كان يقول ذلك قولا متقطعا كأنه يخاطب رجلا واقفا بين يديه، ولو رآه أحد يفعل ذلك لظنه أصيب بخبل. فلما فرغ من تلك الأقوال رمى السيكار من يده وتناول باقة البنفسج ومشى يطلب الرقاد في غرفة من غرف ذلك القصر.
نام عبد الحميد في تلك الليلة نوما متقطعا، وأصبح مبكرا فبعث إلى الباشكاتب وأمره أن يستقدم رامزا من قصر مالطة إليه، فأسرع وأرسل في طلبه فعاد الرسول وأخبر بأنه غير موجود هناك، فأظهر عبد الحميد الاستغراب وقال: «ألم يكن هناك بالأمس؟»
قال: «نعم يا مولاي، ولكنهم يقولون إن حرسيا من حراس القصر جاء في طلبه.»
فقال: «إنها حيلة انطلت عليهم. كيف تتركون هذا الرجل يفر من بين أيديكم؟! ما هذا؟! إني لا أقدر أن أثق بأحد من هؤلاء المجانين الخونة!» وأخذ يكرر أمثال هذه العبارات ويظهر الغضب والحنق، والباشكاتب واقف لا يرد جوابا. ثم أظهر عبد الحميد أنه هدأ روعه وقال للباشكاتب: «ما العمل؟ ينبغي لي أن أتولى كل شيء بنفسي حتى الاحتفاظ بالسجناء؟ فالرجل فر ولا فائدة من تعقب آثاره في الأستانة ولا بد أنه عائد إلى سلانيك، فلنغتنم فراره ونستدل منه على مقر تلك الجمعية.» وأطرق كأنه يعمل فكره ثم قال: «أرسل تلغرافا إلى حبيبنا ناظم بك قل له فيه إن رامزا الخائن أفلت من أيدينا وعاد إلى سلانيك، فليستقبله ويظهر له الصداقة ثم يراقب حركاته ويقتص آثاره بدون أن يشعر به حتى يقف على مقر تلك الجمعية، فيقبض على من يجدهم هناك وليرسلهم إلي مكبلين بالحديد أو فليقتل وليفتك. فإذا استطاع هذه الخدمة رقيناه وأجزناه.»
وكان الباشكاتب يسمع أوامر عبد الحميد وهو يعجب لدهائه، فكتب صورة التلغراف وتلاه عليه فأصلح به بعض الشيء وأمر بإرساله حالا، فخرج وفعل ما أمر به. وعاد عبد الحميد إلى تفكيره فأعجبه ما أتاه من الدهاء فضحك ضحكة يندر أن يضحك مثلها، وقال في نفسه مع الإعجاب بالذي أتاه: «ينبغي أن أدبر أموري بنفسي، وهؤلاء إذا صح إخلاصهم فإنهم قليلو التدبير.» ومشى مشية الخيلاء وهو يقول: «إذا صح تدبيري قضيت على تلك النفوس النجسة وعلمتهم من هو عبد الحميد!»
ثم وقف هنيهة وقد أخذ يفكر في أمر شيرين وما دبره من إغراء القادين بها، وهو لا يشك في أنها ستنجح في استنطاقها لاعتقاده بدهائها وذكائها، وتذكر ما يخافه من حملها ووضعها فقال: «ومتى فرغت من مهمتها أقتلها لأتخلص من حملها!»
وقضى بقية ذلك اليوم في مطالعة التقارير التي أتته من جواسيسه المنبثين في أطراف المملكة، وفيها أمور مهمة لكنه لم يهتم بها لاشتغاله بتدبيره الجديد.
ولما أمسى المساء تزيا بزي حرسي الأمس وأخرج أبا رامز من يلدز كما فعل برامز. •••
خرج رامز من يلدز وهو لا يكاد يصدق أنه نجا، فناداه أحد الحراس الواقفين على بضعة أمتار من الباب: «من القادم؟» فأجابه: «الذات الشاهانية» فوسع له ورحب به ومشى معه حتى تجاوز يلدز وأصبح بعيدا عن الظنون.
وطال مسير رامز قبل أن يصل إلى محطة السكة الحديدية فوصل إليها في الصباح قبيل مسير القطار، فدفع البطاقة إلى ناظر المحطة فرحب به وأنزله في القطار المسافر إلى سلانيك في تلك الساعة في عربة خاصة.
Unknown page