ثمن الكتابة
إهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
ثمن الكتابة
إهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الإنسان
الإنسان
Unknown page
اثنتا عشرة امرأة في زنزانة
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
Unknown page
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والمليان. والرنجة من ضرورات العيد ، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة.)
Unknown page
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
إهداء
إلى كل من عرف القهر في البيت أو في السجن.
نوال السعداوي
القاهرة 1982
الفصل الأول
(المسرح مظلم تماما، صمت كامل، المسرح خال.) (يتدلى من سقف المسرح صورة رجل كبيرة داخل إطار سميك مذهب، حول الصورة لمبات نور صغيرة تضيء وجه الرجل في الصورة، له ملامح صارمة ونظرة حادة قاسية لكن شفتاه مبتسمتان في ابتسامة عريضة ناعمة.) (ضوء خفيف يزحف كضوء الفجر، صوت الكروان، سكون.) (صباح المتسولة تمشي وحدها تعرج، ترتدي جلبابا ممزقا، شعرها منكوش، على كل خد من خديها لطعة سوداء (طين أو زفت)، تجلس على الأرض وتنبش في كوم قمامة وهي تغني بصوت حزين، لا أحد ولا شيء على المسرح سواها.)
Unknown page
صباح المتسولة (تغني) :
آدي الزمن اللي لوع اللي كان على كيفه، وبلبل الصبر في الفنجان وسقاه على كيفه، وآدي بنت الحلال في الوحل مرمية وابن الهيفة بيتحكم على كيفه، الصبر كله حكم واللي شبك أهو بان، من بره مزوق ومن جوه مليان دخان، واصبر يا عين ده كل شيء بأوان. (تنهض وتمشي تعرج وهي محنية، تردد بصوت حزين.)
صباح المتسولة :
بنت الحلال في الوحل مرمية،
وابن الهيفة بيتحكم على كيفه. (فجأة يظهر عسكري شرطة. يمسكها من قفاها بقسوة.)
الشرطي :
تعالي هنا يا شحاتة يا بنت الشحاتة، مليون مرة قلنا لك يا بت الشحاتة هنا ممنوعة بالقانون، أيوه بالقانون، كل حاجة بالقانون، كل حاجة هنا بالقانون يا بت، خدي! خدي! (يضربها بالعصا.)
الشرطي :
وابن الهيفة ده مين يا بت اللي بتقولي عليه؟
ايه؟ مين يا بت؟ ايه؟ خذي! خذي! (يضربها مرة أخرى .)
Unknown page
صباح (تتوجع وتقول) :
هي بتغني لبنتها، مالهم بيها، وابن الهيفة أبوها مالهم بيها، هي ماشية في حالها، ما يسيبوها في حالها.
الشرطي :
بنتها مين وأبوها مين، قدامي، قدامي.
صباح :
حياخدوها تاني، كل ما يشوفوها ياخدوها، يودوها ويجيبوها، ويجيبوها ويودوها، مالهمش شغلة غيرها. (الشرطي يشد صباح. يظهر عدد من رجال الشرطة، يحوطونها ويضعونها في سيارة بوليس.) (يسمع صوت الأحذية الثقيلة السريعة على الأرض، وصوت بوق سيارة البوليس.) (ظلام، صمت.) (يسمع صوت سلاسل حديدية، صوت وقع أقدام على الأرض، صوت مفتاح حديدي يدور ثلاث مرات في باب حديدي.) (صرير باب حديدي يفتح وينغلق، يتكرر الصوت عدة مرات في سكون كامل.) (صمت، ظلام.)
صوت صباح المتسولة :
مالهمش شغلة غيرها، بيجيبوها ويودوها. (يزحف ضوء الفجر الخفيف، يكشف عن صباح المتسولة جالسة في فناء السجن الخارجي بجوار باب حديدي ضخم له قضبان. أعلى الباب على الجدار رقعة نحاسية صغيرة كتب عليها: عنبر المتسولات.) (يقود الباب إلى حوش صغير داخلي، ثم إلى باب حديدي آخر ضخم يقود إلى عنبر المتسولات. تمد يدها من خلال القضبان الحديد لتشد عود جرجير من الأعواد القليلة المزروعة في الحوش الداخلي الصغير، لكن يدها لا تصل إلى عود الجرجير. العنبر له جدران عالية جدا، والحوش أيضا له جدران عالية جدا تعلوها الأسلاك الشائكة.) (صوت الكروان.) (ترفع وجهها إلى السماء كأنما تبحث عن الكروان.)
