يظن زيدان أنه يحبها، أو أنها تحبه، أو أقله تفكر فيه أحيانا، كانت لا تذكره إن غاب، بل تنساه في حضوره وتفكر في شيء آخر، مرة واحدة في ليلة شتوية العام الماضي تناولت العشاء معه، كانت أمه قد ماتت منذ يومين، بدا منكسرا كالطفل اليتيم، يجلس في الكافيتيريا وحيدا مطرق الرأس، لم تر في عينيه هذه النظرة المكسورة، رجل هزمته الدنيا، حطمه الزمن، شعرت بالشفقة عليه، أرادت أن تربت رأسه بحنان أمه المفقودة، أن تمسك يده بيدها، أن تحيطه بحنانها وتخفف عنه الحزن، دعاها إلى العشاء تلك الليلة فلم ترفض، كانت تشعر بالشفقة عليه، لكنه لا يفهم الفرق بين إشفاقها وحبها، تناولت العشاء معه في مطعم يطل على الهرم، بعد كأسين من النبيذ فك الربطة المعقودة حول عنقه، تحرر قليلا من الحزن، ظهرت قطرات عرق فوق جبهته، جففها بمنديله وهو يحكي لها. قبل أن تموت أمه بيوم واحد دخلت غرفته، يبدو عليها الإرهاق والإعياء، وجهها يزداد شحوبه، عيناها يغشيهما لون أصفر باهت، تربت بيدها المعروقة الناحلة فوق ركبته وهو في سريره مستلقيا يقرأ، لم يرفع عينيه إليها، كان مشغولا بالقراءة، تعود ألا يراها وإن تحركت أمامه، ألا يسمعها وإن تكلمت بصوت مسموع، رأى أباه يعاملها بهذه الطريقة، لم تكن تشكو، تبكي في الليل وحدها، تجعل من نفسها مطية لزوجها وابنها، ليس لها مطالب إلا أن تراهما سعيدين، تلك الليلة فاض بها الألم، أرادت أن تتكلم مع ابنها الوحيد، تفتح قلبها المغلق له، تحكي له فجيعتها، تكشف له شيئا مما تكتمه، أملا في شيء من الراحة، تسع سنوات ونصف سنة تحمل العبء، بعد أربعين عاما انكسر قلبها، طعنها زوجها في ظهرها وهي تصد عنه الطعنات بصدرها، كتمت الحقيقة تسع سنوات ونصف سنة في قلبها، أرادت حماية ابنها من الألم، لم تشأ تشويه صورة أبيه في نظره.
زيدان يحكي بصوت مشروخ، جفونه محمرة متورمة، قضى الليل يبكي بعد موتها مسترجعا صوتها وهو راقد يقرأ في سريره، يرد عليها بضجر من دون أن ينظر إليها.
سامعني يا زيدان؟ سامعني يا بني؟ أيوه يا ماما سامعك. أنا تعبانة يا ابني عاوزة أقولك حاجة. عاوزة تقولي إيه أنا مشغول. يا ابني أنا أمك وإنت ابني الوحيد، أكلم مين غيرك؟ الكلام ده سمعته منك كثير يا ماما، وأنا مشغول والله العظيم مشغول. أيوه يا بني إنت مشغول ربنا يعينك يا حبيبي، لكن يا زيدان نفسي إنك تسمعني مرة واحدة قبل ما أموت يا بني. يا ماما أنا حاموت قبلك والله العظيم. يا بني بعد الشر عنك ده أنا أفديك بعمري، لولا إني تعبانة وخايفة أموت قبل ما أقولك اللي مكتوم في قلبي من تسع سنين. أيوه يا ماما عارف اللي مكتوم في قلبك من تسع سنين، عارف حكاية أبويا والبت الشرموطة، أكلت عقله وصرف عليها تحويشة عمرك، كل الرجالة يا أمي أندال، الخيانة بتجري في دمهم يا أمي. لأ يا بني مش كلهم، فيه رجالة عندها ضمير وأخلاق زيك يا زيدان يا بني. أنا يا أمي زي كل الرجالة وأنذل منهم كمان، أرجوكي سيبيني ورايا شغل. طيب يا بني تصبح على خير.
يمسح زيدان دموعه بمنديل ورق، كان ممكن يا كوكب أرد عليها وأقول لها وإنتي من أهل الخير يا ماما، كان ممكن أعمل أي حاجة تخفف عنها الحزن، لكن الأنانية يا كوكب، أنا اتربيت على الأنانية وأبويا اتربى على الأنانية، زي كل الرجالة، أمي اتعذبت في حياتها كتير، كان ممكن أقف جنبها واخد حقها من أبويا، لكن كنت بافكر في نفسي ومشغول بنفسي وبس، عندي إحساس بالندم يا كوكب، عندي إحساس بالذنب وتأنيب الضمير، كنت عارف ان أبويا ظلم أمي ومص دمها، وبعد لما كبرت وصحتها تعبت سابها وراح لبنت شرموطة، كان ممكن أمنعه، كان ممكن آخد منه حقها على الأقل، كان ممكن أعمل حاجة تريحها في آخر عمرها لكني كنت أعمى مش شايفها، شايف نفسي بس، لو كنت سمعتها الليلة الأخيرة في عمرها يمكن كان ضميري يرتاح، لو الليلة دي ترجع تاني يا كوكب، لكن الزمن لا يمكن يرجع، وضميري عمره ما يرتاح.
