Inqilab Cuthmani

Jurji Zaydan d. 1331 AH
126

Inqilab Cuthmani

الانقلاب العثماني

Genres

وعلى أثر ذلك سار رامز إلى توحيدة والدة شيرين، فقابلها وأسر إليها مما سمعه عن نجاة ابنتها من يلدز وفرارها إلى جهة مجهولة، ثم أخبرها بأنه مسافر إلى بعض الجهات للبحث عنها، ففرحت فرحا شديدا وعادت إليها آمالها ومكثت تنتظر ما يأتي به القدر.

العصابات الألبانية

قضى سعيد بضعة أيام في ترجمة البيان ونسخه، ثم تنكر بلباس أحد الفلاحين الألبانيين فجعل على رأسه طاقية قصيرة ولبس دراعة (صديرية) مفتوحة فوقها الكبران المرخي الأكمام وحول حقويه التنورة وتمنطق بمنطقة فيها الطبنجة، ولف ساقيه بسيور «الطماقات» واحتذى حذاء غليظا ومشى وعكازه بيده، فلا يظن من يراه إلا أنه من عامة الألبان.

وكان في ألبانيا من جهة مناستير عدة عصابات من البلغار والألبان كل منها تنسب إلى زعيمها، أشهرها عصابة جرجيس الألباني، وعصابة توفيق الأهوماتلي، وعصابة أمين البيسوجانلي، وعصابة قورطيس النوسلي، وكل عصابة مؤلفة من عشرات من الرجال الأشداء يقطعون الطريق على الناس ويقتلون وينهبون بحجة الدفاع عن النصرانية، وأكثر ما يكون تحرشهم بالمارة من المسلمين يأخذون ما معهم ويأسرونهم حتى يفديهم أهلهم. وكانت مهمة سعيد شاقة، لأن في جملتها أن يبلغ منشور الجمعية إلى رؤساء هذه العصابات، ولا يخفى ما في ذلك من الخطر، لكنه كان قوي القلب ثابت الجأش عاشقا للحرية يتفانى في سبيلها.

وكانت عصابات جرجيس الألباني شديدة البطش، قد ملأت بشهرتها جبال البلقان، وهي تعمل باسمه في غيابه أو حضوره. فأحب سعيد أن يبدأ بها فسافر في طلبها وهي معتصمة في الجبال الوعرة، فطال سفره من جبل إلى جبل مقتفيا آثارها في تنقلاتها هناك. وقضى في ذلك أياما قاسى فيها الأمرين من المشي والتعب، حتى كاد يعدل عن طلبها. وهو إنما يطلبها لأن جرجيس كان معها وهو يريد أن يبلغه المنشور، فأنبأه بعضهم أنهم في جبل على بضعة ساعات من مكانه، فعاهد نفسه أن يقصدها فإذا لم يجدها عدل إلى سواها.

وكانت الشمس قد تجاوزت الأصيل وهو يمشي في سفح جبل على أن ينزل منه إلى الوادي، ثم يعود من طريق آخر إلى أعلى الجبل المقابل حيث يقيم جرجيس بعصابته. فنزل الوادي ثم أخذ في الصعود حتى اقترب من قمة الجبل، والشمس قد دنت من المغيب، فسمع ضوضاء أعقبها إطلاق الرصاص، فدوى الوادي دويا عظيما، وليس فيه ولا في سفح الجبل بيت ولا خيمة. ولكنه شاهد بعض الخيام في أعلى الجبل ومنها سمع إطلاق البنادق. فلما سمع دوي الرصاص وقف وراء صخرة يحتمي بها وأصاخ بسمعه، ولم يبق بينه وبين قمة الجبل إلا خمسون مترا، وندم على مجيئه متأخرا لكنه تجلد وصبر، فإذا هو يسمع طلقات أبعد من الأولى وراء الجبل، وسمع لغطا بين الخيام ووقع حوافر خيل. ثم طرق أذنه صوت امرأة تستغيث بالتركية، ولم يسمع من كلامها إلا قولها: «أمان جانم، ما الذي تريدونه منا؟ اتركونا في سبيلنا.» ثم سمع صوت رجل يجاوبها بالتركية أيضا بقوله: «لا تخافي من هؤلاء الكلاب ولو كانوا مائة.» فأدرك سعيد أن عصابة جرجيس تعترض بعض المارة، ولكنه توسم في صوت الرجل البسالة والقوة. فحدثته نفسه أن يصعد خلسة حتى يشرف على المعركة وقد خيم الظلام فلا يخاف أن يراه أحد، فتسلق الصخور بخفة حتى أصبح وراء إحدى الخيام فأشرف على المعركة، فرأى رجال جرجيس محدقين بركب مؤلف من أربعة أنفس من بينهم رجل وامرأة واثنان على الأقدام هما خادمان، وتفرس في الرجل والمرأة فلم يعرفهما، لأن المرأة ملثمة ويظهر من مجمل حالها أنها من أهل النعم، وكذلك حال الرجل مع أنه كان ملتفا فوق أثوابه بالعباءة ويغطي أكثر وجهه باللثام. فتربص سعيد ليرى ما يكون وقد استغرب مرور هؤلاء في ذلك الطريق الوعر، وأصبح شديد الميل إلى استطلاع حقيقتهم، ولم يخف على نفسه لأنه يبحث عن جرجيس من زمن طويل وقد سره أنه وصل اليه.

فلما تكاثر رجال العصابة وكادوا يظفرون بالقوم تقدم الزعيم جرجيس، وقد عرفه سعيد من طول قامته ونوع لباسه واسترسال شعره وما عليه من الأسلحة الثمينة، وكان قد لبس الجاكت والبنطلون والطماقات وحول وسطه المنطقة فوق الجاكت وفيها الطبنجات والخناجر، وعلى رأسه طاقية قصيرة مسطحة وفي مشيته تيه وإعجاب. فخاطب الرجل بالتركية وهو ضعيف فيها قائلا: «لا فائدة من دفاعكم، وإنما أنتم تعرضون أنفسكم للقتل، ونحن لا نريد أنفسكم وإنما تكفينا أموالكم، فإن لم تسلمونا إياها قتلناكم. ولا تخافوا على المرأة فنحن لا نتعرض للنساء.»

فخاطبت المرأة رفيقها بلحن الاستغاثة قائلة: «يكفي جانم يكفي، أعطهم ما يريدون.»

فأبى الرجل ذلك وقال: «أليس من العار أن أرضخ لهؤلاء اللصوص برغم أنفي؟ ولكن ...» وصر بأسنانه وأشار نحو المرأة وهز رأسه أسفا، يريد أن وجودها معه يلجئه إلى القبول والتسليم. على أنه استوقف فرسه ووقف وقفة أسد ولم يتحرك، فمشى جرجيس نحوه بجأش هادئ وقال له: «لا يصعب عليك التسليم، فان أعظم منك سلموا لنا، وقد رحمناك لأننا أردنا أن نستبقي حياتك إكراما لهذه المرأة.»

فتراجع الرجل وقال: «وما الذي تريدونه منا؟»

Unknown page