وأشهر القائلين بهذا الرأي بين علماء الطبيعة «إرنست هيكل» الألماني، و«توماس هكسلي» الإنجليزي، وهو أقرب إلى الاعتدال في الإنكار من زميله.
فهيكل يقول: «إن العقيدة الدينية تعني دائما تصديق معجزة خارقة، وهي بهذه المثابة قائمة على مناقضة ينقطع الرجاء في التوفيق بينها وبين عقيدة العقل الطبيعية، وهي - على خلاف سنن العقل - تذهب إلى فرض العوامل فوق الطبيعية، ويحق من أجل ذلك لمن يشاء أن يسميها خرافية، أو غير طبيعية، وإن ذلك الوحي المدعى الذي تأسست عليه عقائد المسيحية ليس مما يتفق مع أثبت النتائج التي وصل إليها العلم الحديث.»
وهكسلي يقول: «إننا - أمام الأمور التي لا شك في بعدها عن الاحتمال - لا نقول إننا محقون في طلب البرهان المقنع لتصديق وقوع المعجزة الخارقة، بل نقول: إن الواجب الأدبي يتقاضانا أن نجد هذا البرهان قبل أن نأخذ تلك المعجزة الخارقة مأخذ الجد والاعتبار، ولكننا إذا كنا - بدلا من الوصول إلى ذلك البرهان المقنع - لا نرى أمامنا إلا حكايات نجهل كيف نشأت ومتى نشأت بين أناس يستطيعون أن يصدقوا كل التصديق أن الشياطين تتلبس بأجسام الخنازير؛ فإنني أصرح بأن شعوري إنما هو شعور الدهشة من أن أرى الإنسان العاقل ينظر إلى شهادة هؤلاء نظرة جدية.» •••
وعلى مثل هذا المحور يدور الخلاف بين الفريقين اللذين يتفقان في قبول مذهب التطور، ولكنهما لا يتفقان في الحكم على دلالته من الوجهة الدينية، ولكن هذا الاختلاف لا يرجع إلى المذهب في ذاته، وإنما يرجع إلى طريقة النظر إليه وطريقة التفكير التي تعودها ذهن العالم أو الفيلسوف، فربما خرج الذهنان بنتيجتين متناقضتين من فكرة واحدة يراها أحدهما برهانا على وجود الله، ويراها الآخر مغنية عن البحث في إثبات وجود الله.
وقد سأل نابليون بونابرت أكبر علماء الفلك في زمانه - لا بلاس - عن مكان العناية الإلهية في حركات الأفلاك، فكان جوابه أنه لا يرى لها مكانا فيما يعلمه من تلك الحركات، كأنه يقول: إن قوانين الحركة وحدها تفسر دورة الفلك تفسيرا يغني عن النظر إلى علة أخرى وراءها، وهو أسلوب من التفكير يناقض أساليب الذهن الذي يراقب دورة الفلك، ويعلم أن العقل لا يستلزم حصولها على هذا الوجه دون غيره، وأنه لا بد إذن من البحث عن الإرادة التي اختارت لها هذا الوجه من الحركة فانتظمت عليه.
ولعل الفارق بين هذين النمطين من التفكير يتعلق بالنظرة إلى النظام والمعجزة، فمن كان من القائلين بالتطور، مؤمنا بالعناية الإلهية؛ فطريقته في التفكير أن يستدل بانتظام الخلق على وجود الخالق، وأن يرى بعد ذلك أن المعجزة لا تستغرب مع الإيمان بالقدرة الإلهية والحكمة التي تستدعيها، إذا كان هناك ما يستدعي صنع المعجزات في رأيه.
ومن كان من القائلين بالتطور، معطلا للعقيدة الدينية؛ فطريقته في التفكير أن التوفيق متعذر بين تفسير الكائنات بالقوانين الطبيعية، وبين خرق هذه القوانين لإثبات عقائد الدين.
لكن الرأي الأخير الغالب على علماء اللاهوت المسيحيين أن معارضة الرؤساء من رجال الدين لمذهب التطور، عند إعلانه قبل مائة سنة، لم يكن من سداد الرأي في شيء، وأن هذه المعارضة ينبغي أن تحسب على أصحابها، ولا تحسب على الديانة المسيحية التي لا تأبى التفسير على وجه موافق لمذهب التطور على أقواله المتعددة، ويعبر عن هذا الرأي في كتاب مؤلف لهذا الغرض عالم من أكبر علماء الرياضة وعلماء اللاهوت المعاصرين، وهو الأستاذ كولسون، عضو مجمع العلوم الملكي وصاحب كتاب «العلم والعقيدة المسيحية»، ومدار الرأي فيه كله على هذه الفكرة، سواء فيما يرجع إلى مذهب التطور أو إلى غيره من مذاهب العلم الحديث.
سلسلة الخلق العظمى
سلسلة الخلق العظمى مذهب يوازي مذهب التطور، ويتمشى معه في معظم الطريق، ولكنه لا يبتدئ معه من البداية، ولا ينتهي إلى الغاية.
Unknown page