صباح المتسولة (تغني وهي تنظر إلى السماء) :
آدي الزمن اللي لوع اللي كان على كيفه، وبلبل الصبر في الفنجان وسقاه على كيفه، وآدي بنات الحلال في السجن مرمية وابن الهيفة بيتحكم على كيفه، الصبر كله حكم واللي شبك أهو بان، من بره مزوق ومن جوه مليان دخان، واصبر يا عين ده كل شيء بأوان. (رجل زبال يلم من فناء السجن الخارجي في صفيحة كبيرة، يترك بعض الزبالة قرب الباب إهمالا وكسلا.)
Unknown page
الزبال :
امشي يا بت من هنا.
لو الشاويشة شافتك هنا نهارك مش فايت.
صباح المتسولة :
هي تمشي تروح فين؟ مالهاش حتة.
الزبال :
مالكيش حتة إزاي يا بت ، السجن واسع أهه وكله زنازين وعنابر.
يا بت الحوش واسع قدامك، واقفة في الحتة دي ليه؟
صباح المتسولة :
هي دي حتتها.
Unknown page
الزبال :
ده كان زمان يا بت، دلوقت بقه عنبر السياسيات.
صباح المتسولة :
هي دي حتتها، خدوها منها، وهي دي جرجيرتها خدوها رخرة.
كل حاجة ياخدوها منها. مالهمش شغلة غيرها، ياخدوها، ويجيبوها ويجيبوها ويودوها، مالهمش شغلة غيرها! (يخبطها الزبال بالمقشة في يده فتنهض وتمشي وتعرج في فناء السجن ثم تختفي وهي تغني):
بنت الحلال في السجن مرمية،
وابن الهيفة بيتحكم على كيفه. (يزحف ضوء الفجر تدريجيا، ويكشف عن العنبر، بابه الحديدي الضخم ذي القضبان المغلقة، والحوش الداخلي الصغير أمامه ببابه الحديدي الضخم ذي القضبان.) (باب العنبر في مواجهة باب الحوش تماما بحيث يظهر فناء السجن الخارجي لمن يكون داخل العنبر.) (حبل غسيل منشور عليه بعض الملابس القليلة، يقسم العنبر إلى قسمين: في القسم الأيمن مجموعة من المسجونات. في القسم الأيسر المجموعة الأخرى من المسجونات. في نهاية العنبر باب صغير يقود إلى دورة المياه.) (على أرض العنبر بعض الحقائب، وعلب كرتون، ووابور، وقمامة في الركن على الأرض.) (يشغل القسم الأيمن من العنبر النساء والفتيات المحجبات والمنقبات. بجوار الأسرة أو المراتب على الأرض فرشت بطانية قديمة تستخدم كسجادة للصلاة.) (تظهر نفيسة الفيشاوي راكعة تصلي وهي محجبة، وجهها ناحية الجدار.) (من خلفها ركعت رشيدة ونفيسة واعتدال، الثلاث منقبات.) (هادية تقرأ في مصحف وهي جالسة على الأرض، وقد خلعت النقاب وظهر شعرها الطويل.) (سالمة واقفة عند الباب، تمسك القضبان الحديدية بيدها وتنظر ناحية الحوش والفناء الخارجي، تصعد فوق القضبان بقدميها، شعرها طويل تمشطه، يبدو عليها القلق والضيق والترقب.) (في القسم الأيسر تظهر بسيمة شرف الدين، وهي لا تزال راقدة على المرتبة أو السرير.) (وعزة لا تزال نائمة. مديحة ونجاة بجوار الوابور تصنعان الشاي.) (لبيبة جالسة وحدها تمسك رأسها بيدها، يبدو عليها الضيق.) (تظهر الشاويشة فهيمة في الفناء الخارجي تحمل في يدها مفتاحين كبيرين، وتهرول مسرعة في اضطراب.) (سالمة تراها من خلال قضبان باب الحوش وباب العنبر.)
سالمة :
الشاويشة جاية يا جماعة! (تجري سالمة لتجلس على مرتبتها أو سريرها.) (سميرة تنهي الصلاة وتنهض، وتفعل مثلها رشيدة ونفيسة واعتدال.) (لبيبة تفك يديها من حول رأسها. مديحة ونجاة تخبئان الوابور داخل علبة كرتون، بسيمة تجلس وتشعل سيجارة. عزة تصحو من النوم، تفتح صندوق كرتون صغيرا، وتبدأ في لف شعرها «بالرولو» تنظر في المرآة وهي تلف شعرها.) (الشاويشة تكلم نفسها قبل أن تدخل إلى الحوش، وقد رأت بعض الزبالة عند الباب.)
