونسيت أنني أقسمت على الصوم حتى الموت؟
الحارس (مرتبكا) :
هذا ما قالته الخادمة، ولكن لا يمكنك أن تقطعي هذه الرحلة الطويلة.
الأرملة :
بل لا بد أن أقطعها.
الحارس :
أتوسل إليك.
الأرملة :
لقد عاهدته ولن أتراجع عن عهدي.
الحارس (يشرب) :
تذكري وعورة الطريق، الأرواح الشرسة والوحوش الكاسرة، جرعة واحدة .
الأرملة :
لقد مت وانتهى الأمر، إنها لن ترد الحياة إلي.
الحارس :
ولن تردك للحياة، لا تخافي، جرعة واحدة.
الأرملة :
واحدة فقط.
الحارس :
نعم نعم، كما يقولون: جرعة للطريق (يناولها، تشرب) .
الأرملة :
والطريق وعرة.
الحارس :
هات يدك (تناوله يدها، يلفها حول خصره فلا تمانع)
أفسحي مكانا أيتها الأرواح اللزجة! ابتعدي أيتها الأشباح المتطفلة! يا لهذا الزحام! أين نراه؟ من يدلنا عليه؟
الأرملة (كأنها ترافقه وتبحث عنه) :
لا بد أن نجده، سنجده حتما، إنه أشهر من أن يضيع في الزحام.
الحارس :
نعم نعم، الحكيم الصامت الوحيد، لا بد أنه وحيد هناك.
الأرملة :
ناد عليه، نادي.
الحارس :
يا سكان هاديس.
الأرملة :
قلت لك الإليزيوم.
الحارس :
أيها الخالدون، من رأى منكم حكيم الرومان العظيم؟ من يعرف الرواقي المشهور؟ أيتها الأرواح، أيتها الظلال والأشباح، حكيم على رأسه تاج المجد والفخار، على جبينه إكليل الغار، الإكليل الذي وضعه عليه الطاغية بنفسه.
الأرملة :
ليس هذا صحيحا، زوجي رفض هذا الإكليل من يده.
الحارس :
حقا؟ إذا فهي إشاعة كاذبة.
الأرملة :
بالطبع كاذبة، ما زلت أتذكر ما قاله بالحرف الواحد للرسول الذي جاءه من القيصر.
الحارس :
ماذا قال؟
الأرملة :
قل لسيدك: لن أسمح له أن يصنع من دمي وردة يزين بها صدره.
الحارس :
ولم يفعل شيئا؟
الأرملة :
من؟ لا أفهم ماذا تعني، زوجي كان يميل إلى الصمت.
الحارس :
هذه هي المصيبة.
الأرملة :
إنه مفكر، عمله أن يفكر.
الحارس :
مصيبة أخرى، يفكر ولا يعمل، يتأمل ويملأ الكتب كلاما.
الأرملة :
يملؤها حكمة، حكمة لا يفهمها حارس جثث مثلك.
الحارس :
تقصدين خارون؟
الأرملة :
خارون الفاشل، يقطع الرحلة قبل أن يبدأها.
الحارس :
بل لا بد أن نستمر فيها، لا بد من البحث عن الحارس الآخر.
الأرملة :
من تقصد؟
الحارس :
ألم يكن يحرس الجثث أيضا؟ (ينادي فجأة)
ابتعدي أيتها الأرواح اللعينة! يا هاديس!! ساعدنا يا زوج برسيفونة المخيفة! أنت يا أقسى القضاة وأعدلهم! يا من تجلس وسط النيران على عرشك وفي يدك الصولجان! يا من تحاكم أرواح الموتى هل حاكمته؟ يا ملك الموت وملك الحياة ساعدنا في العثور عليه! هل هو ميت في مملكة الموت كما كان ميتا في مملكة الحياة؟
الأرملة :
جاوزت الحد، توقف.
الحارس :
لا بد أن نستمر، لا بد أن نعثر عليه، انظري، ها هو ذا، صامت ووحيد، يقف بعيدا عن كل الأرواح، تماما كما هو الآن في تابوت حكمته، أنت أيها الشيخ! تكلم! تكلم!
الأرملة :
اصمت أنت ولا تتكلم.
الحارس :
لا بد أن يتكلم، لا بد أن يقدم الحساب.
الأرملة :
هل تحاكمه أيضا؟!
الحارس :
ويحاكمه الموتى الأحياء، تحاكمه المدينة الميتة.
انظري! (يشير بذراعيه إلى المدينة في الخلفية)
ألا ترين! هنا أيضا أشباح وظلال، ملايين الموتى يمص دماءهم الذئاب، ملايين الفقراء تطاردهم الكلاب، كلاب تغش وتخادع وتحتال، تنشد أغنية الولاء لحذاء القيصر، والضفادع والصراصير والهوام، كلها تدوس على جثة المدينة، انظري، هناك أيضا يجلس الحكيم، ينكس أعلام الفكر المشلول، يتأمل ولا يحرك ساكنا، يتفرج ويبحث عن الحقيقة.
الأرملة :
أجل! كان يبحث عن الحقيقة.
الحارس :
قلتها بنفسك! يبحث عنها، الحقيقة تصنع أيتها الجميلة (يشدها إليه) .
الأرملة :
ما هذا؟ دعني.
الحارس :
وهذه الحقيقة؟ هل أحسست بها؟ (يحاول أن يضمها إليه)
هل شعرت بدفئها وحنانها وجمالها؟ أيها الميت على الأرض وفي هاديس.
الأرملة :
لقد أخطأت الطريق، قلت لك الإليزيوم.
الحارس (مستمرا) :
أنت أيتها البومة الخرساء، عشت الموت ومت الحياة.
الأرملة :
اسكت! اسكت! لقد عاشها أكثر منك، أكثر وأعمق من أي إنسان، اسكت يا حارس الجثث.
الحارس :
ألم أقل إننا شبيهان؟ أنا أحرس الموتى مثله، ولكنني أحرس موتى لم أقتلهم، إنما قتلهم الطاغية، أما أنت فتحرسين جثة رجل قتلك.
الأرملة :
أنت لا تفهم، لقد كان يحبني، طالما أطرى جمالي.
الحارس :
أطراه؟ نعم، بالكلمات، لا شيء إلا الكلمات، تركك تطفين عليها كما يطفو الغريق على الأخشاب الباقية من سفينة غارقة، أما هذا النهر الملتهب فلم يعرفه، لم يحبه (يضمها بشدة) .
الأرملة :
أنت تكذب، تكذب، لقد أحبني كما أحببته.
الحارس :
وترك العطر نائما في هذه الوردة (يحاول أن يقبلها فتبتعد عنه صارخة )
وها هي تذبل، تذبل.
الأرملة (وهي تبكي على التابوت) :
ليتني ما سمحت لك بالدخول.
الحارس (مرتبكا) :
معذرة يا سيدتي، معذرة.
الأرملة :
الذنب ذنبي.
الحارس :
جاوزت الحد كما قلت.
الأرملة :
وظلمته أيضا. إنك لا تعرف شيئا عنه ولا عني. لقد عرفت السعادة بجانبه.
الحارس (ذاهلا) :
السعادة؟
الأرملة :
انظر إليه، الفضيلة نفسها لا يمكن أن تكون أجمل من هذا، الاستقامة والترفع فوق هذا العالم، الكبرياء في صورة إنسان.
الحارس :
هل قلت إنسان؟!
الأرملة :
إنسان وحكيم، كنت أدور في فلكه ولا أقترب منه، أرف في نوره ولا أحترق.
الحارس :
نعم، ولا تحترقين.
الأرملة :
ما زلت أسمع رنين كلماته حتى الآن.
الحارس :
كلماته؟ نعم نعم.
الأرملة :
يا زوجتي الصغيرة، السعادة أن تعيشي في وفاق مع الطبيعة، أنت جزء من الكل الواحد الحي، أنت جزء من ال...
الحارس :
اللوجوس، هكذا يسمونه.
الأرملة :
أجل! أجل! نسيت هذا، يظهر أنك تفهم هذه الأمور.
الحارس :
لقد قرأتهم جميعا.
الأرملة (تترك التابوت وتتجه نحوه) :
قرأتهم جميعا؟!
الحارس :
وألقيتهم في النار.
الأرملة :
أحرقت كتبهم؟
الحارس :
وذهبت إلى الغابة.
الأرملة :
شاب مثلك يترك المدينة ودور العلم ويذهب للغابة؟
الحارس :
نعم؛ لكي أعيش، أنا ورفاقي الستة قررنا أن نعيش.
الأرملة (تقترب منه) :
رفاقك الستة؟ تقصد الذين تحرس جثثهم. (الحارس يصمت.)
الحارس :
كل شيء قد انتهى كما ترين.
الأرملة (تقترب منه وتمد يدها وتجفف خديه، يمد ذراعيه ويهم بضمها إليه ثم يتردد ويسقطان بجانبه) :
قل لي: من أنت؟
الحارس :
ومن أنت؟
الأرملة :
ألم تقل إننا شبيهان؟
الحارس :
الآن، نعم، ولكنني كنت شيئا آخر. عندما رأيتك أيقنت أنني سأكون شيئا آخر.
الأرملة :
حدثني أولا عما كنته.
الحارس :
آه! وهل تصدقين؟
الأرملة :
إن لم تعد للكذب. ماذا كنت؟
الحارس :
كنت وما زلت. ثائر فاشل وشاعر فاشل وعاشق ...
الأرملة :
شديد الفشل. صدقت في هذا، ثم ماذا؟
الحارس :
الباقي تعرفينه. إنهم معلقون هناك.
الأرملة :
في البرد والريح، ولكنني لم أرهم.
الحارس :
وأنا كدت أنساهم. لا بد أن أذهب.
الأرملة :
قبل أن تحدثني عنهم؟
الحارس :
لا بد أن أطمئن أولا عليهم.
الأرملة :
نعم ، نعم. وأطمئن عليك.
الحارس :
أخشى أن تكون الخادمة ... ولكنني لا أتصور هذا، لا بد أن أذهب.
الأرملة :
أسرع أسرع.
الحارس :
وأعود؟
الأرملة :
نعم، نعم، عد، يا حبيبي (تودعه إلى الباب. يقفز السلالم بسرعة) .
المشهد الرابع (الخادمة تندفع مذعورة نحو الضريح، في الخلفية يتخبط الحارس في الساحة مشرعا سيفه، تبدو ظلال الجثث وقد نقص عددها واحدة.)
الخادمة :
النجدة يا سيدتي! النجدة.
الأرملة (التي كانت تتجمل وتتزين) :
ما هذا؟ ماذا بك؟
الخادمة :
الوحش الكاسر، أنقذيني منه.
الأرملة (تواصل زينتها) :
وحش؟ أين رأيته؟
الخادمة :
الحارس يا سيدتي.
الأرملة :
خارون الفاشل؟ ماذا فعل أيضا؟
الخادمة (تركع عند قدميها) :
أرجوك يا سيدتي، كاد أن يقتلني.
الأرملة :
يقتلك؟ هل ينقل الأرواح أم يقتلها؟
الخادمة :
بحق زيوس، أسرعي وإلا حدثت جريمة. إن لم يقتلني فسوف يقتل نفسه. إنه يقطع الساحة كالمجنون وسيفه في يده.
الأرملة (تترك زينتها) :
وهل أفهم السبب؟ لا بد أنك السبب.
الخادمة (تبكي) :
نعم أنا. لا لا، بل هو، أقصد هي.
الأرملة :
تكلمي أيتها العنزة الغبية.
الخادمة :
صدقت، عنزة غبية، وهي المسئولة عن كل ما جرى.
الأرملة :
قلت تكلمي. هو أم هي؟
الخادمة :
الكلب المفترس يا سيدتي، جرى ورائي وكاد يغرز أنيابه في لحمي، وأفقت من النوم.
الأرملة :
إذن فقد نمت، ألم أحذرك أن تغمضي عينيك؟
الخادمة :
هو المسئول، ألح علي بالشرب، جرعة واحدة وحق زيوس، لكنها أثقلت جفوني.
الأرملة :
وجرى الكلب المفترس وراءك.
الخادمة :
بل جرد سيفه وهجم علي، أخذ يلطم وجهه ويشد شعره ويبكي ويستغيث، ثم هجم علي بسيف يلمع كزيوس نفسه فجريت إليك.
الأرملة :
ألم أحذرك؟ لا بد أن اللصوص سرقوا الجثث.
الخادمة :
واحدة فقط يا سيدتي، لا بد أنهم غافلوني وسرقوها، وهو الآن يصرخ ويتوعد من أجل جثة واحدة.
الأرملة :
لأنهم سيعلقونه مكانها.
الخادمة :
هذا ما يقوله. إن لم تدركيه قتلني أو قتل نفسه.
الأرملة :
يقتل نفسه؟!
الخادمة :
الذنب ذنبي، لو كنت اختفيت كما أمرتني ما حدث شيء، سيدتي.
الأرملة (عند الباب) :
كفى ثرثرة. ابتعدي عن الباب.
الخادمة :
دعيه يقتلني . دعيه يعلقني في مكانها. إنني على استعداد يا سيدتي، سأتمدد هنا بجانب سيدي وأنتظر طعنته.
الأرملة (وهي تفتح الباب وتقفز الدرج) :
ليتك تصلحين لشيء.
الخادمة (وهي تطل عليها من الباب ثم تندفع وراءها) :
لا أصلح لشيء؟ كان دائما يقول لي هذا، ومع ذلك اشتقت إليه، وحين رآني حاول أن يعضني فجريت. أيها الوغد! أيها الكلب المفترس! ألم تكتف بما فعلته في الدنيا؟ وماذا تفعل الآن؟ ماذا تفعل الآن؟
الأرملة (ترى الحارس واقفا كالتمثال أمام المصلوبين الخمسة. سيفه مشرع في يده وعلى وجهه أمارات اليأس والجنون) :
خارون!
الحارس :
لا تقتربي مني.
الأرملة (تتقدم نحوه) :
هات هذا السيف. هل أصبح حارس الأرواح قاتلا؟
الحارس :
قاتل ومقتول: لا مفر من قتل نفسي.
الأرملة :
وجبان أيضا؟
الحارس :
شجاعتي الآن في قتل نفسي.
الأرملة :
هات السيف.
الحارس :
قلت لك لا مفر، سترينه الآن ينغرز في صدري، أم تفضلين أن تريني معلقا بجانبهم؟
الأرملة :
لن أسمح بهذا. قلت لك هات السيف.
الحارس :
سيعلقونني مكانها. أنت لا تعرفين عقابهم. الأفضل أن أقتل نفسي بيدي.
الأرملة :
وتقتلني معك؟
الحارس :
ليتني أموت بيدك. هذا هو السيف، ادفعيه بكل قوتك في صدري، خذي، ضربة واحدة تريحني. (يسلمها السيف.)
الخادمة (تظهر من وراء سيدتها) :
سلمت يداك يا سيدتي.
الحارس :
أيتها الملعونة! (يجري وراءها.)
الخادمة (تجري) :
سيدتي، سيدتي، اقتليني إذا كان هذا يريحه.
الحارس :
لن يريحني أن تبتلعك كلاب هاديس بأجمعها.
الخادمة :
كلب واحد يا سيدي، الذنب ذنبه، ليته ابتلعني ولم أصح من النوم.
الأرملة :
لو كنت اختفيت من البداية.
الخادمة :
سأختفي حالا يا سيدتي، دعي السيف يحل المشكلة.
الأرملة :
وهل يحلها يا غبية؟
الخادمة :
بالطبع يا سيدتي، يمكن أن أعلق في المكان الخالي.
الأرملة (ضاحكة) :
ما رأيك في هذا الحل؟
الحارس :
امرأة مكان رجل؟ هل تظنين أن هذا يرحمني من العقاب؟ اختفي أيتها الملعونة.
الأرملة :
نعم اختفي الآن من وجهه (لنفسها)
تعلق في مكانه؟ حقا حقا.
الخادمة :
ماذا قلت يا سيدتي؟
الأرملة :
قلت اذهبي الآن. اذهبي بلا عودة.
الخادمة :
أذهب؟ قبل أن تقتليني يا سيدتي؟
الأرملة :
قلت اذهبي. لن أقتلك ولن أحتاج إليك.
الخادمة :
إذن فعلقيني حية، افعلي بي ما شئت.
الأرملة :
قلت اذهبي بعيدا عني.
الحارس (يجري وراءها) :
ألا تريدين أن تختفي.
الخادمة (وهي تنصرف مذعورة) :
لا أحد يريدني، حتى الموت لا يريدني. سأذهب، سأذهب. (الحارس والأرملة يضحكان ثم يسكتان فجأة، الأرملة تتأمل الجثث المعلقة لحظات ثم تخاطب الحارس.)
الأرملة :
إنهم صامتون، والليل من حولهم صامت، حتى النجوم الساهرة فوقهم لا تريد أن تتكلم، من ينظر إليهم لا يحسبهم لصوصا، بل حكماء يفكرون في الحياة والموت.
الحارس :
إنهم ليسوا لصوصا.
الأرملة :
أكنت تعرفهم؟
الحارس :
قلت لك هم رفاقي، عشنا سنين في الغابة والجبل، دبرنا الثورة وفشلنا، وها أنا أصبح حارسا على جثثهم، هذا هو عقاب الطاغية، أليس من المحزن أن يفشل الإنسان إلى هذا الحد؟
الأرملة (تجلس على مقعد حجري باسترخاء) :
لم تفشل في كل شيء. تعال حدثني عنهم.
الحارس :
عن أي شيء أحدثك؟ عن صلبهم أمام عيني؟ عن فرحة الطاغية وشماتته؟ عن حظي الذي أوقعني في يده ليجعلني حارسا عليهم؟ بعد قليل سترينني معلقا بجانبهم.
الأرملة :
قلت لم أسمح بهذا. لن يسرقوا مني حبيبين في يوم واحد.
الحارس :
وماذا يمكنك أن تفعلي؟ هل ستسرقين جثتي كما فعل أقارب رفيقي ليواروه التراب؟
الأرملة :
بل سأسرقك حيا لا ميتا.
الحارس :
فات الوقت. بعد لحظات يأتي حارس آخر ليتسلم نوبته. إن لم تسرعي بطعن هذا السيف في صدري فسيتولى هو ذلك. هاتي السيف.
الأرملة :
خذه بشرط واحد، أن تقتلني أولا.
الحارس :
وما ذنبك أنت؟
الأرملة :
ألم تعرفه بعد؟
الحارس :
أعرف أنني لا بد أن أعاقب نفسي.
الأرملة :
ولماذا تعاقبها؟
الحارس :
لأنها أحبت أكثر مما ينبغي، لأنها ركبت معك في قارب يغرق.
الأرملة :
أنا التي كنت أغرق، وقد جئت لتنقذني.
الحارس :
وها هي الموجة التي سبحت عليها تغرقني، لا لا، لا أريد أن تغرقي معي، يجب أن تبقى عروس البحر.
الأرملة :
لتغرق وحدها؟
الحارس :
لتسبح على موجة أخرى . إن بوزيدون القاسي يريد أن أموت وحيدا على الشاطئ.
الأرملة :
وتتركني يا خارون؟
الحارس :
أتركك للحياة، لنور الشمس. لقد عبرت بك البحر المعتم وعلي الآن أن أغرق نفسي قبل أن يغرقني الطاغية.
الأرملة :
ألم تفكر في؟
الحارس :
أكثر مما أستحق. أكثر مما يجب. وها هي الآلهة تعاقبني وتصدر حكمها علي. يا خارون الفاشل، دع القارب والمجذاف، أبحرت أبعد مما ينبغي، حلمت بالشواطئ التي لن تزورها، خدعت عروس البحر فدعها لربان أقدر منك.
الأرملة :
عروس البحر ما زالت بجانبك.
الحارس :
بعد قليل تراني معلقا هناك.
الأرملة :
قلت لك لن أسمح بهذا.
الحارس :
أتسمعين الأجراس؟
الأرملة :
لتدق كما تشاء، لن يأخذوك مني.
الحارس :
لحظات ويأتي الحارس الآخر.
الأرملة :
لن يأخذك مني، لن تموت وأنا حية.
الحارس :
أسرعي وسددي الطعنة، يكفيني أن أموت على صدرك.
الأرملة :
بل ستعيش وأدفئك بصدري.
الحارس :
إذن فأعطيني السيف.
الأرملة :
أعطيك شيئا آخر (تمد شفتيها إليه فيبعد وجهه) .
الحارس :
اطبعيها على جبين رجل آخر.
الأرملة :
ترفضها؟
الحارس :
لا أستحقها، هاتي السيف!
الأرملة :
هل تقبل شيئا آخر؟
الحارس :
لا شيء الآن سوى السيف، لا شيء سواه.
الأرملة :
بل شيء آخر.
الحارس :
إذن فهاته. لا تضيعي الوقت.
الأرملة :
لا أستطيع وحدي، لا بد أن تحمله معي.
الأرملة :
لغز هذا أم حل؟
الأرملة :
اقترب مني.
الحارس :
قلت لك لا أستحق.
الأرملة :
طلبت أذنك! (يمد أذنه لها، تهمس فيها فيصيح مستنكرا.)
الحارس :
المرحوم!
الأرملة :
هو نفسه!
الحارس :
مستحيل. لا يمكن أن تكون هذه فكرتك! لا يمكن أن أتصورها منك!
الأرملة :
إنها من الخادمة.
الحارس :
هذه الملعونة؟
الأرملة :
انتظر. ألا تذكر أنها عرضت عليك أن تعلقها هناك. سمعتها فأضاءت الفكرة في عقلي كالبرق.
الحارس :
أتفعلين هذا وأنت تحبينه؟
الأرملة :
أفعله لأني أحبه.
الحارس :
وترضين أن يعلق مع اللصوص؟
الأرملة :
أرضى لأنني أحبك، ثم إنهم ثوار لا لصوص. لقد أحببته وأحبني في حياته. وهو في موته يثبت أنه لا يزال يحبني.
الحارس :
وسمعتك في المدينة؟
الأرملة :
سنترك المدينة.
الحارس :
وتذهبين معي إلى الغابة؟
الأرملة :
وتجعلني كوخك وحطبك.
الحارس :
بل ناري التي استدفئ بها.
الأرملة :
حبيبي.
الحارس :
حبيبتي. (يتعانقان لحظة. تنتزع نفسها منه وتقف وهي تقول) :
الأرملة :
أجراس الليل تدق. هيا يا خارون العجوز!
الحارس :
هيا يا عروسي.
الأرملة :
ماذا تفعل؟
الحارس :
أعد القارب.
الأرملة :
أخشى أن يغرق من ثقل الحمل.
الحارس :
سأحمله على ظهري.
الأرملة :
سنحمله معا، هيا، هيا.
المشهد الخامس (نفس المنظر، الساحة على ضوء النجوم البعيدة. ظلال المصلوبين الستة تمتد على الأرض، الخادمة تدخل على أطراف قدميها وهي تتلفت يمنة ويسرة.)
الخادمة :
أمراني أن أذهب، لعناني وطرداني كأني كلبة من هاديس. لتغفر لكما الآلهة، لتبارككما الآلهة. لكني أرجع مرة أخرى، وإلى أين أذهب؟ بحقك يا رب الأرباب، إلى أين أذهب؟ هل لي أحد غيرك يا سيدتي؟ هل لي أحد غيرك يا سيدي؟ وماذا أفعل في المدينة؟ لا أحد يعرفني؟ لا أحد يسأل عني. ولو رأتني جارة أو جار عجوز فسوف يهتفون هذه هي خادمة الطاهرة العفيفة، أقسمت على نفسها أن تموت معها حزنا على السيد، ما بالها تمشي في المدينة؟ هل هي شبح هرب من هاديس؟ لا لا؛ لهذا لم أذهب للمدينة. لم أر وجهي العجوز لأحد؛ لهذا لن أذهب إلى هناك. لن يرى أحد وجهي، سيدتي، سيدتي، لا أحد يجيب، والمصباح الزيتي قد انطفأ في الضريح، أين ذهب الحارس؟ أيها الحارس! أيها الحارس! أيمكن أن يكون قد اختفى؟ أيمكن أن يلقى عقابه بهذه السرعة؟ وهؤلاء اللصوص المساكين، لقد زادوا واحدا، أيمكن أن يكون قد صلب نفسه مكان اللص الذي سرقوه؟ ويلك يا زوجي الوغد! أكان من الضروري أن تزورني في الحلم؟ لن أسامحك أبدا. سترى كيف أشدك من أذنيك وأجلد ظهرك عندما أراك، لا تتعجل! سنلتقي حتما، وإلى أين أذهب؟ إلى أين أذهب؟ (تتجه نحو الجثث المعلقة وتعدها)
ستة، لا بد أنهم زادوا عما تركتهم. أيها الحارس المسكين، لا بد أنك قد فعلتها قبل أن يحاكموك. لا بد أنك سددت السيف إلى صدرك. يا للشباب المتهور! أتكون سيدتي قد علقتك مكانه ؟ وأين هي الأخرى؟ (تقترب من المصلوبين وتتأملهم واحدا واحدا)
مساكين. مساكين، صامتون كما تركتهم. وعندما تطلع الشمس ستفزع نومهم الصقور والجوارح والكلاب والذئاب. ويلي! من هذا؟ من هذا؟ سيدي المرحوم؟ سيدي المسكين؟ نعم نعم. هو نفسه. جسده، وجهه. شعره، هذا أنفه الطويل أيضا، وعيناه الصابرتان الراضيتان، سيدي نفسه، سيدي المسكين نفسه، معلق من قدميه. لا ليس هذا رداءه الذي دفن فيه، وقميصه الأبيض الناصع، أين ذهب؟ من أين له بهذه الخرق؟ رحمتك يا رب الأرباب؟ كيف ترضى بهذا؟ أيمكن أن تمرغ رأس النسر في التراب بعد أن سكنت القمم؟ ويلي! ويلي! ماذا فعلوا بك يا سيدي؟ ماذا فعلوا بك يا سيدي؟ (تبكي، يظهر الحارس في الجانب الآخر من الساحة، يتجه إليها.)
الحارس :
ما هذا؟ من أنت؟
الخادمة :
من أنا؟
الحارس :
ماذا تفعلين هنا؟
الخادمة :
وأنت! من أنت؟ لماذا تسألني؟
الحارس :
عجوز مخرفة. أنا الحارس بالطبع.
الخادمة :
احرس كما تشاء ودعني لحالي. وهل هؤلاء يحتاجون إلى حراسة؟
الحارس :
ولماذا ترينني هنا إذن؟ بالطبع يحتاجون لحراس. والحراس إلى حراس. هل أنت قريبة أحد منهم؟
الخادمة :
هؤلاء اللصوص؟
الحارس :
من يدري؟ ربما كنت تفكرين في سرقة واحد منهم.
الخادمة :
أنا؟ لآكله أم أستند عليه في شيخوختي؟
الحارس :
سنعرف الآن. ربما كنت عابرة سبيل. يا زميل! أنت!
الخادمة :
ناديت فلم يجب أحد.
الحارس :
ناديت أم فعلت شيئا آخر؟
الخادمة :
وماذا تفعل عجوز مثلي؟
الحارس :
من يدري ما يفعله الناس في هذه الأيام؟ انتظري حتى أبحث عنه، قفي هنا ولا تتحركي.
الخادمة :
وأين أذهب يا ولدي؟
الحارس :
يا حارس! أنت! أنت!
الخادمة :
لن يرد أحد. تسلم أمواتك ولا تتعب نفسك.
الحارس :
ما شأنك بهذا؟ قفي حتى نتحقق منك (ينادي وينصرف) .
الخادمة :
ها أنا أجلس أيضا. وإلى أين أذهب؟ (تقترب من جثة سيدها)
سيدي، سيدي، هل ذهبوا جميعا وتركوك؟ والموت في كل مكان. والمدينة البعيدة ميتة. ماذا خبأ القدر لك؟ ماذا يخبئ لنا؟ يا سيدي الطيب المسكين، ماذا فعلوا بك؟ ماذا فعلوا بك؟
الحارس (يسمع صوته من بعيد) :
يا حارس، يا حارس.
الخادمة :
سيدي، سيدي. (تبكي. يشتد بكاؤها قبل أن تنزل الستار.)
1983م
الليل والجبل
الشخصيات
المقهوي العجوز.
زوجته.
تاجر.
فتى:
يبحث عن أبيه في صنعاء.
زوج:
عائد إلى زوجته وبيته في صنعاء.
طفلة:
ابنة التاجر.
عروس:
تقوم بدور ابنة المقهوي.
شاب:
مغن جوال.
أبوه الضرير:
ضارب على الدف.
الفتى والزوج والطفلة والعروس:
ضيوف ينزلون في الفندق أو النزل الليلي «السمسرة» ويشاركون في التمثيل.
الليل والجبل (مقهاية في وادي الحوبان، تمر بها القوافل الصاعدة إلى صنعاء والهابطة منها، تربض بجوار عين ماء بنيت عليها قبة لضريح أحد الأولياء، وأمامها بركة تروى منها الدواب يسميها المسافرون «سبيل المزحل»، ترتفع بجانب المقهاية شجرة «طولق» عجوز، مدت فروعها عليها وعلى السبيل، وبجوارها «سمسرة» تؤوي الجمال والدواب. الوقت بعد الغروب، خمدت الحياة على سطح الجبل الأشم الذي يبدو من بعيد، وسكنت حتى فروع الأشجار المطلة من على الصخور الجهمة العالية، فلا يسمع إلا صفير الحشرات الصغيرة يقطعه نعيق البوم ونباح كلاب في القرى المجاورة. عواء كالفحيح المحموم يدوي بين حين وحين في أحشاء الجبل والوحشة ويتردد صداه طوال المسرحية «فيتجلمش»
1
المسافرون النائمون على الوسائد والحشايا في مدخل المقهاية المتسع، ويخمد الصفير، ويسكن النباح والنعيق وتجفل الدواب، والخيول يرتفع صهيلها خوفا ورعبا. خلف المدخل الذي تكوم فيه عدد قليل من المسافرين الذين فرغوا من مضغ «القات» وشرب القهوة، درج صغير تؤدي سلالمه الخشبية إلى أعلى المقهاية، حيث يسكن المقهوي العجوز وزوجته، ويعدان للزبائن ما يحتاجون إليه من الزاد والشراب. في هذا المكان المرتفع عدد من الأرائك والموائد والكراسي، ربما تكون مخصصة للضيوف الممتازين أو لمجالس السمر النادرة. وفي الجانب الأيسر نافذة كبيرة تفتح على شرفة يمكن أن نرى منها ضوء القمر الفضي الذي بزغ فوق قمم الجبال منذ قليل. السكون شبه تام، يتخلله شخير النائمين وأصداء النباح والعواء وضربات أقدام الخيل والجمال والدواب في السمسرة المجاورة. يدخل المقهوي، وهو «شيبة»
2
نحيل، محني الظهر، له وجه صغير ذو ذقن مدببة متناثرة بالشعر الأبيض كوجه الجدي الحزين، يقلب في صندوق خشبي طويل ويستخرج منه حزمة كبيرة من الثياب والأمتعة، وقبل أن يفكها تظهر زوجته مسرعة إليه، وهي كذلك امرأة رسم عليها الزمن نقوش الشيخوخة، وإن كان في سرعة حركاتها وحدة صوتها وإشارات يديها وملامح وجهها ما يكذب صحة هذه النقوش.)
المرأة :
بندت
3
الباب؟ (المقهوي لا يرد. يحتضن حزمة الثياب التي يحاول إخفاءها.)
المرأة :
دائما تنسى. آه يا ربي! أعلي أن أذكرك كل ليلة؟ (المقهوي صامت، كأنه طفل مذنب، يطرق برأسه إلى الأرض، تواصل كلامها المندفع.)
المرأة :
رحمتك يا رب. تعب من الفجر، وعندما يحل الظلام أطفئ المسرجة بنفسي، أطمئن على الباب، أتمم على الضيوف وأمسيهم بالخير، لماذا لا نغلقها ونستريح؟ أستريح يوما واحدا. (المقهوي لا يرد، يشرع أذنيه كمن يتسمع أصواتا بعيدة.)
المرأة :
ألا تسمعني يا رجل؟
المقهوي :
ألا تسمعين أنت؟ (أصوات مختلطة تتردد من بعيد.)
المرأة :
أسمع؟ وإذا تصنت مثلك فمن يعمل؟
المقهوي :
حاولي أن تغلقي فمك وتسمعيه.
المرأة :
أسمع، أسمع، عواء وصفير، صهيل وزفير، نفس الشيء كل يوم وليلة، نفس الأصوات طول العمر.
المقهوي :
إنه صوته. اسكتي قليلا وسوف تسمعين.
المرأة :
ولماذا أسكت أو أسمع؟ أهو شيء جديد علينا؟
المقهوي :
إنه هو، في كل مرة يرن بصوت جديد، فزع جديد ورعب جديد.
المرأة :
تعودنا عليه من سنين، نصبح عليه ونبيت عليه. أي جديد في هذا؟ (يسمع صوت فحيح مكتوم يزداد ارتفاعا كلما أوغل الليل.)
المقهوي :
تعرفين ما بيني وبينه، حتى الضيوف يحسونه أكثر منك.
المرأة :
دعهم في حالهم، لم يجف عرقهم بعد، أتريد أن تقلقهم؟
المقهوي (يتقدم نحو الحاجز الخشبي ويطل على النائمين) :
ها هم يتململون.
المرأة :
قلت دعهم في حالهم. أحلام المتعبين من الشمس والصخور والرياح. لم أصدق أنهم ناموا لكي يكفوني شرهم.
المقهوي (مشيرا إليهم) :
الطفلة فتحت عينيها ثم تكومت على نفسها، التاجر تقلب على جنبه الأيمن وضم ابنته إلى صدره، الفتى الباحث عن أبيه أفاق وتحسس جنبيته.
4
الزوج العائد لزوجته في صنعاء هز رأسه ووضع كفه على أذنه . انظري للشفاه التي تتمتم والشفاه التي تتحرك، حتى العروس المهاجرة.
المرأة :
لن أنظر شيئا، سأذهب لأطفئ المسرجة وأغلق الباب.
المقهوي :
وإذا صحوا من نومهم فزعين؟
المرأة :
لن يصحو أحد. اسهر أنت مع فزعك (صوت فحيح مكتوم) .
المقهوي :
يا الله! ألا تسمعين يا امرأة؟ (تسقط منه حزمة الثياب.)
المرأة :
نعم أسمع. رجعنا لما فات؟
المقهوي :
لم نرجع، ولم يفت. أنت تعرفين.
المرأة :
معزية بعد شهرين. مذكرة كل الأحزان؟ ألم نتفق على إخفائها في الصندوق؟ (تهجم على الحزمة وتقبض عليها.)
المقهوي :
لم نتفق على شيء. هاتها يا امرأة.
المرأة :
تشتهي
5
مأتما تنوح فيه؟
المقهوي :
قلت لك هاتها. ألم تسمعيه؟
المرأة :
أسمعه كل ليلة، لم ينقطع أبدا، كلما مات واحد ولد عشرة. تعلم هذا من زمان.
المقهوي :
ولهذا أخرجتها من الصندوق.
المرأة :
لتقلب فيها وتتذكر.
المقهوي :
لم أنس حتى أتذكر. إنما الليلة ...
المرأة :
تريد أن تعلقها على الحائط لتعذبني وتعذب المسافرين المساكين. هل تنتظر ابن ذي يزن؟
المقهوي (أخذ منها حزمة الثياب وبدأ يفكها ويقلب محتوياتها) :
ولماذا لا أنتظره؟ ألم أقل لك إنه سيأتي حتما، الليلة.
المرأة :
انتظر كما تشاء. أما أنا فأشقى، أشقى ليل نهار حتى أسقط. (تهبط الدرج وتنشغل بترتيب بعض المساند المتناثرة، وجمع أوراق القات وأغصانه الملقاة على الأرض. تذهب إلى الباب وتحكم إغلاقه بالمزلاج. يتقلب بعض المسافرين ويفتحون عيونهم ثم يغمضونها. تفتح الطفلة عينيها وتتأوه. يطل عليها المقهوي من فوق الدرج ويناجيها ثم ينكب على أشيائه ويتلمسها كأنها كنوز عروس في ليلة زفاف.)
المقهوي :
نامي يا حبيبتي، لا تخافي. إنه جبان، يفح في المزجل وبين الأشجار والمستنقعات، جبان وغدار، لكنه لا يقترب، النور عدوه وعندنا نور، لا يهاجم غير المسافر الوحيد، جبان وغدار، جبان وغدار (يبدأ في استخراج محتويات اللفافة ويناجيها)
العمامة. وصل إليها الدم أيضا، والسيف المكسور انكسر مرتين، مرة على الصخر ومرة بين أنيابه. والجلباب الأسود، ما زالت آثار الفم الكريه تلطخه، حتى الكيس الجلدي لم يسلم من عضته، كأنه ينتقم من الرسائل أيضا، يلوكها في فكه ليكشف أسرارها - كما لاك جسده وجرده من ثيابه - آه يا ولدي! حذرتك فما استمعت. نبهتك للخطر الأسود ففتحت له ذراعيك. يا جنون الشباب! تحتضن الموت كأنك تحتضن عروسك. هل تذكرت أباك؟ لعنني ولعن آبائي، ثم اشتعلت فيه النار وأكلت حطب الشيخوخة والأيام، وانطلق زئير الأسد الغاضب من جوف الشيخ الصالح، ما زالت جنبيتك تنز دما، دمه أم دمك؟ قتلك وقتلته، واجتمع الأشبال عليك، ما تركوا إلا العظم، واختلط ترابك بترابه (يخرج قطعة ثياب ملوثة ويضعها على عينيه ويجهش بالبكاء، يمد يده المعروقة إلى أشياء أخرى؛ عقد وأسورتين وملابس نوم، يشمها ويسندها على صدره ووجهه وعينيه. يهمس لنفسه آه يا ابنتي، يا حبيبتي! يبكي، تعالجه زمجرة المرأة من أسفل) .
المرأة :
يا رجل، يا رجل، ألا تسمع الكلام أبدا؟
المقهوي :
وأنت، ألا تسمعينه؟ (يتردد صوت صفير مخيف مكتوم.)
المرأة :
ولكني لا أنبش القبور. دعني الليلة أستريح.
المقهوي :
الليلة، نعم. الليلة (يبدأ في تعليق قطع الثياب على مسامير في الحائط، كأنها مخلفات أثرية لمغامرة قديمة. يضع كل قطعة في مكانها بحب وعناية، ومع الدموع تنسكب دندنة من فمه الخالي من الأسنان. المرأة فرغت من ترتيب «المقيل»
6
في المدخل وصعدت الدرج ووقفت تنظر إليها. تزفر يائسة) :
المرأة :
الليلة أشتهي أن أستريح.
المقهوي :
الليلة، إحساسي لا يخيب.
المرأة :
فض مأتمك أو اجلس فيه وحدك.
المقهوي :
تشتهين الراحة. اذهبي بسلامة الله (يواصل تعليق القطع والهمهمة بأغنية لا نتبين حروفها) .
المرأة :
وأترك البومة تنعق وحدها؟
المقهوي :
لن أكون وحدي.
المرأة (وهي تنصرف) :
رحمتك يا رب، رحمتك يا الله. (ترفع يدها محذرة.)
المقهوي :
أفهم ما تقصدين، سأهتم بالمعزين.
المرأة :
ولكن حذار أن توقظني، القهوة عندك والقات، وإذا اشتهوا طعاما فلينتظروا الفطور (يسمع صوت غناء خافت من بعيد، يشرع أذنيه ويتلفت نحو النافذة) .
