Impact of Text Justification on Its Meaning
أثر تعليل النص على دلالته
Publisher
دار المعالي
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
Publisher Location
عمان
Genres
سلسلة الرسائل الجامعية
أثر تعليل النص على دلالته
(أو)
العلة والنص
تأليف
أيمن علي عبد الرؤوف صالح
دار المعالي
1 / 1
مقدِّمة الإصدار الإلكتروني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه وآله ومن والاه، وبعد:
فهذا الكتاب، في أصله، رسالة علمية استكملتُ بها متطلبات درجة الماجستير في الفقه وأصوله من الجامعة الأردنية في العام (١٩٩٦ م - ١٤١٧ هـ)، أي قبل حوالي عشرين سنة من الآن. وقد سبق طبع هذا الكتاب طبعة وحيدة في العام ١٩٩٩ م - ١٤٢٠ هـ، طبعته دار المعالي، في العاصمة الأردنية عمّان. ونظرًا لتعثُّر دار النشر، وإغلاقها فيما بعد، فقد أخلَّت بالتزاماتها تجاه المؤلّف حتى أني لم أرَ أيَّ نسخة للمطبوع من الكتاب إلا قبل أشهر قليلة فقط عن طريق أحد الأصدقاء في جامعة قطر، كان قد اقتنى منه نسخة في أثناء دراسته في المملكة السعودية، فاستعرتها منه آملا إعادة نشر الكتاب نشرًا إلكترونيًّا موافقًا للمطبوع منه؛ ليعمّ الانتفاع به، ولألبّي طَلب كثيرٍ من أهل العلم وطلبته الذين ما فتئوا يسألونني نُسَخًا من الكتاب.
الكتاب ذو موضوع هام؛ لأنه يرسم معالم أصولية للعلاقة الجدلية بين العلة والنص، وهي علاقة شديدة الحساسية والتعقيد، وهو من أوائل الدراسات العلمية التي تناولت هذا الموضوع الدقيق. وما تلاه من دراسات، بعد ذلك، أفاد منه بطريق مباشرة أو غير مباشرة، مع العزو والإحالة أحيانا، ودونهما في أكثر الأحيان.
ورغم أن عشرين سنة مُدّةٌ كفيلة بوجود كثير من التطورات العلمية التي تستدعي إعادة النظر في مادة الكتاب وتطويرها وتحسينها، ولا سيّما مع بحوثي المعمّقة في جناحي الاجتهاد: النصّ والعلة - كالقرائن والنص، وتحقيق معنى العلة، وأهل الألفاظ وأهل المعاني، وإشكالية القطع عند الأصوليين، وفوائد تعليل الأحكام، وغيرها من البحوث - إلا أني اخترت ألا أفعل ذلك؛ وذلك لأنّ الكتاب أصبح شيئًا من «التاريخ» الذي ينبغي أن يُحافظ عليه، ولذلك أخرجتُه في هذه النسخة الإلكترونية موافقًا للمطبوع منه في أرقام صفحاته ومادته العلمية، اللَّهم إلا بعض التحسينات الشكلية، والتصحيحات الطفيفة، ولا سيّما للأخطاء الطباعية واللغوية.
واللَّه أسأل أن ينفع به، ويقبله مني، فهو أكرم مسؤول، وأعظم مجيب، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. أيمن صالح
الدوحة
ربيع الثاني ١٣٣٧ هـ/ يناير-كانون الثاني ٢٠١٦ م
1 / 4
المقدِّمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وآله، ومن والاه، وبعد:
فإنّ التشريع السماوي، بما دلّ عليه من أحكام، لم يكن - بفضل اللَّه ورحمته - إلا هادفًا إلى إصلاح أمور الخلق في داريهم الأولى والآخرة، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥]، ولقوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٨٢]- لاتّباعهم إياه - ﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: ٨٢]- لإعراضهم عنه -، ولقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠].
قال العز بن عبد السلام، ﵀: «اعلم أنّ اللَّه ﷾ لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة، تفضُّلًا منه على عباده، إذ لا حقَّ لأحد منهم عليه، ولو شرع الأحكام كلّها خليّةً عن المصالح لكان قسطًا وعدلًا كما كان شرعها للمصالح إحسانًا منه وفضلًا.
وقد وصف نفسه بأنه لطيفٌ بعباده، وأنه بالناس رؤوفٌ رحيم، وتمنَّنَ عليهم باللطف والحكمة، كما تمنَّن عليهم بالرأفة والرحمة، وأخبر أنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، وأنّه بهم بَرُّ رحيم توّابٌ حكيم. وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلِّف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا آجلة» (^١).
_________
(^١) العز بن عبد السلام، شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، تحقيق إياد خالد الطباع، ط ١، دار الطباع، دمشق، ١٤١٠ هـ، ص ٤٠١.
