وأهم القصور الداخلية في يلدز قصر جهان نما، وهو صغير لكنه غاية في الإتقان يشرف على البوسفور إشرافا رحبا. ويليه قصر جيت، وقد سمي بذلك لأنه مبطن بالأنسجة، بابه خارج باب الحديقة الداخلية لكنه يعد منها لأنه من جملة أبنيتها وقد يدخل إليه من باب سري، وبه معرض للحيوانات فيه أنواع الطيور وغيرها محنطة. ثم قصر جادر، وقصر مالطة، وقصر مراسم في الحديقة الخارجية وهو أجملها كلها وأفخمها، وفيه من التحف ما يعجز القلم عن وصفه. ثم قصر المابين الكبير والجامع الحميدي، ثم المابين الصغير أو مسكن عبد الحميد، وهو أول قصر يستقبله الداخل من باب الحديقة الداخلية إلى يمينه، ويرقى إليه على بضع درجات بسيطة، ومدخله باب اعتيادي يؤدي إلى ردهة صغيرة، ومنها إلى الدهاليز والغرف على غير نظام، وفيها غرف المائدة والاستقبال والكتابة وغيرها. •••
كان أهل الأستانة قد ناموا واستغرقوا في أحلامهم - والأحلام يقظة ثانية يكابد فيها الناس شقاء ثانيا في عالم آخر - وكانت الليلة مقمرة، وقد سطعت أشعة القمر على الأستانة وضواحيها وانعكست على مياه البوسفور فأصبح سطحه كالصحيفة البيضاء لا يخترقه قارب ولا تمخر فيه سفينة، خوفا من غضب رب يلدز الذي أمر الناس ألا يعكروا ماءه ليلا وإلا أرسلهم إلى قاعه جثثا هامدة.
حتى الريح لم تهب في تلك الليلة، فظل سطح البوسفور هادئا لا تتلاطم فيه أمواج ولا يتحرك فيها ساكن، أو لعله شارك أهل الأستانة في رقادهم فإنه كان رفيقا بهم، وقد عاصر أجيالا منهم فلم يمر به جيل أتعس حالا من ذلك الجيل حتى في أقسى أزمنة الاستبداد، شاهد اليونان والرومان والفرس والعرب والأتراك، واخترقه داريوس وقسطنطين ومحمد الفاتح وغيرهم من كبار الرجال، وقطعه الصليبيون في طريقهم إلى الحرب المقدسة، فلم ير بين هؤلاء وأولئك من أشبع جوفه من الجثث كما فعل عبد الحميد.
نام أهل الأستانة وهم ما بين كهل يحرق الأرم أسفا على ما ذهب من شبابه عبثا في معالجة باب الرزق فلم يجد له فيه مدخلا، وسجين يدعو ربه خلسة أن يقتص له من القوم الظالمين، وأرملة أغرق بعلها في مياه البوسفور ضحية الجواسيس، ويتامى يتضورون جوعا ولا ذنب لهم إلا أنهم ولدوا في عصر طاغية لا ينام عن الأذى، تنتابهم المخاوف حتى في الأحلام، فتصور لهم عبد الحميد كالتنين فاغرا فاه أو كالثعبان ينساب بين أسرتهم ينفث سمه في جراحهم.
حتى يلدز، وهي الجنة بأغراسها وقصورها ومياهها، قد صارت نارا بمن ضمتهم من أعداء الإنسانية الذين تغمض عيونهم ولا تنام أفكارهم عن نصب الحبائل، وهكذا يمضي النهار بنوره ويقبل الليل بديجوره، وتتبدل مظاهر الوجود ولا يتغير ما في نفوسهم. فإذا خيم الظلام وسكنت الطبيعة وتجلت هيبتها اتسع مجال الخيال وانقشعت بهرجة النور عن وجه الحقيقة، فيرى العقل من مساوئ النفس ما لا يراه في رابعة النهار، كالسكوت إذا استولى على المكان أسمعك أخفت الأصوات. فالليل بديجوره يكشف لأهل الأرض سيئاتهم ويجسم أعمالهم، فإذا نظروا إلى السماء رأوا نجومها كالعيون المحدقة إليهم تراقب أعمالهم، وكأن النوم يجرد النفوس من الأجساد فتتقايل وتتوالى لا فرق فيها بين الملك والصعلوك والظالم والمظلوم كأنها في حضرة الديان العظيم. إن الظلمة تكشف لأهل الظلم موبقاتهم فيرونها مكبرة في ذلك السكوت المهيب، كأن الطبيعة صامتة غضبا من أعمالهم.
ذلك موقف يريك فضل الحيوان على الإنسان، إن الحيوان لا يؤذي أخاه إلا إذا جاع فيتنازعان على الفريسة، فإذا شبعا تآلفا وتكاتفا. أما الإنسان فكلما زاد شبعا زاد طمعا، وكلما زاد ثروة زاد جشعا، إذا شبع قتل أخاه الجائع ليقال إنه شجاع جريء، وقد يقتل المئات ويستعبد الألوف ليسمي نفسه الحاكم، فيموت هو من التخمة وأخوه بجانبه يموت من الجوع!
وكما نام أهل الأستانة نام أهل يلدز، ناموا ملء جفونهم بعد أن تآمروا وتجسسوا وتخادعوا وتواطئوا على خراب بيت أو تعذيب نفس أو ابتزاز مال. ولو اطمأنت نفوسهم وهدأت ضمائرهم لم يركنوا إلى الأسوار العالية والأبواب الموصدة، يقيمون عليها الحفظة سبعة آلاف رجل من الألبان والشراكسة.
هناك الحدائق الغناء والقصور الزهراء، يعيش من فضلات طعامها ألوف من المتزلفين، وقد أبيح دخولها للدواب تسرح في ساحتها والطيور ترفرف في أكنافها، ولم يمنعوا الأفاعي من الانسياب بين أغراسها ... حتى الحشرات والديدان وأدنى أنواع الحيوان وجدت فيها مقيلا أو مسرحا، ولكن أبوابها أوصدت في وجوه طلاب الرحمة من بني الإنسان.
وهذه القصور التي أنفقت الأموال لتشييدها بغير حساب، وأريقت في سبيل بنيانها وزخرفها الدماء؛ قد أقيم على أبوابها وفي طرقاتها وحول أسوارها ألوف من الرجال الأشداء بأسلحتهم وأفراسهم، وعيونهم كالشهب، وقلوبهم كالرجم، وقد جردوا السيوف وأغمدوا الضمائر، وباعوا الآخرة بالدنيا لحماية رجل واحد، لا تقع العين عليه إلا بعد اختراق الأبواب وتسلق الأسوار، يحسبه غير العارف متمتعا بأشهى ملاذ الحياة وهو محروم مما يتمتع به أحقر رعاياه مع مخاوفهم ومظالمهم ... إنهم ينامون بلا حراس، وإذا خافوا نزحوا وبلاد الله واسعة، أما هو فلا يستطيع نزوحا لأنه يخاف على حياته من كل أحد حتى من أعوانه وحراسه ومن أولاده ونسائه، يخاف من طعامه وشرابه، يخاف من فراشه ووساده، لا يستقر به مضجع ولا يهدأ له بال، ويقضي ليله ساهرا حذرا، وإذا غلبه النعاس توسد كرسيا ونام غرارا يتقلب على أشواك المخاوف.
السلطان عبد الحميد
Unknown page