المقهوي :
سمعت؟ إنهم قادمون.
المرأة :
قادمون أو ذاهبون. أريد أن أنام (يقترب الصوت، يتجه إلى النافذة)
شيبة ومجنون. رحمتك يا رب، رحمتك يا الله (تختفي وهي تدمدم. بعد قليل يتضح الصوت. يخرج العجوز من الشرفة وهو يتمتم
عن ساكني صنعا، عن ساكني صنعا حديثك هات. يقترب الغناء ويعلو شيئا فشيئا ليطغى على دمدمة الرياح وصفير الحشرات وعواء الكلاب، صوت شيء يشبه صوت حادي القافلة يصاحبه طرق على دف مخنوق، يقترب الصوت أكثر فنميز أصداء من الأغنية المشهورة، تنبعث من حنجرة حزينة على طرقات الدف ونغمات أنين القيثار):
عن ساكني صنعا
حديثك هات وا فوج النسيم
وخفف المسعى
وقف كي يفهم القلب الكليم
هل عهدنا يرعى؟
المقهوي (مرددا) :
وما يرعى العهود إلا الكريم (يطل من النافذة، ثم يهبط الدرج وهو لا يزال يردد الأغنية، طرق على الباب: يا مقهوي، يا مقهوي. يشد المزلاج فيصر الباب، يفتحه ويطالعه وجه شاب عليه آثار السفر والتراب. تستقبله نغمات الأغنية بصوت يوشك أن يوقظ النائمين: وما يرعى العهود إلا الكريم) .
المقهوي :
حيا الله، حيا الله.
الشاب :
حيا الله. عطاش وجائعون.
المقهوي :
تفضلوا، عندنا الطعام والشراب، تفضلوا.
الشاب (وهو يسحب ربابته) :
مساء الخير، مساء الخير، كريم والله يا مقهوي.
المقهوي (يحاول أن ينبهه إلى النائمين) :
وبقية القافلة؟
الشاب (ضاحكا) :
قافلة، ليس معي إلا أبي، ادخل يا أبتاه (يدخل شيخ أعمى، تسبقه ذراعاه اللتان تتحسسان الباب) .
المقهوي (لا يخفي خيبة أمله) :
تفضلوا، تفضلوا، يدك يا والدي.
الأعمى :
حياكم الله، حياكم الله. (المقهوي يجلسه على حشية في المقيل. يسمع أنفاس النائمين ويقول):
الأعمى :
لا تعتب عليه يا رجال،
7
هكذا حال الشباب. مشتاق إلى صنعاء.
المقهوي :
ومن لا يشتاق إليها؟ يا مرحبا، يا مرحبا.
الشاب (يغني) :
وسرنا مكتوم، لديهم أم معرض للظهور؟
الأعمى :
يا ولدي، الصبر جميل.
المقهوي :
زين ما قلت يا والدي، الصبر جميل.
الشاب (رافعا صوته) :
من عشق صبر، وإلا فما جهده واحتياله؟
الأعمى :
يا ولدي بالله عليك، غدا يظهر سرك. غدا والصبر جميل.
الشاب :
غدا غدا، من الليلة يا والدي.
المقهوي (سارحا ببصره) :
الليلة؟
الشاب :
نعم الليلة، الليلة يظهر السر والمستور (يرفع صوته) :
نسيمة لما بي حركت لي شجن
كادت تحدثني بسري علن
فقلت ما بك يا نسيم اليمن
ما حال نازح وسط قلبي سكن
8 (الأعمى يصاحبه بطرقات خفيفة على الدف، يتوقف، يحس تردد أنفاس النائمين وتقلبهم على الفراش، تفتح الطفلة عينيها وتجلس وتنادي على أبيها، يصحو.) (الأب مستنكرا ثم تتبعه أصوات غاضبة في البداية ثم مندهشة.)
صوت :
نامي يا ابنتي، نامي.
صوت :
زمار وطبال.
صوت :
طلع الفجر يا مسلمين؟
صوت :
القمر في السما طالع، الحمد لله.
صوت :
الحمد لله، الحمد لله، كاد يخنقني ويكتم أنفاسي.
الشاب (يلمح العروس تجلس في فراشها متيقظة وهي تتأمله بإعجاب فيطلق صوته) :
نسيمة لما بي حركت لي شجن.
المقهوي (منتشيا) :
كادت تحدثني بسري علن.
الشاب (مصفقا بيديه) :
الليلة، نكشف سرك يا مقهوي، هيه، هيه. (ثم ناظرا للفتاة)
الليلة نسمر ونغني، نسمر ونغني حتى الفجر.
الأعمى :
يا ولدي، الناس جاءت لتنام.
الشاب :
بل لتصحو وترجع معنا يا أبي:
يا ربة الصوت الرخيم رجعي
وافشي هواك قبلي وذيعي
صوت (من أحد النائمين) :
ويا حمامات الغصون أسجعي.
المقهوي :
وطارحيني في سجوعي.
الشاب :
ويا غصون البان نوحي معي.
المقهوي (موشكا على البكاء) :
وشاركيني في ولوعي.
الأعمى :
يا ولدي.
الشاب :
اسكت يا شيبة! نجونا منه بأعجوبة.
الأعمى :
يا ولدي، الناس نيام.
الشاب :
نجونا منه ونجاهم ربي، هل أخطأت يا إخوان؟ (أصوات مختلطة، صحا الجميع الآن وبدءوا يتابعون الغناء والضجيج، يتساءلون ويردون في نفس واحد ويصفقون ويدندنون ويثرثرون.)
صوت :
أنتم أيضا؟ الحمد لله.
أصوات :
الحمد لله، الحمد لله.
الشاب :
لولا الوالد لوقعنا في فخه.
صوت (ضاحكا) :
لا بد أنه رآه قبلك.
الشاب :
قلتها بنفسك، ظل فحيحه يطاردنا وأنا أطارده بأغنيتي، حتى برز وجهه الأسود من خلف الصخرة وكدت أشم أنفاسه.
الأعمى :
وجذبته من ثوبه وصحت: ابتعد عن المزحل.
الشاب :
شرعت ربابتي لأضعها في فكه، شدني أبي وهو يصيح.
الأعمى :
يا ولدي، هذا وحش يبتلع السيف.
الشاب :
معي ربابتي يا أبي.
الأعمى :
لو معك سيوف الأرض جميعا، سيبتلعها يا ولدي.
الشاب :
ستخيفه أغنيتي.
الأعمى :
مغرور مجنون، أتخيف أغنيتك من لا يخاف الله؟
الشاب :
سيظن أنها قافلة، وهو جبان لا يهاجم إلا المسافر الوحيد .
الأعمى :
لكنه غدار يا ولدي، هيا نبتعد عن المزحل.
الشاب :
وتخفينا خلف صخرة، صخرة عالية ملساء لا تتسلقها حتى النملة، ورفعت صوتي.
الأعمى :
وأنا أحذرك وأتوسل إليك.
الشاب :
وأنا أغني ألف أغنية وأصدر من فمي وربابتي ودفي ألف صوت.
صوت (أحد المسافرين) :
حتى صدق.
الشاب :
ورأيته يبتعد ويجري بين المنحنيات.
صوت :
لا بد أنه لجأ لعرينه، ألم تسمعوا فحيحه بعد ذلك؟
الشاب :
أسود مسموم كفحيح الريح المجنونة في ليل ممطر.
صوت :
نجاكم ربي، نجاكم.
صوت :
لولا القافلة لضعنا.
صوت :
ولكنت الآن ببطنه أو في بطن عياله.
صوت :
أولاده يرعون معه، يخرجهم معه ويدربهم كل ليلة.
المقهوي :
كل ليلة، كل ليلة.
صوت :
لطف الله بنا.
صوت :
أكرمني لأجمع مالي من فم وحش آخر.
صوت :
لأجد عيالي. ابن أو بنت. العلم عند الله.
صوت :
كي ألقى وجه أبي، هاجر منذ سنين.
صوت (الطفلة) :
الله كريم، كي أحضن أمي والمولود.
صوت :
ويزف عروسان الليلة.
المقهوي :
الليلة.
الشاب :
الليلة، نحتفل ونسمر.
المقهوي (لنفسه) :
أحتفل، وآخذ ناري.
الشاب (مصفقا ومغنيا) :
عواقب الصبر الجميل تحمد، فيها المنى (أصوات تصفيق وترجيع)
تحمد فيها المنى.
الشاب (للمقهوي) :
هيا يا صاحبي.
المقهوي :
جمنة
9
قهوة؟
الأعمى :
ومداعة.
10
أصوات :
وقات.
أصوات :
قات على حسابي.
أصوات :
قات على حسابتي.
الشاب (رافعا صوته بالغناء. أبوه يوقع على الدف) :
إن صاحبي مثل روحي،
وإلا فلا كان صاحب.
والصاحب الجيد وسلة.
11
أصوات (تردد) :
لحين تبدي البوادي
12
الشاب :
وحينما تحتضي له.
أصوات :
يشرفك في البوادي. (المقهوي والأعمى تخالطهما أصوات أخرى):
على ولد زايد
13
وفي السنين المحيلة. (الجميع يستعدون للسمر. الطفلة تضحك وتقبل وجه أبيها. الفتاة تغالب خجلها وتداعب شرشفها
14
بينما يتفرس فيها المغني بإعجاب، التاجر يقلب جرابه باحثا عن شيء ثم يخرج يديه فارغتين ويتنهد، الأب يناوله سيجارة، يشكره ويحييه، تتردد أصوات: حيا الله، حيا الله، مساء الخير يا جماعة، مساء الخير يا جماعة، يغتنم الشاب فرصة غياب المقهوي ويتجول في المقيل، يلمح الدرج فيتجه نحوه ويلاحظ الثياب المعلقة على الجدران، يتأملها ويناجي نفسه، يعود المقهوي حاملا «جمنة» قهوة و«مداعتين» كبيرتين ، تصحو زوجته على الأصوات والضجيج وتندفع داخله، تلاحظ جو السرور المتفشي بين المسافرين الذين كانوا نائمين قبل لحظات فتكتم صياحها.)
المرأة :
قهوة، وقات؟
صوت :
طاب السهر يا حاجة.
صوت :
نشكر الله الذي نجانا.
صوت :
والفضل لله وللمقهوي.
صوت :
وللمغني على الربابة.
صوت الأعمى :
والشيبة صاحب الدف لا تنساه.
صوت :
تفضلي يا حاجة، لا يحلى السهر من غيرك.
المرأة (بغضب لزوجها) :
الديب ما يأكل الشاة، إلا إذا الراعي أهيس
15 .
المقهوي :
اسكتي يا امرأة.
المرأة :
سأسكت، الثور لا يتعلم أبدا.
المقهوي :
قلت اسكتي.
المرأة :
تدور في الساقية، وتفرح بالنواح.
المقهوي :
تعرفين ما أريد، اجلسي إذا شئت أو اذهبي.
المرأة :
سأجلس، وستعرف في النهاية عواقب السهر والسمر.
المغني (هابطا الدرج. يلاحظ ما بين المقهوي وزوجته. يرفع صوته بالغناء) :
لو تشتغل بالله يا قلب إن كان مستريح،
وخل خلق الله على الله إن يكن دينك صحيح.
مساء الخير يا حاجة.
المرأة :
مساء الخير.
المغني :
أسأل من الله المعطي السميع،
أن يصبح الشمل بك جميع.
الأعمى (على دفه) :
بالمصطفى الشافع النفيع،
محمد الغوث في القيامة.
المغني (مواصلا) :
للناس إن ضاقت الخنوق،
صلاة ربي عليه مدامة،
والآل ما لاحت البروق.
أصوات :
عليه الصلاة والسلام.
المغني :
اسمع يا مقهوي الخير.
المقهوي :
نعم يا صاحب الصوت الرخيم.
المغني :
الليلة تطيب الأسمار، وتروى الأشعار.
المقهوي :
حرفتك يا جار، والجار يخطي علينا، وليس نخطي على الجار.
المغني :
إن كنت أنا الراوي، فأنت كاشف الأسرار.
المقهوي :
ماذا تقصد؟
المغني :
يا صاحبي أنت صاحب هذه الدار، والدار بها أسرار (يشير إلى الثياب والأشياء المعلقة على الجدران، يلتفت الحاضرون إليها ويتعجبون) .
أصوات :
في الدار أسرار، ومن فمك يا جار، يحلو لنا التذكار.
المقهوي :
حتى ولو فيه ألم، والكاس مر مرار؟
المغني :
الكاس علينا تدور، مهما يكون ابن آدم، لا بد ما المقدور. (تسمع صيحات الطاهش
16
من بعيد، تتخلل الحوار التالي كأنها حد السيف المعلق فوق الرءوس.)
المقهوي :
سمعتم؟
صوت :
وحش غدار، نجانا منه الله.
المقهوي :
غيركم لم ينج منه، هل تريدون ...؟
المغني :
نعم نريد، باسم الحاضرين والغائبين.
المقهوي :
الحكاية تطول.
المغني :
أنا الحكواتي، وأفهم في التمثيل.
المقهوي :
نبدأ بذكر الله المعطي السميع.
المغني :
والمصطفى الشافع النفيع. (المقهوي يتجه إلى الدرج ويصعد عليه، يجمع قطع الثياب وبقية الأشياء من على الجدران، يكون الجميع قد تحلقوا في دائرة فيضعها أمامهم. تتردد صيحة الطاهش من بعيد. تجفل الدواب في السمسرة ويسمع صهيل الخيل.)
المقهوي :
سمعتم صوته يا إخوان، وهذه ضحاياه (ينثر الثياب والأشياء أمامهم) .
المغني :
العمامة عليها دم.
صوت :
والجلباب الأسود.
الطفلة :
الله، سيف مكسور، سآخذه يا أبي.
أبوها :
اسكتي يا بنت.
صوت :
وكيس عليه دم.
المقهوي :
ورسائل لم تصل لأصحابها.
صوت :
وثوب امرأة.
المرأة :
يا حسرتي يا ابنتي، دمك على رأس أبيك.
المقهوي :
الله بيني وبينك، وستحكمون يا إخوان.
المغني :
سنعرف البريء والمدان، ونحكم بالعدل والميزان.
المرأة :
الحكم يا ولدي لله (تبكي) .
المغني :
آمنا بالله، هيا يا مقهوي.
أصوات :
هيا، هيا.
المرأة :
حرام نبش القبور.
المقهوي :
ليتهم استراحوا في القبور (يسمع فحيح بعيد) .
أصوات :
من هم يا مقهوي؟ بالله اكشف لنا المستور.
المقهوي :
أرواحهم تهيم حولكم وتدور.
المغني :
أقرأ لنا الكتاب، ليسمع الأحباب، نادي على من غاب، يا صاحب الجلباب، اطرق علينا الباب.
المقهوي :
رأيته قبل أن يطرق الباب، كانت ليلة كهذه الليلة، نام المسافرون في هذا المكان كما تنامون، وخيم السكون على الجبال والأشجار والظلال، وعلى ضوء القمر رأيت شبحه يسابق الريح ويطارده الفحيح، اقترب من ينبوع الماء وشرب حتى ارتوى، تبينت شبحه على الضوء الفضي، شاب في مقتبل العمر، حافي القدمين يلبس السواد وحول خصره جنبية وسيف يتدلى من حزامه، تنحنحت ففزع من صوتي والتفت نحوي.
المغني (مشيرا إلى الفتى الجالس في الحلقة) :
هيا أيها الشاب.
الفتى :
لكن.
المغني :
تكلم معه قبل أن تطرق الباب.
الفتى (يتلجلج قليلا ثم يسأل) :
من؟ من هناك؟!
المقهوي :
أنا المقهوي.
الفتى :
هل لديك قهوة ساخنة؟
المغني (هامسا للشاب) :
وعشاء، أنت جائع ولا تنس العشاء.
المقهوي :
نعم وفراش وثير.
المغني :
أنت متعجل وتريد أن توصل البريد للملكة قبل طلوع النهار.
المقهوي :
جزاك الله يا مغني، تعرف الدار وأهل الدار.
المغني :
وأفهم لغات العيون والطيور والأشجار.
الفتى :
لا حاجة بي لفراشك الوثير، انزل وافتح الباب.
المقهوي :
وفتحت الباب، تفضل يا ولدي، البرد شديد، اقض الليلة معنا، عندنا ما تريد.
الفتى :
لا أستطيع؛ فالطريق بعيد.
المقهوي :
الليل مخيف وأنت وحيد.
الفتى :
لا بد من السفر الليلة، معي بريد.
المقهوي :
اطرح حملك يا ولدي وانتظر الفجر.
الفتى :
حملي لن يبرح ظهري، لا بد من وصوله قبل الفجر.
المقهوي :
طيش شباب وحماس. قلت لنفسي ربما يعبر الطريق لأول مرة ولا يدري شيئا عن أخطاره، لا تنفع معه الحجة واللين، فلآمر بعشاء ساخن، لعله يتدفأ ويسترخي حتى الفجر، يا امرأة، يا فاطمة.
المغني (مشيرا إلى زوجة المقهوي) :
وتجيبين: نعم، نعم، عندنا ضيوف.
المرأة :
بل أقوم من نومي صارخة: ضيوف في هذه الساعة، أعد له القهوة بنفسك.
المقهوي :
بعد أن تعدي له الفرخة والخبز في الحال.
المغني (مشيرا إلى الفتاة) :
وتصحين من نومك على صياح أمك وأبيك.
المقهوي :
وتحضرين المصباح الزيتي وتقولين مساء الخير.
المرأة :
لم تقل شيئا، جاءت تتعثر في أطياف نومها وخجلها، وعيناها مغمضتان.
المغني :
أما أنت فتفتح عينيك.
الفتى :
بل أفتح قلبي للنور.
الفتاة (ضاحكة للمغني) :
وأنا أيضا لم أغمض عيني.
المغني :
السنا لاح، والشذا فاح.
المقهوي :
انتظر يا مغني، جلسنا في انتظار العشاء.
المغني :
قبل أن نسمع ما تم بينكم وما دار، نترك الأشعار، وعزف الأوتار، تنطق بما كان بين العيون من حوار:
ساقني القدر مضى زماني في شرك حباله،
إيش ذا الحوار وإيش هذا السحر في نباله.
الفتى (للفتاة) :
صدقت والله يا مغني
النار شبت بقلبي فانشد بحبي وزدني.
المغني :
جنانية مثل القمر حورية
تزري بحور العين فردوسية
بحسنها لي ملهية مسبية
إن همت فيها ما علي جناح
الفتى :
غزال تلحظني بألحاظ ريم
رفت معانيها كمثل النسيم
لها كلام يطرب ونغمة رخيم
يهزني مثل اهتزاز الرماح
المغني :
في صدرها الفضي تفاحتين
وجيدها السامي ككأس اللجين
والسحر ينفث به من المقلتين
وفي لماها البرق لألأ ولاح
الفتى :
ناديت حين لاحت بداجي الشعر
موردة أو جانها بالخفر
من ألف الماء في الخدود والشرر
ومن جمع بين المسا والصباح
الفتاة (ضاحكة) :
أحقا هذا ما صار؟
الفتى (بإعجاب) :
وكل ما تقوله أشعاري شرارة واحدة من ناري.
المقهوي :
انتظروا، انتظر يا مغني الأشعار، جلسنا ننتظر العشاء، ونتكلم عن الدنيا وعجائب الأحوال والأنباء، لا أخفي عنكم أنني شعرت بما دار بينه وبين ابنتي من حوار.
الفتاة :
أنا لم أتكلم حتى الآن.
المقهوي :
قلب الأم والأب يا ابنتي.
الفتى :
ولم تكوني وحدك ابنته.
المقهوي :
أخذت أنظر إليه وأكلمه كأنه ابن غائب عاد من الأسفار، وجاءت فاطمة بالعشاء فظل ينظر إليها ويغرف من عينيها الزاد والماء، أشرت لابنتي فانسحبت في حياء (تنسحب الفتاة)
سألته: من أنت يا بني وما شأنك؟ قال: هل تعرف ساعي بريد الملكة أروى؟ قلت: الحاج صالح؟ قال: نعم. قلت: الرجل الطيب الذي يزورنا كل شهر؟ قال: نعم، نعم. قلت: وماذا يجبرك على السفر وحيدا بالليل؟ قال: أبي مريض، والبريد عاجل لا بد من وصوله قبل الفجر. سمعنا الصوت المخيف يفزع الليل والجبل والنجوم. قلت: ألم يحذرك من الأخطار؟ قال: معي سيفي البتار. قلت: يا ولدي، ألم يخبرك عن الطاهش الجبار؟ قال: لا، القبيلي لا يخاف، ومن معه سيفه لا يضار. ربت على ظهره وقلت: يحميك الله يا ولدي، لكنه وحش غدار. ألم تسمع صوته المسموم؟ فما بالك بوجهه المشئوم؟ ليتك سافرت مع قافلة؛ فهو لا يهاجم إلا المسافر الوحيد. جاءت ابنتي ووضعت جمنة القهوة أمامه (الفتاة تفعل هذا)
نظر إليها واحمر وجهه وقال: ليس وحيدا من سحره هذا الجمال. أطرقت برأسي إلى الأرض وأشرت إلى ابنتي فتراجعت في هدوء (تتراجع الفتاة) . يا ولدي بالله عليك. قاطعني: أرجوك اجعلني ابنك. قلت: أنت في مقام ابني الذي يطلب العلم في زبيد. مد إلي يده وقال: إذن فاجعلني أخاه. لم أفهم قصده. اندفع يقول: جئت إليك وحيدا حرا ولا أريد أن أخرج من عندك إلا ويداي ورجلي في القيود! ماذا تقصد يا ولدي؟ قال: عدني أن أصبح منذ الساعة ابنك. أخطب منك ابنتك فقل وافقت وباسم الله. وحين أعود ستجد أبي يخطبها منك. أمي ماتت منذ سنين. قلت: يرحمها الله. لكن الأمر ... وقف وقال: لا وقت لدي، وسأذهب من فوري الآن. قلت: تمهل يا ولدي. أتوسل بالله وأستحلفك بحق نبيه. ابق الليلة لا تهلك نفسك.
المرأة (باكية) :
وتضرعت إليه: ارحم زهرة عمرك يا ولدي، ارحم شيخوختنا، ابق الليلة معنا والفجر قريب، اسمع نصح أبيك وأمك.
المقهوي :
لن نغتفر لأنفسنا هذا الذنب، لن يغفره الله ولن يغفره والدك الطيب. ضحك وقال:
الفتى :
إني قبلي ومعي سيفي.
المقهوي :
الوحش مخيف يا ولدي.
الفتى :
إن خفت فهل تغفر فاطمة خوفي؟
المقهوي :
ناديت على ابنتي: يا فاطمة يا فاطمة (تحضر الفتاة) .
الفتاة :
أمرك يا أبي.
المقهوي :
هذا الفتى خطبك مني يا ابنتي. لكنه يريد أن يرحل الآن ولا يعود.
الفتى :
بل أعود بعد أيام ومعي أبي.
المرأة :
وهل يعود من يقابل الطاهش؟ نم الليلة هنا في أمان.
الفتى :
لا آمن غضب الملكة.
المرأة :
غضب الطاهش أدهى وأشد، ارحم يا ولدي دمعة شيخين، ارحم دمع عروسك.
الفتاة :
أنا لم أبك يا أمي، لم تدمع عيني.
صوت :
لم تدمع عينك؟ ألم تحذريه؟
الفتاة :
نظرت إليه ونظر إلي. هل ظهرت الدموع في عيني؟ لا أدري، ضمنا عناق في ومضة كالبرق، رأيتني أضع رأسي على جناحه، نحلق فوق قمم الجبال ونسبح بين النجوم ونحيا قبل الميلاد وبعد الموت.
المغني :
عقد الهوى مبروم،
أكيد ما ينقضه مر الدهور.
الفتى :
ساقني القدر.
مضى زماني في شرك حباله.
وأطبق عليك الجفون،
حتى لا يراك دوني،
وإن شاكلتك عينيا،
قلعت السواد منهم.
الأعمى :
امشي بحال الأعمى
حتى خبيك عنهم
المقهوي :
دوت صيحة الطاهش.
الطفلة :
هو يصيح الآن، أبي.
أبوها :
اسكتي يا بنت.
الطفلة :
أخاف يا أبي.
أبوها :
الطاهش هناك في الجبل البعيد، نحن هنا في أمان.
الفتاة :
انتفض كنسر مجروح، سقطت ورفرف قلبي المذبوح، هل يبكي الحمام؟ ربما طفرت الدموع وأنا أراه يحلق ويرتفع، يتحسس خنجره ويستل سيفه من جرابه ويصيح صيحة الحرب في جنون. (الفتى يصيح صيحة الحرب ويشرع سيفه في يد وخنجره في يد.)
المقهوي :
نبكي، نتوسل.
المرأة :
إن لم ترحم نفسك، فارحم شيخوختنا.
المقهوي :
وارحم دمع عروسك.
الفتى (للفتاة) :
من أجلك أذهب.
الفتاة (للفتى) :
وتعود.
الفتى :
وأقدم مهري وهدية.
الفتاة :
أي هدية؟
الفتى :
أشبال الطاهش مشوية!
الفتاة (تضحك بافتخار) :
أقبلها منك بلا دية.
الفتى :
جني يهدي جنية.
المقهوي وامرأته (للفتاة) :
أتضحكين؟
الفتى :
وأدعوكم أن تضحكوا معنا حتى تسيل الدموع.
المقهوي :
لم نضحك ولكن سالت الدموع، شرع سيفه وأخذ يلوح به في وجه عدوه. ناديت: يا ولدي، لا تضرب إلا أن تتمكن منه.
الفتى :
لا تخف فقد صرعت طاهشا من قبل.
المرأة :
يموت طاهش ويولد طاهش جديد، عد يا ولدي. (ينصرف الفتى.)
المقهوي :
عد يا ولدي، عد يا ولدي، يئست ورحت أتابعه بعيني وهو يختفي مسرعا كما جاء. أردت أن أغلق باب الشرفة فلاحظت ابنتي تحدق في الظلام وتتمتم. كان يشع من عينيها بريق كأنه سراج الأمل يهديه على الطريق، غاب في منحنيات المزحل. وغاب القمر الفضي وراء الجبال. بعد قليل سمعنا طرقعة الحصى تحت أقدام الوحش ودوت صيحة الحرب في جنون. ما هي إلا لحظات وانفجرت فرقعة السيف.
الفتاة :
عرسي الليلة، عرس الدم.
المرأة :
ادعي له يا ابنتي، نجه يا رب.
المقهوي :
يا رب، خمدت كل الأصوات، إلا صوتا يرتطم على الصخر كما تسقط شجرة، سطعت في عين ابنتي المسكينة شعلة نار، وتوهج برق وانطفأ شهاب.
المرأة :
وا حسرتا عليك يا ابنتي!
الفتاة :
لم أبك ولم أذرف دمعة.
المقهوي :
بل أخذتها حمى الضحك المجنون.
الفتاة (تضحك بجنون) :
عرسي الليلة، عرس الدم.
المرأة :
طوقت جسدها وضممتها إلى صدري.
المقهوي :
أسرعت إليها وبكيت، هل لامستم جسدا يتحول جمرا؟
المرأة :
الحمى يا حبيبتي.
المقهوي :
دوى صوت الطاهش، صوت أسود محموم، جحر أفاع وذئاب وضباع.
أب الطفلة :
والفتى؟ ألم تهبط إليه؟
المقهوي :
أهبط إليه؟ في الليل الموحش يغلي الوحش كبركان، تتحول كل الأشياء الراقدة وحوشا تتربص بالإنسان. الجبل القانت والليل الصامت والقمر الشامت والظل الخافت والوديان. والطاهش وحش يزأر في السجن الواسع، في الليل يسحب ضحيته إلى عرينه، بعد أن ينطحها ويفصل رأسها عن جسدها ويجردها من ثيابها. عريانة تقع بين أنيابه ومخالب أشباله. ماذا يفعل شيخ مثلي وعجوز؟
التاجر :
والجلباب والعمامة؟
المقهوي :
والكيس والسيف المكسور.
الطفلة (باكية) :
أريد السيف يا أبي، السيف يا أبي.
أبوها :
اسكتي يا بنت، اتركيه في مكانه.
المقهوي :
لما طلع الفجر جررت خطاي على الدرب الوعر. اختفى الفتى في ليلة عرسه. شده الوحش إلى عرينه، أما آثار العرس فما زالت فوق ثيابه، بقع الدم اللزجة دافئة فوق الجلباب، متخثرة في حد السيف المكسور، متناثرة فوق بريد الملكة، وعلى الجنبية لطخ سوداء (يقلب في القطع التي أمامه وكأنه يعرضها على الحاضرين) .
صوت :
دم الطاهش.
المقهوي :
لا يعلم إلا الله من القاتل والمقتول!
أصوات :
نجانا الله، نجانا الله.
المقهوي :
الطاهش فك مفتوح.
التاجر :
قبر جوعان.
المرأة (باكية) :
لا تنبشوا القبور، حلفتكم بالله لا تنبشوا القبور.
المغني (يقترب من المقهوي ويضع يده على ظهره ويبدأ الغناء) :
سبح ذا البقا،
إن غايبك لا يعود،
قد زار القبور واللحود.
المقهوي (مسترسلا في البكاء) :
قد كان في الكتاب مسطور،
حرمانهم حتى من القبور،
يبقى الله ويفنى البشر،
ما للعبد من مفر.
أصوات :
حياك الله يا مغني، حياك الله يا والدي.
أصوات :
يا مقهوي صبر جميل.
المغني :
عواقب الصبر الجميل تحمد فيها المنى.
أبوه الأعمى :
يقول على ولد زايد: لا بد من داعي الموت.
ما يأمن الدهر عاقل،
ولو سبر واستوى له.
17
المقهوي :
آه! لا هو سبر، ولا استوى له.
المرأة :
والفك جوعان ونابه حادة وقوية.
المقهوي :
والقبر مفتوح وله في كل ليلة ضحية.
الفتى :
ورجعت بالسيف وبالجلباب والجنبية.
صوت (ضاحكا) :
إن كنت أنت الطاهش فأين هي الضحية؟
أصوات :
سبحانه جل علاه، له معجزات في البرية. (يضحكون ثم يغرقون في الصمت.)
المقهوي (يحاول أن يضحك . يزم شفتيه ويمسح دموعه من على ذقنه ويواصل حديثه) :
رجعت بالثياب والحزام والجنبية، وحملت الكيس الجلدي على ظهري. زوجتي كانت تنتظر في الشرفة، وابنتي في جحيم الحمى لاهثة مرتجفة. وضعت الأشياء في الصندوق، صندوق عرسي القديم الذي ترونه وراءكم. بعد أيام وليال تقلبت فيها على الجمر أخرجتها وعلقتها على السقف والجدار. قلت ربما يتعرف عليها أحد المسافرين، ربما يظهر أبوه أو قريبه أو صاحبه أو جاره. ومرت الأيام ولم يظهر أحد، ومرت العيون على الثياب والآثار فلم يطرف جفن. قلت: لا بد أن أباه قد مات. ألم يقل الفتى إنه على فراش المرض؟ الرجل الصالح شيبة مثلي. لا يعرف سر الأعمار إلا واهب الأقدار.
الفتى :
لكنه شفي من مرضه وعاد يحمل بريد الملكة. مرت أيام وأسابيع وشهور. لم أعد من الغربة فسلم أمره لله.
المقهوي :
وليلة كهذه الليلة كنت أجلس في الشرفة كعادتي أدخن المداعة وأنظر للقمر والنجوم. السكون خيمة سوداء تلف الجبال والسحب والصخور والأشجار الباسقة على رءوس الصخور والوادي الموحش والمقهاية والمسافرين النائمين بعد شرب القهوة ومضغ القات. سمعت طرقعة الحصى على صخور المزحل السوداء التي تعكس بريق القمر، دققت النظر فرأيت شبحا أسود يهبط الدرجات الصخرية مسرعا. اقترب الشبح: الأقدام الحافية، الجلباب الأسود، الكيس الكبير على الظهر، الجنبية يلمع مقبضها العاجي من الحزام. هل ترجع أرواح الموتى؟ أم نجح الشاب في قتل الطاهش وسلم البريد للملكة وعاد؟ زاد الوهم يقينا حين اتجه الشبح إلى ينبوع الماء، انحنى على الفجوة ومد يديه وشرب، ثم وقف ومسح بكفيه ضريح الولي ورفعهما بالدعاء، واقترب من الباب فتنحنحت، فزع قليلا حتى كدت أحس بأنفاسه، ثم رفع صوته: المقهوي؟
المغني (مشيرا إلى التاجر العجوز الذي يضع مسبحته في جيب جلبابه وينهض) :
سألته قائلا: المقهوي؟
التاجر (مرتبكا) :
أنا؟
المغني :
نعم، وبعد قليل تسأل عن القهوة والعشاء.
المقهوي :
لا لم يطلب عشاء، اكتفى بالقهوة.
المغني :
وتطرق الباب وتدخل وتتكلم وتسأل عن ابنك، هيا.
التاجر :
يا مقهوي.
المقهوي :
من؟ هذا صوت الحاج صالح؟
التاجر (ضاحكا ) :
صوته وجسمه أيضا.
المقهوي :
الرجل الطيب الصالح، ساعي البريد والخير، من شهور لم نرك، يا مرحبا، حيا الله.
المغني :
وينزل ليفتح لك الباب، وتسلم سلاما يمنيا ويطول السلام. (التاجر يندفع إلى المقهوي ويسلم عليه على الطريقة اليمنية.)
المغني :
وتدخل وتسلم على أهل الدار.
التاجر :
يا الله.
المغني (مشيرا إلى المرأة والفتاة) :
هيا، هيا.
المرأة والفتاة (تسلمان ويتحلق الثلاثة حول التاجر الذي يقوم بدور الحاج صالح) :
يا مرحبا يا حاج، شفاك الله وعافاك.
المقهوي (ينظر إلى زوجته محذرا) :
العشاء والقهوة يا حاجة. (تنهض المرأة. الفتاة تسلم وتنسحب.)
التاجر :
لا، لا داعي للعشاء، عندي أمر بتسليم البريد.
المقهوي :
إلى الملكة قبل الفجر.
التاجر :
بارك الله، ولأصلي معها في الجامع الكبير.
المقهوي (لنفسه) :
يا الله، لولا الشيبة وضمور الوجه، لو يسألني عن ابنه، ماذا أفعل؟
المغني :
نسيت أنك جمعت الثياب والأشياء بسرعة من السقف والجدران.
المقهوي :
نعم، نعم، ووضعتها في الصندوق.
التاجر :
لم يمر من هنا فتى منذ شهر؟
المقهوي :
حيا الله، حيا الله.
المغني :
وتحاول أن تصرفه عنه، أما أنت، فلا تنسى، ستسلمه رسالة من ابنه.
التاجر :
قبل أن أنسى، معي رسالة من ابنك في زبيد.
المقهوي :
بارك الله فيك وفيه.
التاجر (يقلب في كيس الرسائل ويخرجها) :
ها هي ذي.
المقهوي (يرفعها إلى وجهه ويقبلها) :
لكنك تعرف.
التاجر :
أقرؤها لك، بعد التحيات لكم وللأم العزيزة والأخت.
المغني :
تتلكأ وتتلفت حولك وتقول: الجميلة، نعم والله جميلة!
المقهوي :
ابنتك يا حاج.
التاجر :
لم ترد علي، ألم يمر من هنا شاب؟
المقهوي :
ننتهي من رسالة ولدنا.
التاجر :
نعم، زبيد مدينة جميلة وتهديكم السلام، الأحوال مستقرة والجميع بايعوا الملكة وأنا سعيد فيها أطلب العلم في مساجدها ومدارسها الفقهية، وأخبركم يا والدي ...
المغني :
تأتي الآن إلى خبر زواجه.
التاجر :
أخبركم أنني نويت بإذن الله على الزواج بعد أن أصبح فقيها.
المقهوي :
ألم يكتب عن عروسه؟
التاجر :
يخبركم فيما بعد.
المقهوي :
ابحث يا حاج.
التاجر :
هكذا الأبناء يا مقهوي، في الغربة ينسون.
المقهوي :
الأبناء، نعم نعم (يمسح دموعه ) .
التاجر :
ولماذا البكاء؟ ابنك يتزوج وتبكي ؟
المقهوي :
لا أبكي لهذا يا حاج، إنما ...
التاجر :
تكلم يا مقهوي.
المقهوي :
لا أستطيع.
التاجر :
هل تخفي شيئا؟
المقهوي :
سر كتمته عنك.
التاجر :
سر؟
المقهوي :
لم أعد أستطيع.
التاجر :
هل مر من هنا؟
المقهوي :
نعم، قبل شهرين.
التاجر :
وتسكت حتى الآن؟ وكان معه البريد؟
المقهوي :
لولا أن الكيس الجلدي عندي لقلت إنه نفس الكيس.
التاجر :
لم يسلمه إذن، هل بات هنا؟
المقهوي :
لا.
التاجر (غاضبا) :
وتركته يذهب في الليل (تسمع صيحة الطاهش من بعيد، زئير أسود مكتوم) .
المقهوي (مع زوجته التي تدخل بالقهوة) :
فعلنا المستحيل يا حاج.
التاجر (يشتد غضبه وهياجه) :
الله يلعنك، كيف تركته يخرج في الليل؟
المقهوي :
اهدأ يا حاج، قلت لك فعلنا المستحيل، حذرناه بلا فائدة.
التاجر :
يا ولدي.
المقهوي :
واسترحمناه بحق شبابه، بضعف شيخوختنا، بالله ونبيه الكريم.
التاجر (يضع وجهه بين يديه) :
يا ولدي.
المقهوي :
امتشق سيفه وقال: القبيلي لا يخاف ومعه سيفه.
التاجر (في صوت رهيب) :
وأين ثيابه؟
المقهوي :
موجودة يا حاج، في هذا الصندوق.
التاجر :
هاتها، أخرجوها واتركوني. (المقهوي يضع الثياب أمامه ويخرج هو وزوجته.) (التاجر يتحسس الثياب، يلثم بقع الدم، يشمها ويضعها على عينيه ويجهش بالبكاء، بعد قليل يتماسك ويغالب دموعه، يخلع جلبابه ويرتدي جلباب ابنه ويتحزم بجنبيته ويقبض على سيفه المكسور، يشع من عينيه بريق مجنون.)
المغني (للفتاة) :
وتدخلين في نفس اللحظة.
الفتاة (مرتبكة) :
وماذا أقول؟
المغني :
ماذا تقولين؟ ما تقوله عروس.
الفتاة :
فهمت فهمت، حيا الله يا حاج.
التاجر :
من؟ ابنه المقهوي (ينظر ويثبت عينيه عليها) .
الفتاة :
وعروس ابنك.
التاجر :
عروس ابني؟
الفتاة :
نعم، خطبني من أبي، وعد أن يسلم البريد ويرجع معك.
التاجر :
ورجعت بدونه. (الفتاة تنتبه إلى أنه قد ارتدى ثياب ابنه، تتفرس في عينيه ووجهه والسيف المكسور المشرع في يده.)
التاجر :
نعم يا ابنتي (يتردد صوت الطاهش، ويعلو فحيحه المجنون) .
الفتاة (في تصميم مفاجئ) :
هل معك سيفك؟
التاجر :
نعم يا ابنتي، القبيلي لا يترك سيفه.
الفتاة :
أعطني هذا السيف.
التاجر :
ستحافظين عليه ؟
الفتاة :
وسأذهب معك.