1 / 5
وانطلاقًا من هذا الأصل، وتأسيسًا عليه، لم ينظر سلف هذه الأمة وفقهاؤها إلى النصوص الشرعية، بما تنطوي عليه من أحكام، نظرة جمود على مقتضياتها اللغوية الظاهرة مجرّدة عما يكمن فيها، أو يقف وراءها، من معان مخبوءة، ومقاصدَ مُستبْطَنة. وإنما نظروا إليها - ما وسعهم الجهد - نظر المتدبِّر المستشرف إلى ما هو فوق أرضِ حرفيّةِ تلك النصوص، من أُفق المعاني المكتظّ بالدوافع والبواعث والعلل والحِكَم والمصالح المستهدَفة من تشريع الأحكام التي اشتملت عليها تلك النصوص. حتى وإن أدى بهم هذا النظر - أحيانًا كثيرة - إلى الخروج عن حرفية النص وظاهره بتخصيص عامّه، أو تقييد مُطلقه، أو إبطال مفهومه المخالف، أو صرفه من الحقيقة إلى المجاز. كلُّ ذلك سعيًا وراء البحث الدقيق عن مراد الشارع ومقصوده - على التمام - من النصوص المقرِّرة للأحكام.
و«أثر تعليل النص على دلالته» باعتباره عنوان وموضوع هذه الرسالة يخوض هذا المخاض؛ إذ إنه ليس إلا محاولة من الباحث:
أولًا: للبرهنة على شرعية دور العلة - وهي ما لأجله شُرع الحكم - في توجيه النص الشرعي وتأويله وتبيين المراد منه.
وثانيًا: لوضع ميزان دقيق يمكن من خلاله التوفيق أو الترجيح بين ما تقتضيه علّة النصّ من جهة، وبين ما يقتضيه ظاهر النصّ نفسِه من جهة أخرى، للخروج بعد ذلك بحكم شرعي صحيح.
وثالثًا: لبيان حقيقة مسألة «أثر تعليل النص على دلالته» وواقعها عند الأصوليين، قديما وحديثا، وعرض أقوالهم فيها، وأدلتهم على هذه الأقوال ومناقشة ذلك كله.
1 / 6
وبكلمة، فإن هذه الرسالة تبحث في نقاط التقاطع، ونقاط التوافق، في النص الشرعي الواحد، بين ما يمكن تسميتهما بِ: «نظرية المصلحة» و«نظرية النص»، وأثر ذلك على الحكم الشرعي المستفاد من هذا النص.
ما راعيته في منهجية البحث في هذه الرسالة:
أجمله في النقاط التالية:
١ - انطلقت في عرضي فصول ومباحث هذه الرسالة من أني أخاطب بها قارئًا حصَّل شيئا من علم الأصول، ولذا فإني لم ألجأ إلى التبسيط الشديد الذي يناسب المبتدئ، ولا كذلك إلى الإجمال الذي يناسب المنتهي، وإنما ابتغيت بين ذلك سبيلا.
٢ - حاولت، قدر الإمكان، تجريد الرسالة من القضايا العقلية الكلامية الجامدة، وفي الوقت نفسه، حاولت الإكثار من الأمثلة الفقهية المخرّجة على المسائل الأصولية توضيحًا لهذه المسائل من ناحية، وربطًا لهذه المسائل بواقعها وفائدتها الفقهية من ناحية أخرى.
٣ - ترجمت لبعض الأعلام الواردة في الرسالة ممن ظننت احتياجهم للترجمة لعدم شهرتهم.
٤ - عزوت الآيات الواردة في الرسالة إلى مواضعها من كتاب اللَّه ﷿.
٥ - خرّجتُ الأحاديث الواردة في الرسالة، فما كان منها في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بعزوه إليهما أو لأحدهما، وما كان في غيرهما عزوته
1 / 7
إلى مصدر أو مصدرين ولم أستقصِ، محاولًا بيان درجة الحديث من الصحة أو الضعف بما ورد من ذلك عن أهل الحديث، فإن لم أجد لهم كلامًا، اكتفيت بالتخريج إلا في مواضع يسيرة سَهُل علي فيها الاجتهاد بالحكم على ظاهر إسناد الحديث على طريقة أهل هذا الشأن.
٦ - تدخّلت أحيانًا أثناء نقل النصوص بإيراد كلام لتوضيح المراد ببعض ما غَمُض منها، وتمييزًا لكلامي عن كلام صاحب النص، جعلت كلامي بين معكوفتين على النحو التالي: [].