الشاويشة فهيمة :
Unknown page
يا مصيبتي! إيه الوساخة دي كلها، هو عنبر الدعارة بيرمي زبالته هنا ولا إيه؟ (تفتح باب الحوش الحديدي الضخم ذا القضبان. المفتاح ضخم جدا وثقيل في يدها. يسمع صوت المفتاح يدور في الباب الضخم ثلاث دورات، تدفع الباب الحديدي بيدها. الباب ثقيل جدا وضخم. له صرير غليظ ينفتح عن شق صغير تدخل منه إلى الحوش، تغلق الباب وراءها.)
الشاويشة فهيمة :
والحوش كمان عاوز كنس ورش، والجرجيرة خلاص نشفت وقربت تموت. (تفتح باب العنبر الحديدي الضخم.) (يسمع صوت المفتاح يدور في الباب ثلاث دورات.) (تدفع باب العنبر الحديدي الضخم بيدها. يظهر أن الباب ثقيل جدا، في نفس حجم باب الحوش ويقابله تماما، له صرير غليظ شبيه بالباب الآخر تماما.) (تدفعه قليلا، ينفتح الباب عن شق صغير تدخل منه إلى العنبر بسرعة واضطراب.)
الشاويشة فهيمة :
المدير الكبير اللي فوق المدير واللي فوق المأمور جايز ييجي النهارده، وجايز يكون فيه تفتيش كمان، ماحدش عارف، بس أول ما اعرف هاجي أقولكم. وضابط المباحث هنا من الصبح وقاعد مع المأمور في المكتب. (الشاويشة تفتش بعينيها بسرعة الجدران والأركان والأشياء على الأرض؛ علب كرتون وحقائب ومراتب.)
الشاويشة :
المهم خلوا اليوم يفوت على خير، مش عاوزة حد يلاقي عندكم حاجة من الممنوعات. الناس الكبار دول مافيش في قلوبهم رحمة لا علي ولا عليكم، وأنتم لسه في فترة التكدير، وأنا صاحبة عيال، مش عاوزة مشاكل، مش كده ولا إيه يا ست بسيمة؟
بسيمة :
طبعا طبعا يا ست فهيمة، إن شاء الله مافيش مشاكل .
عزة :
Unknown page
وفترة التكدير دي حتخلص إمته؟ (الشاويشة ترى المرآة في يد عزة.)
الشاويشة :
خبي المراية يا ست عزة، إنتم عارفين المراية ممنوعة، والوابور، والسكينة، خبوا الحاجات دي كلها.
سالمة (في سذاجة) :
وهي المراية ممنوعة ليه يا شاويشة؟
الشاويشة :
فيه واحدة انتحرت السنة اللي فاتت بحتة مراية صغيرة.
سالمة (في سذاجة) :
وانتحرت ليه؟
رشيدة (تلكزها في كتفها) :
Unknown page
يعني مش عارفة الناس بتنتحر ليه في السجون؟ اسكتي يا بت بلاش هبل! (الشاويشة لا تزال تفتش العنبر بعينيها وهي تتمشى فيه.)
الشاويشة :
وانتم عارفين كل الممنوعات، لا فلوس، ولا جورنال ولا راديو ولا ورقة ولا قلم. خالوا بالكم، الورقة والقلم في عنبر السياسة أخطر من الطبنجة. لو لقوا عندكم طبنجة أهون عندي من الورقة والقلم.
سالمة :
الحمد لله أنا لا عندي لا ورقة ولا قلم ولا باعرف أكتب ولا اقرا. (الشاويشة تفتح باب دورة المياه وتدخل لتفتش الدورة.)
بسيمة (في اضطراب) :
اللي معاها حاجة تخبيها بسرعة مش عاوزين مشاكل!
لبيبة (في غضب) :
كل يوم تفتيش تفتيش! مرة المأمور، مرة المدير، مرة الخفير، دي حاجة تقرف، هم مالهمش شغلة غيرنا؟! (الشاويشة تخرج من دورة المياه.)