التاجر :
تذهبين معي ؟ أتعرفين إلى أين؟
الفتاة :
نعم.
التاجر :
وأنني قد لا أعود؟
الفتاة (ساهمة) :
لا نعود.
التاجر :
وقد يسيل دمي.
الفتاة :
ودمي.
التاجر :
وقد تكون آخر ليلة في عمري.
الفتاة :
بل ليلة زفافي (تبرق عيناها بوميض مخيف) .
التاجر :
زفافك؟
الفتاة :
الليلة يسيل دمي أو دمه، ستباركنا بنفسك يا عمي، فوق الصخر الأسود نتعانق، أغرز سيفي، سيف حبيبي، في نحره، أو يغرز في صدري نابه، أقتحم عليه عرينه، أو يسحبني عارية لعرينه. هناك أزف إليه، في نفس البطن الجائع، نفس الجوف ونفس القبر.
التاجر :
مهلا يا ابنتي. أجلي الأمر.
الفتاة :
حفل زفافي لا يؤجل.
التاجر :
وأبوك، ألم تفكري فيه؟
المرأة :
وأمك (تبكي) .
الفتاة :
فكرت طويلا، وعزمت.
التاجر :
يا ابنتي، أنا آخذ ثأري منه.
الفتاة :
وثأري؟
التاجر :
أرجوك يا ابنتي.
الفتاة :
هيا، هيا، هذا وقت الثأر، لا وقت الفكر.
المقهوي :
ونفاجأ أنا وهذه العجوز بالشيخ والفتاة يخرجان من الباب، لم أعرفه في البداية، لم أعرف ابنتي، الجنون يشرع سيفا، الغضب يمتطي فرس النار والريح، ماذا يجدي الدمع؟ ودعائي وصلاتي ماذا تجدي؟
المرأة :
يا ابنتي، ليس لي غيرك.
الفتاة :
وأنا ليس لي غيره.
المقهوي :
أنت نخلتنا الوحيدة.
المرأة :
غرسناك في شبابنا.
المقهوي :
لنستظل بك في شيخوختنا.
الفتاة :
وأنا آوي الآن إلى ظله.
المقهوي :
ويدوي صوت الطاهش فنبكي ونحذر، وتهب علينا أنفاسه فنشم رائحة الموت، يا ابنتي، يا ابنتي.
الفتاة :
لا فائدة يا أبي.
المقهوي :
تعقل يا حاج، أرجعها أنت إلى العقل.
المرأة :
فكر في شيخوختنا (يسمع صوت الطاهش) .
الفتاة :
إنه يدعوني يا أبي، يناديني.
المقهوي :
من يا ابنتي؟
الفتاة :
أتكره أن أزف إليه؟
المرأة :
إنه الوحش يا ابنتي.
الفتاة :
وهو ينتظرني ويفتح ذراعيه.
المقهوي :
جذبتها بقوة من ثوبها، ركعت العجوز وقبلت ساقها، مدت السيف نحوي وصرخت في جنون، زفافي الليلة، الليلة سأزف إليه، اتركاني، اتركاني.
المغني :
جرت ولسان حالها يقول: لبيك، لبيك. (ينشد):
حبيبي لو أنك
جعلتك سواد عيني
وأطبق عليك الجفون
حتى لا يراك دوني
أبوه الأعمى (يواصل ضاربا على الدف) :
وإن شاكلتك عينيا
قلعت السواد منهم
امشي بحال الأعمى
حتى خبيك عنهم
المقهوي :
لم تر سواه ولم تسمع إلا صوته، جريت أنا وأمها نتعثر في ضعفنا، وننكفئ على الصخور، يا ابنتي، يا ابنتي، ارجع يا حاج، أرجعها يا حاج، صوت الطاهش سحر أسود يجذب جسديهما المسرعين على درجات المزحل، زئيره سد يأجوج يمنع تقدمنا. كان الحاج قد سبقها بقليل وكمن خلف صخرة عالية، أطلقت صيحة الحرب الجنونية ولحقت به، هل رأيتم الكابوس؟ هل جثم على لحمكم وأنفاسكم حتى بعد اليقظة من النوم؟ ارتفع عواء الطاهش وزئيره، وعلى ضوء القمر مددنا الأبصار فلم نتبين غير الأشباح، أشباح تثب وتتوقف، تزحف تتراجع، تصرخ وتئن، وصياح الحرب المجنون يصارع حشرجة الطاهش وزئيره، وأنا وامرأتي شيخان عجوزان، تنهار سماء العالم فوقهما وهما مشلولان، حتى يسقط شيء كالحجر فتختنق الأرض، يختنق سكون الليل، تختنق الأنفاس وتسقط (يسقط المقهوي. يدركه التاجر وتسرع إليه الفتاة وينشد المغني) .
المغني :
لا حول يا مالك الموت،
ذي ما نجي منك هارب.
الأعمى :
سبح ذا البقا،
إن غايبك لا يعود،
قد زار القبور واللحود.
المرأة (باكية) :
قلت لكم لا تنبشوا القبور، لا تنبشوا القبور.
الفتاة :
يا ليت لي قبرا، يا ليت لي لحدا.
المغني :
ما كان في الكتاب مستطر،
18
لا يؤخر
عن وقته إذا ما حضر.
الأعمى :
والمقدر،
ما للعبد من مفر،
يبقى الله ويفنى البشر.
المغني (ينحني على المقهوي ويحاول أن يفيقه) :
وعندما فتحت عينيك كان الفجر قد طلع.
الفتاة :
وصعدت على المزحل تجر حطام شجرتك.
التاجر :
وتفتش عما بقي من الكابوس (يدوي صوت الطاهش كالكابوس) .
الفتاة :
وعثرت على ثوبي.
المغني :
في ليلة عرسك مصبوغا بالدم.
التاجر :
ووجدت الكيس الجلدي.
المغني :
ورسائل لم تقرأها الملكة لطخها الدم (الصوت كنهر أسود يتدفق في الآذان) .
التاجر :
والسيف المكسور.
المغني :
إلى نصفين (يرفع السيف ويريه للجميع) .
الطفلة (فجأة) :
أريد السيف يا أبي (تتسمع للصوت) .
أبوها :
اسكتي يا بنت، اسكتي.
التاجر :
وتحسر على السيف المكسور.
المغني :
سيف ابن ذي يزن المشهور ، وعلى الكنز المستور. (الصوت يعلو ويدمدم كحشرجة شياطين في الجحيم يقترب من المقهوي، يربت على ظهره وتسقيه امرأته كوب ماء، يفتح عينيه قليلا.)
لما طلع الفجر رجعت، رجعت كقافلة الموت.
المقهوي (متطلعا إلى الحاضرين) :
لأستقبل القادمين وأودع الذاهبين.
المرأة :
ولا تتوب أبدا.
المغني :
تحكي، تروي، تعرض قطع ثيابك، تنذر وتقول.
المقهوي :
آه! اروي يا ولدي عني.
المغني :
الطاهش في كل مكان وحش، غول أو بركان، ليل، صاعقة، طاعون يفتك بالإنسان، لن ينجو أحد يا إخوان؛ فالكل مدين ومدان، الكل مدين ومدان. (يسمع صوت الطاهش وكأنه يحوم حول المقهاية.)
المقهوي :
وتمر قوافل بعد قوافل، والركبان، تروي تروي عن سحر الإنس أو الجان.
المغني :
والطاهش ينمو، يتناسل، يزحف كالتنين، ويمد إلينا ألف ذراع وذراع، في كل ذراع سكين، كان قديما يثب على الأعزل وهو ضعيف مسكين، ويجر ضحيته لعرين في جوف الجبل دفين، واليوم له في السهل وفي الجبل النائم ألف عرين وعرين، لن تنجو القرية والسوق ولن تصمد أسوار الطين، ويظل الطاهش يطلب قربان الدم وسيفك في دارك صدئ مدفون، سيفك يا سيف كسير مطعون (يسمح فحيح الطاهش) .
الطفلة (فجأة) :
السيف يا أبي، السيف يا أبي.
المغني :
وتقيم الليلة بعد الليلة، تروي، تحكي، تدمع عيناك وفي الصدر جنون، وتقول لمن مضغ القات ونام.
المقهوي (يتطلع للحاضرين) :
سيف صدئ مدفون، سيف مطعون.
المغني :
ويقول التاجر:
التاجر :
للعاصمة سأذهب وأحصل منه ديوني.
المغني :
والابن الباحث عن ظل أبيه.
الابن (الباحث عن أبيه) :
هاجر عنا منذ سنين، ترك الأبناء يتامى، ترك الأم وترك الأمل بقلب الجد المحزون.
المغني :
وتقول عروس، تنتظر الفجر.
الفتاة :
سأزف ويفرح قلبي وعيوني.
المقهوي :
وأستقبل القادمين وأودع المسافرين، وأقيم الليلة بعد اللية أروي عنه.
المرأة (نائحة) :
تنبش القبور ولا تتوب،
معزية بعد سنين،
مذكرة كل الأحزان.
المغني :
وتظل تخاطب سيفك فوق الجدران، يا سيف ابن اليزن تكلم أين الفتيان؟ سيفي مكسور منذ زمان، سيفي مكسور منذ زمان (يعلو صوت الطاهش بينما تصرخ الطفلة فجأة) .
الطفلة :
السيف المكسور.
أبوها :
قلت اسكتي يا بنت. (الطفلة تلقي بنفسها فوق السيف. تلتقطه وتلوح به في كل اتجاه، تحاول أن تجري نحو الباب فيسرع إليها الأب والمغني.)
الأب :
تعالي يا ابنتي.
الطفلة :
اتركني يا أبي، إنه يناديني.
المغني :
خذي ربابتي وهاتي السيف.
الطفلة (غاضبة توجه السيف إلى صدره) :
تعال وحارب معي.
المغني :
الربابة ليست سيفا يا حبيبتي.
الأب (يلتقط منها السيف فتبكي) :
قلت لك اسكتي.
المغني :
غدا سنذهب معا يا صغيرتي.
المقهوي :
غدا في الليل يا حبيبتي.
الطفلة :
وستحكي وتروي.
المقهوي :
كما فعلت الليلة.
المغني :
وسأغني كثيرا حتى تضحكي.
الطفلة :
غدا، غدا، غدا، ألا تسمعون؟
المغني :
بالطبع يا حبيبتي، نسمع ونتكلم ونسمر ونغني.
الطفلة :
وماذا تنتظرون؟
الأب :
قلت اسكتي يا بنت، والله ...
المغني :
دعها يا أخي، حقا. ماذا تنتظرون؟
المقهوي :
ماذا تنتظرون؟
أصوات :
ننتظر الفجر.
أصوات :
انظروا، طلع الفجر.
صوت :
وانتهت الليلة.
صوت :
وانفض السمر (يتراجع فحيح الطاهش) .
صوت :
طلع الفجر.
صوت :
طلع الفجر.
المغني :
ما كان في الكتاب مستطر،
لا يؤخر،
عن وقته إذا ما حضر.
المقهوي :
انتهت الليلة.
الطفلة :
هل طلع الفجر؟
المغني :
والجميع يذهبون؛ أنت لتقبلي المولود، وأنت لتأخذ دينك، أنت لليلة عرسك، أنت لتحصيل ديونك.
المقهوي :
وأنت يا مغني.
أصوات :
وأنت يا مغني، وأنت يا مغني.
المغني :
وأنا، هيا يا أبي (يساعد أباه على النهوض، بينما يجمع المسافرون أغراضهم ويتجهون إلى الدواب والخيل والجمال التي يسمع وقع حوافرها في السمسرة) .
الأب :
هيا يا ابنتي.
الطفلة (للمغني) :
وأنت؟
المغني (وهو يتجه مع أبيه إلى الباب) :
سأغني يا حبيبتي.
الطفلة :
حتى مطلع الفجر.
المغني :
حتى يطلع الفجر (ينصرف الجميع. يجذب الأب يد ابنته ويختفيان. يجمع المقهوي وزوجته الثياب والأشياء، يسمع من بعيد صوت المغني) :
عن ساكني صنعا،
حديثك هات وا فوج النسيم،
وخفف المسعى،
وقف كي يفهم القلب الكليم. (المقهوي يمسح دموعه وهو يجمع حاجياته ويتجه إلى الدرج فيصعد عليه في خطوات بطيئة ويعلق الثياب والأشياء على الجدران.)
هل عهدنا يرعى؟
وما يرعى العهود إلا الكريم.
المرأة (تدندن في نواح) :
تبدلوا عنا وقالوا
عندنا منهم بديل
والله ما حلنا
ولا ملنا عن العهد الأصيل.
المقهوي (من فوق الدرج) :
ما بعدهم عنا يغيرنا
ولو طال الطويل. (وبينما تهبط الستار شيئا فشيئا يسمع صدى رحيل القافلة ووقع حوافر الدواب ونداءات المسافرين وغناء بعيد):
هل عهدنا يرعى
وما يرعى العهود إلا الكريم.
1982م
المرآة
الشخصيات
جحا.
تيمور لنك.
حارس تيمور لنك الخاص.
قائد.
حراس وجنود مختلفون. (فكرة المسرحية مستوحاة من حكاية ذكرها شاعر الألمان الأكبر «جوته» في تعليقاته على ديوانه الشرقي؛ فقد رأى القائد المغولي المرعب وجهه لأول مرة في المرآة فاستبشعه وانخرط في بكاء مر؛ عندئذ قال له بعض المحيطين به: إذا كنت قد بكيت بعد رؤية وجهك مرة واحدة، فماذا نفعل ونحن نراه كل يوم؟! أما عن لقاء جحا وتيمور لنك فتذكره بعض نوادر جحا وبعض كتب التاريخ.) (خيمة تيمور لنك الحريرية، وفرسانه يحاصرون مدينة جحا «آق شهر» بالأناضول استعدادا لغزوها، حارسه الخاص يساعده على ارتداء ملابسه، تسمع بين حين وحين أصوات أبواق وصلصلة سلاح، كما ترى أشباح جنود تتحرك في الخلف.)
الحارس (ممسكا بفردة حذاء) :
لم تبق إلا هذه الفردة يا مولاي.
تيمور :
قلت لك لا أريد.
الحارس :
ويسير مولاي حافيا؟
تيمور (ينهض ويمشي) :
وما الضرر؟ هل قالوا لك إني ولدت بحذاء في قدمي؟
الحارس :
لم يقل أحد هذا، ولكن لن يصدق أحد أن تيمور لنك العظيم ...
تيمور :
دعني وشأني، قلت لك اذهب واتركني وحدي.
الحارس :
عفوا يا مولاي، ولكن من يتصور أن الملك الذي يضع التاج على رأسه يسير بقدم حافية؟ من يتصور أن القدم التي تدوس على نصف العالم تظل عارية؟
تيمور :
نفاق، نفاق، كلكم تجيدون النفاق، سواء كنت تيمور لنك السفاح الجبار أو كنت أضعف خلق الله، المهم أن تروا التاج على الرأس أو السيف في اليد.
الحارس :
ولكن يا مولاي ...
تيمور :
قلت لك دعني، ألا ترى كيف لا أحتمل الكلام؟!
الحارس :
أجل يا مولاي، وقد عرفت دائما عنك ...
تيمور :
تكلم، ماذا عرفت؟
الحارس :
عرفت حبكم للصمت، سمعت أنكم تجلسون دائما وحدكم، بجبين مقطب ووجه مكفهر حزين .
تيمور :
حزين؟ نعم هذه هي الكلمة المناسبة، هل جربت البكاء مرة واحدة في حياتك يا ولدي؟
الحارس :
مرة؟ بالطبع يا مولاي، أظن أنني لا أختلف في هذا عن أي إنسان، ولكنني لا أصدق ...
تيمور :
لا تصدق أن تيمور لنك يمكنه أن يبكي؟
الحارس :
لم أقصد هذا يا مولاي؛ فأنت أيضا بشر.
تيمور :
لأول مرة تترك النفاق. نعم أنا أيضا بشر، ولكن الناس تنتفض رعبا إذا سمعت باسمي. إنهم يسمونني الشيطان الأكبر والسفاح الأعظم والأسد الفاتك والإله الأعمى، لا يعرفون أن تيمور له قلب مثلهم ولا يتصورون أنه يبكي في بعض الأحيان.
الحارس :
إن أذنتم يا مولاي، متى؟
تيمور :
متى بكيت؟ بكيت دائما يا ولدي، بدموع جامدة تغيب في نفسي كأنها تغيب في أعماق البئر. كنت في طفولتي أجلس على سطح بيتنا في المدينة الخضراء، أمد بصري إلى القوافل الذاهبة إلى سمرقند، وأسمع نشيد الفلاحين في عودتهم من الحقول، ونداء المؤذن يدعو الناس للصلاة، وأحاديث التجار والدراويش والشحاذين عن القوافل والحروب والمعارك. كانت أمي قد ماتت وأنا صغير، فلم أتذكر ملامح وجهها، وكان أبي دائم الجلوس مع المشايخ والعلماء، ثم ذهب إلى صومعة انصرف فيها إلى العبادة.
الحارس :
طفولة حزينة يا مولاي، ألم يكن لك رفاق، أتراب لعب؟
تيمور :
هؤلاء أيضا كانوا دائما يعجبون لحالي، كنت أسير بينهم مطرق الرأس كثير التفكير قليل الضحك. لم يكن عبثهم يحرك في شعرة واحدة، وكلما سألوني عن السر في ذلك أقول: على المرء أن يسلك الطريق الذي كتبه القدر.
الحارس :
وهذا القدر يا مولاي؟
تيمور :
الحزن يا ولدي.
الحارس :
الحزن؟ أيمكن أن يصنع الحزن رجلا؟ لا بل ...
تيمور :
نعم الحزن. إنه المسئول عن كل شيء؛ عبوس الوجه، تقطيب الجبين، الصمت، الصمت الدائم الذي لم أكن أخرج عنه.
الحارس :
لا أفهم يا مولاي.
تيمور :
لم أكن كما تعلم ابن ملك كالإسكندر ولا ابن زعيم قبيلة مثل جنكيز خان، ولكن الحزن هو الذي علمني الطموح. هل تعرف من الذي حببني في الدم؟ الحزن. هل تعرف من الذي فتح شهيتي لرؤية آلاف الرءوس المقطوعة؟ الحزن. هل تعرف من الذي علمني القسوة التي لا ترحم الطفل ولا المرأة ولا الشيخ؟ الحزن، الحزن، الحزن.
الحارس :
مولاي، لا أتصور أن الحزن يمكنه أن يغلب ملوك الهند والصين وفارس وما بين النهرين، أن ينتصر على كل الأعداء ويقتحم كل الحصون، أن يبث الخوف في نفوس الملوك والفرسان والعامة، أن يكون ملك العالم.
تيمور :
نعم هو الحزن، الحزن الذي جعلني أمشي وحيدا إلى سمرقند لا أملك غير سيفي وليس معي سوى خادمي عبد الله، الحزن هو الذي جعلني أصبح ملك العالم كما تقول.
الحارس :
معذرة يا مولاي، هل أتوسل إليكم بلبس هذه الفردة حتى يتم الحزن؟
تيمور :
ويحك! ألا يتم الحزن إلا إذا لبستها؟
الحارس :
ولكن منظركم هكذا، أخاف أن أقول ...
تيمور :
منظر مضحك؟ ولكنه لا يضحكني كما ترى، ولن يضحك أحدا؛ إذ لم يخلق من يجرؤ على الضحك في وجه تيمور. (بعد قليل)
أين ذلك الرجل الذي طلبته؟ لماذا تأخر؟
الحارس :
جحا؟ إنهم يبحثون عنه من ثلاثة أيام.
تيمور :
أريد اليوم أن أضحك، أضحك من القلب، أضحك وأضحك وأضحك.
الحارس :
إذن فليضحك مولاي، يكفي أن يراني أجري وراءه بهذا الحذاء فيضحك (يحاول أن يجري فينظر إليه تيمور فيتجمد في مكانه) .
تيمور :
قلت أريد هذا الرجل، ماذا كان اسمه؟
الحارس :
جحا يا مولاي.
تيمور :
وماذا تعرف عنه؟
الحارس :
أعرف عن حماره أكثر مما أعرف عنه.
تيمور :
حماره؟ ألم أسمع أنه قاض؟ هل يتاجر أيضا في الحمير؟
الحارس :
إنه لا يكاد ينفصل عن حماره، الناس لا يعرفونه من ملابسه لأنه يغيرها كل يوم، ولا من صنعته فهو يوما قاض أو واعظ في جامع أو معلم في مدرسة أو سائح في بلاد الله، ولا حتى من زوجته فهم يقولون إن له أكثر من زوجة وربما كان هو نفسه لا يعرفهن، ولكنهم إذا رأوا حماره عرفوا مكانه.
تيمور :
وكيف سيهتدي إليه فرساني؟ هل يعرفون ذلك الحمار؟
الحارس :
يعرفونه ؟ إنه أشهر حمار في المدينة، بل أشهر حمار في التاريخ، إنه ابنه ورفيق عمره، ومستشاره وكاتم سره. (تيمور ضجة في الخلف، صوت جحا يصيح مستغيثا: حماري، حماري! ويدخل وهو يقول في غضب شديد):
حماري، حماري أيها الملاعين! حماري أيها اللصوص! والله لا أعدل به قافلة جمال، والله لا أرضى بفرسان تيمور كلها عوضا عنه، والله ولا حتى بتيمور نفسه (يتلفت حوله ويستعيذ بالله)
أقصد لا أرضى أن يركبه غيري، ولو كان هو نفسه، أعوذ بالله من اسمه. حماري يا ناس، حماري يا عالم.
الحارس :
ما هذه الضجة أيها الرجل؟ ألا تعرف أين أنت؟
تيمور (همسا للحارس) :
حذار، لا تقل شيئا.
جحا :
وأين أكون إذن؟ في جنة عدن؟ في قصر أمير المؤمنين؟ حماري أيها اللصوص، ألستم من فرسان تيمور؟ أليست صناعتكم هي السلب والنهب والسطو على أملاك الناس وحميرهم؟
الحارس :
هل أحتمل هذه البذاءة كلها؟
تيمور :
هش، قلت لك لا تفتح فمك، أوصهم أيضا ألا يدخل علينا أحد. (لجحا)
هيه ماذا تريد أيها الرجل؟ عم تبحث؟ هل أستطيع أن أساعدك؟
جحا :
ماذا تريد؟ عم تبحث؟ وكيف تساعدني بالله عليك وأنت أصم؟
تيمور :
قل لي ماذا تريد؟
جحا :
يظهر أنك لست أصم فقط، بل غبي أيضا، ألم أصح بملء صوتي؟ ألم أصرخ كالمجنون؟
تيمور :
هيه، فهمت، لقد ضاع منك شيء وتبحث عنه.
جحا :
ما شاء الله!
تيمور :
هل قلت إنه حمار؟
جحا :
نعم والله، وفيه شبه منك.
تيمور :
وكيف دخل إلى هنا؟
جحا :
كيف يدخل إلى هنا؟ كما يدخل كل شيء بقدرة قادر (يشير إشارة السطو والسرقة) .
تيمور :
هل هرب منك مثلا؟ هل ضاع؟
جحا :
هرب، ضاع؟ والله إن لك أسئلة لا يسألها حماري، وهل يهرب شيء أو يضيع وفرسان تيمور أحياء يرزقون؟ إن الهواء نفسه يخاف منهم، الشمس نفسها تخشى أن يسرقوا نورها، البحر والسماء والرياح ...
تيمور :
كفى، كفى، أين كنت حين اختفى حمارك؟
جحا (مقلدا صوته) :
كنت أنا وهو نختفي منكم.
تيمور (بصبر شديد) :
وأين؟
جحا :
وأين أختفي حتى لا يروني؟ أين أختفي حتى لا يعرفوا أنني حي أرزق؟ في الجبانة طبعا، نزلت في أحد القبور المفتوحة حين أبصرتهم من بعيد.
تيمور (مبتسما وهو يقترب منه) :
ومعك حمارك؟
جحا :
يا لذكاء الفرسان! هل كتب علي أن أتحمل ذكاءكم بعد أن تحملت شجاعتكم؟
تيمور :
تكلم، هل كان الحمار معك؟
جحا :
بالطبع لا أيها الفارس الذكي الشجاع، تركت حماري يرعى وأسرعت بإخفاء نفسي في قبر مفتوح وجدته صدفة أمامي.
تيمور :
كيف كان هذا؟ ارو الحكاية.
جحا :
يا عم أنا لم أجئ لأروي حكايات، إنما جئت لأبحث عن حماري، حبيبي وصديقي ومنى عيني.
تيمور :
ورفيق عمرك ومستشارك وكاتم سرك.
جحا :
ومن أين عرفت؟ إن أحدا لا يعرف هذا، هل قاله لك الحمار بنفسه؟
تيمور :
ربما.
جحا :
إذن ساعدني في البحث عنه.
تيمور :
ألم أعرض عليك هذا من قبل؟ هيا نتكلم، ماذا فعلت حين رأيت الفرسان؟
جحا :
وماذا أفعل بالله عليك؟ ماذا أفعل أيها الفارس الطيب؟ (يرى قدمه الوحيدة حافية فيضحك)
ماذا يفعل رجل على نياته مثلك حين يرى أحد فرسان تيمور؟
تيمور (متجاهلا نظراته إلى قدميه) :
نعم ماذا يفعل؟
جحا :
يرتعش وينتفض، يتصور عزرائيل أمامه، يقرأ الشهادة على روحه.
تيمور :
حسن جدا؛ ولهذا أسرعت إلى القبر المفتوح؟
جحا :
خلعت ملابسي أولا، ثم دخلت القبر كما ولدتني أمي، ولما اقترب الفرسان ورأوني في القبر عاري الجسم استغربوا حالي وسألوني: ماذا تفعل في القبر يا هذا؟ فحرت في الجواب ولكنني استدركت بسرعة: أنا يا سادتي الفرسان من أهل القبور، أرقد هنا من عشرات السنين، وقد سئمت طول المكث فاستأذنت ربي أن أخرج قليلا للفسحة. (تيمور يضحك بصوت عال.)
جحا (ينظر إليه) :
هكذا ضحكوا يا سيدي، ولكنهم لم يكتفوا بالضحك.
تيمور :
وماذا فعلوا؟
جحا :
أعوذ بالله، أبعد هذا كله تسألني ماذا فعلوا؟ سرقوا حماري الذي جئت أبحث عنه فإذا بحضرتك تعطلني كل هذا الوقت (جحا يبحث في كل ركن في الخيمة، تحت المقاعد وبين الكراسي، تحت السرير، وراء قماش الخيمة وهو يقول)
حماري، حماري، اظهر يا نور عيني، اظهر ولا تخف، أنا لست من فرسان تيمور السفاح، أنا صاحبك، صاحبك جحا المسكين، أرجوك يا حماري، نهقة واحدة ترد روحي (يقترب من تيمور لنك) .
جحا (يرفع ثوب تيمور لنك وينظر في داخله وتحته) :
هل أنت هنا يا حبيبي؟
تيمور :
ماذا تفعل يا جحا؟
جحا :
عدت للسؤال يا ذكي؟
الحارس (يتقدم إليه غاضبا) :
أجننت أيها الأحمق؟ أتبحث في ثوب ...؟
تيمور :
حذار.
الحارس :
في ثوب هذا الفارس الشجاع عن حمارك؟
جحا (بثبات وهو يواصل البحث) :
ولم لا؟ وهل يصعب شيء على الفرسان الشجعان من أمثاله؟ إنهم يسرقون مال النبي ويخطفون الكحل من العين ويلهفون الرءوس من على الأجسام، انحن قليلا يا رجل.
الحارس :
كيف تخاطب الفارس بهذه اللهجة؟
جحا :
وما المانع؟ وهل بقي شيء بعد أن ضاع الحمار؟ (يمد يده إلى عمامة تيمور وتيمور مستسلم له.)
الحارس :
وهل يختفي الحمار في العمامة يا أحمق؟
جحا :
وهل هي ككل العمامات يا غبي؟ هل تضيق عمامة أحد فرسان تيمور عن حمار صغير لطيف مثل حماري؟ أسنانك يا رجل.
الحارس (صارخا) :
وتبحث في أسنان مولاك أيضا؟
جحا :
وما المانع أيها الغبي العنيد؟ ثم من الذي أسماه مولاي؟ هذا الجلف الضخم ال...
الحارس (وقد نفد صبره) :
إنه تيمور لنك يا أحمق، إنه تيمور لنك.
جحا :
من؟ ماذا قلت؟
تيمور (يربت عليه بهدوء، للفارس) :
لا فائدة منك يا غبي. لا لا تخف يا جحا. (جحا يسقط على الأرض مغشيا عليه، تيمور لنك ينحني ويحاول أن يفيقه من غشيته، جحا يفتح عينيه ثم يقفلهما بسرعة، يرفع رأسه ثم لا بليث أن يخفضها ويتماوت)
اصح يا جحا، اصح.
جحا :
من ينادي على ...؟
تيمور :
أنا يا جحا بجانبك.
جحا :
من؟ عزرائيل؟
تيمور :
بل السلطان تيمور لنك.
جحا :
آه! الله يرحمني، ظننت أنني ما زلت أطالع في الروح (يتماوت) .
تيمور :
أفق يا جحا، قلت لك لا تخف.
جحا :
الحمد لله أنني مت من زمان.
تيمور :
لم تمت بعد، ألا تسمع صوتك؟
جحا :
ضعت وضاع حماري أيضا، كنت على ظهره فضعت معه.
تيمور (يضحك) :
هيا! أفق . قلت لك لا تخف (ينهضه بالقوة) .
جحا :
أسرع يا مولاي، أسرع.
تيمور :
وما الداعي للسرعة يا جحا؟
جحا :
ألم تأمر بالسيف والنطع؟ هيا اضرب رأسي قبل أن أفيق من نومي؟
تيمور (مدعيا الغضب) :
قلت لك ألف مرة لا تخف، أم تريد أن ترى كيف يتصرف تيمور لنك السفاح؟
جحا :
أرجوك يا مولاي (يزحف إلى قدمه)
ها هي قدمك أقبلها. إنها حافية وهذا يسهل الأمر (يقبلها) .
تيمور :
انهض، قلت لك أفق وإلا ...
جحا :
لا، لا، أفقت وصحوت (يتحسس رأسه) ، وما زال رأسي على كتفي أيضا، أشكرك يا مولاي، أشكرك وأتوسل إليك.
تيمور (يأخذ بيده في لطف ويتجه به إلى أريكة) :
بل أنا الذي أتوسل إليك.
جحا :
أنت يا مولاي؟ ملك العالم يتوسل لحمار مثلي؟ (يمتنع عن الجلوس.)
تيمور :
اجلس.
جحا :
وأجلس أيضا؟
تيمور :
قلت لك اجلس، أتدري لماذا أرسلت إليك؟
جحا :
مولاي أرسل إلي أنا؟
تيمور :
فرقة كاملة من الفرسان تبحث عنك في كل مكان، من ثلاثة أيام وهم يسألون عنك، كان يجب عليهم أن يسألوا عن حمارك.
جحا :
وقد سألوا يا مولاي وسرقوه.
تيمور :
سأتحقق من هذا بنفسي، اجلس الآن بجانبي (جحا يجلس) .
جحا :
وإذا لم تجده يا مولاي؟
تيمور :
أعوضك عنه، هل قالوا لك إن تيمور لنك فقير أو بخيل؟
جحا :
عفوا يا مولاي، ولكن حماري لا يعوضه شيء.
تيمور :
إذا لم أعثر عليه فسأعوضك تعويضا كافيا، سأعطيك جرابا مملوءا بالذهب في حجم الجراب الذي تضع له العلف فيه.
جحا :
المهم هو أن تجده يا مولاي، وتستطيع أن تعطيه الذهب وتترك لي العلف.
تيمور :
أتحبه إلى هذا الحد يا جحا؟
جحا :
أحبه؟ إن كلمة الحب لا تكفي يا مولانا، لقد ربيته كابني، أخلص لي أكثر من زوجتي وأولادي، فهمني أكثر من كل الناس، واساني حين لم أجد أحدا يسمع شكواي، تحمل حماقاتي حين ضاق بها الجميع، أتقول أحبه؟ في بعض الأحيان أتصور أنه ظلي، لا بل إنني ظله.
تيمور (يضحك) :
لا بد أنه شديد الإخلاص لك يا جحا، ألم تفكر مرة في بيعه؟
جحا :
كلما ضاقت بي الحال وسدت في وجهي أبواب الرزق فكرت في بيعه، ولكني كنت أشترط على الشاري شرطا لم يرض به أحد.
تيمور :
وما هو هذا الشرط يا جحا؟
جحا :
أن يشتريني معه، أن يأخذني لأكون بجانبه.
تيمور (ضاحكا) :
الناس معذورون لرفضهم هذا الشرط يا جحا.
جحا :
إنني أخشى عليه حتى من نفسه، يخيل لي أنه لو ضاع لضعت معه، ولو مات فلا بد أن أموت أنا أيضا. جاء جاري يطلب إعارته له فقلت إنني ذاهب للحمار أستشيره عساه يقبل، ثم دخلت إلى الإصطبل وعدت لأقول له: لقد استشرت الحمار فلم يرض لأنه يزعم أن ملاك الحمير أوحى إليه بأنك ستضربه ضربا مبرحا وتشتمه وتسبه هو وصاحبه.
تيمور :
ملاك الحمير؟ ها ها، وماذا تفعل لو خانك الحمار فنهق مثلا.
جحا :
فعلها يا مولاي. جاءني جار آخر يطلب نفس الشيء، فقلت له إن الحمار في السوق، وما كدت أتم عبارتي حتى بدأ الخائن ينهق بصوت منكر من داخل الإصطبل، فقال جاري: يا شيخ، هذا الحمار يملأ الدنيا نهيقا وتنكر أنت وجوده؟ أسعفني طول لساني فهززت رأسي وقلت: ما أغربك من رجل! أتصدق الحمار وتكذب هذه اللحية الشائبة (تيمور يضحك) . (يدخل أحد قواد الجيش، ينحني لتيمور لنك ويحيي بجلبة السلاح ويقول):
القائد :
مولاي، الفرسان ينتظرون الإشارة.
تيمور وجحا (معا) :
هل وجدتم الحمار؟
القائد (مرتبكا) :
حمار؟ ماذا تريد يا مولاي؟
تيمور :
ماذا تريد أنت أيها القائد؟ ماذا يريد فرساني الشجعان؟
القائد :
ماذا يريدون؟ لا يريدون إلا ما تشاء إرادتكم يا مولاي.
تيمور :
تبا لك يا جحا، لقد نسيت لماذا كلفت الفرسان بالاستعداد، ذكرني أيها القائد.
القائد :
إنهم على أهبة الاستعداد يا مولاي، سيوفهم تتحرك شوقا لطعن هؤلاء الخبثاء.
تيمور :
الخبثاء؟ من هم أيها القائد؟ طالما أرحنا خبثاء كثيرين من نفوسهم ورءوسهم الخبيثة.
القائد :
ومن غيرهم يا مولاي؟ أهالي آق شهر.
جحا (قافزا من مكانه) :
من؟
القائد :
الذين لا يخافون بقدر ما يعبثون بنا.
تيمور :
يعبثون؟ وكيف هذا أيها الفارس؟
القائد :
لم يخلق بلد فيها من الحمير ما في بلدهم. تصور أنهم يرسلون الحمير للتجسس علينا.
تيمور (فجأة) :
وهل وجدتم بينهم حمار جحا؟
جحا :
نعم يا ولدي، إنني أستطيع التعرف على نهيقه من بين ألف حمار، أرجوك يا ولدي.
القائد :
إننا نقتلها أولا بأول، ونستعد الآن لتأديب أهلها.
جحا :
مولاي، أتوسل إليك.
تيمور :
أيها القائد، دعني الآن قليلا، قل للفرسان يستريحوا حتى يأتي تيمور.
جحا :
أتوسل إليك يا مولاي، إنهم ضعاف مساكين.
تيمور :
قلت أنا الذي أتوسل إليك. هيا عد إلى مكانك.
جحا :
العجزة والأطفال والنساء.
تيمور :
قلت لك اجلس، نعم هنا بجانبي، هل تعلم لماذا أرسلت إليك؟
جحا :
لو كان حماري معي لعرفت يا مولاي.
تيمور (ضاحكا) :
لا أشتهي سماع نهيق الحمار، أريد أن أسمعك أنت يا جحا، ماذا كنت تقول؟
جحا :
ماذا كنت أقول؟ انتظر حتى أستشير حماري.
تيمور :
ولكنه ليس معنا يا جحا.
جحا :
ولكن روحه دائما معي يا مولاي، انتظر، انتظر، ما رأيك يا حماري؟ صحيح، صحيح.
تيمور (ضاحكا) :
زدني يا جحا.
جحا :
ماذا أقول يا مولاي؟
تيمور :
لا تقل شيئا، أضحكني، أضحكني.
جحا :
إنك تضحك يا مولاي.
تيمور :
لا أريد هذا الضحك، أريد أن أضحك من القلب، الضحك الذي يغسل الروح ويطهر الجسد، الضحك الذي يغسل الدماء من ضميري وينسيني منظر الرءوس المقطوعة والأجسام المصلوبة والبيوت المحترقة والمآذن المهدمة، الضحك الذي ينسيني الخراب والموت والدم في كل مكان داسته قدماي. (جحا ينظر إلى قدمه الحافية ويضحك.)
تيمور :
ما الذي يضحكك يا جحا؟
جحا :
تمنيت لو كان حماري هنا.
تيمور :
وماذا كان يفعل؟
جحا :
ربما كنت استعرت حدوته وأعطيتها لك.
تيمور (ضاحكا) :
قل لي يا جحا: كيف تضحك الناس؟ كيف تزيل العبوس من وجوههم؟ كيف تحيي الابتسامة على شفاههم؟
جحا :
أنا أضحك الناس؟ من قال هذا يا مولاي؟ إنهم هم الذين يضحكون على أنفسهم. أريهم العالم المقلوب الذي يعيشون فيه فيكتشفون أنه عالمهم ويضحكون، أسير أمامهم على رأسي أو أمشي على أربع كما يفعلون فيكتشفون أنهم كانوا يفعلون ذلك دائما فيضحكون، أبين لعلمائهم ومشايخهم أنهم يقلبون اللغة أيضا على رأسها فيضحك الناس منهم ويطاردونني في البلاد. إنني لا أضحك الناس يا مولاي، لم يخلق إنسان له هذه الموهبة الخارقة، إنني أريهم وجوههم في المرآة.
تيمور :
تريهم وجوههم في مرآة؟ وما هي المرآة يا جحا؟
جحا (بينما يبحث في جيوبه) :
اختراع غريب يا مولاي لا أدري إن كنتم قد سمعتم به أو لا، ربما اخترعه الناس في أرض فرعون!
تيمور :
زدني يا جحا، زدني عن هذه المرآة.
جحا (يخرج بعض الأشياء من جيوبه وعبه) :
رغيف أعطته لي امرأتي لأتغدى به، أوصتني أن أطعم منه الحمار وآكل ما يفيض منه.
تيمور (يضحك) :
ثم ماذا يا جحا، ثم ماذا؟
جحا (يبحث في جيوبه) :
ولباسي أيضا، كان منشورا على الحبل وما زال مبتلا، هل تدري لماذا أعطته لي امرأتي؟ لأنني كثيرا ما أبول على نفسي يا مولاي، عادة قديمة لم أستطع التخلص منها.
تيمور (ضاحكا) :
والمرآة يا جحا! المرآة!
