عيناه الخضراوان تبتسمان من وراء النظارة في صمت، مزيج من السخرية والمرارة المكبوتة، أراد أن ينهض ويفر هاربا من النظرات القاسية غير المرحبة، إلا الصحفية كوكب، في عينيها رقة وإن كانت مصطنعة، ابتسم لها بتحفظ من دون أن يرد، همس لنفسه، أي رجل محترم لا يعمل في صفحة المرأة وإن آمن بالمساواة بين البشر، التفت شاكر ناحية رئيس التحرير وهو ينظر إلى ساعة يده: متأسف يا أستاذ.
ثم استوى واقفا.
قامته ليست طويلة، جسمه نحيف ممشوق، كتفاه بالرغم من حشوة البذلة الأنيقة نحيفتان، منحنيتان قليلا إلى الأمام، يشدهما مع عضلات صدره فتصبح قامته أطول، يمد عنقه إلى أعلى كالطاووس أو الديك الرومي، تختفي انحناءة ظهره، ياقة قميصه الناصع البياض منشاة، حول عنقه ربطة عنق لامعة مشدودة بإحكام، مشبوكة فوق صدره بدبوس يلمع. - متأسف، عندي موعد عاجل.
لم يكن لدى شاكر موعد مهم، أراد أن يخرج من القاعة الخانقة الملأى بدخان السجائر، لكن شيئا آخر يخنق أكثر من الدخان.
خرج من الشارع الجانبي إلى شارع النيل، ملأ صدره بالهواء، تطلع إلى الأشجار الطويلة على جانبي الطريق، وضع يديه في جيبي البنطلون المشدود حول خصره بحزام جلدي، توقف فجأة ، تذكر شيئا، بينما كان يدور بعينيه على الوجوه في الاجتماع، التقت عيناه عيني فؤادة، أول مرة يلتقيها، كانت جالسة في جوار النافذة خلف كوكب، عيناها تشردان خارج النافذة ثم تعودان، تتأمل مكتب رئيس التحرير كأنما تراه لأول مرة، الصلعة تلمع تحت الصورة الكبيرة ذات البرواز الذهبي، السقف المنقوش بالزخارف تتوسطه النجفة، الجدران المغطاة بالورق الملون المصقول، الوجوه الجالسة حول المائدة الكبيرة على شاكلة نصف دائرة، عيونها نصف مفتوحة.
عيناها من الجانب وهي شاردة يكسوهما بريق وحزن عميق.
التقت عيناه عينيها وهي تحرك رأسها من النافذة إلى الوجوه، هز رأسه مبتسما في تحفظ، هزت رأسها من دون أن تبتسم، ثم عادت عيناها إلى خارج النافذة.
عادت إليه ملامح أمه في شبابها، كان لها هذا الأنف المرتفع المستقيم، ممشوقة الجسم قوية العضلات، ينجذب هو دائما إلى المرأة القوية، تعود إليه طمأنينة الطفولة أو راحة مجهولة المصدر.
الأرق
تتقلب سعدية فوق المرتبة الإسفنج، لا تستطيع النوم، ابنتها غارقة في النوم، تقيأت أمس في الجردل، كتمت فمها بكفها، آذان الجيران وعيونهم تتلصص من شقوق الجدران، سألها الشيخ متولي وهي واقفة في الطابور، وفي عينيه الغائرتين نظرة ملتوية: ما لها بنتك هنادي؟ هي عيانة؟ - مين قالك إنها عيانة يا شيخ؟ - القيء يا سعدية من أعراض الكوليرا! - كوليرا إيه يا شيخ يا ضلالي؟
Unknown page