فتحمس القوم عند إظهار هذه البسالة وقالوا له: «بورك فيك من فدائي شريف، ووقاك الله غائلة الظالمين، وجعلك قدوة أقرانك في هذا السبيل الجديد! أنت أول فدائي في طلب الدستور.» ثم أخذوا في الانصراف متسللين.
في حريم يلدز
تركنا شيرين وقد أمر عبد الحميد بإرسالها إلى القادين ج لتحتال لاستجوابها، وكانت هذه القادين تقيم بقصر خاص بها مثل سائر المحظيات، وهن اثنتا عشرة منهن أربع زوجات شرعيات، ولكل منهن قصر خاص فيه دائرة خاصة فيها الباشكاتبة والخازنة والمهردار والأسفنجي وعدد من الخدم والخصيان والجواري. ولا تخرج القادين من القصر لسبب من الأسباب.
وأصل القادين في الغالب سرية من السراري المجلوبة إلى قصر يلدز، وقد بلغ عدد السراري هناك حينذاك حوالي ثلاثمائة. وللسراري في تربيتهن وتدريبهن قواعد خاصة، وأكثرهن شركسيات وفيهن الروميات وغيرهن من الأجناس العثمانية الأخرى، والغالب فيهن أن يجلبن صغيرات إلى يلدز بالبيع أو على سبيل الهدايا من الأهل أو بعض الأعيان. ويندر أن يقبل عبد الحميد جارية على سبيل الهدية من الأعيان خوفا من دسيسة أو غدر ، قياسا على ما يفعله هو مع سائر الناس.
فإذا دخلت السرية يلدز نسيت كل ما هو في الخارج حتى أهلها وأصدقاءها، ويتولى تربيتها نساء يطلق على كل منهن لقب «باش قلفه»، وهن كلهن يرجعن إلى السلطانة الوالدة سيدة دار الحريم. وتبقى السرية سنتين أول الأمر تتدرب فيهما على ما يسر السلطان من حسن الهندام أو الأحاديث أو غير ذلك من مشيها ووقوفها وجلوسها على نسق خاص. كما يعلمونها بعض الأشعار أو الطرائف، ويعودونها سرعة الفهم بالرمز وغير ذلك مما يطول شرحه.
فإذا أحرزت الفتاة قبولا وظهرت فيها المواهب التي تؤهلها لرضى السلطان، سموها «كوزده». فإذا تخطت الرتبة الأولى وحازت الاستحسان سموها «إقبال»، فإذا حملت ال «إقبال» صارت «قادين» فيفرد لها قصر خاص كما تقدم، لكنها لا تعد زوجة شرعية إلا متى توفيت إحدى الزوجات الأربع، فتحل إحداهن محلها على حسب اختيار السلطان، فيبقى مئات من السراري على اختلاف طبقاتهن يتوقعن لفتة من السلطان.
ونساء القصر كلهن تابعات للسلطانة الوالدة، وإذا توفيت حلت إحدى الخوازن أو كبيرتهن محلها، ويسمونها أيضا «السلطانة الوالدة»، كأنه لقب المنصب لا لقب النسب.
وفي كل قصر من قصور النساء طائفة من الخصيان والجواري والسراري للخدمة والتدريب، وعلى الخصيان رئيس يسمونه الباش أغا، وقد تداول هذا المنصب غير واحد في زمن عبد الحميد آخرهم نادر أغا. وصاحب هذا المنصب من أكبر أصحاب النفوذ والسطوة لثقة السلطان فيه وركونه إليه، وقد مر زمن كان الباش أغا فيه أقوى شوكة في الدولة من أكبر الوزراء، وذكروا أن زكي باشا أرادت الدولة إرساله قائدا لعساكرها في طرابلس الغرب فجاء لوداع الباش أغا وهو يومئذ بهرام أغا، فدخل عليه وهو في مجلس حافل فوقف بين يديه وقال: «يا مولاي، إن الدولة عينت عبدكم قائدا على عساكرها في طرابلس الغرب، ولي أمنية ألتمس من عنايتكم تحقيقها لتكون لي حرزا من ريب الدهر، وهي تقبيل يدكم الشريفة»، فقهقه بهرام أغا وقال له: «متى وصل قدركم أن يتعدى رجلي إلى يدي؟!»
ويذكرون من نوادر هذا الأغا أنه خرج إلى ظاهر السراي في الوقت الذي وصل الروسيون الغزاة فيه إلى سان استفانو وساد الفزع الأكبر، وشغل السلطان بتدبير ما يئول إليه العرش العثماني الذي أورثه إياه آباؤه وأجداده العظام، فدخل عليه الأغا وقال له: «لا يهتم مولانا الأعظم، فقد خرجت إلى ظاهر القصر، ونظرت يمينا وشمالا فوجدت جميع ما انتهى إليه بصري هو ملك جلالتك، فلا تحزن فإنه يكفينا!»
ومن أدلة نفوذ أولئك الخصيان أن بهرام هذا منع عبد الحميد من إرسال جند عثماني إلى مصر في أثناء الحوادث العرابية، وكانت إنجلترا قد أوعزت إليه أن يفعل ذلك ليحتل مصر مكانها، فزعم الأغا المذكور أن السلطان إذا أرسل جنودا إلى مصر لم يبق في يلدز من يحافظ على حياته!
Unknown page