جحا (يبحث في جيوبه) :
أظن أنها أعطتها لي أيضا؛ لأنظر فيها كلما أردت أن أضحك.
تيمور :
أين هي يا جحا؟ أين هي؟
جحا (يخرج من جيبه مرآة صغيرة في حجم الكف) :
أخيرا! ها هي يا مولاي.
تيمور (يسرع نحوه) :
أرني يا جحا.
جحا :
انتظر يا مولاي، انتظر، أتظنها مرآة عادية؟ أتحسب أن كل من هب ودب يستطيع أن ينظر فيها؟ إنها مرآة يستطيع الإنسان أن يرى فيها كل شيء.
تيمور :
وماذا يرى يا جحا؟ هل هي حقا البلورة المسحورة التي سمعنا عنها؟
جحا :
في بعض الأحيان يا مولاي تطل فيها كما تطل في أعماق بئر. قد ترى هناك قصورا مسحورة وعذارى جميلات وبساتين وفاكهة من كل نوع.
تيمور :
أرني يا جحا، أرني هذه المرآة، هذه البلورة المسحورة.
جحا :
وقد ترى فيها شياطين مردة بذيول وقرون في جباهها ونيران تخرج من عيونها وأفواهها وأنوفها.
تيمور :
لنترك هذه الشياطين يا جحا، لنر القصور المسحورة والعذارى .
جحا :
قد ترى وجها لم تره من سنين وسنين، وجه أبيك أو أمك أو معلمك أو حبيبتك.
تيمور :
شيء غريب يا جحا، وماذا أيضا؟
جحا :
وقد ترى شيئا تضحك له، تضحك كما لم تضحك في حياتك أبدا.
تيمور (مقاطعا) :
هذا ما أريده يا جحا، هذا ما أتوسل إليك أن تحققه لي؛ لهذا أرسلت فرساني يبحثون عنك ثلاثة أيام وليال، أرجوك يا جحا، أتوسل إليك، أريد أن أضحك، أضحك من قلبي كما لم أضحك في حياتي، أريد أن أنسى حزني وعبوسي وصمتي، أرجوك يا جحا.
جحا :
ما دمت ترجوني فلا مانع، هيا تعال هنا.
تيمور (طائعا) :
أين يا جحا؟ أين البئر؟ (يبحث حوله.)
جحا :
أية بئر يا ... (يتدارك نفسه)
يا مولانا؟ انظر هنا.
تيمور :
نعم، نعم، ماذا أرى؟ أهو وجه إنسان يا جحا؟
جحا :
المسألة ليست سهلة إلى هذا الحد (لنفسه)
وجه إنسان؟ أيعقل أن يكون وجه إنسان؟ أيمكن أن يكون وجه إنسان؟
تيمور :
ماذا تقول يا جحا؟
جحا :
نعم، ماذا أقول؟ أولا عليك أن تسكت تماما، أن تنظر فقط وتسكت، تماما كما يجلس الأطفال أمام صندوق الدنيا. هل جلست؟
تيمور :
نعم يا جحا، وأنتظر أن تفسر لي ما أراه.
جحا (آمرا) :
قلت لك اسكت، هل ترى هذا الوجه؟ (يمسك المرآة أمام وجه تيمور)
انظر جيدا، هل تبصر قرنين في جبينه؟ هل تلمح النار التي تخرج من عينيه وأنفه وفمه؟
تيمور :
لا يا جحا، ولكنه وجه غريب.
جحا :
قلت لك اسكت، نعم هو وجه غريب، صاحبه قوي الجسم، مفتول العضل، كبير الرأس كالمجانين، واسع العينين تظهر فيهما الصرامة والقسوة والتكبر. هل ترى جبينه؟ إنه عريض، ممتلئ بالتجاعيد، لا يرى أحد ماذا يدور في داخله، رأس محموم يغلي كقدر الساحرة الشمطاء بالأوهام والخيالات والأحلام. أتدري من صاحبه؟ قلت لك اسكت، كان طفلا عاديا نشأ في بيت عادي، بيت من الطين والأخشاب، حوله سور من الطين ذو جدران أربعة، ماتت أمه وهو صغير فحرم من عطفها، وانعزل أبوه يتعبد في صومعته فحرم من حنانه، هل تدري ماذا كان يفعل؟
تيمور (لنفسه) :
هذا الشارب، أيمكن؟
جحا (بشدة) :
قلت لك لا تفتح فمك، كانت تسليته الوحيدة أن يجلس على سطح البيت وينظر للفضاء البعيد ويحلم بمدينة القوافل والذهب والنساء الجميلات، المدينة التي يحدثه عنها التجار والفرسان والدراويش، من هنا بدأ يعرف الوحدة، والوحدة علمته الصمت، والصمت علمه العبوس، والعبوس علمه الطموح، والطموح دفعه أن يمسك السلاح، والسلاح أغراه أن يهدم ويخرب ويقتل، والقتل دفعه إلى المزيد من القتل، والمزيد من القتل إلى المزيد منه.
تيمور :
عجيب يا جحا، هل يستطيع رجل واحد أن يفعل هذا كله؟
جحا :
ألم أقل لك لا تفتح فمك؟!
تيمور :
جحا، أنسيت أنك تكلم ...؟
جحا :
هش! أتريد أن تختفي الرؤية من أمامك؟ أتظن أن الإنسان يمكن أن يرى مثل هذا الوجه مرتين في حياته؟ اجتمع القتلة حوله من كل الأجناس والشعوب والقبائل، وكلما غزا قبيلة أو أسقط قلعة أو أحرق مدينة انضم إليه المزيد من القتلة، ومضى بفرسانه من بلد إلى بلد، يغلبون خصومهم في كل مكان، ينتصرون على كل عدو، يقتحمون كل حصن، يفتكون بكل إنسان وحيوان.
تيمور :
أيمكن أن يكون هذا؟!
جحا :
هش، قلت لك اسكت.
تيمور (لنفسه) :
ترى هل يكرر التاريخ نفسه؟
جحا :
أتريد أن يختفي الوجه من أمامك؟ انظر، ألا ترى العين تزداد حزنا والشعر شيبا، والجبين يمتلئ بالتجاعيد؟
تيمور :
ماذا كان يريد صاحبنا؟
جحا :
ماذا يريد؟ أن يفتح العالم كله؟ أن يقف فوق الأرض ويقول: هل فيك شبر لم تمش عليه أقدام خيولي وفرساني؟ أن يحرق كل مدينة ويمعن السيف والسلب والنهب في كل شيء؟ هل تعلم ماذا فعل في مدينة حلب؟
تيمور :
وهل ذهب إلى هناك أيضا؟
جحا :
أتريد أن يغضب منك ويختفي؟
تيمور :
لا، لا، إنه وجه غريب حقا! تكلم يا جحا.
جحا :
ترك جنوده يقتلون ويحرقون وينهبون كما يشاءون حتى صار الإنسان لا يكاد يقع إلا على جثة إنسان، هل تذكر شكل المآذن؟ هل سمعت بأهرام فرعون؟ يقولون إنه بنى من رءوس القتلى عشر مآذن وثلاثة أهرامات! عشرون ألف طفل وشيخ وامرأة وشاب ماتوا تحت أرجل الخيل أو بسيوف الفرسان.
تيمور :
يخيل إلي يا جحا ...
جحا :
لا تتخيل شيئا، قلت انظر وأنت ساكت، هل تعلم ما يقوله الناس عما فعله في دمشق؟
تيمور :
وهل دخل دمشق أيضا؟
جحا :
وهل بقيت هنالك مدينة لم يدخلها؟ يقول العجائز إنه أمر رجاله باقتحام المدينة وسيوفهم مشهرة في أيديهم، نهبوا ما قدروا عليه وسبوا النساء جميعا، وساقوا الرجال والأولاد بعد أن ربطوهم في الحبال، وأشعلوا النار في المنازل والمساجد حتى صار اللهب يناطح السحاب وعصفت المدينة مثل جهنم، أتعرف بماذا كان يتسلى وهو يرى هذا كله؟
تيمور :
يتسلى؟ هل وجد الوقت لهذا أيضا؟
جحا :
بالطبع، إنها تسلية قديمة.
تيمور :
وماذا كان يفعل يا جحا؟
جحا :
كان يلعب الشطرنج.
تيمور :
الشطرنج؟ هل أنت متأكد يا جحا؟
جحا :
وهل تعلم أيضا ماذا كان يقول لأتباعه وهو يرى النار تأكل الأخضر واليابس، وتأتي على الحي والميت؟
تيمور :
إلهي، ماذا كان يقول؟
جحا :
إن طريقي هو طريق القدر، كل ما فعلته كان مقدرا.
تيمور :
نفس الكلام يا جحا، نفس الكلام.
جحا :
قلت لك اسكت حتى لا يختفي في البئر.
تيمور :
يخيل إلي أنه وجه عجيب يا جحا.
جحا :
بل وجه مضحك يا مولاي، ألا تحس بالرغبة في الضحك وأنت تراه؟ ألا تريد أن تضحك؟ (يضحك بشدة)
أليس من المضحك أن يحاول الإنسان أن يكون قدرا، أن يصبح شيطانا، أن ينوب عن الموت؟ تصور يا مولاي ماذا كنت تفعل لو قالوا لك: إن صاحب هذا الوجه هو الموت نفسه؟ (يبعد المرآة.)
تيمور (مفكرا، يذرع المكان جيئة وذهابا) :
جحا، هل نظرت مرة في هذه المرآة؟
جحا :
نعم يا مولاي، كلما اشتقت إلى رؤية حماري.
تيمور :
جحا، هل خدعتني يا جحا؟
جحا :
خدعتك؟ حاشاي أن أفعل يا مولاي، وهل غاب عني أنك ...؟
تيمور :
لماذا سكت؟ أكمل عبارتك، أنني السفاح الأكبر، الرجل الذي أصبح هو القدر والشيطان والموت.
جحا :
وهل جننت يا مولاي حتى أفعل هذا؟ إنها المرآة، البلورة المسحورة.
تيمور :
أريد أن أعرف هذا الاختراع، والويل لك إن اكتشفت أنك كنت تضحك علي.
جحا :
خوفي يمنعني أن أفعل هذا يا مولاي، حتى الحمار نفسه ... (يدخل القائد بينما يشير جحا مصادفة في اتجاهه، تيمور يغالب الضحك ولكنه يتماسك بينما يقول القائد):
القائد :
الفرسان سئموا الانتظار يا مولاي، وسيوفهم تشتاق.
تيمور (ناظرا إلى جحا) :
إلى رءوس سكان آق شهر، أليس كذلك؟ (جحا لا يرد.)
القائد :
ولأي شيء يشتاقون غير الرءوس يا مولاي؟
تيمور :
ولن ينسوا الحمير أيضا، أليس كذلك؟
جحا :
إلا الحمير يا مولاي، أتوسل إليك، بحق حماري المسكين، أرجوك، أقبل قدميك.
تيمور :
هيا أيها القائد (يغالب الضحك)
ولنجرب مذبحة الحمير لأول مرة (يخرج مع القائد بينما يقف جحا وحده حائرا) .
جحا (لنفسه) :
أهكذا تفشل يا جحا؟ هل انكشفت لعبتك بهذه السهولة؟ ومن الذي كشفها؟ هذا السفاح الغبي الغليظ؟ أين حكمتك وذكاؤك؟ أين عبطك وخبثك؟ أتضحك على ذقون العلماء والمشايخ والفرسان والتجار ويفلت منك هذا الجلف المتكبر؟ ماذا يكون مصيرك الآن؟ ماذا يكون مصير آق شهر؟ أهلك وأولادك وجيرانك وزوجتك الحمقاء وحمارك الطيب العجوز، أيكون عبطك هو السبب أم هذه المرآة اللعينة؟ أكنت تحسب أن هذا التتري المتوحش الذي غزا نصف العالم سيعجز عن معرفة وجهه؟ ويلي، ويلي، ويلك أيتها المرآة الملعونة، يا من تزيدين النساء غرورا والملوك ظلما والمجانين جنونا، هل يصعب عليك أن تضحكيهم على أنفسهم؟ ولماذا أضحك أنا على نفسي كلما نظرت فيك؟ أأنا أكثر منهم حكمة أم أكثر منهم غباء؟ أف، تعالي (يكسرها بقوة على الأرض فتتناثر قطعا صغيرة في كل مكان، يحاول أن يبكي فيختلط ضحكه وبكاؤه، يدخل تيمور) .
تيمور :
جحا، جحا، ها أنا قد جئت، أين المرآة؟ هاتها ليرى الفرسان فيها أنفسهم، نعم نعم، كما رأيت نفسي. أيها الأحمق، ماذا فعلت؟ أيمكن أن يكسر الإنسان بلورة مسحورة؟ (ينحني على الأرض ويجمع القطع المتناثرة، يأخذ قطعة منها وينظر فيها، ثم يضحك.)
جحا :
لماذا تضحك يا مولاي؟
تيمور :
لماذا أضحك؟ وكيف لا أضحك يا جحا وأنا أرى هذا الوجه لأول مرة؟!
جحا :
مولاي.
تيمور :
اسكت يا جحا، هل أطلب منك شيئا؟ شيئا واحدا؟
جحا :
بالطبع يا مولاي، ما دمت أنتظر بين لحظة وأخرى ...
تيمور :
أف، ألم أقل لك لا تخف؟ اسمع، أريد أن تصبح نديمي مدى الحياة.
جحا (مذعورا) :
أنا يا مولاي؟
تيمور :
نعم أنت؛ لكي أنسى وجهي كلما نظرت في وجهك، لكي أستطيع ... (جحا ينفجر باكيا.)
تيمور :
لماذا تبكي يا جحا؟ ألا يرضيك أن تكون رفيقي ونديمي؟ ألا يشرفك أن تكون بجوار أشجع رجل وأقوى رجل؟ (يزداد بكاء جحا)
تكلم يا جحا، تكلم.
جحا :
ارحمني يا مولاي.
تيمور :
إنني لا أفهمك.
جحا :
لقد رأيت وجهك مرة واحدة، فماذا أفعل أنا لو رأيته كل يوم؟ (تيمور ينظر في وجهه ثم يضحك.)
تيمور :
جحا، جحا، أيها المغفل، أيها الأحمق، أيها الحكيم (ينظر في وجهه ويضحك) .
أتدري ماذا خطر لي الآن؟ وجهك أيضا مرآة، الآن عرفت لماذا يضحك الناس عندما ينظرون فيه، أتعرف كيف اكتشفت لعبتك؟ من شاربي، تذكرت فجأة أن السفاح الذي تكلمت عنه لا يمكن أن يكون غيري. تسألني لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يجتمع سفاحان بشارب من نوع واحد، شارب تتري نحيل مبروم إلى أسفل ومنسدل تحت الذقن، شاربي الذي طالما شددت شعراته وأنا مطرق صامت أفكر في كل مذبحة قادمة، ها ها (يضحك، يدخل القائد فيلمحه)
اذهب أيها القائد، قل للفرسان إن تيمور سيخيب ظنكم لأول مرة في حياته، لن يأمركم بالحرق ولا بالموت ولا بالتدمير، قل لهم إن السفاح الأكبر يضحك، يضحك لأول مرة على نفسه، يضحك لأول مرة من قلبه، أليس كذلك يا جحا؟ (يعانقه ويقبله ويكتشف أنه يبكي وينشج)
لماذا تبكي أيها الأحمق؟ ألم أقل إنني أضحك على نفسي؟ ألم تعلمني المرآة هذا؟ لم تخاف إذن على نفسك؟ على أهل بلدتك؟ آه! هيا يا جحا، اضحك، اضحك، اضحك، هل أعلمك كيف تضحك أنت أيضا على نفسك؟ خذ، هذه قطعة من المرآة ترى فيها أنفك الطويل ورأسك الغبي وفمك المضحك، هيا، اضحك، اضحك (جحا يضحك ) .
جحا :
ألم تذهب أيها القائد؟ خذ، هذه قطعة من المرآة، وهذه قطعة أخرى، وهذه، أعط كل فارس مرآة، قل لهم إن تيمور نظر فيها فضحك، أليس كذلك يا جحا؟ ضحك لأول مرة في حياته، قل لهم من يضحك على نفسه لا يقتل غيره. أتخشى أن يمسك كل منهم في يده مرآة، فيتعلموا الضحك وينسوا الحرب؟ أليس هذا أيضا شيئا مضحكا؟ اضحك أيها القائد، اضحك، اضحك على نفسك، كما يفعل تيمور لنك، لا، ليس هكذا، ضحكا أقوى، أشد، أعلى نبرة، أعلى، أعلى، أعلى. (القائد يقف مسمرا في مكانه، يفتح فمه من الدهشة، ثم لا يلبث أن يشاركهما ضحكهما الذي يرتفع شيئا فشيئا قبل أن تسدل الستار.)
1968م
الكنز
(عن الأديب الصيني.) (تكفي لتصوير المشهد قضبان قفص حديدي أو زنزانة سجن انفرادي، يقف وراءها فلاح نحيل يرتدي ثوبا متواضعا من الكتان ويخاطب من خلالهما بقية الشخصيات. الملابس تتدرج في سلم الأبهة والفخامة من الحارس إلى مدير السجن إلى القائد والوزير حتى تبلغ ذروتها لدى القيصر. الفلاح يهز قضبان القفص ويدقها بشدة.)
الفلاح :
يا حارس! يا حارس!
الحارس (يسمع صوت من بعيد) :
هدوء! هدوء!
الفلاح :
اسمعني يا حارس!
الحارس (من بعيد) :
هدوء، قلت الزم الهدوء!
الفلاح (رافعا صوته) :
أريد القيصر، أريد القيصر.
الحارس (متجها إليه) :
ما هذا؟ تريد أن أفقد عملي بسبب صعلوك مثلك؟ ماذا يحدث لو رآني مدير السجن أو سمعني أكلمك؟ قلت لك الكلام ممنوع!
الفلاح :
القيصر، أريد أن أقابل القيصر.
الحارس (يضرب كفا بكف) :
القيصر نفسه؟! هل التهم الجوع بقية عقلك؟ هل سكرت من العطش؟ ومع ذلك فلم أقصر في حقك.
الفلاح :
حقا، يمكنك أن تهنئ نفسك لأنني لم أمت جوعا وعطشا أمام أطباقك الفارغة!
الحارس :
فارغة؟ ألم أقدم لك ما يكفي من الأرز والخبز؟ إن مدير السجن يتهمني بسرقة طعام المساجين، وهو الذي يعلم الجميع أنه يبيع طعامهم في السوق، بيني وبينك يا صاحبي، لقد أثرى ثراء فاحشا وله بيت فخم كالكبار ، وحتى لو كنت أسرق كما يقولون، هل أسرق طعام فلاح مسكين مثلك؟ شبح هزيل يرتعش أمامي؟
الفلاح :
احمد السماء لأن هذا الشبح لم يمت جوعا. لو مت لقطعوا رأسك.
الحارس (ضاحكا) :
لن يقطعوه بسبب لص مثلك.
الفلاح :
لص؟ وماذا سرقت؟ أتسمي هذا ...؟ (مشيرا إلى جيب الحارس.)
الحارس :
هذا الغليون الذي ضبطتك وأنت تضعه في جيبك؟
الفلاح :
لست أنا الذي وضعته في جيبي، ثم إنه قديم ورأسه مشروخ. أتتهمني بالسرقة بدلا من أن تشكرني لأنني رفعته من التراب والوحل والطين؟ لأنه لم ينكسر تحت أقدام عابر سبيل أو تحت عجلات عربة مارة على الطريق؟ إن كان ملكا لك فقد أخذته؟ وإن لم يكن ملكا لأحد فلماذا تضعني في السجن؟
الحارس :
لأنها سرقة، لم يكن من حقك أن تمد يدك إليه.
الفلاح :
ولكنه ليس ملكا لأحد.
الحارس :
ما لا يملكه أحد يملكه القيصر، هذا هو القانون.
الفلاح :
قانون القيصر؟ إذا فدعني أقابله، أريد القيصر، أريد القيصر.
الحارس :
رجعت لجنونك؟ أتظن أن القيصر لديه وقت لأمثالك؟ أتحسب أن مهام المملكة تترك له لحظة لمقابلة لص مثلك؟
الفلاح :
لست لصا. قلت لك وجدت شيئا على الطريق.
الحارس :
وجدت شيئا على الطريق؟ هذه حجتكم دائما، نسيت أن الطريق ملك القيصر؟ وكل ما يوجد على الطريق هو بحسب القانون ملك القيصر. ثم إنني ضبطتك متلبسا بالجريمة، ربما لا تعلم أنني ضبطتك بجوار سور القصر.
الفلاح :
قصر القيصر؟! لماذا لم تقل لي ذلك؟
الحارس :
ولماذا تندهش؟ إن كل القصور ملك القيصر، وكل الأسوار ملكه أيضا.
الفلاح :
ليتني عرفت هذا.
الحارس :
وعرفت أيضا أن الطريق ملك القيصر، والوحل الذي على الطريق، والعربات التي تسير على الطريق، والسائقون والخيول والأبقار التي تجر العربات، والأرز في حقول الفلاحين وفي أطباق طعامهم، والتفاح والكمثرى على رءوس الشجر، وأجور الموظفين والجنود التي يوزعها الوزراء والقواد، والذهب في خزانة الدولة وخزائن القصر، كلها ملك القيصر، ومن يمد يده ليسرق غليونا تافها ملقى في وحل الطريق فسيمد يده ...
الفلاح (ساخرا) :
ليسرق الأرز من حقول الفلاحين وأطباقهم، وثمار التفاح والكمثرى من على رءوس الأشجار، والعربات والسائقين والخيول والأبقار وأجور الموظفين والجنود، والذهب في خزانة الدولة وخزائن القصر.
الحارس :
أخيرا فهمت! ثم يمد يده في النهاية ليسرق التاج من على رأس القيصر!
الفلاح :
ولهذا أريد مقابلة القيصر.
الحارس :
لتسرق تاجه؟!
الفلاح :
بل لأهديه ألف تاج مثله، لأملأ خزائنه بالذهب وأملأ قلبه بالسرور.
الحارس (يضحك) :
فلاح بائس مثلك يفعل كل هذا؟
الفلاح :
وأكثر منه.
الحارس (يخرج الغليون من جيبه ويتأمله، يضربه على كفه ثم يقول) :
يظهر أن الكلام معك مسل، برغم الأوامر المشددة من مدير السجن بعدم الكلام مع المسجونين. وأين هذا الكنز أيها الصعلوك؟ أين تخفيه؟
الفلاح :
أخفيه هنا في قلبي، سر لن أعلنه إلا للقيصر نفسه، ثم إنني لست صعلوكا.
الحارس :
لص من الريف، هل يرضيك هذا؟
الفلاح :
ولا هذا، لقد جئت من بلدتي البعيدة وتحملت عذاب السفر والجوع.
الحارس :
لتتسكع في طرقات المدينة حتى تبلغ سور القصر وتنادي يا قيصر فيقول لبيك!
الفلاح :
سيكون هذا في صالحه هو، إنني لن أكسب شيئا.
الحارس :
نسيت أن أسألك: من أي بلد أنت؟
الفلاح :
مع أن السؤال من حق القيصر وحده، ومع أنني عاهدت نفسي وأهل بلدتي ألا أفضي بالسر إلا للقيصر نفسه، فإن وجهك الطيب يشجعني على القول بأنني من بلدة هان هان.
الحارس :
في المقاطعة الشمالية، أليس كذلك؟
الفلاح :
بلى.
الحارس :
وما الذي جعلك تتحمل السفر الطويل لتأتي إلى هنا؟
الفلاح :
عيناك تقولان إنك طيب، لكن لا تقولان إنك غبي.
الحارس :
حاذر في كلامك، لا تنس أنني حارسك ويمكن أن ...
الفلاح :
يمكن أن تأمر بجلدي أو حتى قطع رقبتي، لكنك لن تستطيع أن تجلد السر الذي أحمله في قلبي أو تقطع رقبته، ألم أقل إنه سر خطير؟!
الحارس :
وما هو؟
الفلاح :
كيف أقوله لك وهو سر؟ ألم تسمع أنني عاهدت نفسي ...؟!
الحارس :
وعاهدت أهل بلدتك ألا تعلنه إلا للقيصر نفسه، ومع ذلك يا صاحبي يمكننا أن نتكلم عنه من بعيد.
الفلاح :
هل أفهم من هذا أنك ستساعدني؟
الحارس :
ربما، إذا اقتنعت بأنه يستحق أن يبلغ إلى هناك (يشير إلى أعلى) .
الفلاح :
إذن ستكلم مدير السجن، ومدير السجن ...
الحارس :
ومدير السجن يكلم القائد، والقائد يكلم الوزير، والوزير يكلم رئيس الحرس، ورئيس الحرس ...
الفلاح :
اعلم يا صاحبي أنه كنز، كنز أثمن من كل الكنوز التي تتخيلها، كنز لا يصح أن يلمسه إلا أرفع إنسان وأطهر إنسان.
الحارس :
ولماذا لم تبحث عن هذا الإنسان في بلدتك؟ ألا يمكن أن تجده فيها أو في البلاد المجاورة؟
الفلاح :
مستحيل، لا أنا ولا أهل بلدتي ولا البلاد المجاورة إلى ما وراء حدود المملكة، لو كان الأمر بهذه السهولة لاحتفظت به لنفسي، أو لأحد أولادي، أو أحد أقاربي.
الحارس :
هذا ما يقوله العقل السليم، أو لحارسك الذي يتكلم معك الآن برغم أوامر مدير السجن.
الفلاح :
لو أمكن هذا ما ترددت.
الحارس :
ولو فعلت لأمكنه أن يفعل شيئا من أجلك.
الفلاح :
قلت لك إن الشخص الوحيد الذي ...
الحارس :
القيصر، سمعت هذا من قبل، ولكن القيصر أيها الغبي ليس فقيرا مثلي أو مثلك، ما قيمة كنز يضاف إلى كنوزه التي لا تعد ولا تحصى؟ ثم إنه لا ينفعك الآن وأنت وراء القضبان، أما أنا فيمكنني مثلا أن أخفف عنك، أزيد كمية الأرز التي تصرف لك، بدلا من أن تذهب إلى زكائب مدير السجن الذي يبيعها في السوق، أقدم لك وعاء به ماء عذب بدلا من الطين الذي تشربه كل يوم، أسمح لك بنزهة أطول في فناء السجن، أستعطف المدير ليخفف عنك العقوبة التي تنتظرك.
الفلاح :
لتكن العقوبة ما تكون، لن يمكنكم أن تمنعوني من مقابلة القيصر.
الحارس :
وما الذي يؤكد لك هذا؟
الفلاح :
سأصرخ بأعلى صوتي حتى لو كنت على أعلى درجات المشنقة، أريد مقابلة القيصر، أريد ...
الحارس :
اخفض صوتك! عرفت ما تريد، سمعته حتى أصبت بالصمم.
الفلاح :
لن يرحمكم إذا بلغ مسامعه أنني اختفيت أو مت ومعي السر، سيعلقكم جميعا على المشانق إذا عرف أنكم حرمتموه من أغلى كنوز المملكة، وستصرخ روحي من القبر.
الحارس :
لم تصل روحك ولا جسمك إلى القبر بعد، هيا نتكلم كأصحاب، لم تقل لي لماذا لم تأخذ الكنز لنفسك أو تعطه لأحد من أقاربك أو أهل بلدك.
الفلاح :
لأن أحدا لا يستحقه، لا أنا ولا هم.
الحارس :
ولماذا؟
الفلاح :
قلت إنه لا يصلح إلا لأطهر إنسان وأصدق إنسان وأرفع إنسان في المملكة، نظرت في نفسي وراقبت جيراني وأهل بلدتي «هان هان» فلم أجد أحدا يصلح له.
الحارس :
لم تجد أحدا؟ عجيب!
الفلاح :
وما وجه العجب في هذا؟ إننا جميعا فقراء، فقراء غارقون من رءوسنا إلى آذاننا في مستنقع الذنوب، قد تكون ذنوبنا صغيرة، ولكننا لسنا الأنقياء الطاهرين، هل تعرف ما قاله لي صاحب اليد المباركة التي أعطتني الكنز؟ قال لي صوته العميق الذي لم أستطع أن أرى وجه صاحبه: اذهب وابحث عن أطهر إنسان، ابحث عنه في كل مكان، لا تيأس أبدا وستجده حتما. سألت زوجتي فقالت مذعورة: لا يمكن أن تكونه أنت! لا يمكن أبدا أن تكونه! لقد كسرت اليوم ذراعي من الضرب، ورأيتك أمس وأنت تسرق التفاح والكمثرى من بستان جارنا، ثم إنك تنظر خفية إلى زوجته، هل تظن أن هذا يخفى علي؟ لا، لست أطهر إنسان في المملكة ولا في البلدة. قلت: يا امرأة وماذا أفعل؟ قالت: استشر أهل البلدة. قلت: أتظنين أني واجد بينهم من أسلمه الكنز وأستريح؟ قالت: من يدري؟ اسألهم وافعل ما يمليه عليك الواجب. قلت لنفسي: ربما يكون هذا الإنسان الطاهر شحاذا مسكينا أو فلاحا مغمورا أو راهبا في مغارة بالجبل أو سائق عربة صغيرة أو حمالا عليه ثوب يكشف عريه، ودرت على الجميع، لم أستثن حتى لصوص الجبال والهاربين في الغابات من وجه القانون، ضحكوا جميعا من سذاجتي وقال لي الراهب الذي ألححت عليه بالكنز: اذهب يا ولدي، لن تلقى أطهر إنسان إلا في المهد، في طفل ولد حديثا، طفل يبتسم ويبكي كملاك صاف. قلت: يا سيدي وماذا يفعل طفل في المهد بهذا الكنز؟ الصوت المبارك قال لا بد أن يكون رجلا، رجلا طاهر القلب، كالثلج على قمة الجبل والنور في الفجر. قال: اذهب وابحث عنه في كل مكان. ولما ضاقت بي الحال قال لي الفلاحون وهم يضحكون: اذهب للمدينة. سألتهم: وإن لم أجده هناك، فهل أعود يائسا وأنا أنفض كفي وأقول: ألم أقل لكم؟ قالوا: ربما تجد أرفع الرجال وأطهرهم هناك. سألت: تقصدون القيصر؟ تقصدون أكبر الكبار؟ قالوا: من يدري؟! ربما يكون كذلك، وإذا أخذ منك كنز الكنوز فربما يتذكرنا، ربما يحضر بنفسه وينتشلنا. وهكذا يا صاحبي ...
الحارس :
هكذا جئت إلى المدينة؛ لأضبطك متسكعا حول أسوار القصر.
الحارس :
نسيت أن أقول لك ما قاله الراهب، ابحث يا ولدي عن الحقيقة، إن لم تجدها فيكفيك أنك تعبت في البحث عنها.
الحارس (ضاحكا) :
وهل قال لك أيضا أن تبحث عن هذا الغليون وتضعه في جيبك؟
الفلاح :
أما زلت تتهمني بالسرقة؟! أأنا الذي وضعته في جيبي؟
الحارس (يتأمل الغليون) :
إنه مكسور كما تعلم، ومع ذلك فهو خدش بسيط، لا بأس، لا بأس، يمكنني أن أستعمله قبل النوم، حين أنظر لأولادي الخمسة المكومين في حضن أمهم على بقايا الفرش البالي.
الفلاح :
أنت أيضا؟
الحارس :
بالطبع يا صاحبي، كنت أظن أنك ستعترف لي بسرك.
الفلاح :
وهل تظن أنك تصلح؟
الحارس :
لا أخفي عنك أنني لست من تبحث عنه، أنا أيضا لا أخلو من ذنب هنا وذنب هناك، ثم إنني أقول لك من الآن ...
الفلاح :
ماذا تقول؟
الحارس :
أقول لا تتعب نفسك. ولكن ما شأني أنا بهذا؟ إنني مجرد حارس صغير.
الفلاح :
وضعني وراء هذه القضبان كأني لص.
الحارس :
أنا أنفذ القانون، وقانون القيصر يقول إن ما لا يملكه أحد يملكه القيصر، حتى الوحل.
الفلاح :
حتى الوحل على الطريق، والأرز في حقول الفلاحين وأطباقهم (فجأة يرفع صوته)
ولكنني لست لصا، لست لصا، لقد سافرت ثلاثة أشهر لأقابل القيصر، أريد مقابلة القيصر.
الحارس :
اسكت اسكت، تريد أن تقابل القيصر أم تريد أن يطردني مدير السجن؟ (يدخل مدير السجن، يفاجأ الحارس وينحني نصف انحناءة.)
المدير :
جميل! جميل ! ماذا أسمع؟ ماذا أرى؟
الحارس :
إنه يا سيدي ، هذا الفلاح الصعلوك.
المدير :
أعرف أعرف، أتظن أن عيني مغمضة؟ أتظن أن أذني لا يصل إليها دبيب النمل على الجبل والفئران في الجحور؟
الحارس :
إنه يا سيدي ...
المدير :
سرق من الطريق ما لا يملكه أحد. والطريق كما يقول القانون ملك القيصر، وكل ما على الطريق. (الحارس يقدم إليه الغليون فيأخذه منه عنوة ويتأمله قبل أن يلقي به من يده ويلتقطه الحارس.)
المدير :
غليون، مشروخ من رأسه أيضا، أتظن أنني لا أعرف؟ ووضعته في جيبك كما تضع حفنة أرز من طعام المساجين، لا تنكر، أتظنني لا أعرف؟ ثم من سمح لك بالكلام مع هذا الرجل؟ ألم أمنع الحراس من الكلام مع المساجين؟!
الحارس (يزداد انحناؤه) :
بلى.
الفلاح :
أنا الذي بدأ الكلام يا سيدي.
المدير :
ومن أمرك بفتح فمك؟
الفلاح :
أن الذي ناديت بأعلى صوتي: أريد مقابلة القيصر.
المدير (يتفرسه في هدوء) :
هكذا؟ فلاح مثلك؟
الفلاح :
نعم يا سيدي، وصعلوك وفقير وجائع وعطشان. (الحارس ينظر إليه مستعطفا فيستطرد.)
الفلاح :
لا تخش شيئا يا صاحبي ... لقد قمت بواجبك وقدمت لي طبقا مملوءا بالأرز، ووعاء شربت منه الماء الصافي، ولكن هذا لم يمنعني من الصياح في طلب القيصر؛ لأنني يا سيدي المدير أملك أنفس شيء في الوجود.
المدير :
تملك أنفس شيء؟
الفلاح :
أجل يا سيدي، أملك أغلى كنز في المملكة، كنز الكنوز.
المدير :
سمعت يا حارس؟
الحارس :
نعم يا سيدي، هذا ما يردده طول الوقت.
المدير :
تملك كنز الكنوز، أنت؟
الحارس :
ويصر على ألا يقدمه إلا للقيصر نفسه.
المدير (يتفرس في وجهيهما قليلا، يتفكر ثم يقول لنفسه) :
من يدري؟ ربما يكون هذا الفلاح صادقا، ثم إنه لو ظل يصرخ هكذا فلا بد أن يبلغ صوته القيصر، ولو عرف القيصر أننا منعناه من مقابلة جلالته فسيعاقبنا حتما، لا أريد أن أضيف جريمة إلى جرائمي التي يعلمها، فلأجرب مع هذا، أنت ...
الفلاح :
نعم يا سيدي.
المدير :
أتقول الحقيقة؟
الفلاح :
كل الحقيقة يا سيدي.
المدير :
وتصر على أنك تملك كنزا؟
الفلاح :
وأصر على تقديمه للقيصر.
المدير :
القيصر لديه من الكنوز ما يكفي، استمع إلي.
الفلاح :
أريد أن يستمع القيصر نفسه إلي، سيجعله الكنز غنيا بلا حدود.
المدير :
أيها الأحمق، إنه غني بلا حدود، ثم إنه لن يكترث بفلاح مثلك لا يختلف عن ملايين الفلاحين، وحتى لو حدثت معجزة وتكلمت معه فسيأخذ منك الكنز دون كلمة شكر ويتركك هنا تحت تصرفي. إنني أنا مدير السجن، إن سلمتني الكنز فسوف أختصر مدة عقوبتك أياما أو أسابيع، وربما زدت في إكرامك وحصلت لك على بعض المال من خزينة القائد الذي يسرق أجور الجنود، أليس من مصلحتك أن تقدمه لي بدلا من القيصر؟! (يظهر القائد الذي كان يتسمع منذ قليل للحوار، ينحني الحارس انحناءة شديدة، يلتفت مدير السجن فينحني نصف انحناءة.)
القائد :
يقدمه لك بدلا من القيصر؟ ما هذا الذي تتحدث عنه يا مدير السجن؟
المدير :
لا شيء يا سيدي القائد، لا شيء.
الحارس :
فلاح مجنون يا سيدي، وسيدي المدير ...
القائد :
اخرس أنت (للمدير)
منذ سنين وأنت تهرب الأرز من السجن إلى السوق، أتريد الآن أن تحول السجن إلى سوق؟ هيا تكلم.
المدير :
هذا الفلاح الأحمق يا سيدي يزعم أن معه شيئا نفيسا يصر على تقديمه إلى القيصر نفسه.
القائد (للفلاح) :
أنت؟
الفلاح :
نعم أنا، كنز لا أقدمه إلا للقيصر نفسه.
القائد :
كنز لا تقدمه إلا للقيصر نفسه (متفكرا وحده ثم بصوت عال)
أنا لا أعرف إلا كنزا واحدا يمكن أن يقدمه فلاح مثلك للقيصر، هذا الكنز هو حياتك، ولا أعرف إلا مكانا واحدا يمكنك أن تقدمه له فيه، هذا المكان هو ميدان الحرب، ولكن من الذي ينفق على الحرب التي ترفع الوطن لأعلى القمم وتخفض الفلاحين إلى الحضيض؟! إنه أنا؛ لهذا فإن الكنز لا يقدم إلا لي، هيا! مد يديك! وسوف أنظر في أمر الإفراج عنك قبل الموعد المحدد والإغداق عليك من خزينة المملكة.
الوزير (يدخل فجأة) :
خزينة المملكة لا يتصرف فيها سواي، لا أحد سواي، أنا وزير المال أيها القائد.
القائد :
بالطبع بالطبع (ينحني نصف انحناءة) .
الحارس :
يقينا يا سيدي (ينحني انحناءة عميقة تقترب من الركوع) .
الوزير :
يقينا وبالطبع؛ فكما أن الأرز ليس ملكا للحقل ولا للفلاح، وكما أن الثور ليس ملكا للعربة ولا للسائق، كذلك خزينة المملكة لا تملكها المملكة ولا الشعب، وإنما أتحكم فيها أنا، أنا وحدي.
القائد :
صحيح!
المدير :
تماما!
الحارس :
لا شك في هذا!
الوزير :
لا شك في هذا، من الذي يجرؤ إذن على أن يمد أصابعه إليها؟ مهما طالت كأشعة الشمس في المساء، أو قصرت كظل المشنقة في الصباح فلا بد أن أقطعها.
القائد :
من يتجرأ على هذا؟ لا أحد!
المدير :
ومع ذلك تريد أن تمد يدك إليها؟
القائد :
لا لأقلل منها بل لأملأها بالكنز الذي يقدمه هذا الفلاح.
المدير :
من؟ هذا الفلاح؟
الفلاح :
لن أقدم شيئا إلا للقيصر.
الوزير :
قل لي أولا ما هذا الذي تقدمه؟ أي كنز هذا؟
الفلاح :
ولن أرد إلا على أسئلة القيصر.
