Inqilab Cuthmani
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة: أصدق تاريخ لأعظم انقلاب
Genres
بروتوكول لوندره ورفضه
سمي جمهور المبعوثين بعد ذلك «أڨت أفندم» لتصديقهم على كلام الرئيس من دون مناقشة ولا مباحثة، ولكن كان فيهم - والحق يقال - فئة عارفين بمصالح الدولة وطرق الإصلاح، جسورين على التكلم والدفاع عن حقوق الأمة والمناضلة في سبيل منافعها، غير أن الحال كانت ذات خطر شديد؛ لأن العدو كان يتأهب للحرب على الحدود، فأراد رئيس المجلس تحويل المذكرات إلى المسائل الخارجية، لأن مندوبي الدول الست الذين عقدوا مؤتمر الأستانة اجتمعوا في لوندره وليس للدولة العلية مندوب معهم، ووقعوا بتاريخ 31 مارت/مارس سنة 1877 على «بروتوكول» - أي مضبطة - طلبوا فيها من الباب العالي عقد الصلح مع الجبل الأسود، والتفرغ له عن نحو عشرين ناحية من أملاك الدولة العلية لكون لسانهم سلافيا ودينهم مسيحيا! كما طلبوا إجراء الإصلاحات الموعود بها تحت مراقبة الدول وإشرافها وغير ذلك، وأبلغوا هذه المضبطة إلى الباب العالي في 3 نيسان/أبريل سنة 1877.
جاء ناظر الخارجية إلى مجلس المبعوثان، وقرأ على أعضائه ترجمة البروتوكول، وشرح لهم أحوال السياسة الخارجية، وأفهمهم أن رد البروتوكول تكون نتيجة إعلان روسيا للحرب علينا، وليس للدولة العلية عضد من بقية الدول كما كان لها في حرب القرم، ولا نقود في خزانتها، وكرر عليهم ما قاله مدحت باشا في المجلس العالي لدى مذاكراته في لائحة مؤتمر الأستانة، وكانت أكبر الصعوبات من العسرة المالية، وشدة الاحتياج إلى التجهيزات العسكرية؛ فاعترض أكثر المبعوثين على قبول البروتوكول، وأظهروا من الحماسة والغيرة الوطنية ما لا يزيد عليه، وكان مبعوثو الأرناؤوط المجاورة بلادهم للجبل الأسود أشدهم اعتراضا، وقام مبعوث الأكراد فقال ما ملخصه: تزعمون أن المالية في ضيق شديد؛ فكيف يمكننا تصديق ذلك، وأنتم في هذه البهرجة والألبسة الغالية والدور المفروشة بأحسن الأثاث والرياش والعربات والخيل المطهمة؟! تعالوا إلى عندنا في كردستان وانظروا بؤس العيش ومرارة الحياة التي نحن فيها! لما كنت في بلادي لم يكن علي إلا ألبسة مرقعة بالية كبقية إخواني من أهالي كردستان، ولما رأيتكم ترتدون أحسن الملابس وتتألق على صدوركم النياشين المجوهرة، خجلت من نفسي فاشتريت الثوب الذي ترونه علي من سوق الدلالين! وأنا مرهق، لا من المخازن الكبيرة وأنا موسر، وإذا كانت سلامة الوطن والمحافظة عليه تقضي علي بيعه فأنا أبيعه وأنا مغبوط، وأعود إلى ثوبي المرقع.
ثم قال الرئيس في ختام المذاكرة: هل يقبل المجلس ما جاء في البروتوكول كل ملاحظات ناظر الخارجية؟ فرفض المجلس قبوله بالأكثرية، وكانت الأقلية ثمانية عشر صوتا من الروم المبعوثين عن الروم أيلي ومن الأرمن؛ فنظم الباب العالي نشرة مؤرخة في 9 نيسان/أبريل سنة 1877 احتج فيها على بروتوكول لوندره المنظم بدون اطلاعه وانضمام رأيه، وقال: إن تكليف الباب العالي إجراء الأحكام على ما يقضي به هذا البروتوكول مخالف لاستقلال المملكة العثمانية الذي أقرته الدول في معاهدة باريس، فقرئت هذه النشرة على مجلس المبعوثان فاستحسنها وأقرها، وشكر الباب العالي على تنظيمها، فأجاب عنها البرنس جورجاقوف في بطرسبرج بنشرة رفعها إلى الدول في 19 نيسان/أبريل مضمونها : إن الباب العالي رفض إجراء الإصلاح الموعود به، فصارت الحرب ضرورية؛ لأن روسيا مضطرة إلى إيفاء واجباتها نحو الأهالي المسيحيين !
فأجاب الباب العالي بنشرة أخرى للدول قال فيها: إن تركيا لا ترفض إجراء الإصلاحات، وإنما ترفض الإشراف والمراقبة على أعمالها؛ لأن في ذلك غمطا لحقها وإزراء بشرفها وعبثا باستقلالها الذي أقرت عليه الدول الموقعة على معاهدة باريس، وصارت النشرات والمحررات السياسة تتطاير من عواصم أوروبا، والإنذارات والمذكرات تتساقط على السفراء ونظار الخارجية، فلم يجد ذلك نفعا، بل أعلنت الحرب في 24 نيسان/أبريل سنة 1877.
مناقشات مجلس المبعوثان وانفضاضه
بحث المجلس بعد ذلك في لائحة نظام الولايات وتشكيل مجالس الإدارة، وذكر في اللائحة أن مجلس إدارة الولاية يتألف من ستة أعضاء، ينتخب نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين، فاعترض بعض المبعوثين على هذا التخصيص الذي هو داعية للتفريق، وقالوا: إن القانون الأساسي أطلق على جميع الرعية «عثمانيين» من دون تفريق بينهم في الدين والمذاهب، وإن الأكثرية في مجالس الإدارة تكون من حق المسلمين، لأن الموظفين كالوالي والدفتردار «رئيس الحسابات» والمكتوبجي «رئيس الكتاب» ونحوهم؛ أعضاء دائمون في مجلس إدارة الولاية، وطلبوا إخراج المفتين من بين الأعضاء الدائمين لكونهم بمثابة الرؤساء الروحيين.
فقال الرئيس: ليس للمفتين صفة دينية كصفة الرؤساء الروحيين، ورغم انتشار هذا الزعم الفاسد، فالمفتي ما هو إلا مأمور القانون؛ أي المحامي عن القانون والشريعة، وليس له سيطرة على المسلمين كسيطرة الرئيس الروحي على أبناء ملته، وإنما هو من علماء الحقوق المعروفين عند الإفرنج باسم
Jurisconsulte ، واعترضوا أيضا على تسمية «متصرف»، فقالوا إن هذا الاسم مشتق من التصرف الدال على الاستبداد والإذلال والاستعباد، فهو لا يوافق روح الحرية والمساواة، واستعلم بعض المبعوثين عن أحوال معسكر الأناضول ونقصان التجهيزات العسكرية، وعلى تعيين أحد الخدمة قائمقام وقد كان «شوبقجي»؛ أي حامل قصبة التدخين عند بعض الكبراء، إلى غير ذلك.
ثم اشتغل مجلس المبعوثان بتدقيق ميزانية المالية، وطلبت الحكومة خمسة ملايين ليرة عثمانية للدخول في الحرب، فتألفت لجنة
Unknown page