صفقت بيديها وهي تجري بمرح: «أول مرة أصعد المقطم!» وسمعت صدى صوتها يتردد مرة أخرى من سفح الجبل. توقفت ونظرت تحتها، رأت المدينة الكبيرة مستوية كالبساط الأخضر والبيوت كالمربعات الصغيرة، وقدماها داخل حذائها المألوف على حافة الجبل، وإلى جوارهما قدمان أخريان داخل حذاء أسود غير مألوف.
رفعت رأسها مندهشة، فالتقت عيناها بعينيه، عينان سوداوان لهما نظرة ثاقبة غريبة، تنزع عن وجهها القناع، وتشد الأغطية عن جسدها وتصبح بهما مرئية. حركت رأسها إلى الناحية الأخرى فلم تجد إلا السماء ومن تحتها الهاوية السحيقة. انتابها الإحساس الغامض الملح بأن شيئا خطيرا سيحدث لها. قطعة الطوب تحت قدمها ستنفصل فجأة عن الجبل ويسقط جسدها تشده الأرض بقوتها الرهيبة ويتناثر في الهواء أشلاء صغيرة كالذرات. وكما يحدث في الأحلام خيل إليها أنها لو قفزت فسوف تنجو بجسدها من قبضة الأرض وتطير منطلقة في السماء. ومدت قدما واحدة وكادت تتبعها القدم الثانية وتقفز، لكن قوة غريبة شدتها إلى الخلف. ظنت أنها يده، لكنه كان بعيدا عنها واقفا جامدا كتمثال، ذراعاه إلى جواره، وعيناه السوداوان ثابتتان في عينيها، تنفذان إلى السرداب الطويل الضيق في أعماقها، تريان أعماقها العميقة الخفية، وذلك النبض السريع المتصل، كنبض الكون في سكون الليل، تلك الحركة السريعة المجنونة تدفنها في طيات نفسها، وتلف عليها أحشاءها طبقة طبقة، لتصبح غير مرئية وحركتها إلى الأبد سرية.
هرب الدم من وجهها فأصبح شاحبا، وأصابعها أصبحت باردة مثلجة، وأغمضت عينيها بتلك الحركة المخادعة التي تعلمتها في أحلامها، ثم فتحتهما، وأدركت أنها لا تحلم، والعينان السوداوان لا تزالان في عينيها، والسواد ليس أسود تماما، وإنما تشويه زرقة، زرقة عميقة بعيدة القاع، مجهولة الأغوار، كزرقة السماء حين نحملق فيها بعيوننا المفتوحة، ونرى كأنها غير موجودة، وتسري فوق الجسد قشعريرة غير مفهومة، ندرك بها أننا أمام ضخامة الكون، ضخامة رهيبة مخيفة، ضخامة صامتة ساكنة سكونا مفزعا، لأنه ليس سكونا حقيقيا، وإنما هناك حركة من تحته، حركة خفية عنيفة تخطف بسرعتها البصر.
وأخفت وجهها بكفيها وصرخت بشهقة غير مسموعة: سليم.
رد بصوته الخافت: نعم. - أنا خائفة. - من أي شيء؟ - من الموت. - الموت غير موجود. - ولكنني خائفة. - من الحياة؟ - نعم.
من يراها في تلك اللحظة يلحظ أنها ترتعد. لم يكن خوفها كالخوف الذي يبعدها عن الخطر، ولكنه خوف آخر يقربنا من الخطر أكثر مما يبعدنا عنه. رغبة جارفة عنيفة في استشعار الخطر حتى ذروته، حتى نهايته، نهايته الأخيرة التي تخلصنا منه إلى الأبد. كالعبء الثقيل كانت تحسه فوق جسدها منذ أن أصبح لها جسد. منذ أن انفصلت عن الكون وانسلخت عن جسد أمها في كتلة صغيرة محددة، تشدها الأرض إلى تحت، وتشدها السماء إلى فوق ويضغط عليها الهواء من كل جانب، وجسدها الصغير دائما في قبضة الكون، بين فكي الأسد، وعن يقين تدرك أن الفك الأعلى سيهبط فوق الأسفل في لحظة قادمة لا محالة. لو تشككت لحظة في هذا اليقين ربما فكرت في الهرب بطريقة أو بأخرى. لكنها كانت تحمل اليقين فوق جسدها في كل خلية تنبض وتعرف أن اللحظة ستأتي، وأن هذا النبض سيتوقف، ومن شدة اليقين كانت ترغب في أن تأتي اللحظة ويتوقف النبض وينتهي العبء.
قالت بصوت خافت: ضمني بكل قوتك حتى ...
توقفت ولم تكمل، كانت تريد أن تقول حتى يتوقف النبض، لكن رغبتها الخفية في الموت بدت في العلانية كرغبة محرمة، وأدركت بوضوح أكثر لماذا يحرم الناس الرغبات الحقيقية ويشرعون الرغبات غير الحقيقة.
إن حركة واحدة منه كانت كافية لأن تصل بها إلى النهاية، لكنها كانت تخاف من الوصول إلى النهايات، تستشعر خطر الوصول، وتدرك استحالة العودة إلى حيث كانت، وأنها بطريقة سحرية ستصبح إنسانة أخرى غير بهية شاهين، أي أنها ستصبح نفسها الحقيقية.
أصبحت بعيدة عنه، تسير بخطوتها السريعة الواسعة، عيناها السوداوان مرفوعتان إلى أعلى، سوادهما ليس أسود بما فيه الكفاية، وذلك الأنف الذي لم يرتفع بدرجة كافية، والبشرة الشاحبة بسبب الخوف الذي يحاول الإنسان أن يخفيه.
Unknown page