الوزير (للفلاح) :
هكذا؟ اسمع أيها السجين، أنا أستطيع أن أحررك.
الفلاح :
القيصر وحده هو الذي سيحررني.
الوزير :
قلت اسمع وكفى ثرثرة، كما أن الشمس لا تغيب في الصباح ولا تشرق في المساء، كذلك ليس لفلاح مثلك أن يقدم شيئا وإنما عليه أن يعطي، وليس للوزير أن يرجو وإنما الوزير يأمر. إن الثلج يوجد على قمم الجبال، والتاج الذي سرقه القيصر يحمل من الكنوز فوق كفايته، هيا، هيا، هات كنزك المزعوم! إن مكانه الصحيح في خزينة المملكة، وخزينة المملكة أنا المتصرف فيها، وأنا الذي يمكنه أن يطلق سراحك أسرع من أي إنسان آخر، ويمكنه أن يغدق عليك أكثر من مائة قيصر.
أصوات تنادي :
القيصر، القيصر. (يظهر القيصر الذي استمع في غفلة من الحاضرين إلى العبارات الأخيرة، يركع الحارس ثم تصبح ركعته سجودا خاشعا أمامه، يركع مدير السجن، ينحني القائد انحناءة عميقة، أما الوزير فينحني نصف انحناءة، القيصر يدور عليهم ويتفرس طويلا في وجوههم.)
القيصر :
شيء مدهش! لا لا، شيء يدعو للحزن، أليس كذلك؟
الوزير :
صاحب الجلالة!
القائد :
فداء العرش!
مدير السجن :
في خدمة مولاي!
الحارس :
مولاي المقدس!
القيصر :
شيء محزن! محزن، مؤامرة على تاجي في قبو السجن! وخيوطها السوداء أمام عيني يا وزير!
الوزير :
افتراءات يا صاحب الجلالة! محض افتراءات من أعداء المملكة، تنتفخ كالفقاقيع فوق سطح المستنقع ثم لا تلبث أن تختفي، كالحشرات في الجحور.
القيصر :
حسن! حسن! وقائدي الهمام؟ هو أيضا بالقرب من الحشرات؟
القائد :
لا أعرف يا مولاي إلا نوعا واحدا من الحشرات أعداء مولاي!
القيصر :
عظيم!
المدير :
أن أؤدي واجب الطاعة نحو العدالة، وطاعة العدالة هي طاعتكم! (يركع أمامه مرتعد الفرائص.)
القيصر :
اخجل من نفسك وانهض! الشعور بالذنب متوقع من مساجينك وحراسك لا منك! (يركل الحارس بقدمه.)
الحارس :
الرحمة، الرحمة يا مولاي.
المدير :
صدقت يا مولاي، إنه الحارس، هو المسئول ولا أحد سواه.
القيصر (للحارس) :
أنت أيها الحارس، من هذا الذي تحرسه؟
الحارس (وهو لا يزال ساجدا) :
هذا يا مولاي؟ هذا الفلاح؟
المدير :
نعم يا صاحب الجلالة، هذا الفلاح التعس.
القيصر :
وماذا فعل حتى تتجمعوا حوله؟
المدير :
سرق غليونا من الطريق.
القائد :
من أمام السور المحيط بقصر مولاي.
المدير :
ومن يمد يده إلى شيء يقع بجانب السور ...
الحارس (وهو يقدم الغليون للقيصر) :
ولو كان غليونا مشروخ الرأس ولا نفع فيه. (القيصر يتأمل الحارس والغليون ووجوه الحاضرين باحتقار.)
القائد :
يمكنه أن يمد يده إلى الصناديق التي أحفظ فيها أجور الجنود.
الوزير :
وإلى الخزينة التي أحافظ فيها على كنوز المملكة.
القيصر :
وأخيرا إلى تاج القيصر نفسه، شيء محزن، شيء محزن أيها الفلاح.
المدير :
ولهذا أمرت بوضعه وراء القضبان ليكفر عن ذنبه.
القائد :
كان من رأيي أن يداس بالأقدام كما يداس أعداء القيصر.
الوزير :
اليوم يمد يده إلى غليون قديم، من يدري إن كان سيمدها غدا إلى خزينة المملكة؟
القيصر :
لص خطير، بل وباء ينهش جسم المملكة، أليس كذلك أيها الفلاح؟
الفلاح :
معهم الحق يا مولاي، قانونك أيضا معه الحق: ما لا يملكه أحد يملكه القيصر، وأنا وامرأتي وأولادي وأهل بلدتي «هان هان» وأهل البلاد والمدن جميعا ملكك. إن ذنبي في عين القانون فظيع؛ ولهذا طلبت من عبيدك هؤلاء أن يساعدوني على التكفير عنه.
القيصر :
وكيف تكفر عنه؟
الفلاح :
طلبت منهم أن يسمحوا لي بمقابلتك.
القيصر :
أهذا صحيح يا وزير؟
الوزير والقائد والمدير :
صحيح يا مولاي.
القيصر :
ولماذا تريد مقابلتي؟
الفلاح :
لأقدم لك شيئا نفيسا، أنفس شيء في الوجود، كنزا.
القيصر :
كنز؟ أنت تملك كنزا؟
الفلاح :
بل كنز الكنوز أيها القيصر، لا يليق إلا بأرفع إنسان تحت الشمس، لا يمسه إلا أطهر إنسان تحت السماء، ناديت وصحت وصرخت ولكنهم حاولوا أن يستولوا عليه.
الحارس :
أنا؟ بريء والله يا مولاي.
المدير :
كذاب ومنافق.
القائد :
يريد أن ينجو بجلده؟
الوزير :
لا تصدقه يا صاحب الجلالة، إن أمثاله يزيد كذبهم كلما قل طعامهم؟
القيصر :
اسكتوا! إنها مؤامرة، مؤامرة واضحة كل الوضوح، وكل واحد يريد أن يستولي عليه، يستأثر به لنفسه، هل يحسب كل منكم أنه أرفع إنسان في المملكة وأطهر إنسان تحت الشمس؟ أنت؟ وأنت؟ أم أنت؟ أم أنت أيها الحشرة؟
الحارس :
بريء، الرحمة.
المدير :
العدل يا مولاي.
القائد :
أتصدق فلاحا ولا تصدق قائدك يا مولاي؟
الوزير :
وإذا صدقته وكذبتني فافتح خزائن المملكة لفئرانهم وبراغيثهم، وألق بتاجك وصولجانك في أجرانهم وحقول أرزهم!
القيصر (للجميع) :
متآمرون ووقحون أيضا، أيها الرعاع (للفلاح)
ناولني كنزك أيها الفلاح! هات أيها العبد الطيب!
الفلاح :
في الحال يا مولاي! (هاتفا)
أين أنتم لتروني وتسمعوني يا أهل هان هان؟! ألم تقولوا ستجد أرفع إنسان وأطهر إنسان تحت الشمس؟! ها هو ذا! وها هو الكنز! (يحفر بيده عميقا في جيبه، يستخرج لدهشة العيون المحملقة لفافة من قماش متسخ وضع فيها نواة، يأخذها القيصر متأففا ويناولها للوزير الذي يناولها بدوره للقائد، ويسلمها هذا لمدير السجن الذي يضعها أخيرا في يد الحارس المذهول.)
القيصر :
أف، افتح اللفافة!
الوزير :
افتحها.
القائد :
افتحها.
المدير :
قلت لك افتحها. (يفتحها الحارس ويستخرج النواة، يناولها لمدير السجن حتى تصل إلى القيصر الذي يتفحصها مأخوذا.)
الحارس :
عجيب! نواة كمثرى.
المدير :
نصب وخداع واحتيال، نواة.
القائد :
وقاحة! نواة!
الوزير :
لا خجل ولا حياء! نواة!
القيصر (للفلاح) :
نواة ؟ نواة كمثرى؟
الفلاح :
أجل، نواة كمثرى.
القيصر :
وهي الكنز؟
الفلاح :
بل كنز الكنوز، أنفس شيء في الوجود.
القيصر :
إنها نواة كمثرى عادية!
الفلاح :
لأجل أطهر إنسان تحت الشمس، لتهديه أعظم ثروة تحت الشمس.
القيصر :
لا بد أنك جننت، لا بد أنك تكذب، كيف يمكنني أن أتصور هذا؟
الفلاح :
عفوا يا مولاي، إنها ليست نواة عادية، تفضل بغرسها في الأرض وسوف تنمو وتصبح شجرة في نفس العام.
القيصر :
شجرة؟ وما قيمة شجرة؟
الفلاح :
عفوا يا مولاي، ليست شجرة عادية، إنها شجرة تطرح كمثرى ذهبية، كمثرى من ذهب خالص.
الجميع (يتدافعون على النواة) :
آه! آه! من ذهب خالص!
الفلاح :
ابتعدوا، ابتعدوا، لا يلمسها إلا أطهر إنسان تحت الشمس.
القيصر :
ابتعدوا أيها الرعاع!
الفلاح :
هذا هو سرها يا مولاي، لا يلمسها إلا صاحب قلب كالثلج الأبيض على قمم الجبال، كالنور الصافي في الفجر.
القيصر :
قلت ابتعدوا، ولكن أيها الفلاح.
الفلاح :
مولاي.
القيصر :
لماذا لم تغرسها بنفسك في الأرض؟
الفلاح :
حاشاي يا مولاي، لو فعلت لنمت ببطء ككل الأشجار، لو لمستها يدي لما أثمرت غير كمثرى عادية.
القيصر :
أنا لا أفهم هذا، كيف؟
الفلاح :
لا بد لكي تطرح ثمرات ذهبية أن يتحقق شرط لا غنى عنه.
القيصر :
أي شرط هذا؟
الفلاح :
لا يحققه سواك يا مولاي القيصر.
القيصر :
لا يحققه سواي؟ تكلم!
الفلاح :
لقد ذكرته منذ قليل يا مولاي، إن هذه النواة لن تنمو شجرة تطرح الكمثرى الذهبية حتى تغرسها في الأرض يد إنسان طاهر، إنسان شريف، ولكن هذا لا يكفي، إذ يمكن أن يدعي كل إنسان ...
القيصر :
مفهوم، مفهوم، أكمل.
الفلاح :
لا بد أن يكون أطهر إنسان سطعت عليه الشمس.
القيصر (كأنه يكلم نفسه) :
صحيح، قلبه كالثلج فوق قمم الجبال، كالفجر ...
الفلاح :
إنسان لا يسرق ولا يرتشي، ولا يمد يده إلى ما يملكه سواه، لا يحقد على أحد.
القيصر :
أكمل، أكمل.
الفلاح :
وأنا لست هذا الإنسان يا مولاي، لست هذا الإنسان، وإلا ما رأيتني الآن وراء القضبان، إنني غارق في الذنوب، ولست أخجل من الاعتراف بهذا، أما أنت يا مولاي القيصر ...
القيصر :
مفهوم، مفهوم.
الفلاح :
أما أنت فتجلس فوق العرش كالشمس في سماء يوم من أيام الربيع، مثل أعلى للناس وقدوة، أنت وحدك يا قيصر، أنت وحدك أرفع إنسان فوق الأرض وأطهر إنسان تحت الشمس، أنت وحدك الذي يمكنني أن أهديه النواة؛ ولهذا أقدمها إليك ومعي أهل بلدتي هان هان، نقدمها ونحن ...
القيصر (مضطربا) :
أجل، أجل، أنت وأهل هان هان (ينتحي جانبا ويكلم نفسه)
ورطة حقيقية! ومن الذي يوقعني فيها؟ فلاح مجهول من بلدة ... ماذا كان اسمها؟ أف لذاكرتي، بلدة حقيرة مجهولة، قطرة ضائعة في بحر مملكتي الشاسعة، ويريد مني أن أكون أطهر إنسان. أنا؟ أنا الذي سرقت كل شيء من الشعب، كل ثروتي، كل شيء حتى التاج والنساء! والحصان النبيل الذي أمتطي صهوته في رحلات الصيد، ألم يكن ملك فلاح كهذا؟! لا، لا، ليس من حقي أن أغرس النواة في الأرض، لن أستطيع هذا أبدا، وماذا يكون مصيري إذا لم تطرح الشجرة إلا الكمثرى العادية؟ ماذا أفعل إذا أشار الناس إليها وإلي وقالوا: هذا هو أطهر إنسان! (للفلاح)
اسمع أيها الفلاح، إن جلالة القيصر يشكرك بنفسه، هذه هدية رائعة أيها الفلاح الطيب، وهي تدل على أن مملكتي لم تخل من الرعايا المخلصين، ولكن قصري غني بالذهب، حيثما تلفتت عين جلالتي رأيت الذهب في التحف والأواني والأثاث وفي الخزائن العامرة؛ لهذا فكرت في وزيري المخلص العجوز. (للوزير)
لقد كنت أفكر منذ فترة طويلة في مكافأتك على خدماتك للقصر والمملكة، والآن وقد حان وقت إحالتك للتقاعد فقد جاءت الفرصة تسعى إليك، خذ يا وزيري الأمين (يناول النواة للوزير الذي ينزعج ويتراجع للخلف)
جاء اليوم الذي كنت أنتظره منذ سنين، خذ هذه النواة العجيبة، اغرسها بنفسك لتطرح الثمار الذهبية التي تستحقها أنت وأولادك وأحفادك! (القيصر يعانق الوزير بحماس وتأثر مبالغ فيهما، الوزير يخلص نفسه من بين أحضانه وينتحي جانبا.)
الوزير (لنفسه) :
هذه العاطفة غريبة عليه وعلي، لقد ألهبت جسدي كأنها بركان صب حممه في دمي آه! ضعت وانتهى الأمر!
القيصر :
ماذا قلت يا وزيري الأمين؟
الوزير :
كنت أقول: شكرا يا مولاي، شكرا من قلب عبدك المخلص طول العمر، ولكن ألا ترى جلالتك أن السن قد تقدمت بي كثيرا وأنني ...؟!
القيصر :
وما المانع من قبول الهدية؟ ستحصد الفاكهة الذهبية في شيخوختك المباركة ثم يحصدها ...
الوزير :
أقصد يا صاحب الجلالة أن المرء في الشيخوخة لا يتطلع للذهب والمال. إن قلب الشيخ المحنك الذي غمرته بهداياك يشتاق إلى الحكمة كما يشتاق النهر للبحر. اعذرني يا مولاي، هذا القلب الذي طالما خفق في طاعتك لم يعد نزقا كالجدول الصغير الذي يعبث بالحصى والرمال، وهو يتمنى أن يخفق من أجلك حتى آخر لحظة، وأنا الذي أمضيت العمر حارسا على خزائن مملكتك أعرف من هو أحوج مني للذهب الذي ستحمله الشجرة وأكثر منه.
القائد (مفزوعا) :
لا تقل إنه الجيش والجنود!
الوزير :
قائدك الأمين.
القائد :
لا يا مولاي! وألف لا؛ فالجيش لديه من السلاح ما يكفيه، ومن الذي يسهر على تسليحه؟ أنا! ومن الذي يمكنك الاعتماد عليه أكثر من أي شجرة؟ إنه أنا؛ لهذا فإن مدير السجن أولى بالهدية السامية، ثم إن عمله لا يضطره للسفر والتنقل، كما أن لديه الوقت الكافي لغرس النواة ورعاية الشجرة، هيا تقدم لمولاك (مدير السجن يطيع أمر القائد مترددا خائفا)
تعال، لا تتردد. صحيح أنه معروف بقسوته على المساجين، ولكنه في النهاية رجل أمين ونفسه طاهرة؛ ولهذا أفضله على نفسي وأدعوه لغرس النواة.
القيصر :
عظيم! أنا أيضا كنت أقول هذا لنفسي.
مدير السجن (ينتحي جانبا ليكلم نفسه، بينما يصفق القيصر والوزير والقائد إعجابا) :
معنى هذا أن أضع نفسي وراء القضبان. هذا القائد الشريف النظيف يعلم تمام العلم أنني أنهب من المساجين نصيبهم من الأرز وأبيعه في السوق (ثم يواجه الحاضرين ويقول) : شكرا لكم على هذا الشرف العظيم. إنكم بهذا تخجلونني وتعطونني أكثر مما أستحق، ولكنني وهبت حياتي لخدمة العدالة، والعدالة تطالبني بأن أرد الفضل لأصحابه. هل يمكنني أن أنسى حراسي الساهرين على ميزان العدل؟ ماذا أكون بغيرهم؟ ماذا يكون البرج الشامخ بغير قاعدته؟ وما قيمة الشجرة بدون جذورها؟ هل كنت أقدر على شيء بغير حراسي الأمناء؟ تعال أيها الحارس الطيب! تعال فأنت أحق مني بتكريم مولاي ومولاك!
الحارس (صارخا) :
لا، إلا هذا!
المدير (للقيصر) :
اسمح لي يا مولاي بأن أناوله وسامك الرفيع.
الحارس (باكيا) :
مصيبة، هذه مصيبة، ماذا أفعل ولا أحد تحت سلطتي؟ لمن أسلم النواة ولا أحد تحتي؟ لا أحد.
المدير :
انظروا، إنه لا يصدق، الفرحة جعلته يهذي!
الحارس (يسرع نحو القيصر ويركع تحت قدميه) :
إلا هذا يا مولاي! إلا هذا! افعل بي ما شئت، ضعني مكان هذا الفلاح إذا أحببت، لكن أعفني من هذه النواة، إنني رجل عادي، رجل ضعيف وصغير. اليوم في الصباح شتمت جاري ولعنت زوجتي وأولادي وحظي وصفعت مسجونا عجوزا على وجهه وقفاه وسرقت من هذا الفلاح غليونه، نعم ها هو ذا، نهبته منه وسقته إلى السجن وهو بريء، أعترف بهذا يا مولاي، أعترف أمامكم يا سادتي، سولت لي نفسي الخبيثة أن أحتفظ به لنفسي، ها هو ذا إن شئتم، لا، لا، إلا النواة يا مولاي! لن تحمل شجرتي الكمثرى الذهبية ولا الخشبية، كيف يكون حالي حين أصبح سخرية الناس؟ كيف أعيش؟ أي إنسان آخر أولى بها مني، أصدر أمرك يا مولاي فأناولها هذا الفلاح، إنه رجل طاهر.
الفلاح :
من كان يظن هذا؟ أنا يا مولاي؟
الجميع :
نعم أنت.
الفلاح :
إذن فلن تنمو الشجرة الذهبية أبدا.
المدير :
تنمو أو لا تنمو، المهم أن تغرسها بنفسك في الأرض.
الحارس :
إنه لم يفعل شيئا يا مولاي، غليون قديم كان ملقى في الوحل.
المدير :
صحيح، وجريمته لا تساوي شيئا بجانب الكمثرى التي سيحصدها.
القائد :
ومن أحق منه بغرسها في الأرض؟ أليس هو الذي عثر عليها؟
الفلاح :
لا يا مولاي القيصر! لا، إنني مذنب، لص حسب قانونك المقدس.
الوزير :
ما الداعي للمبالغة؟ وما قيمة غليون قديم مشروخ؟ ما أهميته؟ حبة رمل في صحراء الجريمة؟ قطرة ماء في بحر الذنوب؟ لا، لا، أنا لم أر في حياتي أشرف من هذا الفلاح، لماذا انحنى على الطين والتقط الغليون؟ لأنه تعود أن يغوص بقدميه ورجليه في الطين، فلتأمر بإطلاق سراحه يا مولاي، إن هلاهيله المرقعة تثبت براءته، أكثر من ألف حارس ومدير سجن! مره بأن يغرس النواة في الأرض، ثم إن هذه هي مهنته.
الفلاح :
لا، لا، يا مولاي، بحقك وبحق الأرض، إنني مذنب، مذنب.
القيصر (بعد أن يمر عليهم واحدا واحدا وهو يتفكر) :
ليكن ما تقول يا وزيري المخلص الأمين، اسكت يا رجل! أنت من الآن حر (القيصر يشير بأصبعه فيطلق سراح الفلاح، النواة تنتقل من يد الحارس إلى يد مدير السجن فالقائد فالوزير فالقيصر الذي يناولها له بنفسه) . (الفلاح يمسكها في يد ويتأملها طويلا قبل أن يلفها بعناية في الخرقة البالية، يتتابع عليه القيصر والوزير والقائد والمدير، يلقون عبارتهم الأخيرة وينصرفون واحدا بعد الآخر.)
القيصر :
ستبقى الكمثرى الذهبية ملك القيصر، القانون هو القانون.
الوزير :
ولا بد من تسليمها إلي، أقصد إلى خزينة المملكة التي ستظل كالبئر عميقة وبغير قرار.
القائد :
من يحتاج إلى الذهب والمزيد من الذهب؟ من يحرسك ويحرس بلدتك وكل بلاد المملكة؟ إنه الجيش، إنهم الجنود، لا تنس هذا.
المدير :
إذا تذكرتني من وقت لآخر ببعض الكمثرى فسوف أغمض عيني في المرة القادمة. (ينصرف الجميع، يبقى الفلاح الذي لا يزال يقلب اللفافة في يده وأمامه الحارس، ينظران إلى بعضهما لحظات يسودها الصمت ثم يقول الفلاح):
الفلاح :
وأنت؟ ألا تريد أن تحجز نصيبك من الكمثرى الذهبية؟
الحارس (يمد يده بالغليون) :
خذ يا أخي، هذا هو غليونك، أنت أولى به.
الفلاح (ضاحكا) :
من كان يظن هذا؟ (يفتح اللفافة البالية بعناية، يرفع النواة إلى فمه ثم يقضمها ويقدم بقيتها للحارس.)
الحارس :
ما هذا؟ ماذا تفعل؟!
الفلاح :
خذ يا صاحبي، هذا نصيبك من الآن.
الحارس (يتناولها منه وتغيب في فمه ثم يقول ضاحكا) :
ألم أقل لك؟
الفلاح (وهو يتوجه للجمهور) :
ألم أقل لكم يا أهل هان هان؟! (يواصلان الضحك ثم ينصرفان وتسدل الستار.)
الطفل والفراشة
الشخصيات
الحكيم تشوانج تسو.
الحكيم هوى تسو.
امرأة شابة.
طفلها. (حديقة صينية عامة، الحكيمان تشوانج-تسو وهوى- تسو يجلسان على أريكة في ظل شجرة ضخمة، يتطلعان إلى أحواض الزهور والفراشات التي تحوم حولها والأطفال الذين يجرون وراءها.)
تشوانج تسو :
آه! مشكلتي صعبة.
هوى تسو :
آه! مشكلتي أصعب.
تشوانج تسو :
كيف عرفت! إنني لم أحك لك شيئا بعد.
هوى تسو :
وهل من الضروري أن تحكي؟ يكفي أنني سمعتك تتنهد بعمق.
تشوانج تسو :
ولكنك تنهدت أعمق مني.
هوى تسو :
هل أفهم من هذا أنك أحسست بمشكلتي؟
تشوانج تسو :
وكيف أحس بها قبل أن أعرفها؟
هوى تسو :
كما أحسست عندما سمعتك تقول آه.
تشوانج تسو :
أنا أيضا سمعتك تقول آه، كانت صادقة ومن القلب.
هوى تسو :
وماذا تصورت عندما سمعتها؟
تشوانج تسو :
بل قل عندما شعرت بلفح نارها، شعرت أنك بدأت تحن إلى بلدتك «تشو» وإلى نهر «هاو» الذي يشقها، مع أن زيارتك لم تطل عندنا.
هوى تسو :
صدقت، ولكنني لم أحن إلى نهر «هاو» نفسه، بل إلى الأسماك التي تسبح فيه.
تشوانج تسو :
الأسماك التي تسبح فيه؟ حقا إنها لمشكلة.
هوى تسو :
لا تسخر يا صديقي تشوانج تسو؛ إذ يمكن أن يحدث لك هذا حين تشعر أنك أصبحت سمكة.
تشوانج تسو (ضاحكا) :
هوى تسو الحكيم المشهور في الصين كلها يصبح سمكة؟
هوى تسو :
أو السمكة تصبح هي صديقك المشهور في الصين كلها هوى تسو.
تشوانج تسو :
هي على كل حال مشكلة هينة إذا قيست بمشكلتي.
هوى تسو :
مستحيل، قلت لك مستحيل.
تشوانج تسو :
وكيف تجزم بشيء لم تره ولم تعرفه؟
هوى تسو :
ولكنني أحسست به، قلت لك أحسست به.
تشوانج تسو :
وبماذا أحسست؟
هوى تسو :
هل تظن أنني لا أعرفك بعد هذا العمر الطويل؟ ألم نتعلم معا عند معلم واحد؟
تشوانج تسو :
بلى بلى، ولكن ...
هوى تسو :
أحسست أنك حلقت عاليا في السماء وطفت العالم فوق سحابة، ثم هبطت فجأة.
تشوانج تسو :
فجأة؟ أكمل، أكمل.
هوى تسو :
نعم هبطت في هذه الحديقة، وأخذت تنظر مذهولا إلى الأشجار والزهور والأطفال التي تجري وراء الفراشات، والفراشات التي ...
تشوانج تسو :
تأكد مما تقول، لقد كانت فراشة واحدة.
هوى تسو :
فراشة واحدة أو أكثر، لا يهم.
تشوانج تسو :
إنه أمر في غاية الأهمية، لقد كانت فراشة واحدة.
هوى تسو :
المهم أنك رأيتني جالسا على هذه الأريكة.
تشوانج تسو :
قلت لك كانت فراشة واحدة، هذا أمر في غاية الأهمية.
هوى تسو :
وما أهميته يا تشوانج تسو؟
تشوانج تسو :
إن هذه الفراشة كانت هي تشوانج تسو.
هوى تسو :
أو كان تشوانج تسو هو هذه الفراشة!
تشوانج تسو :
بالضبط، وهذه هي المشكلة.
هوى تسو :
المهم أنك صحوت من الحلم ورأيتني على هذه الأريكة.
تشوانج تسو :
الحلم، أجل، أجل، وهذه هي المشكلة.
هوى تسو :
وماذا في هذا؟ أنا أيضا رأيت ما رأيت في الحلم.
تشوانج تسو :
لا يمكن أن تكون قد رأيت نفس الحلم، هل تحولت مثلي إلى فراشة؟
هوى تسو :
بل إلى سمكة.
تشوانج تسو :
سمكة؟ لكن مشكلتي أصعب.
هوى تسو :
بل مشكلتي.
تشوانج تسو :
دعني أروي عليك الحلم.
هوي تسو :
بل أنا أولا، سترى بنفسك.
تشوانج تسو :
لا يمكن أن تكون قد رأيت ما رأيت، اسمعني أولا.
هوى تسو :
مشكلة أخرى، تكلم إذن.
تشوانج تسو :
تصور يا هوى تسو، بالأمس حلمت أنني تحولت إلى فراشة، أنا تشوانج تسو، بكل شحمي ولحمي، تحولت إلى فراشة ترف هنا وهناك، تصعد وتهبط، تسقط على حوض الزهور ثم ترفرف وتطير إلى أشجار الورد والتين والبلوط، فراشة حقيقية، بكل ما في الفراشات من طيش ونقاء وحنين، وكأن وعيي كإنسان قد تعطل، كأني دخلت في جلدها وشعرت بأحاسيسها ونبض قلبي بنبضها، كأن ذراعي أصبحتا جناحين ملونين بألوان قوس قزح التي تخلب ألباب الأطفال، وكأن فمي صار فم فراشة لا تشتاق إلى أكثر من قطرة ماء أو رشفة ندى أو نفحة شذا، فراشة تدور سعيدة في كل مكان، وكل مهمتها في الحياة أن تنقل تحية السماء والآلهة إلى كل زهرة وكل نسمة وكل عبير، وفجأة ...
هوى تسو :
ماذا ؟ لا تقل إنك وجدت نفسك في كف طفل صغير!
تشوانج تسو :
ليت هذا ما حدث.
هوى تسو :
وقعت في شبكة صياد أو صيادة رقيقة؟
تشوانج تسو :
قلت لك ليت هذا هو الذي حدث.
هوى تسو :
وماذا حدث؟
تشوانج تسو :
إنها المشكلة، لقد صحوت من النوم فجأة.
هوى تسو :
مشكلة أن تصحو من النوم؟
تشوانج تسو :
بل أن أجد نفسي مرة أخرى كما أنا، تشوانج تسو كما يعرف نفسه ويعرفه الناس، راقدا على نفس الفراش الذي رقدت عليه قبل النوم، لابسا نفس المنامة التي لبستها قبل أن أتحول إلى فراشة.
هوى تسو :
ولم تستطع التمييز بين الحلم واليقظة، ولا بين الوهم والحقيقة.
تشوانج تسو :
ليت الأمر اقتصر على هذا؛ فنحن نعيش ليل نهار في هذه الحيرة الدائمة، لا نعرف أين هو الحاجز بين الوهم والحقيقة، لا ندري متى ينتهي الحلم وتبدأ اليقظة.
هوى تسو :
آه! كأنه نفس الحلم.
تشوانج تسو :
مستحيل، قلت لك مستحيل.
هوى تسو :
وما هو المستحيل يا تشوانج تسو؟
تشوانج تسو :
مستحيل يا هوى تسو أن تكون قد واجهت مشكلتي، هل أنا تشوانج تسو أم أنا الفراشة التي ما زالت تحوم فوق الزهور والأشجار؟ هل كنت أنا الإنسان الذي حلم بأنه فراشة، أم كنت الفراشة التي حلمت بأنها الإنسان؟ هل هناك حاجز بين الإنسان والفراشة؟ هل تخطيت هذا الحاجز؟ فتحت عيني وأغمضتهما، ثم فتحتهما ورحت أتحسس رأسي ويدي وذراعي وساقي وأنا أسأل: إنسان أم فراشة؟ فراشة أم إنسان؟
هوى تسو :
هذا أهون على كل حال من أن تسأل: إنسان أنا أم سمكة؟ سمكة أنا أم إنسان؟
تشوانج تسو :
ولكنك لست سمكة.
هوى تسو :
ومن أين عرفت؟
تشوانج تسو :
أنت الآن بجانبي ولست في بحيرة أو نهر.
هوى تسو :
ذلك ما رأيت في الحلم.
تشوانج تسو :
أنت أيضا؟
هوى تسو :
ألم أقل لك؟!
تشوانج تسو :
ولكن لا يمكن أن يكون نفس الحلم.
هوى تسو :
اسمع واحكم بنفسك، هل تذكر نهر «هاو » الذي مشينا على شاطئه عندما زرتنا في «تشين »؟
تشوانج تسو :
نعم، نعم، وأذكر الجسر الذي وقفنا عليه ورحنا نتطلع إلى دوائر الماء.
هوى تسو :
وثعابين السمك الصغيرة التي كانت تلمع تحته كأنها نجوم ترتدي ثياب السحب، أتذكر ما قلته لك عندئذ؟
تشوانج تسو :
لا لا أذكر، لقد كنت صامتا في ذلك اليوم.
هوى تسو :
ربما. ربما أكون قد قلته لك في الحلم.
تشوانج تسو :
لي أنا؟
هوى تسو :
نعم، نعم، لقد رأيتك معي فوق ذلك الجسر، كنا نطل على الماء وقلت لك: انظر يا صديقي تشوانج تسو، انظر كيف تتسابق الأسماك، هذا ما أسميه فرحة الأسماك.
تشوانج تسو :
ولكنك لست سمكة، كيف يمكنك أن تعرف أن للأسماك فرحة؟
هوى تسو :
وهذا هو الذي قلته أيضا في الحلم.
تشوانج تسو :
شيء غريب! أنا قلت هذا؟
هوى تسو :
وأجبتك قائلا: أنا لست أنا، فكيف يمكنك أن تعرف أنني لا أعرف فرحة الأسماك؟
تشوانج تسو :
معقول؛ فأنا لست أنت؛ ولهذا لا أعرفك.
هوى تسو :
وهذا ما قلته أيضا، ثم أضفت إلى ذلك أنك تعرف شيئا واحدا، وهو أنني لست سمكة؛ ولهذا لا يمكنني أن أعرف الأسماك.
تشوانج تسو :
شيء غريب حقا، ولكن لنرجع إلى سؤالك.
هوى تسو :
ورجعت بالفعل إلى سؤالي.
تشوانج تسو :
وماذا قلت؟
هوى تسو :
لقد سألتني: كيف يمكنك أن تعرف فرحة الأسماك؟ الواقع أنك كنت تعرف أنني أعرف، ومع ذلك أصررت على سؤالك.
تشوانج تسو :
وماذا كان جوابك؟
هوى تسو :
هو الذي أجبتك به في الحلم.
تشوانج تسو :
وما زلت تذكره؟
هوى تسو :
نعم، نعم، كأني نطقت به الآن، أعرفها من الفرحة التي أشعر بها وأنا أنظر للماء.
تشوانج تسو :
غريب! شيء لا يصدق.
هوى تسو :
أنني تحولت إلى سمكة؟
تشوانج تسو :
ولكنك لست سمكة.
هوى تسو :
وهل أنت فراشة؟
تشوانج تسو :
إنني أراك وأستطيع أن ألمسك، أنت هوى تسو.
هوى تسو :
وأنا أراك وأستطيع أن ألمسك، أنت تشوانج تسو.
تشوانج تسو :
إنسان أنت ولست سمكة.
هوى تسو :
وأنت إنسان ولست فراشة.
تشوانج تسو :
ولكني تحولت إلى فراشة .
هوى تسو :
وأنا تحولت إلى سمكة.
تشوانج تسو :
كان هذا في الحلم، أستطيع الآن أن أهز كتفيك أو أضربك على رأسك فتستيقظ منه.
هوى تسو :
أنا أيضا أستطيع أن أهز كتفيك أو أصفعك على وجهك وأوقظك من الحلم.
تشوانج تسو :
وهل يثبت لك هذا أنك لا تحلم؟
هوى تسو :
ما دمت لا أتلقى الصفعة.
تشوانج تسو :
إذن فخذ هذه (يصفعه)
هل أنت الآن في اليقظة أم في الحلم؟
هوى تسو :
وأنت، خذ هذه (يركله ركلة شديدة في بطنه)
هل ما زلت تحلم أم استيقظت؟ (يدخل طفل يجري ليمسك بفراشة وهو يصيح):
الطفل :
الفراشة، الفراشة، أمسكها أيها السيد، ساعدني، أنت يا سيد.
هوى تسو :
ألست فراشة؟ ساعده أن يمسك بك.
تشوانج تسو :
تعال يا ولدي، تعال.
هوى تسو :
تقدم يا بني، هذه هي الفراشة.
تشوانج تسو :
من حسن الحظ أنني لست سمكة.
هوى تسو :
ولكنك ما زلت تحلم.
تشوانج تسو :
وأنت، هل استيقظت من حلمك؟
هوى تسو :
على الأقل عندما ركلتك في بطنك.
تشوانج تسو :
كانت ضربة شديدة.
هوى تسو :
وصفعتك أشد.
تشوانج تسو :
معذرة يا صديقي، هوى تسو، لا بد أنني كنت أحلم.
هوى تسو :
معذرة يا صديقي تشوانج تسو، اختلط علي الحلم واليقظة (يتعانقان، الطفل ينظر إليهما متعجبا، تدخل أمه على عجل) .
الأم :
ولدي، ولدي، ماذا تفعل؟
هوى تسو :
ها هو ابنك، لا تخافي.
تشوانج تسو :
كان يجري وراء الفراشة.
هوى تسو :
لقد حسب هذا السيد فراشة وأراد أن يمسك به.
تشوانج تسو :
ولو كان معه سنارة لأمسك بك.
الأم :
معذرة أيها السيدان، أخشى أن يكون قد أزعجكما، كنتما في شجار على ما أظن.
تشوانج تسو :
أبدا، أبدا، مجرد اختلاف في الرأي.
هوى تسو :
أو في الحلم.
الأم :
اختلاف في الرأي أو في الحلم؟
تشوانج تسو :
رأى هذا السيد في الحلم أنه سمكة.
هوى تسو :
ورأى هذا السيد أنه فراشة.
الأم (ضاحكة) :
فراشة وسمكة؟ كنتما تحلمان!
هوى تسو :
ولا نعرف حتى الآن إن كنا في حلم أم في يقظة .
الأم :
في حلم أم يقظة؟
تشوانج تسو :
ألا تحلمين أيتها المرأة؟ ألا يحلم طفلك؟
الأم :
هذا الغبي، كم رأى في الحلم أنه تحول إلى فراشة!
تشوانج تسو :
سمعت؟
هوى تسو :
وأنت يا سيدتي، هل تحلمين أيضا؟
الأم :
أنا لا أحلم أيها السيدان، نحن الفقراء لا نحلم، إنني أوقظ ولدي من حلمه.
تشوانج تسو :
ولماذا توقظينه؟ لماذا لا تتركينه يحلم بأنه فراشة؟
هوى تسو :
أو بأنه سمكة؟
الأم :
آه! الحياة قاسية بما فيه الكفاية.
تشوانج تسو :
تقصدين أنك في يقظة دائمة؟
هوى تسو :
أم إنك لا تستطيعين التفرقة بين اليقظة والحلم؟
الأم :
أقصد؟ لا أدري ماذا أقصد، أمثالنا ليس لديهم الوقت ليفكروا في هذا.
تشوانج تسو :
أسألك بكل احترام: ماذا تعنين بقولك هذا؟
هوى تسو :
وأنا أسألك بكل خضوع نفس السؤال.
الأم :
تعال يا ولدي، إنني لا أفهم السؤال ولا أعرف الجواب، لا أعرف إلا أن أمثالنا لا يفكرون في هذه الأمور، إنهم يشقون فحسب.
تشوانج تسو :
تشقون فحسب، هذا مفهوم، ولكن في الحلم أم في اليقظة؟
هوى تسو :
نعم نعم، في الحلم أم في اليقظة؟
الأم :
تعال يا ولدي.
الطفل :
الفراشة يا أمي، الفراشة.
الأم :
قلت تعال، أتريد أن تحلم مثلهم؟ (تشد طفلها بعنف وتمضي.) (تشوانج تسو ينظر صامتا إلى هوى تسو.) (هوى تسو ينظر في صمت إلى تشوانج تسو.)
هوى تسو :
هل تعرف يا صديقي تشوانج تسو؟
تشوانج تسو :
ماذا يا صديقي هوى تسو؟
هوى تسو :
لقد شعرت بالخجل أمام هذه المرأة.
تشوانج تسو :
وأنا شعرت بالخجل أمام الطفل.
هوى تسو :
لأنك لم تكن فراشة كما أراد.
تشوانج تسو :
ولأنني لا أعرف إن كنت فراشة تحولت إلى إنسان، أم إنني إنسان تحول إلى فراشة، وأنت أيضا.
هوى تسو :
نفس الشيء يا صديقي، ما زلت لا أدري إن كنت الإنسان الذي شعر بفرحة السمكة أم السمكة التي أحست بفرحة الإنسان، هل تدري السبب في حيرتنا؟
تشوانج تسو :
وما هو السبب؟
هوى تسو :
كلانا لم يتحول بعد.
تشوانج تسو :
نعم، نعم ، كلانا لم يتحول بعد.
هوى تسو :
ما زلنا أطفالا في بداية الطريق.
تشوانج تسو :
وليتنا استطعنا أن نتحول إلى أطفال، هل تذكر معلمنا العجوز؟
هوى تسو :
كونج-فو-تسو؟ ومن يمكنه أن ينساه؟
تشوانج تسو :
وتذكر الحوار الذي دار بيني وبينه ورحت أبكي بعد انتهائه وأنت تربت على ظهري وتمسح دموعي؟
هوى تسو :
كم فعلت هذا! لقد كنت كما قال طفلا صغيرا، أنا أيضا كنت طفلا على بداية الطريق.
