ثم سأل الأسقف: «إذا ثبت مذهب النشوء هل يناقض الدين؟» فكان جوابه: «إننا نجيب مع العلماء النزيهين المجردين من الأغراض والأهواء بالنفي، وإنه لا يضاد مقاصد الخالق وغاياته.» واستشهد ببحث للدكتور مكوشي يقول فيه: «إن النشوء بجميع مذاهبه لا ينفي مقاصد وغايات البارئ عز وجل، فالأستاذ هكسلي النشوئي الكبير والمادي المعروف بين الناس النبهاء سلم بكون النشوء لا يلزم منه نفي مقاصد الله، وإن ترتب أو توقف مخلوق على آخر أو عملهما معا لإتمام مقصد جيد، أو إكمال غاية حسنة؛ كالحياة للنبات، وطيب العيش للإنسان والحيوان، لهو دليل واضح عند كبار العلماء على مقاصد الله؛ فالذي يصنع آلة تعمل هي آلة مثلها، لهو أحذق وأقدر وأحكم من الذي يصنع آلة تقتصر على العمل المقصود منها ولا تتعداه.» •••
وفي سنة (1937)، ألف الدكتور حليم عطية سوريال، الطبيب الأول لسجن أسيوط، كتاب «تصدع مذهب دارون والإثبات العلمي لعقيدة الخلق»، نبه فيه إلى خطأ يسبق إلى بعض الأذهان، وهو اعتقادهم أن إنكار مذهب النشوء مقصور على رجال الدين؛ فإن من كبار العلماء الطبيعيين من يرفضه كالأستاذ فيالتون
Vialleton ، عميد كلية الطب بجامعة مونبليه وأستاذ علم الأجنة فيها، والأستاذ كاترفاج، مدير متحف التاريخ الطبيعي بباريس، وهو القائل: «إننا لا نعلم كيف تكونت الأنواع الحية، إننا نعلم فقط أنها غير قابلة للتحول، وإننا على يقين بأن دارون ولامارك لم يكتشفا الناموس الحقيقي لطريقة تكوينها.»
ثم سرد الدكتور سوريال أسماء بعض الأساطين من علماء الطبيعة المعارضين لمذهب التحول، وخلاصة رأيهم في الاختلاف بين الأنواع «أن جميع تلك العوامل لا يمكنها أن تغير نوعا من الأنواع الحية إلى نوع آخر، وكل التغيرات التي يمكنها أن تحدثها سطحية لا تمس التركيب الجوهري للحيوان أو النبات، وبعضها باثولوجية - مرضية - تقود إلى انقراض النوع، ولقد قال العالم الإيطالي روزا: إن الاختبار الاصطناعي الذي جربه بنو الإنسان في خلال الستين سنة الماضية دليل عظيم ضد نظرية دارون.»
ويقرر الدكتور أن الحلقة المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فحسب؛ «فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الوحيدة والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة، ولا بين الحيوانات الرخوة ولا بين المفصلية، ولا بين الحيوانات اللافقرية والفقرية، ولا بين الأسماك والحيوانات البرمائية، ولا بين الأخيرة والزحافات والطيور، ولا بين الزحافات والحيوانات الثديية. وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية».
ثم قال بعد الاستشهاد بكثير من أمثال هذه الملاحظات العلمية: «إن هناك مسألة منطقية بسيطة، وهي معرفة كيف استطاع المخلوق، الذي يعتبره التحوليون الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان، أن يعيش بين الحيوانات الضارية التي تحيط به؛ فإن أصحاب نظرية النشوء يقولون: إن هذا المخلوق كان أضعف عقلا من الإنسان الحالي؛ فكيف يمكن لمخلوق ضعيف الجسم، وضعيف العقل أن يعيش وحوله الأسد والفيل والدب والنمر وغيرها من الحيوانات المفترسة؟»
ويعتبر نقاد مذهب دارون أن مشكلة الحلقة المفقودة بين الأنواع - كما شرحها الدكتور سوريال - هي مشكلة المشاكل في تمحيص هذا المذهب إلى اليوم، وأنها لا تزال على قوتها وإقناعها بعد انقضاء مائة سنة على ظهور كتاب أصل الأنواع، واستئناف التعليق عليه بين خصوم المذهب وأنصاره، الذين استجمعوا غاية ما استطاعوا لحل هذه المشكلة عند الاحتفال بذكرى مرور القرن على ظهور ذلك الكتاب. •••
ونحن نكتفي بالردود المتقدمة لأنها تمثل مناحي التفكير عند رجال الدين في مناقشة مذهب النشوء، وهي: (1)
منحى الجزم بالرفض ببطلان المذهب في جملته وتفصيله؛ لأنه مناقض للدين غير مستند إلى أدلة قاطعة. (2)
منحى الرفض لنقص الأدلة مع تعليق النتيجة بانتظار الأدلة المقنعة، والإيمان بأنه - إذا ثبت - لا يقضي بتكذيب العقيدة الدينية والعقلية في الخالق. (3)
Unknown page