الشاويشة :
Unknown page
الدورة عاوزة تنظيف، والعنبر عاوز يتمسح، والحوش كمان لازم يتكنس وينرش. مش عاوزة حد يقول علينا حاجة. بقالي في السجن ده عشرين سنة وسمعتي عند المأمور والمدير زي الجنيه الدهب، قبل ما ييجوا عاوزاكم كده ولا إيه يا سالمة؟
سالمة :
واشمعنى يعني يا سالمة؟ هو مافيش غير سالمة في العنبر؟
ما تقوليش ليه ياعتدال ولا يا هادية؟
هادية (في غضب) :
أنت مالكيش شغلة طول النهار.
سالمة (في غضب) :
ويعني انت بتعملي إيه؟ ما انت قاعدة طول النهار برضه.
هادية :
قاعدة باقرا قرآن.
Unknown page
سالمة (في غضب) :
دي قراية القرآن دي شغلة؟
سميرة (تنتفض واقفة في غضب) :
إيه؟ بتقولي إيه؟ استغفري ربنا بسرعة! قراية القرآن أعظم شغلة، قراية كلام ربنا أعظم عمل في الدنيا!
الشاويشة :
ولما كلكم تقعدوا تقروا القرآن طول النهار، مين اللي يمسح العنبر؟
سميرة :
فيه في العنبر ناس ما بتقراش قرآن، ولا بتصلي ولا لها شغلة ولا مشغلة، واحدة فيهم تمسح العنبر. (بسيمة تشعل سيجارة.)
بسيمة (في سخرية) :
والله يا ست فهيمة أنا شخصيا مقدرش أمسح البلاط، أولا بحكم السن، ثانيا عمري في حياتي ما مسحت بلاط بيتنا، عشان أمسح بلاط السجن.
Unknown page
عزة :
وهو معقول واحدة فينا تمسح الأرض، ده اللي ناقص يا ست فهيمة.
لبيبة (في تكبر وغضب) :
أنا عندي تلات خدامين في البيت يا ست فهيمة!
الشاويشة :
هو أنا قلت حاجة يا ستات؟ أنا عارفة إنكم كلكم ناس متعلمين محترمين وولاد ناس.
سالمة :
ويعني أنا مش بنت ناس؟
الشاويشة (في غضب) :
أنت لسه صغيرة يا بت يا سالمة، عاوزة تعملي نفسك زي واحدة منهم؟
Unknown page
سميرة (في غضب) :
طبعا هي زي أي واحدة فيهم، مافيش في العنبر ده كبيرة وصغيرة، ولا غنية ولا فقيرة، ولا واحدة عندها تلات خدامين وواحدة معندهاش! سالمة زي أي واحدة فيهم، ويمكن أحسن. على الأقل هي بتصلي وتغطي شعرها وتخاف من ربنا!
لبيبة (في غضب) :
أنا ما أسمحلكيش إنك تتكلمي علينا بالشكل ده!
الشاويشة :
يا جماعة هدوا أعصابكم، المسألة بسيطة، أنا حاروح أجيب لكم واحدة من المسجونات تمسح العنبر وتكنس الحوش وتغسل لكم هدومكم كمان. (تخرج الشاويشة من العنبر. تجتاز الحوش الصغير ثم تخرج إلى الفناء الخارجي، تغلق باب الحوش الحديدي بالمفتاح.)
سميرة (تقلد لبيبة في تكبرها ولهجتها) :
أنا عندي تلات خدامين في البيت يا ست فهيمة! يا سلام على الناس اللي بيدافعوا عن الطبقات الفقيرة من الشعب!
لبيبة (في غضب) :
يا سلام على الناس اللي ما بيعملوش حاجة في الدنيا إلا الصلاة وقراية القرآن.
Unknown page
سميرة (في غضب) :
الصلاة والقرآن والتقرب إلى الله هي كل حاجة في الدنيا، الدنيا كلها زايلة وفانية ولن يبقى إلا وجه ربك الكريم. المفروض أن يكدح الإنسان لله بالصلاة وقراءة القرآن.
قال الله تعالى:
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه
صدق الله العظيم.
لبيبة :
ومين بقه اللي يشتغل ويصرف عليكي؟ ربنا؟!
رشيدة :
استغفر الله العظيم، الرزق من عند الله.
نفيسة :
Unknown page
نعم، الرزق ليس في حاجة إلى سعي لأنه من عند الله، والعنبر ليس في حاجة إلى مسح أيضا؛ لأن النظافة من الإيمان والوساخة من ...
سميرة (في غضب) :
من الكفر!