تشوانج تسو :
ما زلت أذكر ذلك الحوار كأنه دار بيننا صباح اليوم.
هوى تسو :
أما أنا فقد نسيت، مرت سنوات طويلة شاب فيها شعر الأطفال.
تشوانج تسو :
وما زلنا أطفالا لم نتعلم بعد، دخلت عليه في صباح ذلك اليوم فوجدته كما تعودنا أن نراه، وديعا ساكنا كأنه شجرة عظيمة، شجرة ممتدة الجذور وارفة الظلال، لم يتحرك من مكانه ولم ينظر إلي، سألت نفسي يومها: هل صار المعلم سحابة محلقة فوق العالم؟ أم أصبح أما تحتضن الكائنات والأشياء كأنها تحتضن أولادها؟
هوى تسو :
وتربعت على الأرض أمامه ورحت تنظر إليه، كانت هذه هي عادتك، بدلا من أن تسأله عن حاجته.
تشوانج تسو :
بل تشجعت في ذلك اليوم وتقدمت منه وسألت سيدي، إنك تجلس في هدوء فأجلس في هدوء مثلك، تمشي خطوة فأمشي خطوة، تسرع في السير فأسرع معك، تركض فأركض، ولكن عندما تخرج من حدود التراب أرتبك وأتوقف وأكتفي بأن أحدق فيك، ضحك وقال (مقلدا صوت المعلم) : أجل أجل، كما تفعل الآن.
تشوانج تسو :
كيف يحدث لك هذا؟
صوت المعلم :
ماذا تقصد بسؤالك؟
تشوانج تسو :
أقصد هذا، عندما تتكلم أتكلم، وعندما تقيم الحجة أقيم الحجة، وعندما تعلم الطريق، أعلم الطريق مثلك، ولكن عندما تخرج من حدود التراب أتوقف مذهولا وأحدق فيك.
صوت المعلم :
سألتك: ماذا تقصد؟ ماذا تريد أن تقول؟
تشوانج تسو :
أريد يا معلمي أن تفسر لي هذا السر؛ إنك تلوذ بالصمت ولا تتكلم، ومع ذلك يصدقك الجميع، لا تتحمس ولا ترفع صوتك ، ومع ذلك يوافقك كل إنسان، لا تحاول أن تجذب أحدا، ومع ذلك ينجذب الجميع إليك؛ هذا هو اللغز الذي لا أفهمه، اللغز الذي يؤرقني ويلسعني كالشوكة.
صوت المعلم :
اللغز؟ الشوكة؟ ولماذا لا تحاول أن تصل إلى أصله وجذوره؟ توقعت أن تجهد عقلك وروحك لتعرفه؛ فليس في الدنيا شيء أدعى إلى الحزن من موت العقل والروح، إن موت الجسد لا يقاس بموت الروح.
تشوانج تسو :
تهورت ورفعت صوتي قائلا: أهو لغز آخر يا معلمي؟ تطلع في صمت أمامه ولم يحرك شفتيه، حدق في الفراغ حتى شعرت أنه أصبح جزءا منه، بعد لحظات نظر إلي وقال:
صوت المعلم :
إن الشمس تشرق في الشرق وتغرب في الغرب، ما من شيء يفلت من تأثيرها، ما من حي يمكنه أن يخرج على نظامها، وكل من له عيون وأقدام يتعلق بها ليحيا حياته ويتم عمله؛ فعندما تظهر تظهر الحياة، وعندما تختفي تختفي معها الحياة.
تشوانج تسو :
سألت في حيرة: وما العلاقة بين الشمس والروح؟ ما العلاقة بينهما يا معلمي؟
صوت المعلم :
العلاقة واضحة يا بني، في كل إنسان شمس تشرق وتغرب، شمس الروح التي تتعلق بها حياته وموته، إن ذهبت مات، وإن رجعت عادت إليه الحياة، هذا هو الذي أسميه التحول الذي يجدد الحياة ويحافظ عليها، فإن جررت جسدي نحو النهاية دون أن أحقق ذلك التحول الذي يجدد الحياة، إن تركت نفسي أستهلك ليل نهار كأنني شيء من الأشياء، إن لم أشعر بالموت الأبدي الذي يتم في كل لحظة، إن أحسست أن شمسي الروحية قد انطفأت وأنه لا يوجد شيء يمكنه أن ينقذني من القبر؛ عندئذ تضمحل شمسي وتصبح شمعة ضعيفة تذبل وتلفظ أنفاسها، حتى يفاجئنا الموت فنشعر أنت وأنا كأن أكتافنا قد تلامست مرة واحدة قبل أن نفترق إلى الأبد! أليس هذا شيئا محزنا؟
تشوانج تسو :
قلت: هو شيء محزن يا معلمي، غير أنني ما زلت لا أفهمك.
صوت المعلم :
قل إنك لا تفهم نفسك، إنك الآن تنظر إلي.
تشوانج تسو :
بل أحدق فيك يا معلمي، ألم أقل إنني أفعل هذا كلما شعرت أنك تخطيت حدود التراب؟!
صوت المعلم :
نعم قلت هذا، ولكنك تحدق ببصرك الآن لكي ترى في شيئا قد اختفى عندما نظرت إلي، ومع ذلك ظللت تحدق في بحثا عن شيء قد تلاشى، وكأنك رجل ذهب إلى السوق ليبحث عن خيول بيعت قبل وصوله، انظر!
تشوانج تسو :
قلت: ما زلت أنظر يا سيدي.
صوت المعلم :
إن ما يعجبني فيك قابل للتحول، وما يعجبك في قابل للتحول. لماذا تحزن إذن؟ إذا كانت نفسي تموت في كل لحظة، فعلي أن أحولها في كل لحظة لكي تكون أبدية، وإذا كنت تريد الأبدية، فعليك أن تتحول.
هوى تسو :
نعم، نعم، صدق معلمنا العجوز، ما زال علينا أن نتحول.
تشوانج تسو :
وما زال الطريق بعيدا عنا (يبكي) .
هوى تسو :
ونحن بعيدون عنه، ربما كان هذا هو سر حزنك يا تشوانج تسو.
تشوانج تسو :
وحزنك أيضا يا هوى تسو، هل تنكر؟
هوى تسو :
وحزني أيضا (يبكي)
ولكنني تحولت إلى سمكة، ألم أشعر بفرحة الأسماك؟!
تشوانج تسو :
كان مجرد حلم، أنا أيضا ...
هوى تسو :
لا تقل تحولت إلى فراشة.
تشوانج تسو :
مثلك تماما، في الحلم!
هوى تسو :
ولهذا لم يستطع الطفل المسكين أن يمسك بك.
تشوانج تسو :
وهذا هو سر حزني.
هوى تسو :
وحزني أيضا، هل يغرك أنني أضحك؟ لقد تحولنا في الحلم. ثم عجزنا أن نتحول في اليقظة!
تشوانج تسو :
عدت إلى الحلم واليقظة؟ أين الحلم من اليقظة؟ وأين اليقظة من الحلم؟ آه! أكاد أجن.
هوى تسو :
بدلا من أن تجن، حاول أن تتعلم كيف تتحول.
تشوانج تسو :
وأنت؟ هل حاولت هذا؟ هل تحولت منذ أن مات معلمنا؟ هل وصلت إلى الأبدي؟ هل أصبحت الأبدي؟
هوى تسو :
أصبحت سمكة؛ أي إنني الآن على الطريق.
تشوانج تسو :
سمكة أم إنسان؟ إنسان أم سمكة؟
هوى تسو :
لأنك لم تتحول؛ لأنك ما زلت مثاليا كما كنت.
هوى تسو :
وأنا، واقعي ما زلت.
تشوانج تسو :
ولكنني مثالي واقعي، مثالي.
تشوانج تسو :
بل أنا الواقعي، والموضوعي.
هوى تسو :
أنا موضوعي مثالي.
تشوانج تسو :
وأنا مثالي موضوعي.
هوى تسو :
وهل هنالك فرق؟
تشوانج تسو :
وأي فرق!
هوى تسو :
قله إذن أيها الفراشة!
تشوانج تسو :
قله أنت أيها السمكة!
هوى تسو :
أنا يقظ يحلم، وأنت تحلم في اليقظة.
تشوانج تسو :
بل أنت الذي تحلم، هل يمكن أن يشعر إنسان بفرحة الأسماك؟
هوى تسو :
وهل يمكن أن يتحول سمين مثلك إلى فراشة؟
تشوانج تسو :
تعيرني بشحمي ولحمي؟ أشرف لي على كل حال أن أكون فراشة.
هوى تسو :
وأشرف لي أن أترك بلدك وأسبح في مياه نهر هاو.
تشوانج تسو :
يقظ يحلم مفتوح العينين.
هوى تسو :
أفضل من حالم لا يستيقظ.
تشوانج تسو :
مثالي موضوعي.
هوى تسو :
موضوعي مثالي. (يوشكان أن يتضاربا عندما يدخل الطفل الصغير فجأة ووراءه أمه التي تحاول أن تلحق به.)
الطفل :
لن تمسكيني قبل أن أمسك الفراشة.
الأم :
تعال، قلت لك تعال.
الطفل :
ساعداني أيها السيدان.
الأم :
دع السيدين في حالهما.
تشوانج تسو :
تعال يا صغيري، تعال.
الطفل :
هل وجدت الفراشة؟
تشوانج تسو :
أنا الفراشة، إذا أردت صرت فراشة.
الطفل :
أنت؟! انظري يا أمي! هذا السيد فراشة!
تشوانج تسو :
وإذا أردت صرت طفلا!
الطفل :
طفل أم فراشة؟ تعالي يا أمي.
الأم :
معذرة أيها السيد، معذرة.
تشوانج تسو :
إنه لا يزعجنا على الإطلاق.
الأم :
لقد قطع حديثكما، معذرة يا سادة.
هوى تسو وتشوانج تسو :
بل أيقظنا من حلم طويل، نحن الآن ...
الأم :
معذرة، معذرة، ليس لدينا وقت، لا بد أن أشقى لأطعم هذا الطفل اليتيم، تعال أيها الملعون، العمل ينتظرنا ويحلم بأنه فراشة.
الطفل :
هذا السيد هو الفراشة.
تشوانج تسو :
أعاهدك على هذا يا بني، سأكون فراشة إذا شئت.
هوى تسو :
وأنا أيضا، ألا تحب السمك يا بني؟
الطفل :
أمي، أريد سمكة، هذا السيد سمكة.
الأم :
عفوا أيها السيدان، هذا الصغير لا يعرف ما يقول، إنه لا يريد فراشة ولا سمكا، هل تعرفان ما يريد؟
تشوانج تسو وهوى تسو :
ماذا يريد؟
الأم :
يريد رغيفا يملأ بطنه، سقفا يدفئ جسده.
تشوانج تسو :
حقا، حقا ، رغيف يملأ بطنه، سقف ...
هوى تسو :
يدفئ جسده.
الأم :
تعال يا بني، تعال. (تسحب ابنها من يده بشدة وتنصرف.)
تشوانج تسو :
أيتها الأم المبجلة.
هوى تسو :
أيتها الأم الحكيمة، نعدك أن نتعلم.
تشوانج تسو :
نعدك أن نتحول.
هوى تسو :
أن نتحد بكل شيء.
تشوانج تسو :
ونعانق كل شيء.
هوى تسو :
أن نصبح مثلك أما تحتضن جميع الأطفال.
تشوانج تسو :
تحتضن جميع الأشياء.
هوى تسو :
أن نصبح أرضا وسماء.
تشوانج تسو :
سقفا ورغيفا.
هوى تسو :
لابنك ولكل الأبناء.
تشوانج تسو :
سأكون أنا فراشة.
هوى تسو :
وأنا سمكة.
تشوانج تسو :
الفراشة أولا.
هوى تسو :
بل سمكة، سمكة.
تشوانج تسو :
قلت فراشة.
هوى تسو :
وأنا قلت سمكة.
تشوانج تسو (ضاحكا) :
عندما نتحول سنكون كل شيء.
هوى تسو (ضاحكا) :
نعم، نعم، كل شيء.
تشوانج تسو (يمسك يده) :
كل الفراشات والأسماك، كل الأطفال.
هوى تسو :
كل الأطفال الفقراء. (يضحكان، يضع كل منهما يده في يد الآخر وينصرفان.)
1987م
السيد والعبد
(قاعة فسيحة، تتوسطها منضدة كبيرة يجلس إليها رجل على مشارف الكهولة. أمامه ومن حوله ألواح مسمارية كثيرة، ولوحات معلقة على الجدران تطل منها نقوش بابلية بارزة لملوك وآلهة ومناظر من الحياة اليومية والاجتماعية، نافذة كبيرة تبدو من ورائها خرائب مدينة قديمة، يتململ الرجل في جلسته، يحاول أن يبدأ عمله ثم ينفض يديه من المحاولة وينهض على قدميه صائحا):
السيد :
أيها العبد، أيها العبد (يتأخر عليه العبد فيقول لنفسه) : ما هذا؟ ماذا جرى لي؟ أنا الذي فكرت وكتبت أكثر من عشرين سنة لم أعد قادرا على تفكير ولا كتابة، حتى المخطوطات القديمة التي كنت أجد متعتي وسلواي في نسخها أصبحت لا أطيق النظر إليها، وتمر الأيام والليالي وأنا أحاول بيتا واحدا من الشعر فلا يستجيب، مع أني كتبت للملك عشرات الحكايات والحكم والأمثال والأشعار حتى أطلقوا علي اسم شاعر القصر! نعم، نعم، يا عبدي! أنت أيها العبد! (يظهر العبد داخلا مسرع الخطى، وهو شاب لا تفارق الابتسامة شفتيه .)
العبد :
ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا .
السيد :
أسرع، أسرع، نفذ ما أقوله لك.
العبد :
أمرك يا سيدي، أمرك.
السيد :
هيا أحضر المركبة وأعدها لأمضي إلى القصر.
العبد :
امض يا سيدي، امض، سأكون تحت تصرفك. (يتلكأ قليلا، السيد يكتشف أنه لم يتحرك من مكانه، يرفع حاجبيه ويفتح فمه دهشة ويهم بالكلام فيسأله العبد):
العبد :
معذرة يا سيدي، هل قلت القصر؟
السيد :
ألم تسمع ما قلته؟ لماذا لا تتحرك؟
العبد :
أي قصر تقصد يا سيدي؟ قصر الملك، أم الحاكم، أم الوزير، أو كبير الكهنة؟
السيد :
ما أغرب أسئلتك في هذا الصباح الغريب!
العبد :
اعذرني يا سيدي، فلا بد أن أعرف لأي قصر ستتجه. إن الزينة التي أضعها على المركبة والخيل ستختلف في كل حال.
السيد :
أتقول أي قصر؟! الذي تعودت أن أذهب إليه.
العبد :
اعذرني مرة أخرى إذا ذكرت سيدي بأن هذه العادة قد توقفت منذ شهور (ينظر إليه مشفقا ثم يسير خطوات نحو الباب ويقف عنده، السيد يحول وجهه عنه وينظر من النافذة وهو يكلم نفسه) .
السيد :
نعم، نعم، كيف غاب هذا عني؟ لقد تنافسوا على طعني وتسديد حرابهم إلى صدري وظهري، أولئك الشعراء الصغار والكتبة الأوغاد، حتى الملك الذي كان يجلسني بجواره ويستعذب سماع شعري لم يستطع أن يفعل شيئا، وعندما أسرعت إليه غاضبا ثائرا قال وهو يتحاشى النظر في عيني: لقد أحكموا المؤامرة عليك، أعدوا القوس والسهم ووضعوه في يدي لأصوبه إلى قلبك، اذهب، اذهب، لكن لا تنس أبدا أنني أحب شعرك.
العبد (مقاطعا) :
سيدي.
السيد :
لا أيها العبد، لن أذهب للقصر، لن أذهب أبدا.
العبد :
لا تذهب يا سيدي، لا تذهب، ربما يوقعونك في حفرة جديدة، أو يلفون حبلا آخر حول رقبتك، ستسير في طريق لا تعرفه، وستندم على ذلك ليل نهار.
السيد (لنفسه) :
أندم؟ وهل سأكون حيا لكي أندم؟ ما زلت طيبا أيها العبد، وربما جعلتك الأيام والمحن المتوالية حكيما (للعبد بعد فترة صمت)
أنصت إلي أيها العبد، أنصت إلي.
العبد :
ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا (يقفز مقتربا منه في خشوع) .
السيد :
أسرع، أسرع، سنتجه وجهة أخرى.
العبد :
وإلى أين يا سيدي؟
السيد :
إلى الخلاء، إلى الريف الواسع المفتوح، أريد أن أشم رائحة الخضرة، أريد أن أتنفس هواء نقيا.
العبد :
هل أجهز أدوات الصيد؟
السيد :
وكلاب الصيد أيضا، هل كنا نفعل غير هذا في الخلاء؟
العبد :
اذهب يا سيدي، اذهب؛
فالصياد يملأ جوفه،
وكلاب الصيد ستكسر عظام الفريسة،
والصقر سينقض عليها،
والحمار الوحشي سيعدو مسرعا؛
فالحراب ذات العيون النافذة ستتعقبه وتخترق لحمه.
السيد (بعد قليل يكلم نفسه متأففا، لا يلحظ أن العبد يسمعه) :
لا يا عبدي، لا، لن أذهب للخلاء، لن أمضي في رحلة الصيد (ملتفتا إلى النافذة)
في كل مرة اصطدت فريسة كنت أقول لنفسي: إنني أنا الفريسة. أنظر في عيونها الميتة التي تحدق في وأقول: عبث وباطل ما فعلت، عبث وباطل. وهل أنسى العيون الجائعة التي كانت تلتهم أجساد الفرائس الذبيحة على طريق العودة؟ عجائز وصبية وأطفال تجرحني نظراتهم الخرساء وتتهمني: لعنتك الآلهة ولعنت كل الصيادين! وتظل العيون المحرومة تتابعني حتى أصل إلى عتبة داري وأتخفى في فراشي (ملتفتا إلى العبد وهو يصيح)
لا يا عبدي، لن أذهب أبدا.
العبد :
لا تفعل يا سيدي، لا تفعل،
إن حظ الصياد متقلب،
وكلب الصيد ستتكسر أسنانه،
وصقر الصياد سيرجع إلى عشه،
والحمار الوحشي سيهجع في حظيرته،
حظيرته الآمنة ببطن الجبل العالي،
لا تذهب يا سيدي، لا تذهب.
السيد :
معك الحق، سأبقى، سأبقى، ولكن أنصت إلي أيها العبد.
العبد :
ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد :
أحضر الماء لأغسل يدي.
العبد :
على الفور يا سيدي، على الفور، هل تريد ...؟
السيد (بغضب) :
أريد أن أتناول طعامي.
العبد :
أجل يا سيدي، أجل، تناول طعامك مرة ومرة، لقد أعددت كل شيء، الإفطار الذي نسيته والغداء الذي لم تطلبه. إن الطعام الشهي يريح الذهن من متاعبه، و«شمش» نفسه يرعى من يطهر يديه. (يذهب ليحضر الماء.)
السيد :
إفطاري وغدائي معا! يا لك من عبد طيب القلب! أم إن الحكمة قد فاضت منك فأغرقتك في بحار السذاجة؟ ألم تلاحظ أنني أغص باللقمة والشربة التي تحضرها إلي؟ إفطاري وغدائي؟ في كل يوم أسأل نفسي: لماذا كتب علي أن آكل وأشرب وحدي؟ كانت الكلمة هي خبزي، كان الشعر هو إكسير حياتي، وها أنا لم أشبع ولم أرتو، كلما وضعت اللقمة في فمي رأيت العيون الجائعة تلاحقني كأنها تمد مخالبها لتسحبها من حلقي، أبصرت عيون الأطفال الذين لم أنجبهم وهي تصرخ باكية: لماذا لا يكون لنا نصيب في هذه اللقمة؟ لا يا عبدي، لا، لن آكل ولن أشرب!
العبد (يرجع وينحني أمامه ويريد أن يصب الماء على يديه) :
ولكنك ستغسل يديك يا سيدي.
السيد (مفاجئا) :
ولا هذا أيضا، لن أغسل يدي، ولن آكل ولن أشرب!
العبد :
لا تأكل يا سيدي، لا تأكل،
الجوع والأكل، العطش والشرب،
ماذا أفاد الإنسان منها؟ (يتطلع من النافذة إلى الأفق البعيد حيث تلوح أكوام الخرائب القديمة.)
اسأل هؤلاء،
ماذا أفاد الإنسان؟
ماذا أفاد الإنسان؟
السيد (الذي لم ينتبه لما قصد إليه العبد) :
اسمع يا عبدي، اسمع.
العبد :
ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد :
قررت أن أكون أسرة!
العبد :
مرحى! مرحى! تكون أسرة؟!
السيد :
نعم، وأنجب أطفالا.
العبد :
خيرا تفعل يا سيدي، لتكن لك أسرة وأطفال؛
فالرجل الذي يبني بيتا ويربي أطفالا،
يجعل من نفسه ملكا،
على عرش مملكة صغيرة،
يسكنها شعب صغير،
يصبح راعيا مسئولا،
عن مصير قطيع محبوب،
يعتمد عليه في زاده ومائه،
وصحته ومرضه، ونومه ويقظته،
افعل يا سيدي! افعل!
ستجد طعاما ينتظرك، وسراجا يضيء بيتك، وفراشا يدفئ جسدك.
كون أسرة وأنجب أطفالا؛
فما أحلى أن يجروا حولك في هذه القاعة،
وهم يقفزون ويتصايحون:
علمنا أن نقرأ هذي الألواح،
أسمعنا شعرك يا أبتاه!
السيد (لنفسه) :
أقرأ لهم الألواح التي لا يقرؤها أحد؟ أسمعهم شعري الذي لا أطيق سماعه؟ أواه! ما أشد سذاجتك أو حكمتك!
العبد :
ماذا تقول يا سيدي؟
السيد :
أقول لا، لا يا عبدي.
العبد :
لن تكون أسرة؟
السيد :
ولن أنجب أطفالا.
العبد :
لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.
تفتح بابك لعروسك،
فيصير الباب هو الفخ المطبق بالفكين عليك،
تحملها يوما لفراشك،
وإذا بك في اليوم التالي،
تحمل جبلا يرهق كتفيك،
ويمر الزمن على العذراء الضاحكة العين،
الباسمة الفم،
يخرج من شفتيها النصل المسنون الحد،
أو الأفعى النافثة السم.
لا، لا تفعل! لا تبن بيتا، لا تستسلم،
لا تغرق نفسك في بحر الدين!
السيد :
لا، لن أفعل، لن أستسلم، هل تعرف ماذا أنوي الآن؟
العبد :
أمرك يا سيدي، أمرك.
السيد :
سأعشق امرأة!
العبد :
اعشق يا سيدي، اعشق.
العاشق ينسى الحزن ويطرد خوفه،
يحيا في حلم وردي يصحو منه،
على حلم آخر وردي،
يخطو العاشق للمعشوق وتسكره الخفة،
يحدوه الأمل وتعروه الرجفة،
يضنيه اليأس وتتجدد في الصدر اللهفة،
اعشق، ما أحلى العشق إذا حاول
أن يفتح أسوار العفة!
وبعود ومعه الصيد الرائع،
إن ساعدت الصدفة!
السيد :
هل هذا رأيك يا عبدي؟
العبد :
رأيي؟ ألم تقله لك هذه الألواح؟ ألم تسمعه من هذه الأشعار؟ أين أغانيك يا عشتار الجميلة؟ أين ذهبت ألحانك التي عزفتها للراعي البريء فخلبت لبه؟ (يتجول بين الألواح والتماثيل ويبتعد قليلا.)
السيد (لنفسه) :
وأين لعناتها الرهيبة على رأس جلجاميش وفوق أطلال أوروك؟ أيها العبد المسكين! إنك لا تعرف هذا، ويعود ومعه الصيد الرائع إن ساعدت الصدفة! لكن الصدفة لم تساعد، وعشتار الجميلة لم تغن لي لحنا ولم تصب على رأسي لعنة، كم ذهبت إليها أحمل أثقال الألواح التي دونت عليها شعري! كانت تضحك في طيش وهي تردها بيدها قائلة: شعرك صعب جدا، يبدو أنك ضليع في اللغة! وليلة وقفت معها تحت بوابة المدينة، كانت عين الإله الأكبر مردوخ تطل غاضبة علينا، وسيل المطر ينهمر بلا رحمة فوق رءوسنا ويحيل أشعاري إلى طين عكر يتساقط على الأرض، مددت يدي لأدفئ يدها فأبعدتها، حاولت أن أدفئها بثوبي وأنفاسي فأدارت وجهها وظهرها، عرفت ليلتها أنها ليست لي، وفي ضحى اليوم التالي لمحتها تدخل معبد الإله «شمش»
1
وذراع الكاهن الأكبر القوية تلتف حول خصرها كما تلتف شبكة الصياد حول حمامة بيضاء، وما هي إلا ليلة حتى تركها الكاهن الأكبر لتنهشها الأنياب، وعندما دفعت المبلغ المحدود ودخلت عليها حجرتها رفعت رأسها ببطء ونظرت إلي طويلا، ثم خفضتها وجرت الدموع على وجنتيها، لملمت ثوبي واستدرت خارجا في صمت، هذا هو الصيد الرائع أيها العبد الخبيث، لا، لا، لم تساعدني الصدفة ولم أساعدها؛ لذلك امتلأت داري بهذه الألواح.
العبد (يرجع وهو يمد يده بأحد الألواح) :
وجدتها يا سيد.
السيد :
وأنا لم أجدها ولن أبحث عنها، أعد هذا اللوح إلى مكانه.
العبد :
ألا تريد؟ ...
السيد :
قلت أعده إلى مكانه، لا أريد أن أقرأ ولا أريد أن أعشق.
العبد :
كما تشاء يا سيدي، لا تعشق، لا تعشق. (يضع اللوح جانبا وينظر إلى النافذة.)
فالمرأة جحر أو حفرة،
فخ، مصيدة، هاوية خطرة،
المرأة خنجر حديدي مسنون يقطع رقبة الرجل، المرأة ...
السيد :
أرجوك، الزم الصمت.
العبد :
أمرك يا سيدي، ما دمت تريد هذا.
السيد :
أريدك أن تطيع صمتي كما تطيع كلامي.
العبد :
هل أتركك لصمتك يا سيدي؟
السيد :
نعم، أريد أن أكون وحدي (يصمت، يتحرك العبد للخروج فيناديه فجأة)
أنت.
العبد :
أمرك يا سيدي.
السيد :
لا، لن أصمت، لن ألزم الصمت!
العبد :
علي أن أطيع كلامك كما أطيع صمتك.
السيد :
اسمع يا عبدي.
العبد :
ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد :
سأقود ثورة!
العبد :
ماذا يا سيدي؟!
السيد :
قلت لك: سأقود ثورة!
العبد :
ثورة؟!
السيد :
نعم، نعم، لا يمكن أن أبقى هكذا كمؤشر الميزان الذي تميل به كفة وتخفضه أخرى، قلت لك لقد صممت.
العبد :
على أن تقود ثورة؟
السيد :
لا بد، لا يمكن أن أنظر وأسكت.
العبد :
قد ثورة يا سيدي، قد ثورة.
لأنك إن لم تفعل،
فمن يثأر لك،
من يخلص حقوقك،
من يفضح الكذابين والمزيفين؟
من يفتح عين الشعب عليهم؟ (يتقدم نحو النافذة مشيرا إلى مدينة الموتى.)
السيد :
الشعب؟ هل قلت الشعب؟
العبد (مستطردا في حماس، بينما السيد غارق في رؤاه) :
نعم ، نعم، هؤلاء، كلهم منسي في مدن منسية، لو وجد الأموات من يثور لأجلهم ما ماتوا تعساء إلى هذا الحد، ولو وجد الأحياء من ينصفهم وينتقم لهم ما عاشوا كالأموات.
السيد (لنفسه، في نفس الوقت تقريبا مع العبد) :
الشعب؟ أين هو هذا الشعب؟ أين هي عينه التي تتكلم عنها؟ هل رأتني أو شعرت بي؟ لو ذهبت إليه فلن أنجو منه، سيسلمني أو يسخر مني (ثم بصوت مرتفع)
لا يا عبدي! لا.
العبد (كأنه يستيقظ من حلم، يسرع إليه) :
ماذا يا سيدي؟ بماذا تأمر؟
السيد :
لن أقود ثورة، لن أقود ثورة.
العبد :
كما تشاء يا سيدي؛
فالثائر إما أن يقتل أو يسلخ جلده،
تسمل عيناه ويلقى القبض عليه،
وينسى كالكلب الميت في سجنه،
لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.
السيد :
لن أفعل، معك الحق (بعد قليل ولكن لنفسه)
كيف أنظر في وجوه أهلي؟ كيف ألاقي المساكين عندما أزور قريتي وأتجول في ضيعتي؟ لا، لا، اسمع يا عبدي.
العبد :
ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد :
سنعطي المساكين يا عبدي، سأقرض الفقراء في قريتي، وأتصدق بالطعام على أهل ضيعتي.
العبد :
تصدق يا سيدي تصدق،
أعط المساكين وأقرض الفقراء.
من يتصدق تزداد غلته ويكثر مكسبه،
ومن يحسن للفقراء يبقى قمحه هو قمحه.
السيد :
لا يا عبدي، لن أقرض أحدا، لن أتصدق على أحد.
العبد :
أمرك يا سيدي، أمرك.
لا تتصدق ولا تحسن إلى أحد؛
فالإحسان كالعشق،
واسترداد القرض كإنجاب الأطفال،
سيأتون على قمحك ثم يصبون اللعنات على رأسك ويسلبونك الفوائد التي جنيتها.
السيد (لنفسه) :
معك الحق،
فعلوا هذا دائما، فعلوه دائما (يسرح ببصره خلال النافذة) .
العبد (لنفسه) :
نسي سيدي أنه لا يملك شيئا يقرضه، وأنهم أخذوا منه ضيعته.
السيد :
أنصت إلي يا عبدي، أنصت إلي.
العبد :
ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد :
لا يصح أن أفكر في قريتي وضيعتي وأنسى بلدي.
العبد :
وماذا تنوي أن تفعل يا سيدي؟
السيد :
سأقدم خدمة عامة إلى بلدي.
العبد :
قدم يا سيدي، قدم .
من يفعل ذلك يبارك مردوخ عمله.
السيد (لنفسه) :
بلدي وشعبي؟
ما أغرب هاتين الكلمتين،
حين تخرجان من فمي،
بعد كل ما عانيت!
العبد (الذي سمعه بصوت خفيض) :
حقا حقا.
ما أغرب هاتين الكلمتين،
حين تخرجان من فمك!
السيد :
هل قلت شيئا؟
العبد :
لا يا سيدي، لا.
السيد :
لن أقدم خدمة إلى بلدي.
لن أفعل شيئا ولن أتبرع بشيء.
العبد :
لا تفعل يا سيدي، لا تفعل! (مشيرا إلى النافذة.)
اصعد فوق أكوام الخرائب وتمش هناك،
وانظر لجماجم الأعلين والأدنين،
من كان الظالم منهم ومن المظلوم؟
من كان الشرير ومن كان الطيب؟
كلهم منسي في مدن منسية.
السيد :
كلهم منسي في مدن منسية،
ألم تقل هذا من قبل؟
العبد :
ربما يا سيدي، ربما. (لنفسه):
من ذا الذي طالت قامته،
حتى صعد إلى السماء؟
ومن ذا الذي اتسع منكباه،
حتى احتضن العالم السفلي،
واحتوى العالم بذراعيه؟
السيد :
هل قلت شيئا؟
العبد :
لا شيء يا سيدي، لا شيء.
السيد :
إذن فأنصت إلي.
العبد :
ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد :
أحضر ماء لأغسل يدي.
العبد :
هل أعد الطعام لسيدي؟
السيد :
لا، لا، أريد أن أضحي لإلهي.
العبد :
ضح يا سيدي ضح،
قدم القربان لإلهك؛
فمن يقدم الأضاحي لإلهه،
يسر للصفقة التي يقوم بها،
إنه يبادل قرضا بقرض،
ويرد دينا بدين.
السيد :
حقا يا عبدي، ما أصدق قولك!
العبد :
خلق الإنسان ليكون عبدا للآلهة،
هو خادمهم، يطلب منهم الحماية،
ويتوقع الجزاء،
الذي يتوقعه الخادم من سيده؛
فطريق الطاعة والعبادة،
هو طريق النجاح والتمتع بالحياة.
السيد (لنفسه) :
كم ضحيت لإلهي الخاص!
كم خاطبته قائلا:
لم أهملتني؟
لم غادرت معبدك في بيتي؟
من ذا الذي يعوضك عني،
بواحد يطيعك ويعبدك مثلي؟
كم تضرعت إليه وقبلت قدميه!
كم توسلت إليه،
أن يذكرني عند الإله «مردوخ»،
لعل مردوخ يتوسط لي عند «شمش»، وشمش يسترحم «إنليل» من أجلي، وإنليل يستعطف سيد الآلهة «إيا»،
لكن عونه تأخر عني،
وها أنا ذا كما يقول عبدي،
منسي في مدينة منسية،
قبر بلا شاهد منصوب فوقه،
ولا زائر يطوف عليه.
اسمع يا عبدي، اسمع.
العبد :
نعم يا سيدي، نعم.
لك الأمر وعلي الطاعة.
السيد :
لن أضحي لإلهي، لن أفعل أبدا.
العبد :
لا تضح يا سيدي، لا تضح.
علم إلهك الخاص أن يركض وراءك،
سواء سألك أن تقدم له الطقوس،
أو طلب منك أن تؤدي له فريضة،
أو توسل إليك لأي شيء آخر.
السيد :
صدقت يا عبدي، سأعلمه أن يسعى ورائي، سأهمله كما أهملني، وعليه أن يعلم أنه محتاج لعبادتي كما أنا محتاج لطاعته، لكن يا عبدي، لكن ...
العبد :
أمرك يا سيدي، أمرك.
السيد :
لا يمكن أن تكون صادقا وكاذبا في وقت واحد، لا يمكن أن تكون خيرا وشريرا، عاقلا وأبله، حكيما ومخادعا في نفس واحد، ماذا أفعل إذن؟
العبد :
أمرك يا سيدي، أمرك.
السيد :
هل أذهب للقصر أو لا أذهب؟ أرحل للصيد أو لا أرحل؟ هل آكل أو لا آكل؟ أكون أسرة أو أبقى وحيدا؟ أعشق أو لا أعشق؟ أتصدق أو لا أتصدق؟ أقدم خدمة عامة أو لا أقدم؟ أضحي لإلهي أو لا أضحي؟ هل يمكن أن يستوي الفعل وعدم الفعل؟ أن يتكافأ الخير والشر والظلم والعدل؟
العبد :
أنت الذي تسأل يا سيدي؟
السيد :
وأريدك أن تجيبني بلا مواربة.
العبد :
تفضل يا سيدي، تفضل.
السيد :
ما الخير إذن؟
العبد :
الخير؟!
السيد :
نعم، الخير، إذا كان كل شيء يتساوى مع كل شيء، الصدق والكذب، الإحسان والإساءة، العشق والكره، الزواج وعدم الزواج، الوفاء والجحود والعبادة والتجديف، أين الخير إذن؟
العبد :
في مدن منسية كهذه المدينة؟
السيد :
ما شأننا بهذا؟ لقد قلت هذا من قبل.
العبد (رافعا صوته بالتدريج) :
أنا الذي يسأل الآن:
في حضارة محتضرة كهذه الحضارة؟
وسط خرائب القيم،
التي تشبه هذه الخرائب؟
السيد :
ليكن، ليكن، المهم أين الخير؟
العبد (رافعا صوته) :
الخير أن أدق عنقك.
السيد (مقاطعا) :
كيف تجرؤ على هذا القول؟
العبد (مستمرا) :
أو تدق عنقي،
أن ألقيك في البحر،
أو تلقيني فيه.
السيد :
ما هذا؟ ماذا أسمع؟
العبد :
ما لا بد أن أقوله ولا بد أن تسمعه، لقد استمعت حتى الآن يا سيد، عشرون عاما وأنا أسمع وأطيع، وعليك من اليوم أن تستمع.
السيد :
عبدي، إنني أحذرك، سأقتلك قبل أن تقتلني، سأرسلك إلى هناك قبل أن ترسلني، سأحطم رأسك.
العبد :
لا بأس، أنا راض بهذا، المهم أن تفعل شيئا، أي سلاح تختار؟ بأي شيء ستقتلني؟ (يقلب أدوات مختلفة ينتقل بينها بسرعة.)
بهذه الفأس؟ هذا الإزميل الذي طالما نحت به كلماتك؟ هذه المطرقة وهذا المخراز وهذه المسامير التي لم تستخدم حتى الآن في عمل مفيد؟ المهم أن تفعل يا سيد، حتى لو كان هذا الفعل هو قتلي، تكلم، تكلم.
السيد (يرتج عليه) :
لا أصدق، لا أصدق.
العبد :
بل صدق كل شيء، لا بد أن تتكلم.
السيد :
وماذا تريدني أن أقول؟
العبد :
تقول كيف تفعل هذا وأين.
السيد :
أفعل، ماذا أفعل؟
العبد :
هذا السؤال الأوحد، تفعل، تفعل، تفعل، حتى ولو كان هذا الفعل هو قتلي، هل اخترت هذا الإزميل؟ هذه المطرقة؟ هذه الفأس؟ أتفضل واحدا من هذه التماثيل لتهشمه فوق رأسي، أم لوحا من الألواح المزدحمة بأشعارك؟
السيد :
فظيع، فظيع.
العبد :
أم تختار مكانا آخر تتنفس فيه للمرة الأخيرة هواء نقيا، على شاطئ النهر مثلا، أو بعيدا في الخلاء، وسط الأحراش التي تعودت أن تذهب إليها في رحلة الصيد؟
السيد :
ما هذا الذي تطلبه مني؟ كيف تتصور أن أفعل هذا؟
العبد :
المهم أن تفعل شيئا، هل تؤثر أن أقتلك أنا؟
السيد :
تقتلني؟!
العبد :
نعم نعم، إما أن تفعل أو لا تفعل، بهذا الإزميل؟ هذه الفأس؟ هذه المسامير؟ هذه التماثيل؟ هذه الألواح؟
السيد (مذعورا) :
أيتها الآلهة! أين أنت يا إلهي الخاص؟ إلي يا مردوخ.
العبد :
تعلم أنك استجرت بهم فلم يكترث بك أحد، تعلم أنك رفضت أن تقدم لهم الأضاحي أو تمتنع عن تقديمها.
السيد :
حقا، حقا، لكن ماذا أفعل؟
العبد :
أنت وحدك تجيب على هذا السؤال.
السيد :
تكلم أنت؛ فلم أعد أقوى على التفكير.
العبد :
اسمعني إذن للمرة الأولى والأخيرة، فلتكن شاهدا على هذه المدينة الميتة، ما دمت لا تستطيع أن تنقذها، فلتكن على الأقل شاهدا عليها.
السيد (كأنه يكلم نفسه) :
شاهد عليها؟
العبد :
وتخرج من سأمك ومللك، تفعل شيئا بدلا من ألا تفعل.
السيد :
وأنت يا عبدي، ماذا ستفعل؟
العبد :
لم أعد عبدك، ولا أسأل هذا السؤال.
