Insaf
الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري، عن أبي العلاء المعري
Genres
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب إلى السكن المقيم بالمعرة، شملهم الله بالسعادة، من أحمد بن عبد الله بن سليمان، خص به من عرفه وداناه، سلم الله الجماعة ولا أسلمها، ولم شعثها ولا آلمها. أما الآن فهذه مناجاتي بعد منصرفي عن العراق، مجتمع أهل الجدل، وموطن بقية السلف، بعد أن قضيت الحداثة فانقضت، وودعت الشبيبة فمضت، وحلبت الدهر أشطره، وجربت خيره وشره؛ فوجدت أقوى ما أصنعه أيام الحياة، أن اخترت عزلة تجعلني من الناس كالبارح الأروى من سانح النعام. وما ألوت نصيحة لنفسي، ولا قصرت في اجتذاب المنفعة إلى حيزي؛ فأجمعت على ذلك، واستخرت الله فيه، بعد جلائه على (¬1) نفر يوثق بحصائلهم (¬2) ؛ فكلهم رآه حزما، وعده إذا تم رشدا. وهو أمر سري عليه بليل، قضي ببقة (¬3) ، وخبت به النعامة (¬4) ؛ ليس بنتيج الساعة، ولا ربيب الشهر والسنة، ولكنه غذي الحقب المتقادمة، وسليل الفكر الطويل. وبادرت إعلامهم ذلك مخافة أن يتفضل منهم متفضل بالنهوض إلى المنزل الجارية عادتي بسكناه، ليلقاني فيه فيتعذر ذلك عليه، فأكون قد جمعت بين سمجين: سوء الأدب، وسوء القطيعة. ورب ملوم لا ذنب له. والمثل السائر: ”خل امرأ وما اختار“. وما أسمحت القرون بالإياب حتى وعدتها أشياء ثلاثة: نبذة كنبذة فتيق النجوم، وانقضابا من العالم كانقضاب القائبة (¬5) من القوب، وثباتا في البلد إن جلا (¬6) أهله من خوف الروم. فإن أبى من يشفق علي أو يظهر الشفق (¬7) ، إلا النفرة مع السواد ، كانت نفرة الأعفر (¬1) أو الأدماء.
وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس ما كان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه. والجاهل مغالب القدر. فلهيت عما استأثر به الزمان. والله يجعلهم أحلاس الأوطان لا أحلاس الخيل والركاب، ويسبغ عليهم النعمة سبوغ القمراء الطلقة على الظبي الغرير، ويحسن جزاء البغداديين؛ فلقد وصفوني بما لا أستحق، وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم، وعرضوا علي أموالهم عرض الجد، فصادفوني غير جذل بالصفات، ولا هش إلى معروف الأقوام. ورحلت وهم لرحلتي كارهون، وحسبي الله، وعليه فليتوكي المتوكلون. اه.
وإنما قيل له ”رهن المحبسين“ للزومه منزله، وكف بصره. فأقام مدة طويلة في منزله مختفيا، لا يدخل عليه أحد. ثم [إن] الناس تسببوا إليه، حتى دخلوا عليه. فكتب الشيخ أبو صالح محمد بن المهذب إلى أخيه أبي الهيثم عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان -رحمهما الله- في ذلك:
بشمس زرود لا ببدر معان ... ... ألما وإن كان الجميع شجاني
أراها أبت إلا النوى بي مغرما ... ... ولو رضيت هجرانها لكفاني
تمن بإهداء السلام تجاهلا ... ... ولو علمت أن الرقاد جفاني
هبي هجعة كيما أرى الطيف مرة ... بها تحت أرواق الدجى ويراني
لعلي أشفي علتي بلقائه ... ... فكم من خليل زارني فشفاني
لقد أولع الدهر المشتت بيننا ... ... ... ليالي لا يعبثن بالرشقان (¬2)
وفك قيود اليعملات مقيدا ... ... مدى الدهر لا يغني من الرشفان (¬3)
Page 71