بسيمة :
وبعدين يا جماعة اهدوا شوية ورانا حاجات أهم من الخلافات البسيطة دي، عاوزين نستعد للتفتيش والتكدير والنكد بتاع كل يوم، مش ناقصين مشاكل ومش ناقصين نكد. (تظهر الشاويشة في الفضاء الخارجي. تفتح باب الحوش الحديدي ثم تغلقه وراءها. تجتاز الحوش وتدخل العنبر. باب العنبر مفتوح.)
الشاويشة :
بعد شوية هاتجيلكم زينب تمسح العنبر وتكنس الحوش وتغسل لكم الهدوم، هي نضيفة زي الفل، أنضف واحدة في عنبر الدعارة.
سميرة (تنتفض) :
الدعارة؟ لا يمكن، يعني مش ناقصين إلا واحدة من الدعارة يا ست فهيمة؟!
رشيدة ونفيسة (في نفس واحد) :
Unknown page
يا خبر اسود!
الشاويشة :
مالهم بنات الدعارة، لولا الملامة لقلت عليهم أنضف ناس. أنا بقى لي هنا عشرين سنة في السجن، عشت مع كل الأنواع، ومع القتالات وتاجرات المخدرات والنشالات والمتسولات والدعارة والسوابق، وكل الأصناف، وبصراحة كده ياما شفت فيهم ناس بني آدمين بصحيح، عندهم كلمة، وعندهم شهامة وعندهم شرف، وعندهم عزة نفس، غيرش الزمن هو اللي غدار. ياما في الحبس مظاليم يا ستات، يعني انتو كنتوا عارفين إنكم حتدخلوا السجن وتقعدوا كمان في عنبر المتسولات؟! (سميرة تنتفض فجأة وتصرخ صرخة حادة.)
الجميع (في فزع) :
فيه إيه؟ فيه إيه؟
سميرة (في فزع) :
صرصار! (سالمة تمسك الشبشب وتجري وراء الصرصار وتضربه وتقتله وتضعه على حافة الشبشب وتخرج إلى الحوش، تبقى في الحوش واقفة بجوار حوض الجرجير الصغير بعد أن تلقي الصرصار خارج باب الحوش، في الفناء الخارجي.)
الشاويشة :
يا مصيبتي! أنا افتكرت حاجة جرت؟!
حد يخاف من صرصار بالشكل ده؟!
Unknown page
سميرة :
أنا بخاف من الصرصار أكتر من التعبان.
الشاويشة :
يا ساتر يا رب! السجن بتاعنا مافيهوش تعابين، عندنا صراصير وخنافس وسحالي ...
لبيبة :
وقمل وبق ...
عزة :
وجراد وعرس وقطط، وتتخانق طول الليل وتدخل علينا من الحوش.
الشاويشة :
ما هو لازم الحوش يتكنس كل يوم وينرش، والعنبر يتمسح ودورة المية، النظافة مهمة يا ستات، النظافة من الإيمان، والوساخة من إيه؟ بلاش أقول، أما أروح أنادي زينب زمانها رجعت من الزيارة، دي بنت زي الفل وأمينة، لا يمكن أجيب لكم واحدة مش كويسة.
Unknown page
سميرة :
عندك مساجين كتير يا ست فهيمة، بلاش بتاعة الدعارة دي، هاتي واحدة متسولة ولا نشالة ولا حتى قتالة.
الشاويشة :
القتالة لا يمكن تمسح بلاط، مناخيرهم في السما، القتالات جايين من بيوتهم على طول، ما داروش، ما راحوش هنا ولا هنا لحظة غضب وخلاص، وفيهم ناس ما قتلوش خالص، أحسن ناس هنا في السجن هما القتالات، لكن الدعارة، دول غلابة واتلطموا كتير، كلهم غلابة وياما في السجن مظاليم. (تظهر في الفناء الخارجي صباح المتسولة بجلبابها الممزق وشعرها المنكوش وخديها الملطخين بالطين أو الزفت، حافية تمشي تعرج حتى تصل إلى باب الحوش الحديدي فتمسك القضبان بيديها. سالمة واقفة في الحوش تنظر إليها.)
صباح المتسولة :
ناوليها عود جرجير من الجرجيرة بتاعتها.
سالمة :
مين هي دي؟ (الشاويشة وهي واقفة في العنبر قرب الباب ترى سالمة في الحوش وهي تكلم صباح المتسولة.)
الشاويشة :
ممنوع يا سالمة الكلام مع المسجونات، وأنت يا بت يا صباح امشي من هنا، مش عاوزة أشوف وشك هنا!
Unknown page