السيد (مستعطفا) :
تعلم أنني لا أحتمل العيش بعدك ثلاثة أيام، تعلم أنني لا أستغني عنك.
العبد :
أنا أيضا كنت كذلك.
السيد :
كنت كذلك؟! والآن؟
العبد :
الآن لم أعد عبدا لك، ولم تعد سيدا لي.
السيد :
ماذا أسمع؟!
العبد :
لقد سمعت بالفعل.
السيد :
ولكنه فظيع، فظيع.
العبد :
المهم الآن أن تبدأ، أن تكون شاهدا.
السيد (مقاطعا) :
فهمت، فهمت، وأنت؟
العبد :
ماذا سأفعل؟ حسبتك في غنى عن هذا السؤال، سأخرج إلى هذه المدينة، وإذا لم تكترث بي فسوف أمضي إلى القرى والحقول، هنا أو هناك، ينتظرني الكثير، ينتظرني الكثير.
السيد :
وتتركني وحدي؟ ألن تعود لسيدك أبدا؟
العبد (متهيئا للخروج) :
نعم نعم، عندما لا يقول أحد يا سيدي ولا يقول أحد يا عبدي.
السيد :
لك هذا، المهم أن تعود.
العبد :
عندما تبدأ شهادتك.
السيد :
سأبدؤها من الآن، ها أنا ذا أدون أول كلماتي. (يمسك الإزميل، يبدأ الكتابة.)
العبد :
الآن بدأت تفعل، الآن يمكنني أن أذهب.
السيد :
قبل أن تعدني بأنك ستعود.
العبد :
أعدك بهذا، وأودعك أيضا. (يتجه العبد إلى سيده، يمد يده إليه فيعانقه السيد، يغيبان في عناق طويل قبل أن يتجه العبد نحو الباب.)
السيد :
الوداع، لا تنس وعدك.
العبد :
الوداع، ولا تنس أن تفعل ما اتفقنا عليه.
السيد :
لقد بدأت بالفعل.
العبد :
وأنا بدأت قبل أن أبدأ. (يضع الفأس في كيس به ملابسه.)
السيد :
الوداع يا ...
العبد :
الوداع يا ... سيد!
1987م
محاكمة جلجاميش
اللوحة الأولى
الاستهلال
الشخصيات
جلجاميش:
الملك الخامس على أوروك.
إنكيدو:
وحش البرية وصديقه.
نينسون:
أمه الحكيمة.
شمخات:
كاهنة الحب.
سيدوري:
ساقية الحانة على شاطئ بحر الموت.
أورشنابي:
ملاح بحر الموت.
أوتنابشتيم:
نوح البابلي.
زوجة أوتنابشتيم.
الرجل العقرب وزوجته.
عشتار:
إلهة الحب والخصب والحرب.
خمبابا:
حارس الغابة.
آنو:
آلهة في مجمع الآلهة.
إنليل :
آلهة في مجمع الآلهة.
شمش:
آلهة في مجمع الآلهة.
إيا:
آلهة في مجمع الآلهة.
الراوية.
جوقة الشيوخ.
جوقة الرجال العقارب.
شباب ونساء وأطفال - جنود وحراس - كهنة وعرافون ومعزمون.
أصوات مختلفة.
بدء الكلام (المسرح مستويات متعددة: في المستوى الخلفي تبدو من بعيد أسوار أوروك وأطلالها الخربة. إلى اليمين يقف الراوية على منصة عالية، في يده بضعة ألواح طينية أو أوراق يقرأ منها بين الحين والحين ويعلق على الأحداث. في المستوى الأدنى يتوالى على الخشبة ظهور الشخصيات واحدة بعد الأخرى، وتتجمع إلى اليسار منها جوقة الشيوخ والعجائز من أهل أوروك، ثم ينضم إليهم عدد من الشباب والنساء والأطفال في المستوى نفسه. إلى أقصى اليسار، شبح كومة بشرية يصدر عنها أنين وبكاء متصل، حتى يسلط عليها الضوء فيظهر حطام جلجاميش البائس اليائس. في عمق الخلفية أمام الأسوار المخربة، منصة تظهر عليها بعض الشخصيات أو تسقط عليها بعض الصور والرسوم، ثم تطفأ أنوارها أو تسدل عليها الستائر، تسمع من البداية دقات الطبول الخافتة التي ترتفع شيئا فشيئا مع تتابع ظهور الشخصيات واحتدام الأحداث. الراوية في ملابسه الحديثة مشغول بالتقليب في الألواح والصحائف.)
صوت يهتف مع دقات الطبل الخافتة :
جلجاميش،
جلجاميش،
جلجاميش.
الصوت (في نغمة مهيبة عميقة) :
هو الذي رأى كل شيء حتى تخوم البلاد،
هو الذي عرف البحار وأحاط علمه بكل شيء،
هو الذي تغلغل ببصره في الهاوية المظلمة،
امتلك الحكمة وتعمق كل الأشياء،
رأى الأسرار وكشف الخفايا،
وجاء بأنباء ما قبل الطوفان.
الراوية :
أعرف هذه الكلمات، قرأتها في اللوح، إنها الكلمات التي تبدأ بها الملحمة، وهي التي سميت باسمها كما كانت عادة الكتاب والنساخ البابليين.
الصوت (متابعا دقات الطبول) :
مضى في سفر بعيد، حتى حل به الضنى والعناء.
ثم حفر على لوح حجري كل ما أصابه من تعب وشقاء.
الصوت العميق مع ارتفاع دقات الطبول :
جلجاميش،
جلجاميش،
جلجاميش.
الراوية (وهو يقلب في الألواح أو الأوراق) :
جلجاميش، يمكن أيضا أن تنطق كلكاميش بالكاف الفارسية أو «قلقميش» في الرسم العربي، الاسم الأصلي كما ورد في النصوص السومرية (يتتابع دق الطبول)
مهلا، سأحدثكم بعد قليل عن شعب السومريين العجيب وعن هذه النصوص الباقية. قلت مهلا، لن أطيل الحديث، إنها تالفة ومملوءة بالثغرات والفجوات، مثل كل النصوص المنقوشة بأيدي السومريين والبابليين والآشوريين بالخط المسماري على الرقم والألواح الطينية (تتوالى الدقات مع ارتفاع الصوت الهاتف قليلا) :
جلجاميش،
جلجاميش،
جلجاميش.
الراوية (مسرعا) :
هي أقدم ملحمة في التاريخ، جرت أساطيرها وحكاياتها على ألسنة الناس منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، وبدأ تدوينها في العصر البابلي القديم على عهد حمورابي الذي حكم من عام 1792ق.م. إلى عام 1750ق.م. أعظم إمبراطورية بابلية وخلد اسمه بشريعته المشهورة، عثر على نصها الأساسي الأخير في «نينوى» عاصمة الآشوريين بين آلاف الألواح التي وجدت في أطلال مكتبة قصر آشور - بانيبال ملك العالم وملك آشور كما كان يسمي نفسه من سنة 667 إلى 626 قبل الميلاد، هذا الملك المجنون بالقتل والمعرفة، بقطع رءوس أعدائه وتمزيق أشلائهم وحرق مدنهم، وبتذوق الغناء والموسيقى وجمع تراث الآباء والأجداد. يعزى هذا النص إلى كاهن بابلي يدعى سن-ليكي-أونيني، عاش في القرن الثاني عشر حوالي عام 1100 قبل الميلاد، ومن المؤسف أننا لا نعرف شيئا عن هذا الشاعر الموهوب الذي نسج من القصص السومرية التي ذكرتها هذا العمل الأدبي الفريد.
الصوت (وهو يتوالى مرتفعا بعض الشيء) :
جلجاميش، جلجاميش.
الراوية :
انتظروا، لا بد من كلمة عن هذا العمل الذي لا نكاد نعرفه ونحن ورثته، ولا يكاد يقرؤه أو يدرسه إلا المختصون بعلوم الآثار والتاريخ القديم واللغات السومرية والأكدية، مع أنه أثر على مدى أكثر من ثلاثة آلاف سنة على أجيال وأجيال من شعوب الشرق الأدنى القديم، بل يحتمل أن يكون قد أثر على بعض أساطير الإغريق، وعلى شاعرهم هوميروس حتى استحق أن يسمى أوديسة البابليين.
الصوت (مع دقات طبول مرتفعة) :
جلجاميش، جلجاميش.
الراوية (مندفعا حتى لا يكاد يبين) :
عاش هذا الذي تسمعون اسمه المدوي بين سنتي 2750 و2600 أو 2500 قبل الميلاد، وذكر ثبت الملوك السومريين أنه خامس ملك حكم مدينة أوروك بعد الطوفان. بلغت المدينة في عهده أوج العظمة والازدهار، وإليه ينسب بناء سورها العظيم، ومعبد إيانا المقدس، وهيكل إله السماء آنو. فاض الخير والخصب على بلاده في حياته، وأله في حياته وبعد موته، ونصبته الأسطورة قاضيا لأرواح الموتى في العالم السفلي المخيف. وبناء السور العظيم (يسلط الضوء على أطلاله وخرائبه في أقصى الخلف)
دليل على اشتعال نيران الصراعات والحروب بين مدن السومريين التي كانت كل منها دولة مستقلة تذكرنا بدولة المدينة عند الإغريق. والسومريون (يزداد ارتفاع الطبول)
أرجوكم، لا بد من كلمة وفاء لهذا الشعب الجدير بالوفاء. (يهدأ قرع الطبول)
نعم نعم، فهو الذي وضع التقاليد الثقافية والحضارية، وأسس النظم والمعتقدات والنماذج الأدبية، واخترع أول كتابة عرفتها البشرية بالخط المسماري، وأبدع أساطير الخلق والبعث والجنة والطوفان، وكذلك أسطورة جلجاميش.
الصوت :
جلجاميش، جلجاميش،
الملك الحكيم،
البطل الوسيم.
الراوية :
حقا حقا، هذا ما يثبته اللوح الأول، وتؤكده كل الألواح الاثني عشر، هل قلت لكم إن اسمه معناه الرجل الذي سينبت شجرة، أو المحارب الذي يسير في المقدمة؟ لقد اختلطت منذ القدم الأساطير التي تروى عنه بالأخبار التاريخية التي ترجع للألف الثالثة قبل الميلاد، وارتبط اسمه بالبحث في مصير الإنسان، ومعنى الحياة والموت، والسعي إلى الخلود الذي استأثرت به الآلهة دون البشر.
الصوت (في شبه استغاثة أو دعاء) :
جلجاميش،
ثلثاه إله والثلث الباقي بشري فان،
جلجاميش،
حباه الحسن إله الشمس شمش،
وإله الرعد أداد القوة والبطش،
جلجاميش،
راعي أوروك الملك الحق على العرش،
والثور الناطح والأسد الكاسح كالوحش.
الراوية (مؤمنا على ما قاله الصوت) :
وهذا أيضا تثبته الصور المنحوتة على النقوش والأختام الأسطوانية، فتمثله ببطل يحمل في إحدى يديه ساطورا، وفي الأخرى أسدا أو ثورا يمسكه من ذيله أو من رجليه الخلفيتين، بينما تبرز من رأسه القرون التي كانت من شارات الألوهية (تسقط في هذه الأثناء صورة أو لوحة تمثل جلجاميش وهو يمسك أسدا من ذيله وأخرى على هيئة ثور بشري) .
الراوية (يسترسل في كلامه دون أن ينتبه إلى الجموع التي بدأت تتوافد من يمين المسرح) :
لكنه كان على الدوام مضطرب الفؤاد؛ هذا ما قالته أمه الحكيمة نينسون، وهي تشكو حالها إلى شمش رب الشمس والعدالة (وكأنه يغني أثناء تقليبه في الألواح) .
عملاق؛ فالصدر عريض، تسعة أشبار،
والقامة، عذرا فأمامي فجوات، عشرة أشبار،
أو أحد عشر،
جلجاميش طاغ جبار،
هو جذوة نار،
يقتل في ثورة غضبه،
ويثور الندم بقلبه،
ويفيض الألم بشعبه.
الجموع (التي لم يفطن إليها الراوية بعد؛ إذ يحسبها من الأصوات التي كان يسمعها) :
يوقظنا في أعماق الليل،
على صوت الطبل،
جلجاميش.
الراوية (مرددا كالحالم) :
جلجاميش.
الجموع :
لا يترك ابنا لأبيه،
ماض في الظلم الفادح ليل نهار.
الراوية :
الملك العادل،
والراعي الكامل!
الجموع :
جبار ظالم،
طاغية آثم.
الراوية (مكملا) :
أم بطل حالم؟
جلجاميش شاعر،
وحكيم ثائر،
ثلثاه إله،
والثلث الباقي
بشري زائل،
في الصدر الحائر والقلب الطاهر
تتصارع أرض وسماء،
والطين مع النور الباهر.
الجموع :
كذب، كذب،
أسطورة شاعر.
الراوية (ملتفتا إليهم) :
ما هذا؟ من أنت؟
الجموع :
الشعب المقهور الثائر.
الراوية :
كيف أتيتم؟
ما مطلبكم؟
الجموع :
نشكو للعصر الحاضر،
من ظلم العصر الغابر،
نشكو جلجاميش.
الراوية :
الملك الشاعر،
والبطل الظافر؟
الجموع :
والثور الهادر،
والوحش الغادر.
أصوات :
لا يترك بكرا لأمها،
ولا ابنا لأبيه،
ليل نهار يمعن في ظلمه،
هو راعي أوروك الحمي،
وهو القوي الوسيم الحكيم،
لا يترك العذراء لحبيبها،
ولا الابنة لأبيها المحارب،
ولا الزوجة لزوجها.
الراوية (يسترد نفسه، يقلب في الصحائف والألواح) :
حقا، حقا، أذكر هذا.
ورفعتم أصواتكم بالشكوى والأنين،
لآنو إله السماء، وإله أوروك.
الجموع :
واستمع الآلهة لشكوانا،
فدعوا سيدة الخلق آرورو قائلين:
أنت يا من خلقت جلجاميش،
اخلقي له الآن ندا جامح الفؤاد،
فيدخلان في تنافس وتستريح أوروك.
الراوية :
إنكيدو،
صاحبه الطيب إنكيدو.
صوت من الجموع :
وحش البرية،
يرعى الكلأ مع الغزلان،
ويرد الماء مع الحيوان،
خلقته على صورة آنو،
وحباه القوة نينورتا،
رب القنوات وراعي الشطآن.
الشعر المنسدل سنابل قمح،
والملبس جلد الحيوان،
كرب القطعان سموقان،
لا يعرف شيئا عن طبع البشر ولا البلدان.
صوت آخر :
رآه صياد عند مورد الماء؛
فتجمد وجهه واضطرب قلبه،
شل الرعب لسانه ودخل جوفه،
فانطلق مذعورا إلى أبيه:
وحش البرية تشبه قبضته قبضة آنو،
ردم الحفر التي حفرت،
مزق الشباك التي نصبت،
جعل طرائد البرية تفلت مني.
فتح الأب فمه وقال للصياد:
يا ولدي، في أوروك يقيم الملك الرائع جلجاميش،
من لا يشبهه أحد في قوة بأسه،
امض إليه وأنبئه بنبأ الوحش الجبار،
وسيعطيك بغيا من معبد سيدة الحب الكبرى عشتار،
خذها للبرية، تغلب قوتها قوته،
وصنعتها توقظ فيه الإنسان،
فيهرب منه الوحش وتنكره الغزلان.
شمخات (تظهر على المسرح) :
ونضوت ثيابي، وكشفت مفاتن صدري.
أصوات الجموع :
شمخات، بغي المعبد؟
شمخات :
بل قولوا كاهنة الحب،
قاربني وحنوت عليه،
عانقني فرويت العطش وأشبعت الجوع،
وهدهدت القلب،
يوما، يومين،
سبعة أيام وليال، نصل الصبح مع الليل.
وإلى أوروك قدت خطاه على الدرب،
كما تفعل أم مع طفل.
الراوية :
وقسمت الثوب الواحد نصفين،
فلبس الثوب،
وبفضلك أكل الخبز.
وذاق مع الناس رحيق الخمر العذب.
شمخات :
ودخلنا أوروك،
وقلبي يهتف: يا أهلي، يا أحباب القلب،
هذا هو إنكيدو المنقذ،
عون المظلوم التعس،
وأمل الشعب.
الجموع :
كنا ننتظر هناك،
على الأبواب وفي الساحات،
ننتظر شهابا أرسله آنو،
نجما يخترق الظلمات،
ننتظر الفأس المطروحة في الطرقات،
وتجمعنا حول البطل،
ضحكنا، صحنا، قبلنا الثوب،
لثمنا اليد والقدم،
هتفنا: هذا هو حلم الشعب.
آه! وا أسفاه!
أصوات :
الحلم تبدد مات،
الحلم تبدد مات.
الراوية :
لماذا؟ ما الذي حدث؟
ألم يصبح إنكيدو صديق جلجاميش؟
ألم يحقق الحلم الذي رآه وفسرته أمه؟
ألم يشغله عنكم يا أبناء أوروك.
صوت من الجموع :
معك الحق، شغله عنا.
الراوية :
واسترحتم منه.
الصوت :
إن كانت في الموت الراحة.
صوت آخر :
إن كانت في الجوع أو القحط الراحة.
صوت ثالث :
إن كانت في اليتم الراحة.
الراوية :
الجوع، القحط، اليتم؟
ماذا تقصد؟
الصوت :
تركانا،
وانطلقا للمجهول.
شمخات :
ومع الأيام انهارت أوروك،
وطمعت فيها الأعداء،
مات الحلم الوردي،
وخاب الأمل المأمول.
أصوات :
مات الحلم الوردي،
وخاب الأمل المأمول. (تتجه إلى مقدمة اليسار مجموعة من الشيوخ والعجائز، وجوههم كاسفة، ورءوسهم مطرقة، ويؤلفون جوقة مستقلة عن بقية الجموع.)
الشيوخ :
نحن شهدنا موت الحلم،
ووقع الظلم،
على المرأة والشاب اليافع،
والطفل العاجز والأب والأم.
الراوية :
لكن من أنتم؟
من أين أتيتم؟
الشيوخ :
نحن شيوخ أوروك،
فينا الكاهن والسادن،
والكاتب والحاجب،
والصانع والزارع،
والراعي المسئول عن القطعان.
كنا أعضاء الشورى في أوروك،
وأرباب الحكمة والأعيان.
جئنا من هاوية الزمن الموغل في ظلمات القدم،
ومن أغوار الوجدان؛
كيما ننذر ونذكر،
من أنسته المحنة والآلام ومر الأزمان،
بحقيقة ما قد كان،
وما أغفله الكتبة والكهان.
نحن المتهم، ونحن القاضي،
نضع الميزان،
ونشارك في محكمة الحاضر والماضي.
الراوية :
أية محكمة؟
الشيوخ :
ولماذا نجتمع الآن؟
جلجاميش.
الراوية :
قلت نحاكمه؟
الشيوخ :
ونحاكم أنفسنا،
ونحاكمكم،
نجتث جذور اللعنة من أرض الإنسان؛
فالداء قديم، والشجرة يثقلها الشوك على الأغصان،
تسكنها القردة والحيات، تعشش فيها الغربان.
الراوية :
أتحاكم فخر الأجيال،
وبطل الأبطال؟
من سافر في الأرض وغامر،
عبر بحار الموت،
وقطع الأنهر والوديان،
واقتحم الأرض المجهولة، أرض الأحياء،
وقتل الوحش الغادر،
ومحا الشر وصد العدوان؟
أنحاكم من دخل أوروك دخول البطل،
فصحتم في موكبه الظافر،
بطل الأبطال!
أشجع من كل الشجعان؟
أنحاكم من خلد ذكر أوروك،
فوق المدن الأخرى والبلدان؟
الشيوخ :
غير صحيح بالمرة،
أبدا ما خلد جلجاميش إلا اسمه.
ما حفر على الحجر،
وفي النقش البارز إلا رسمه.
الراوية :
لكن الملحمة تؤكد.
الشيوخ :
نحن الشعب،
ولم تذكرنا الملحمة بكلمة؛
ولهذا جئنا لنحذركم،
ونذكركم،
لنعيد قراءتها معكم،
ونطالع فيها الدرس الخالد والحكمة.
الراوية :
هل تنكر ما فعل البطل؟
الشيوخ :
وأنفي عنه المجد الفاسد،
وأدين طموحه.
الراوية :
لكن الملحمة ستشهد.
الشيوخ :
وسيشهد هذا الجمع الحاشد،
ويفض على الملأ جروحه،
والميت منذ قرون،
سيغادر في التو ضريحه،
وستشهد شمخات.
الراوية :
بغي المعبد؟
شمخات (تظهر في المستوى الأعلى) :
بل كاهنة الحب،
وكم حذرت حبيبي.
الشيوخ :
وكذلك إنكيدو الطيب،
شبح المسكين المتعب،
يفد علينا من عالمه السفلي المرعب .
إنكيدو (تظهر صورته في المستوى الأعلى) :
أنا إنكيدو،
وحش البرية،
أرعى الكلأ مع الغزلان،
وأرد الماء مع الحيوان،
ما زلت وفيا لعهود الحب،
وإن عهود القلب وثيقة،
وسواء سماني الكتبة خادمه،
أو سمتني الملحمة صديقه،
فلقد كنت ضحيته،
والسكين بيده،
والفأس المطروحة في طرقات أوروك،
والنجم الثاقب يشتاق بريقه.
آه! كم حذرتك يا جلجاميش،
وظللت أردك لجموع الشعب،
لنبض القلب،
وأمر الحب،
لعلك أن تستمع نداه،
وتأخذ منه الكأس العذب،
وتمتص رحيقه.
آه! كان حبيب القلب،
رفيق الدرب،
وكنت رفيقه.
وبكاني حين مرضت،
ولما اختطف الطير الصاعق روحي،
شبت فيه النار،
فما أطفأ مر الأيام حريقه،
ومضى كالثور الجامح والنسر الجارح،
خاض بحار الموت،
غريبا يبحث عن حلم لا يدركه البشر،
وما من حي يملك تحقيقه.
آه! كنت المصباح أضاء طريقه،
وسفينته في بحر التيه،
وكنت غريقه. (ينبعث من الكومة البشرية المعتمة في أقصي اليسار نواح مر، يتلفت الحاضرون نحو الصوت الذي لا يتبينون مصدره، تعقد الدهشة ألسنتهم لحظات قبل أن تتحرك رءوسهم وأيديهم بالإشارات والإيماءات وتند عن شفاههم صيحات التعجب والاستفسار.)
إني أبكيك،
أنصتوا إلي يا شيوخ أوروك،
أنصتوا إلي.
إنني أبكي إنكيدو،
أبكي صديقي،
أطلق شكواي المرة كالندابة.
أنت يا من كنت الفأس إلى جنبي،
وفي متناول يدي.
أيها السيف في حزامي،
والدرع الذي يحمي صدري.
أنت يا حلة عيدي،
وحزام بأسي وقوتي،
سرقك مني شيطان ملعون.
إنكيدو، يا صديقي،
ما هذا النوم الذي أطبق عليك،
حتى غشيك فلم تعد تسمعني؟
الشيوخ (يتلفتون حولهم) :
هذا الصوت المفجوع المحزن ينسكب كدمع العين.
هل أعرفه؟
هل أذكره؟
هل هو؟ لا، لا.
من هو من؟
إنكيدو (يردد أغنيته) :
آه! كنت المصباح أضاء طريقه،
كنت سفينته في بحر التيه،
وكنت غريقه.
أورشنابي (وهو ملاح أوتنابشتيم أو نوح البابلي، يظهر في المستوى الأعلى، ويقول في مرح) :
بل أنا ملاح سفينته،
خضت به في بحر الموت،
ليجد لأوتنابشتيم طريقه،
كم أنذرت وحذرت،
من الملل القاتل،
للجد المكتئب الخامل،
فأصر ولم يبلع ريقه.
لما طردني الخالد من جنته،
قلت لنفسي:
صعلوك وجد رفيقه.
الشيوخ (يضحكون) :
حتى سيدوري الحلوة ،
تعبت معه،
مدت بالكأس يديها؛
لتبل عروقه،
لكن الوهم تمكن منه،
فعجزت حكمتها المرحة أن تنتشل،
المفتون الذاهل،
من سحب الحلم القاتل وتفيقه.
سيدوري (تظهر في أعلى المسرح) :
بالحق نطقت،
وأنا ساقية الحان،
على شاطئ بحر الموت،
مددت إليه الكأس،
دعوت، دعوت،
لعل الخمر تزيل اليأس،
تمنيت الموت الرابض،
في أعماق النفس،
آه! كم حذرت وكم أنذرت،
لعل النسر التائه في سحب الحلم،
يعود لحضن الزوجة والبيت.
قلت وكررت وبح الصوت:
يا جلجاميش هذا بستان البهجة،
فاقطف فاكهة اللحظة، قبل فوات الوقت.
لم تتعجل سيرك؟
أين تقود خطاك؟
إن حياة تبحث عنها،
لن تدركها، لن تحياها،
مهما حاولت.
لما أن خلق الآلهة البشر،
قديما قسموا لهم الموت،
واحتفظوا في قبضتهم،
بخلود يتحدى الحد،
ويوقف عجلات المولد والموت،
فاملأ بطنك،
متع نفسك ليل نهار،
واجعل أيام حياتك أعياد البهجة،
وارقص والعب يا جلجاميش ما شئت.
اخطر في ثوب زاه،
واغسل رأسك بالماء،
وضمخ جسدك بالعطر وبالزيت،
انظر للطفل الراقد بين يديك،
وأسعد زوجك في أحضانك،
ذلك هو حظ البشر،
وقسمتهم ما عاش الناس وعشت.
صوت جلجاميش :
آه! لا أقدر أن أفعل هذا،
ماذا أصنع؟
وإلى أين أوجه وجهي؟
مذ سقطت من أنف صديقي الدودة،
لا أحتمل العيش ولا أحتمل الموت.
أنى قلبت الطرف وجدت الموت،
يربض في مخدعي ويسكن عيني،
يلازم خطوي،
أني رحت وأنى جئت.
صوت من الجموع :
هذا الصوت، هذا الصوت.
صوت آخر :
لكأني ألمح ظله.
صوت ثالث :
وأراه وأبصر شكله.
صوت رابع :
لكأن عيون الرعب علي من الأسوار مطلة، والأمس الذاهب والغد واليوم الشاحب بؤس ومذلة.
صوت خامس :
صوت مرعب،
حتى وهو يئن ويندب،
أوشك أن أسمع معه صوت الطبل،
يوقظ أوروك بجوف الليل،
ويسوق الخلق لنير السخرة وسياط الذل،
يخشاه الرجل ولا يرحم حتى العذراء أو الطفل.
صوت سادس :
صوت مرعب،
صوت مرعب،
أسمعه فترفرف أطيار الصدر،
وقد أعماها الذعر،
فأسأل نفسي:
هل يبكي الأسد أو النمر،
أو الذئب؟
أورشنابي (يظهر أعلى المسرح) :
أما أنا فضحكت،
لما ضاعت منه النبتة،
قطع الثوب،
مزق شعر الرأس،
وجدف في حق الرب.
الراوية (يستوقفه) :
أية نبتة؟
ذكرني إن كنت نسيت.
أورشنابي :
ظلت لغزا يطويه البحر ولا يعلن سره،
حتى كشف أوتنابشتيم أمره،
صارت أملا يحمله معه إلى أوروك؛
لكي يتعزى عن خيبة أمله.
أخرجها من جوف الماء،
فجرح الشوك يديه،
ولما ضاعت جرح القلب.
الراوية :
ضاعت أم أكلتها الحية؟
من سموها أسد الترب؟
أورشنابي :
لن أنسي الفرحة في عينيه،
ولا الدم ينزف من كفيه،
وهو ينادي:
صوت جلجاميش :
يا أورشنابي،
ما أعجبها نبتة!
يأكلها الشيخ فيرجع لصباه بغتة،
أحملها معي إلى أوروك،
وأقسمها بين شيوخ الحكمة.
آكل ما يتبقى،
ليعود شبابي وأجدد عهده.
الراوية (للشيوخ) :
أرأيتم؟
لم يستأثر بالنبتة وحده.
آثر أن يسبقه الشيخ الهرم،
ويتذوقها بعده.
الشيوخ :
لا تغتر بكلمات لا تكشف قصده،
أبدا ما غير جلجاميش جلده،
حتى آخر نفس لم يتذكر إلا نفسه،
والمجد الكاذب مجده.
صوت جلجاميش (وقد بدأ الضوء الخافت يظهر ظله) :
أورشنابي،
يا أروشنابي،
يا أوتنابشتيم الخالد،
يا ساقية الحانة سيدوري،
يا روح صديقي الطيب إنكيدو،
ضاعت مني النبتة،
راح الأمل وتاه؛
فلمن أضنيت يدي؟
لماذا نزف القلب دماه؟
ضاع العمر سدى،
لم أكسب شيئا (يبكي).
أورشنابي :
أقبلت عليه،
أخفف عنه،
حمول القلب المتعب،
ودعونا شمش الطيب،
راعي الغرباء الحيرى،
في الليل الأعمى،
والتيه المرعب.
يا جلجاميش لا تتلف نفسك،
لا تذرف دمعك،
كالطفل المذنب.
بعد قليل يصل الموكب،
تدخل أوروك الساحة والملعب،
أوروك البيت الدافئ،
والأم الثكلى،
والأب والجد الطيب،
سرنا الساعات مضاعفة،
وتزودنا من زاد الأرض،
وبارك شمش الرحلة، والركب،
حتى لاح على البعد السور،
ومعبد آنو رب الأرباب،
وهيكل إينانا سيدة الحب،
وراعية الخصب.
وجرى جلجاميش نحو السور،
ولثم العتبة والأبواب،
وصاح كطفل غاب وعاد إلى صدر الأب.
صوت جلجاميش :
انظر يا أورشنابي،
اعل السور،
تمش عليه،
تفحص صنعة آجره.
المس قاعدته،
أوليس الحكماء السبعة،
من أرسوا أسسه ؟
وانظر للإفريز المعجب،
يتوهج بنحاس،
يسطع كالنجم الأشهب.
اعل السور،
تمش عليه،
ومد الطرف إلى الأفق الأرحب.
ثلث للبستان،
وثلث آخر للمرج،
وثلث لأوروك،
الساحة والمعبد والملعب،
انظر والمس قاعدة السور،
تعجب!
الشيوخ (يتجهون نحو جلجاميش وأورشنابي في غضب) :
السور تهدم،
والمعبد والبرج تحطم،
والمرج هشيم ورماد،
والساحة والملعب مأتم.
انقضت كيش،
على أوروك،
فغرقت في بحر الدم.
والمجد الكاذب،
شب حريق فيه،
فلم يبق سوى،
الطلل الأبكم.
الراوية :
واللوح المشهور؟
الشيوخ :
تفتت والنقش تهشم.
الراوية :
لكن الملحمة تقول:
بأن البطل العائد ...
الشيوخ :
أعلم، أعلم.
لم يبق من المجد الغابر،
حتى الاسم.
الراوية :
والحلم الرائع؟
الشيوخ :
سقط الحلم.
صوت :
سقط على رأسي،
في جوف الليل.
صوت :
وقتل الزوجة والطفل.
صوت :
صرع الكرمة والحقل،
واغتال الشجرة والظل.
صوت :
وتركنا الدار إلى النار،
وضنك الحال إلى الذل.
الراوية :
جلجاميش، هل هذا حق؟
أأصدق قول الشاعر،
في ملحمتك،
أم هذا القول هو الصدق؟
الشيوخ :
فرق أزلي،
بين الشعر وبين الشعب،
إن كنت تريد الحق،
اسمعنا، واسمع جلجاميش،
واحكم أيهما الكذب،
وأيهما الصدق؟
الكلمة ينقشها القلم،
أم الكلمة تنطقها الشفة من القلب؟
الراوية :
جلجاميش، أرجوك تكلم. (جلجاميش يلوذ بالصمت.)
الراوية :
جئنا نقرأ ملحمتك؛
كي نفهم.
الشيوخ :
بل لنحاكم من سمته البطل ونحكم. (جلجاميش صمت.)
أورشنابي :
لن يتكلم،
إني أنظر في عينيه وأفهم.
الراوية (مخاطبا جلجاميش) :
أشعر أنك تتألم،
ألأن الحلم تحطم،
تقف هناك كتمثال أبكم؟
ألأن النبتة ضاعت،
وانكشف الوهم؟
أرجوك تكلم،
ننتظر الكلمة منك لنفهم.
الشيوخ :
بل لنحاكم
ثم يكون الحكم.
الراوية :
من سيحاكمه؟
أنتم؟ نحن؟
الشيوخ :
سنحاكمه،
ونحاكم أنفسنا معه،
باسم العدل،
وباسم الظلم،
باسم الأرملة الثكلى،
والشيخ العاجز،
والأب والأم.
أورشنابي (ضاحكا) :
ما زال الحالم يحلم،
يملس أحجار السور،
كتمثال أبكم،
يتجول بين خرائب أوروك،
شبحا أضناه الهم،
كيف تكلمه؟
كيف سيسمع أو يفهم؟
الراوية :
حقا، ما زال الحالم يحلم.
أورشنابي :
هذا ما قلت الآن،
وأخشى ما أخشاه،
لن يستيقظ أيضا من هذا الحلم.
الراوية :
نحن سنحلم معكم،
ونعيد الحلم.
أورشنابي :
أأعود إلى بحر الموت؟
الراوية :
ولأوتنابشتيم الخالد،
في واحته النائمة،
على صدر الصمت .
سيدوري :
وأنا للحانة والنشوة والكأس؟
إنكيدو :
وأنا للمرض ولعنة عشتار،
والموت الظالم والبؤس؟
شمخات :
وأنا للحب الصامت واليأس؟
الراوية :
سنرجع للملحمة،
نعيد قراءتها معكم،
نتعلم منها العبرة والدرس.
الشيوخ :
ونعود لأوروك،
ونرفع عنها الظلم،
ونحاكم أنفسنا معكم،
ونحاكمكم.
الراوية :
سنرى لمن سيكون الحكم،
هيا نبدأ رحلتنا،
يا إنكيدو، يا سيدوري، يا أروشنابي، يا شمخات، أيتها الأسماء الأخرى،
عودوا للملحمة الكبرى،
هيا، هيا.
الجميع :
نحن على استعداد،
حتى أرواح الموتى،
حتى الآلهة،
ستحضر،
وتشاركنا في نطق الحكم.
الراوية :
هيا يا جلجاميش،
يا من تحلم بالمجد الرائع،
وخلود الاسم،
دعنا نحلم معك قليلا،
ثم نفيق من الحلم.
صوت :
هو الذي رأى.
صوت آخر :
هو الذي طغى.
أورشنابي :
جلجاميش،
جلجاميش،
ماذا يفعل؟
الشيوخ :
جلجاميش يحلم،
بعد قليل سيفيق البطل من الحلم.
أورشنابي :
أسمع صوت بكاء،
كسقوط المطر على الحجر الصلد،
عد يا جلجاميش عد. (تسمع أصوات نشيج مكتوم وبكاء يختلط فيها صوت شمخات وجلجاميش.)
الشيوخ :
دعه يحلم بخلود الذكر،
إن كان بكاء ما أسمع،
فالدمع يطهر. (جلجاميش يسمع صوت بكائه المستمر، بينما ترتفع أصوات متقاطعة.)
صوت :
هو الذي رأى.
صوت :
هو الذي طغى.
الراوية :
لا توقظه من الحلم،
ولا تتعجل إصدار الحكم،
هيا يا جلجاميش،
يا إنكيدو، يا شمخات،
يا سيدوري، يا أورشنابي،
يا ننسون، ويا أوتنابشتيم الخالد،
يا شمش، ويا عشتار.
أصوات متداخلة :
هو الذي رأى، هو الذي طغى، هو الذي رأى، هو الذي طغى.
صوت جلجاميش (مع قرع طبول عالية) :
ضاعت مني النبتة،
ضاع الأمل وتاه،
فلمن أضنيت يدي؟
لماذا نزف القلب دماه؟
آه! لم أكسب شيئا،
وأضعت العمر سدى. (الجميع ينسحبون على صوت الطبول.)
1990م
الحكماء السبعة
المشهد الأول (المؤرخ يقلب في الأوراق، يجمع الوثائق ويتحقق من الحقائق التي اختلطت بالغرائب والخرافات والأساطير وحكايات الخوارق، وعندما يدلهم الأفق وتأخذه الحيرة من كل سبيل يرفع صوته: يا أشباح الزمن الماضي، من عمق القرن السادس قبل الميلاد، صوت من زمن المحنة يدعوكم فاستمعوا له، شبح يتشبث بالصدق وبالحكمة في عصر الكذب الشائن والغدر الخائن، يرجو أن يتحاور معكم، أن يسألكم وتجيبوه، تزدحم الأشباح وترتفع الأصوات، السبعة صاروا سبعة عشر وأكثر، والحيرة تزداد عليه فيهتف):
المؤرخ :
عشتم مثلي في زمن المحنة، والمحنة عاناها الشعر وقاستها الكلمة، في العقود الأولى من قرنكم السادس كانت أصوات الشعراء ما تزال عالية شجية: سافو وألكايوس من جزيرة لسبوس، سيمونيدس وميمنيرموس من أيونيا، صولون الشاعر والمشرع الشهير من أثينا. لكن لا بد أنهم قد ماتوا جميعا قبل انتصاف القرن ولم يخلفهم أحد، ولا بد أن الجيل الذي تلاهم قد خبت فيه نار الشعر وخرست قيثاره، حتى حلت سنة 530 فانطلقت شرارته المقدسة من جديد، هذا الجيل المجدب هو الذي ازدهرت فيه حكمتكم، حكمتكم التي لم تكن شعرا ولا فلسفة، بل تجسيدا للفطنة والخبرة والتجربة العملية.
الحكماء :
تتسرع في توجيه التهمة وتضن علينا بالحكمة، مع أنا منذ القدم نسمى الحكماء.
المؤرخ :
معذرة، أنا لا أتهم ولا أدافع، بل أتلمس آثار الحكمة أو أبكي فوق الأطلال، ما ذنبي إذا كان عصري هو عصر سقوط القيم وزمني ضاعت فيه الحكمة والعقل؟ ما ذنبي إن كانت كتب التاريخ تمجدكم أحيانا أو تبخل في أحيان أخرى فتسميكم الرجال الأذكياء؟ هلا أجبتم على سؤالي؟
الحكماء :
لا ندري كيف نرد عليك، ربما لأن الواقع العملي في أيامنا بدأ يفرض سلطانه فازدرى الشعر، واستصغر شأن الكلمة، وأخذ يولي وجهه شطر حقائق الحياة.
المؤرخ :
ربي، هذا ما نلقاه الآن.
الحكماء :
أتدين زمانك وزماني؟
المؤرخ :
لا لا، بل أهمس من عجز لساني وجناني، أكمل قولك.
الحكماء :
أو لأن العاطفة الدينية شطت في التحليق حتى تاهت وسقطت في الهاوية العميقة التي تستعصي على العبارة والخطاب.
المؤرخ :
مهما يكن الأمر فقد راجت حكمتكم.
الحكماء :
حكمتنا؟ ها أنت إلى الحق تعود؟ لقد تناقلتها الأفواه فلم تكن بحاجة إلى التدوين، اللهم إلا على أحجار «أوستيا» أو على جدران معبد «دلفي»؛ ولهذا ليس عجيبا أن ينسبها الإغريق إلى الإله أبولو أو إلى جني بحري حكيم كانوا يدعونه عجوز البحر الإلهي.