ينشج زيدان، يبكي، يكتم النهنهة بالمنديل، تربت كوكب كتفه، تمسك يده بيدها، تلف ذراعها حوله، تخفف عنه وتبكي معه. أرجوكي يا كوكب، إنتي الوحيدة اللي ممكن تخففي عني، أرجوكي خليكي معايا.
في عينيه استجداء، رجل منكسر يسترحمها، يطلب إليها الشفقة، قلبها يفيض شفقة عليه وعلى نفسها وجميع الناس، تذيب الشفقة قلبها تتأهب روحها لبذل العطاء، ينتفض كيانها بلذة غامضة مع تأهبها للعطاء، يزيد ضعفه من قوتها، احتياجه إليها يؤكد استغناءها عنه، يمتلئ روحها بالثقة بنفسها ويفيض على غيرها، يمكنها أن تمنحه أي شيء في هذه اللحظة حتى نفسها من دون أن تنقص شيئا، إحساس بالاكتمال يصاحب إحساسها بالاستغناء.
تشعر بدوار خفيف له لذة النبيذ، نسمة الليل ورائحة الياسمين، موسيقى خافتة تأتي من مكان ما، ضوء فضي يترقرق فوق موجات النيل، تحيطه بذراعيها، تغمض عينيها، تغيب ملامحه في الظلمة وتظهر ملامح وجه آخر، تعرفه ولا تعرفه رأته من قبل في زمان ومكان آخر، ثم فتحت جفونها المغلقة، رأته نائما عاريا غارقا في النوم، يشخر بصوت مسموع، ساقاه معوجتان، بطنه منتفخ، سارت على أطراف أصابعها إلى الحمام، تقيأت الضلوع المشوية مع النبيذ الأحمر الذي أصبح لونه أسود.
في الكافيتيريا كان يقول: هتعملي إيه الليلة يا كوكب؟ - هاقعد في البيت أكمل المقال يا زيدان. - مقال إيه يا كوكب ماحدش بيقرا مقالات دلوقتي، خلاص التلفزيون والفضائيات غلبت الصحافة. - مش عاوزة أخرج معاك. - ليه يا كوكب؟ - مرة واحدة حصلت وأخيرة. - ليه يا كوكب؟ - ماعرفش ليه.
كانت في جوارهما مائدة يجلس إليها زميل لهما اسمه بكري، قريب من رئيس التحرير، أو مقرب منه، أنيق وسيم، يرتدي بذلة كاملة وربطة عنق لامعة، تلتقيه أحيانا في الممر من دون أن يرفع عينيه إليها، تشعر بكراهية غامضة نحوه، أنيق أكثر من اللازم، طموح أكثر من اللازم، ربما له صلة بمكتب الأمن، يختلف عن بقية الصحفيين في شيء ما، على الرغم من التشابه في الصوت وحركة اليدين، ربما يكون في منصب أعلى من زملائه في الحزب، ربما يكون ضمن الدائرة الضيقة للأعضاء المميزين، ليس من الأتباع المطيعين الممسوحين مثل زيدان، ذو شخصية مستقلة نوعا ما، لا ترى على وجهه سمات الولاء، ربما تعبر ملامحه عن الذكاء.
كان زيدان يلتهم الإسكالوب بنهم، ينتفخ شدقاه بالطعام، يمضغ بصوت مسموع، يتكلم بفمه المملوء، تتناثر بعض ذرات من بين شفتيه الزرقاوين، تقل زرقتهما قليلا مع حركة الفكين، يلعق شفته السفلى بلسانه، ينظف أسنانه بعود كبريت أو بعود رفيع من الخشب يأتي دائما مع صحون اللحم، كان له ضرس ذهبي يظهر في فكه العلوي مع اتساع فمه، يخلعه بإصبعين ينزع عنه بقايا الطعام بمنديل الورق كلينكس، ثم يعيده إلى مكانه في الفجوة بين الضروس، أنا مستعد أتجوزك يا كوكب؟ - قلت لك ميت مرة لأ. - ليه يا كوكب؟ - من غير ليه. - إيه السبب يا كوكب؟ - مافيش سبب. - أنا متأكد إنك بتحبيني. - إنت غلطان. - هل أنا غبي؟ - جدا.
Unknown page