المؤرخ :
معنى هذا أنها وجدت قبل وجودكم؟ انتظروا، لقد وردت في اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجاميش البابلية سيرة سبعة حكماء أسسوا مدينة أوروك، كما تلقى حكماء الهند السبعة الذين يسمون «الريشي» الحكمة وفن الغناء من الآلهة، ووضع شاعركم هوميروس مجلس حكماء سبعة تحت تصرف أجاممنون وبرياموس، حكمتكم أقدم مما أتصور، أقدم مما كنت أقدر.
الحكماء :
ولكن لم يتأكد صدقها إلا بنسبتها إلينا، نحن الذين كافحنا وأسسنا وتجولنا فوق الأرض الفانية بدمنا ولحمنا.
المؤرخ :
ورفعتم لمصاف الأبطال ونسجت حولكم الحكايات والخرافات.
الحكماء :
هل يقع الذنب علينا؟ كنا بشرا مثل البشر، صمدنا لأعاصير الزمن القلقة، أعلينا بناء حياتنا وحياة شعوبنا. أتلومنا لأن الناس جللت رءوسنا بغار الحكمة الذي بخلت به على رءوس الشعراء، أم لأن الأفكار العظيمة لا يصدقها الناس حتى ينسبوها إلى عظيم حققها في الواقع، أم لأن الحكايات والخرافات والأساطير عادة ما تغزل خيوطها بعد موت أبطالها؟ أولا يكفينا أن حكمتنا راجت؟!
المؤرخ :
بل ما زالت رائجة وعلى كل لسان، انتشرت بين الأمم وفي مختلف الأزمان.
الحكماء :
حكمتنا راجت في قرن سكتت فيه أوتار الشعر.
المؤرخ :
وبدأت تزدهر شجرة الفلسفة.
الحكماء :
الفلسفة؟
المؤرخ :
صفة أخرى للحكمة، ولحب الحكمة، كان من الممكن ألا تبدأ لولاكم، كان من الممكن ألا تزدهر الشجرة لولا البذرة.
الحكماء :
والبذرة ألقيناها في التربة، هل ما زلت تضن علينا؟
المؤرخ :
لست أضن عليكم بالحكمة، لست بخيلا باسم الحكماء، لكن التاريخ يحيرني وتحيرني الأسماء، حتى العدد اختلفت فيه الآراء.
الحكماء :
هذا ليس جديدا، من منتصف القرن السادس قالوا سبعة. زادوا العدد فقالوا سبعة عشر حكيما. ليس جديدا ما نسمعه منك.
المؤرخ :
بل ما تشهد به الوثائق أو تشهد عليه. مع ذلك تتردد فيها أربعة أسماء: صولون المشرع.
صولون :
والشاعر أيضا، لا تنس.
المؤرخ :
كيف لأحد أن ينساك؟ الشك يحيط بأخبار الحكماء الستة، أما أنت فرأس الجبل يطل على تاريخ اليونان.
صولون :
رأس الجبل؟ كلامك هذا يضحكني، مع أن الكاهن العجوز في مصر قال لي: يا صولون! يا صولون! ستبقون على الدوام أطفالا أيها الإغريق؛ إذ لا يوجد شيخ إغريقي.
المؤرخ :
تلك رواية أفلاطون، لكن حفظ التاريخ لنا أشعارا منك.
صولون :
هل تذكرون مرثيتي التي بدأتها بهذه السطور:
الآن عرفت الأمر،
والألم عميق في أعماق الصدر،
وأنا أشهد أكبر أبناء أيونيا ينهار ويدحر.
المؤرخ :
هكذا بدأتها بعد أن اشتد النزاع في الدولة، واستعبدت الأقلية أغلبية المواطنين، وثار الشعب على الأغنياء والأعيان، احتدم الصراع بينهما وطال، وانتخبوك رئيسا وقاضيا يفصل بينهم، وكلفوك بتدبير نظامهم ووضع دستورهم. كنت حكيما ورحيما، لم تؤثر أي الحزبين على الآخر، فوقفت في صفهما ونصحتهما بالصلح ووقف الصراع. كان الكل يجلك ويقدر موهبتك، مع أنك لم تكن أغناهم أو أرفعهم في المنصب والجاه، ورحت تحذر الأغنياء من الترف والتطرف، وتنصحهم بالتواضع والاعتدال، وتلقي الذنب عليهم وعلى تكبرهم وجشعهم إلى المال فيما حاق بالمدينة من خراب. اسمع شهادة حكيم آخر بعدك: حرر صولون الشعب في الحاضر والمستقبل عندما حرم اقتراض المال في مقابل رهن الجسد، ووضع القوانين وأصدر تشريعا بالإعفاء من الديون العامة والخاصة أو بنفض الأعباء.
المؤرخ :
ويذكرنا هذا باسم آخر.
بيتاكوس :
بيتاكوس من ميتيلينه، سموني الطاغية وكنت رحيما بالأوغاد.
صولون :
طاغية ورحيم، حقا ما أغرب هذا!
بيتاكوس :
وما وجه الغرابة يا صولون؟ أنت نفسك سمعت عني كما سمعت كلمتي.
صولون :
لما بلغني قولك: من الصعب أن يكون المرء طيبا. أعجبتني حكمتك وقلت: ومن الصعب أن يكون جميلا.
بيتاكوس :
وهل عرفت متى قلتها أو كيف؟ لقد رأيت أعدائي يتكاثرون، ولاحظت الكراهية في عيون الشعب الذي أنصفته وكافحت لكي أرفعه من وهدة بؤسه، وفي ضمائر الأغنياء والنبلاء الذين قلمت مخالبهم من أجله، ونفيت بعضهم من المدينة فأخذوا يهددونني ويتآمرون على قتلي، واشتد بي اليأس فذهبت إلى معبد الإله وتوسلت أمام المذبح أن يحررني من السلطة.
المؤرخ :
نعم نعم، أدركت صعوبة أن يكون الإنسان طيبا في عالم شرير.
أدركت أن الحاكم مهما فعل يظل كريها مكروها؛ فالأغنياء كرهوك لأنك وقفت بجانب الشعب وانحدرت من صلبه، والشعب كرهك لأنك كنت فقيرا مثله وجلست على كرسي الحكم.
وردد الجميع أغنية تسخر منك،
اطحني أيتها الطاحونة اطحني؛
فقد كان بيتاكوس نفسه يطحن،
بيتاكوس الملك في ميتيلينه العظيمة.
طاليس :
سمعت الأغنية بنفسي لما زرت جزيرة لسبوس وتوقفت بقرية أريسوس.
بيتاكوس :
هل سمعت كذلك أناشيد الحقد والهجاء التي أطلقها الشاعر ألكايوس وعصابته؟ أنا لم أكرهه ولم أكره شعره، تمنيت أن يضع يده في يدي ويساعدني مع غيره من النبلاء على النهوض بالمدينة، لكنهم أنكروا عدلي وشجاعتي التي اعترف بها الإغريق في كل مكان، لم يغتفروا لي أبدا أنني تزوجت امرأة من طبقتهم هي ابنة دراكون ومن نسل الأتريديين، وأخذ الشاعر الحقود يعيرني بقدمي المفلطحة التي كنت أجرها بصعوبة، ويصفني بالدعي والمتسخ والمبطون، بل أشاع أنني أوفر ضوء المصباح وسماني ملتهم الظلمات.
المؤرخ :
ولهذا نفيته عن المدينة ولم ينقطع هجاؤه ولا دعواته للآلهة الأقوياء بأن يخلصوه من محنة المنفى ومرارته، ويطلقوا ربات القصاص عليك، ويعينوه وعصبته على قتلك بالسيف وتحرير الشعب من آلامه ومخاوفه، زاعمين أنك حنثت بالقسم الذي قطعته على نفسك وابتلعت المدينة في جوفك.
بيتاكوس :
ومع أني عفوت عنهم بعد القبض عليهم، فلم يرحمني التاريخ من وصمة الطغيان.
المؤرخ :
ولا رحمك المؤرخون؛ فاللقب ارتبط باسمك في كل المأثورات. أما «بياس» القاضي من آسيا الصغرى فقد سخا عليه الزمن بلقب الحكيم.
بياس :
معظم الناس أشرار؛ هذا ما قلته. لما حاصر إلياتيس ملك الليديين بريينه أصدرت الأمر بأن يعلف بغلان إلى حد التخمة ويساقا إلى معسكر الأعداء، وفزع الملك حين رآهما وعرف أن لدينا من مخزون الغلة ما يكفي حتى الحيوانات؛ ولهذا بعث إلينا رسولا يطلب السلم والسلام.
المؤرخ :
وكيف لفظت الأنفاس؟
بياس :
اسمع يا ولدي، لما شخت وطعنت بي السن استدعيت للشهادة أمام المحكمة، وتكلمت وأبرأت المظلوم من التهمة، وانطلق محامي الخصم وأخذ يدافع عنه فسئمت، وأملت الرأس على حجر حفيدي حتى نمت، هل بلغك يا ولدي ما فعلوه بالمظلوم؟
المؤرخ :
برأه القضاة من التهمة، ثم وجدوك ميتا على حجر حفيدك.
بياس :
حمدا للآلهة فقد صدق كذلك ما قلته: إن أردت أن تقيم في مدينة فكن طيبا مع جميع المواطنين.
المؤرخ :
كلمة بليغة من رجل خلدته البلاغة، والاسم الرابع هو طاليس الملطي.
طاليس :
أول من نقى الحكمة من سحب الأسطورة وضباب الغيب، أول من سأل سؤال العقل عن المبدأ والأصل وقال ...
المؤرخ :
أصل جميع الأشياء هو الماء، بالآلهة امتلأت كل الأشياء.
طاليس :
وكذلك قلت: اعرف نفسك.
المؤرخ :
أأنت القائل أم نقشت قبلك فوق جدار المعبد في دلفي؟ ما أعمقها كلمة! لكن تتنازعها الأسماء.
بيرياندر :
أي جحود هذا؟ كيف نسيتم اسمي؟
الحكماء :
مهلا يا بيرياندر، هل ينسى الطاغية القاسي من كورنثه؟ من بلغ الذروة في القسوة ولهذا احتاج إلى الحرس الخاص؟
المؤرخ :
وكان قوامه ثلاثمائة من حملة الدروع والحراب.
بيرياندر :
أتذكرون صرامتي وتنسون عدلي؟ لقد حرمت على المواطنين أن يكون لهم عبيد، نهيتهم عن تبديد الوقت في اللهو والفراغ وأوجدت لكل منهم عملا، أعلنت الحرب على الترف، وعاقبت المتسكعين في الأسواق. لم أثقل على الناس بالضرائب، واكتفيت بما نحصله من السوق والميناء، وزعت أراضي النبلاء على الفقراء، لم أتخط حدود العدل ولم أتعد على إنسان، وكرهت الشر وألقيت القوادات بقاع البحر! أنسيتم كيف صالحت بين أهل ميتيلينه (تحت قيادة بيتاكوس) وأهل أثينا (تحت زعامة فرينون) عندما تصارعا على ملكية «سيجايون» ففصلت بينهم بالحق، واحتفظ كل منهم بما كان يملكه؟ لقد ازدهرت في عهدي التجارة والحضارة، يكفي أن الشاعر «أريون» كان صديقي!
المؤرخ :
أريون الميثميني من أهالي لسبوس؟ من تمت في عهدك معجزته؟ أشجى الأصوات غناء فوق القيثار وأول من أنشد شعر الديثيرامب وسماه وقدم جوقته فوق المسرح في كورنثه؟ لا لن ينساك التاريخ ولن ينساه، لن ينسى معجزته التي رواها علينا أبو التاريخ إذ استقل مركبا كان عليها قراصنة ولصوص تآمروا عليه عندما ظنوه يخفي الكنوز، مع أنه لم يكن يملك إلا قيثاره! وانطلق يغني عل غناء الشاعر يسكت فيهم نزعات الشر. جاء الدلفين - صديق الإنسان - على صوت غنائه، وسرعان ما ألقى الشاعر بنفسه على ظهره فحمله إلى البر ورسا به على رأس تانياروس.
لا لم ينس التاريخ، وكذلك يذكر قولك: كل شيء يرجع إلى المران. لكن سؤالا يحضرني الآن.
خيلون :
قبل سؤالك، هل يمكن أن تهمل اسمي؟ أم تهمل تحذيري: إن ضمنت غيرك حلت بك المصائب، أولم يبن أهالي أسبرطة لي المعبد في الطريق من المغزل إلى أبواب المدينة؟
المؤرخ :
وهناك قدسوك ورفعوا ذكر البطل الخالد، لكني أرجع لسؤالي: لم آثرتم هذا الكلم الموجز؟
الحكماء :
من يستصغر شأن الكلمة يقتصد في استعمالها، كانت أيامنا توجب العمل وحسم القرار؛ ولهذا بقيت كلماتنا القليلة قواعد لهداية الحياة، تحذيرات من الوقوع في الأوهام الساذجة والتسرع في الثقة بالناس، نصائح باللجوء إلى التحفظ والحرص والاعتدال والتزام الحد.
المؤرخ :
لكن بالغتم في الإيجاز، يكفي أن يروي الشاعر «ألكايوس» هذه الكلمة التي يقولها على لسان «أريستوداموس» الذي ضم إليكم في العصور المتأخرة: «الرجل - المال» وأن يضيف الشاعر «بندار» وكأنه يشرحها: قال هذا عندما اختفى أصدقاؤه مع اختفاء أملاكه. يكفي أيضا أن تقرأ كلمات أخرى توحي بتشكككم في الإنسان ورؤيتكم للوجه الشائه خلف قناع البهتان: «لا تتطرف في شيء»، «صعب على المرء أن يكون طيبا»، «الحد هو الأفضل»، «أغلب الناس أشرار».
الحكماء :
هل آمنت بما قلناه؟ هل صدقت الحكماء؟
المؤرخ :
بل صدقت الأيام الصعبة والأرزاء، مع ذلك فالحكمة أوسع من هذا.
الحكماء :
لم تكن الحكمة في أيام المحنة شيئا يختص به الشعراء أو الحكماء، كانت ملك الشعب العامل والفقراء؛ فالنجار البارع يبني سقفا يصمد للعاصفة فيصبح أحد الحكماء، وكذلك شأن الحوذي أو الخباز أو الملاح أو الشاعر والفنان، هل ما زلت تسيئ الظن، توازن بين الآراء؟
المؤرخ :
الحكمة والحيرة صنوان.
الحكماء :
فانظر في الأوراق وراجع، وابدأ قصتنا بالقول المحكم والكلم الرائع، قد يقطع ذلك شكك ويزيل الحيرة.
المؤرخ :
أو ينفع جيلا قد بيعت فيه الكلمة بفتات زائل، والحكمة صرعت بسهام الخسة والغدر القاتل.
الحكماء :
ولهذا تبقى الحكمة.
المؤرخ :
في جوف الكتب المنسية.
الحكماء :
أو في أعماق القلب، ابدأ يا ولدي، أسمع جيلا يفتقر لحب الكلمة.
المؤرخ :
أو يفتقر إلى الحب.
المشهد الثاني
المؤرخ :
آه! تتضارب كل الأقوال وتتناقض كل الآراء، الأسماء مختلف عليها من كاتب إلى آخر، والقول الواحد قد ينسب إلى أكثر من واحد.
طاليس :
اعرف نفسك؛ هذا ما قلت.
المؤرخ :
بل هذا ما تتصوره أنت وبعض الكتاب، هل تعلم أن «تيوفراسط» يرجح أن يكون مثلا شعبيا من قديم الزمان، وأن بعض المؤرخين يرجعه إلى زميلك خيلون، والبعض الآخر يأتي به على لسان خصي مغمور كان من حراس قدس الأقداس في معبد دلفي؟ بل إن أرسطو في محاورته عن الفلسفة ينسبها إلى عرافة هذا المعبد، وكل هذا يؤكد أنها كانت قد نقشت قبلك وقبل خيلون الأسبرطي على معبد دلفي قبل أن يدعيها كلاكما لنفسه.
خيلون :
أنا لم أدع شيئا، بل قدمت النذر ووفيت العهد؛ فبعد أن وصلت إلى دلفي وضحيت وأحرقت البخور أمرت بأن تحفر هذه الحكم على عمود المعبد: اعرف نفسك! لا تتطرف في شيء! سبب المصائب أن تضمن غيرك!
طاليس :
حتى هذه الحكم تقال على لسان غيرك وغيري.
المؤرخ :
فلنقرأ ما اتفق عليه الإجماع، في أقدم قائمة بالأسماء وبالأقوال.
طاليس :
قل وسيهتف كل منا باسمه!
المؤرخ :
اعرف نفسك!
طاليس :
طاليس!
المؤرخ :
لا تتطرف في شيء!
صولون :
صولون!
المؤرخ :
إن تضمن غيرك فتوقع كل مصيبة!
خيلون :
خيلون!
المؤرخ :
اعرف فضل اللحظة.
بيتاكوس :
بيتاكوس، والأفضل من هذا: اللحظة إن واتتك فلا تتركها تفلت منك!
المؤرخ :
معظم الناس أشرار.
بياس :
بياس، عن تجربة، وبحق زيوس، ما قلت!
المؤرخ :
كل شيء يرجع للمران.
بيرياندر :
بيرياندر، عن تجربة أيضا، والآلهة شهود!
المؤرخ :
تبقي حكمة كل الحكمة، قائلها المجهول يلخص فيها ...
كليوبولوس :
كليوبولوس، هذا هو كليوبوليس! كيف تجاهل هذا الزمن الجاحد ابن أوجاروس، من لندوس فوق جزيرة رودوس؟ كيف تناسى من كتب النقش على قبر ميداس الملك الأسطوري؟
المؤرخ :
ميداس؟ من أعطاه ديونيزيوس أن يتحول ما يلمسه ذهبا.
صولون :
حتى المطعم والمشرب، مسكين يا ميداس!
كليوبوليس :
كانت فوق القبر المشهور فتاة أخذت شكل الهولى؛ ولهذا قلت: فتاة من البرونز أنا وأرقد على قبر ميداس، ما دام الماء يسيل، والشجر يخضر، والقمر يطلع ويضيئ، والشمس تنير الكون، ما دامت الأنهار تتدفق، وموج البحر يوشوش للشاطئ، فسأبقى في هذا الموضع، فوق التل المرتفع على المنطقة المنكوبة أعلن للعابر ولكل مسافر في هذا الموضع يرقد ميداس تحت الأرض.
المؤرخ :
لم ينس التاريخ كذلك أشعارك، لم تتسرب ألغازك من كفيه.
صولون :
لكن تبقى حكمته أخلد ما قال.
كليوبوليس :
قلت من الحكم كثيرا، أية واحدة تقصد؟
المؤرخ :
الحد هو الأفضل.
الحكماء :
هي حكمتنا، كنز العقل الإغريقي وآية وجدانه، كلمته للعالم أجمع.
المؤرخ :
ولهذا ليس عجيبا أن يلتقط الحكماء الكلمة، من كل الأجناس وكل الأديان يقول العقلاء فلا يسمع قول: لا تتطرف! لا تشتط! الزم حدك، واعرف أنك إنسان.
الحكماء :
إنسان فان، لست إلها، فتذكر هذا واترك سيف الطغيان، يسقط من يدك فلست سوى بشر فان!
المؤرخ :
حقا! هذا شيء أكدتموه أيها الحكماء وأجمعتم عليه، وعندما اجتمعتم كما يقول القدماء.
الحكماء :
اجتمعنا؟ أجل أجل، عند الملك كرويزوس.
المؤرخ :
أغنى ملك في عصره.
الحكماء :
وتكلم صولون فقال ...
صولون :
أنا؟ للملك كرويزوس، ذاكرتي ضعفت يا ولدي.
المؤرخ :
سأذكرك فأنصت.
المشهد الثالث
المؤرخ :
كانت أعينكم تلتفت إلى الشرق الساحر باستمرار، الشرق الغامض ذي القوة والترف الباذخ والجبروت.
الحكماء :
لكننا ذهبنا إليه لنتعلم أيضا.
المؤرخ :
وتعلمتم الكثير، وإن كنا نفتقد الأدلة والأسانيد.
طاليس :
أنا مثلا سافرت إلى مصر.
المؤرخ :
وتعلمت الرياضة وجلبت الهندسة إلى الإغريق، أما أنت.
صولون :
أنا طوفت بآسيا لأشاهد هذا العالم، وحديثي مع كاهن مصر الشيخ حديث مشهور، كم يعجبني حين أفكر فيه الآن!
الحكماء :
أنا ما زلنا أطفالا؟ رغم مرور قرون وقرون؟!
صولون :
ولماذا الغضب وقد صدق الشيخ؟
الحكماء :
أم سخر كعادة أبناء النيل؟
صولون :
بل صدق وحق زيوس، وامتدح الإغريق مديحا أتمنى لو كانوا أهلا له، أطفال نحن وفي كل منا طفل.
الحكماء :
وتريد من الحكماء السبعة أن يصدقوه؟ أنت يا صولون؟
صولون :
من قال بأن الحكمة تعني العجز أو الشيخوخة؟ من ينكر حكمة الطفولة وطفولة الحكمة؟ أليست حكمتنا في بساطتنا، وبساطتنا هي التي جعلتنا نصمد لتحدي الملك الجبار ونواجه قوته وغناه الفاحش بالبراعة والقناعة والحكمة؟
المؤرخ :
معذرة يا صولون، ولقد أدهشته بالبراءة الحكيمة أو بالحكمة البريئة وتعجب مما قلت وغضب وثار. نريد الآن أن نعرف ماذا قلت لهذا الملك وماذا قال، كيف التقيت به وأين كان اللقاء.
صولون :
لم أره وحدي، طلب لقاء الحكماء السبعة.
المؤرخ :
وذهبتم لزيارته، وذهلتم لما رأت العين كنوزه.
الحكماء :
ورثينا له.
المؤرخ :
لأغنى ملك في الأرض؟
الحكماء :
ورفضنا أن يوصف هذا الملك بأسعد إنسان، فليتكلم عنا صولون.
المؤرخ :
أرجوك، تكلم.
صولون :
لما فرغ كرويزوس من إخضاع آسيا الصغرى بأكملها وضمها إلى مملكة الليديين، زحفت حشود الإغريق الحكماء إلى عاصمة ملكه المزدهرة سارديس، وزحفت كذلك معهم، كنت قد ذهبت إلى مصر التي يحكمها أمازيس وشاهدت العالم وتجولت فيه عشر سنوات. واستقبلني الملك في قصره مع بقية إخواني فأحسن الاستقبال. وفي اليوم الثالث لزيارتنا أمر الملك خدمه وعبيده أن يأخذونا إلى دهاليزه ومخازنه لنتفرج على التحف والكنوز التي أودعها فيها، ثم رجع بنا الخدم والعبيد إلى قاعة العرش حيث كان الملك يجلس في أبهته محاطا بأعوانه وقواده وأعيان مملكته. لم يكد يراني حتى هتف صائحا: «أيها الضيف من أثينا، وأنتم أيها الضيوف! وصلتنا عنكم وعن حكمتكم الأخبار، وسمعنا عنك يا صولون وعن أسفارك التي قمت بها حبا في الحكمة، والآن تحركني الرغبة في أن أسالك: هل رأيت في أسفارك أحدا يمكن أن يوصف بأنه أسعد إنسان؟»
لم يخف علي أن الملك وجه إلي هذا السؤال وفي نيته أن أقول أنت أيها الملك الغني العظيم أسعد إنسان. لكني لم أتملقه بل صارحته بحقيقة رأيي: «أيها الملك! إنه تيلوس الأثيني!» تعجب الملك من قولي وأسرع بالسؤال: «وكيف حكمت بأن تيلوس هذا هو أسعد إنسان؟» قلت: «عدة أسباب يا مولاي: أولها أن كان لتيلوس هذا عدة أبناء تحلوا بالذكاء والصلاح والجمال، ولقد سعدت عيناه برؤية أبنائه في حياته. والثاني أن الرجل بعد أن تقدم به العمر وعاش أطيب حياة ممكنة مات كذلك في النهاية أروع ميتة ممكنة؛ فقد شارك مواطنيه الأثينيين في الحرب التي اشتبكوا فيها مع جيرانهم في إيلويزيس، وطارد الأعداء الذين فروا مهزومين، ومات أثناء هذه المطاردة أجل ميتة، ودفنه الأثينيون حيث سقط صريعا على نفقة الدولة، وكرموه وأقاموا له طقوس التوديع والإجلال.»
استمع الملك إلى قصة تيلوس وهو يعض على شفتيه وأسنانه، سكت قليلا ثم غالب غيظه وسأل: «ومن هو أسعد إنسان رأيته بعد تيلوس؟» قلت: «هما اثنان أيها الملك العظيم.» قال في لهفة: «احك علي قصتهما يا صولون.» قلت: هما كليوبيس وبيتون. كانا من حيث المولد من أجروس؛ ولهذا وجدا ما يكفيهما للحياة، وكان كلاهما حسن الصورة قوي الجسد، وحصلا على جوائز كثيرة في المسابقات الرياضية، تسألني يا مولاي أن أحكي قصتهما؟ إنهما سيغنيانني عن هذا ويرويان القصة بنفسهما.
كليوبس وبيتون :
كان أهالي أرجوس يحتفلون بعيد هيرا ربة السماء وسيدة الآلهة وشقيقة زيوس وزوجته، وكان علينا أن نذهب بأمنا المريضة إلى معبد الآلهة للتبرك وزيارة قدس القداس، لكن الثيران التي تجر العربة التي ستستقلها لم تكن قد رجعت بعد من الحقل، وضاق الوقت عن الانتظار فوضعنا رقابنا في النير وجررنا العربة التي حملتها إلى الاحتفال مسافة خمسة وأربعين فرسخا حتى بلغنا المعبد، ورآنا الناس على هذه الحال فهللوا، لكن الأنفاس تخلت عنا فختمنا حياتنا الفانية أجمل ختام، وأثبت الإله بموتنا أن من الأفضل للإنسان أن يموت على أن يحيا دون وفاء أو إحسان؛ فقد التف أهالي أرجوس حولنا وأثنوا على قوتنا وشبابنا وراحوا يحيون أمنا العجوز ويهنئونها بابنيها. أما الأم التي أفعم فؤادها الفرح فقد وقفت أمام تمثال الالهة وأخذت تبتهل إليها أن يلقى ولداها أفضل ما يمكن أن يلقاه الإنسان. وبعد أن أدت الصلاة تقدمنا نحن وضحينا للربة وأكلنا مع الآكلين، ثم أرحنا أجسادنا المنهكة على أرض المعبد ولم نقم من رقدتنا أبدا. وأقام لنا الأرجيون تمثالين نصبوهما بعد ذلك في معبد دلفي ليضمنا لنا الخلود .
صولون :
استمع الملك إلي في هدوء ثم قال:
كرويزوس :
أيها الضيف القادم من أثينا، أهكذا تبدو سعادتي في نظرك هباء ولا أستحق أن تسوي بيني وبين عامة الناس؟!
عرفت مقصده فأجبت في خشوع: مولاي الملك كرويزوس، تسألني عن حياة الإنسان ومصيره. وأنا لا أعلم إلا أن أحكام الآلهة غامضة وأن مقاديرهم مظلمة الأسرار. هب أن الإنسان يعيش سبعين سنة - وهي الحد الذي أضعه لعمر البشر على الأرض - فكم عليه أن يرى في حياته مما لم يكن يريد رؤيته، وكم يتحمل من آلام ويقاسي؟ وإذا أكمل السبعين، فقد عاش خمسة وعشرين ألف يوم ومائتين، هذا دون حساب للشهر الزائد، فإذا أضفت شهرا لكل سنتين، حتى تتواءم فصول السنة مع بعضها، فلقد قدرت على مدى السبعين سنة خمسة وثلاثين شهرا زائدا، ومن الأيام على قدر السنوات السبعين، كانت ستة وعشرين ألفا ومائتين وخمسين يوما، ليس فيها يوم واحد يشبه سواه. هكذا ترى يا كرويزوس أن حياة الإنسان مصادفة بحتة - وها أنت ذا ملك غني واسع الثراء، تتحكم في بشر لا يحصيهم عد، لكن سؤالك إن كنت سعيدا لا أملك عنه الآن جوابا، لا أملك هذا حتى أسمع أنك أنهيت حياتك خير نهاية؛ فليس الغني الفاحش الغنى بأسعد ممن لا يجد سوى قوت يومه، إلا أن يواتيه الحظ فينتهي أجله وهو متمتع بأملاكه وجميع خيراته، ما أكثر الأغنياء الأشقياء وما أكثر الراضين بنصيبهم القليل! فالغني الذي يشعر رغم غناه أنه تعس وشقي يتقدم خطوتين على المغتبط بحظه الطيب، أما هذا فيتقدم على الغني خطوات وخطوات، والأول يمكنه أن يحقق الرغبة التي تعتمل في نفسه، ويتحمل الأذى الذي يصيبه، أما الثاني فلا يسعه أن يطمع فيما يطمع فيه الأول أو يتحمل ما يتحمل، فقدره الطيب قد أغناه عن الطمع ووقاه الأذى والضرر. أضف إلى هذا أنه لا يشكو ضعفا ولا علة ولا ألما، وأن الحظ باركه بالبنين وجمله بالجمال، فإذا حسنت خاتمته وأنهى حياته نهاية جميلة، فهو الذي تبحث عنه أيها الملك ويستحق أن يوصف بأنه سعيد، وعلينا أن نحترس فلا نقول عنه أثناء حياته وقبل موته إنه سعيد، بل يجب أن نكتفي بقولنا إنه طيب الحظ. من المستحيل على الإنسان الواحد أن يملك كل شيء، ومن المتعذر على أي بلد أن يكفي نفسه من كل شيء، فلديه شيء وعليه أن يحصل من بلد آخر على شيء، وكلما زاد نصيبه مما لديه كان هذا أفضل، ويصدق الأمر نفسه على الفرد الواحد؛ فهو لا يكفي نفسه بنفسه، وهو يملك شيئا ويفتقر إلى شيء آخر. أما من كان لديه ما يكفيه حتى آخر عمره ثم ختم حياته ختاما حسنا فذلك، يا مولاي، هو الذي يستحق أن يوصف بأنه إنسان سعيد. يجب علينا أن ننظر إلى نهاية كل شيء؛ فما أكثر الذين منحهم الإله شيئا من السعادة ثم غير أحوالهم رأسا على عقب؛ هكذا ختمت حديثي للملك.
المؤرخ :
ولم يعجبه كلامك ولا رضي عنك.
صولون :
قاطعني ولم يكترث بوجودي ولا ببقائي أو رحيلي. اقتنع بأني أحمق، وأن الأحمق من يتخلى عما بين يديه وينظر في نهاية كل شيء.
المؤرخ :
وليته نظر في نهايته هو.
الحكماء :
بل ليته حاول أن يفكر فيما قاله عزيزنا صولون. لقد تجهم وجهه واربدت ملامحه بسحابة سوداء كثيفة أطبقت عليها وحولته إلى وحش كاسر. نظر إلى زميلنا «بياس» والشرر يتقد من عينيه الغاضبتين وسأله:
كرويزوس :
هل هذا رأيك أيضا؟ أتعتقد أن صاحبك قد أجاب بالحق؟
بياس :
بالحق والعدل أجاب يا مولاي. لقد أراد أن يرى الكنوز التي في نفسك فلم يجد إلا الكنوز التي في يدك.
كرويزوس :
أترد علي مثله بالألغاز؟ أريد منك جوابا قاطعا: ماذا يقصد بكلامه؟
بياس :
أن البشر تسعدهم كنوز النفس لا كنوز الذهب والفضة.
كرويزوس :
إذا كنتم لا تقدرون السعادة ولا الثروة الحقيقية بما أملكه من كنوز، ألا ترون أن عندي من الأصدقاء والأنصار أضعاف ما عند أي ملك أو حاكم آخر؟ هذا واحد منهم جاء إلي من أثينا. أيها العبيد! أحضروا ألكميون.
الحكماء :
وفجأة فتحت الأبواب وظهر إنسان عجيب وسط عدد من الحراس والعبيد. كان يبدو تائه العينين زائغ البصر، وبدا عليه الاضطراب وكأنه قد عجز عن السير خطوة واحدة؛ فقد انتفخ ثوبه الواسع بصورة مذهلة كأنه بطن امرأة أوشكت على الوضع، وعندما دفعه الحراس وشدوه قريبا من الملك، وقعت أبصارنا على شعره الذي حشاه بسبائك الذهب، بل لقد تعجبنا من انتفاخ أوداجه وأدركنا أنه حشا فمه بقطع ذهبية صغيرة سقطت إحداها على الأرض عندما حاول أن يسعل، وهلل الملك وصاح وهو يتلوى من الضحك:
كرويزوس :
قل لهم يا ألكميون! ألست أسعد إنسان؟ ألم تصبح أنت أيضا أسعد إنسان بعد أن سمحت لك بزيارة كنوزي وأخذ ما تستطيع أخذه منها؟ ألا يكفي هذا الذهب الذي حملته في ثيابك ودفنته في طيات جسدك وحشوت به فمك أن يجعلك سعيدا؟ أم إن المفلسين والجوعى أسعد منك وأحكم؟ (حاول ألكميون أن يضحك فسقطت قطع الذهب من فمه ورنت على الأرض، وازداد ضحك الملك فقلنا له):
الحكماء :
العقل هو أعظم الكنوز، والسعيد من يبقى سعيدا إلى النهاية.
المؤرخ :
نعم نعم! ليت الملك فكر عندئذ في نهايته.
الحكماء :
تكلم، ماذا حدث له؟
المؤرخ :
تمضي الأيام فيغزو قورش الثاني ملك الفرس مدينة سارديس عاصمة المملكة الليدية، ويأسر كرويزوس بعد أن حكم أربعة عشر عاما، ويحاصر عاصمة ملكه أربعة عشر يوما، ويحضره الجنود مقيدا في الأغلال فيمثل بين يدي الملك الذي أمر بتجهيز المحرقة ووضع الأسير عليها مع سبعة من شباب الليديين. ربما قصد قورش من وراء ذلك أن يقدمهم قربانا لإلهه، أو يفي بوعد قطعه على نفسه، وربما بلغه أن كرويزوس كان ورعا تقيا، فأراد بإحراقه حيا أن يختبر قدرة إلهه على انقاذه. مهما يكن الأمر فقد أصدر قورش أمره، فلما أن وقف الملك المسكين على المحرقة خطر على باله وهو في محنته ما قاله له صولون: ما من حي يمكن أن يوصف بأنه سعيد. وانكشفت له الحجب فتأوه بعد صمت طويل وهتف ثلاث مرات: صولون! صولون! صولون! سمع قورش صيحته فطلب من المترجمين أن يسألوه عن الاسم الذي استغاث به، وتقدم منه المترجمون وسألوه فلاذ بالصمت طويلا قبل أن يقول «هو إنسان كان حديثه أقيم من كل ما ملك جميع الطغاة من ثروات عظيمة.» بدا لهم القول لغزا فألحوا عليه بالسؤال عما يقصد، وبدأ الملك المنكوب يروي عليهم كيف حضر إليه صولون الأثيني.
كرويزوس :
ها أنت قد رأيت كنوزي، ما رأيك يا صولون؟
صولون :
رأيي؟ في أي شيء يا مولاي؟
كرويزوس :
هل آمنت بأني أسعد إنسان؟
صولون :
ربما تكون سعيدا والحظ الطيب يرعاك، لكنك لست بأسعد إنسان.
كرويزوس :
ومن في رأيك هو أسعد إنسان؟
صولون :
هو من بقي سعيدا حتى آخر عمره، قبل حلول الأجل بلحظات يمكن أن ينقلب الحال ويصبح أشقى الناس.
كرويزوس :
غضبت عليه وصحت: يا لك من إغريقي فظ! أتضن علي بالسعادة بعد كل ما رأيت من كنوزي وأملاكي!
صولون :
ستكون سعيدا لو حضرك الموت وهي ملك يمينك.
كرويزوس :
وها أنا ذا أذكره الآن وأذكر ما قال، أتذكر حكايته عن الأب الذي سعد برؤية أبنائه وبالموت في سبيل وطنه، وعن الولدين اللذين جرا العربة التي حملت أمهما المريضة إلى المعبد بدلا من الثيران ثم ماتا راضيين بعد أن أدت الصلاة. إن كلمات هذا الأثيني لم تصدق علي وحدي، أعرف الآن أنها تصدق على كل إنسان، خصوصا من زينت له الأوهام أنه أسعد السعداء.
المؤرخ :
استمع قورش إلى حديث كرويزوس. كان الملك الأسير يقف صلبا متجلدا فوق المحرقة والنيران تئز حواليه وتطلق شررها عليه، وتفكر قورش فيما قاله المترجمون، وحدثته نفسه قائلة: حقا إن كلمات الملك المنكوب لا تنطبق عليه وحده، ها أنا ذا إنسان مثله، أحسب نفسي منتصرا وسعيدا، أسلم للنار إنسانا لم يكن أقل مني سعادة، من يدري؟ هل تقتص الأقدار مني؟ من يضمن ألا يحدث لي ما حدث له؟ آه! من يضمن شيئا في هذا العالم؟ لا شيء أكيد فيه؟ لا أمان للحياة! ونظر إلى الملك الذي التفت حوله النيران فأمر بأن تطفأ على الفور وينزل هو ومن معه من فوق المحرقة.
وحاول الجنود أن ينفذوا أمر الملك، لكنهم عجزوا عن السيطرة على النار، ولاحظ كرويزوس أن الملك غير رأيه، وأن الخدم والحشم يكافحون النار ولا يستطيعون إطفاءها، فاستغاث بأبولو وهو يصرخ: إن كنت تذكر تضحياتي وهداياي إليك، إن كنت قد استطعت أن أرضيك، فاذكرني في محنتي وخفف عنى الويل! الطف بي يا رب النور الساطع واكشف عني ضنك الليل! وبكى كرويزوس كما لم يبك في حياته، وابتهل وتمتم بالدعوات وسالت أنهار دموعه، ورفع بصره إلى السماء الصافية فوجدها تتلبد فجأة بالسحب المظلمة.
وخطف البصر بريق البرق، وانهمر المطر سيولا أطفأت النار، كان قورش ورجاله يتابعون المشهد وهم يحبسون الأنفاس، وعرف الملك الجبار أن إهاب الملك المنكوب يشف عن إنسان طيب، وصاح بالرجال أن يعجلوا بإنزاله من فوق المحرقة، وقربه منه وسأله وهو يشد على يده: كرويزوس، من حرضك على محاربة بلادي ومعاداتي بدلا من أن تكون صاحبي وصديقي؟ قال كرويزوس أيها الملك، فعلت هذا لما حالفك الحظ وخاصمني، والذنب في هذا هو ذنب إله الإغريق الذي دفعني إلى الحرب، وليس يفضل الحرب على السلام إلا الأخرق والأحمق؛ ففي ظل السلام يدفن الأبناء آباءهم، أما في الحرب فيواري الآباء أبناءهم التراب، لكن الآلهة اختارت، شاءت هذا ومشيئتها كانت؛ هكذا قال. ومد قورش يده ففك قيوده وأجلسه بجانبه وأظهر له المودة والهيبة والكرامة، وتطلع إليه الملك والحاضرون بإجلال وإعجاب.
الحكماء :
لا تقل إنك سعيد ما دمت حيا، والإنسان لا يأمن ما تأتي به الحياة قبل لحظات من مفارقة الحياة.
1989م
Unknown page