1 / 8
أثر تعليل النص على دلالته
الفصل الأول: التعريف بمسألة «تأثير تعليل النص على دلالته»
الفصل الثاني: «أثر تعليل النص على دلالته» في اجتهادات الصحابة رضوان اللَّه عليهم
الفصل الثالث: «تأثير تعليل النص على دلالته» عند الأصوليين
وخاتمة: في أهم نتائج هذا البحث
1 / 9
الفصل الأول التعريف بمسألة «تأثير تعليل النص على دلالته»
وسيكون ذلك في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بطرفي عملية «تأثير تعليل النص على دلالته» وعلاقتهما بالحكم الشرعي
المبحث الثاني: التعريف بعملية «تأثير تعليل النص على دلالته»
المبحث الثالث: البعد الاجتهادي لمسألة «تأثير تعليل النص على دلالته»
1 / 10
المبحث الأول التعريف بطرفي عملية «تأثير تعليل النص على دلالته»، وعلاقتهما بالحكم الشرعي
طرفا عملية تأثير تعليل النص على دلالته هما - كما هو بادٍ لكلّ ناظر - العلة والنص، وإذا شئتَ التدقيق قلتَ: هما دلالة العلة ودلالة النص، وذلك لأن العلة من حيث هي معنى مناسب تترتب عليه مصلحة، والنص من حيث هو خطابٌ مكون من حروف، لا يؤثّر أو يتأثر أحدهما بالآخر، وإنما الذي يحصل له أو به التأثير فهو ما تدل عليه العلة أو - بعبارة أخرى - ما تقتضيه العلة، وهو كذلك في الطرف الآخر ما يدل عليه النص، أو ما يقتضيه النص.
فلذا وللتعريف بهذين الطرفين ولبيان وجه تعلق الحكم الشرعي بكل منهما كان لا بد من تضمين هذا المبحث ثلاثة مطالب هي:
المطلب الأول: التعريف بالعلة وبمقتضاها
المطلب الثاني: التعريف بالنص وبمقتضاه
المطلب الثالث: ثبوت الحكم هل هو بالعلة أو النص؟
1 / 11
المطلب الأول التعريف بالعلة وبمقتضاها
وهو في مقصدين:
الأول: التعريف بالعلة
والثاني: التعريف بمقتضى العلة
المقصد الأول التعريف بالعلة
العلة لغة:
قيل: هي اسم لما يتغير حكم الشيء بحصوله، مأخوذٌ من العلة التي هي المرض، لأن تأثيرها في الحكم كأثر العلة في ذات المريض.
وقيل: هي مأخوذة من العَلَل بعد النَّهل، والعلل هو الشرب الثاني، والنهل هو الشرب الأول، وفي ذلك معاودة لشرب الماء مرة بعد مرة - وذلك لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر بعد النظر ولأن الحكم يتكرر بوجودها.
وقيل: - ولعل هذا هو الصحيح - هي عمّا لأجله يُقدم على الفعل أو يمتنع عنه، يقال: فعل الفعل لعلة كيت أو لم يفعل لعلة كيت (^١).
_________
(^١) انظر: ابن منظور، لسان العرب، ط ٢، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت ١٤١٢ هـ، ج ٩، ص ٣٦٥. ومجموعة من الأساتذة في مجمع القاهرة، المعجم الوسيط، ط ٣، دار عمران، القاهرة، ج ٢، ص ٦٤٦. وسيشار له: المعجم الوسيط. والزركشي: محمد بن بهادر، البحر المحيط، ط ١، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، طبعة مصورة، ج ٥، ص ١١١. وسيشار له: الزركشي، البحر المحيط.
1 / 13
العلة اصطلاحًا:
تباينت أقوال الأصوليين في «تعريف» العلة:
فعرفها بعضهم بأنها «المعنى الموجب للحكم» (^١).
واعتُرض على هذا التعريف بأنّ جعْل العلل موجبة «يؤدي إلى الشركة في الألوهية فإن الموجب في الحقيقة هو اللَّه تعالى» (^٢).
فزاد بعضهم في التعريف قيدًا، وهو أن العلة هي «الموجب للحكم بجعل اللَّه تعالى» (^٣)، واعتُرض عليه بأن «الحكم ليس إلا خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، وذلك هو كلامه القديم فكيف يُعقل كون الصفة المحدثة موجِبةً للشيء القديم، سواء أكانت الموجبيّة بالذات أو بالجعل» (^٤).
وللخروج عن هذا الاعتراض وغيره لجأ بعضهم إلى تعريف العلة بأنها «باعث الشرع على الحكم أو الداعي له» (^٥).
_________
(^١) انظر: فخر الدين الرازي، المحصول، ط ١، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤٠٨ هـ، ج ٢، ص ٣٠٥، وسيشار له: الرازي، المحصول. والزركشي، البحر المحيط، ج ٥، ص ١١٢، والبدخشي، محمد بن الحسن، مناهج العقول شرح منهاج الأصول، ط ١، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤٠٥ هـ، ج ٣، ص ٥٠، وسيشار له: البدخشي، مناهج العقول.
(^٢) قاله فخر الإسلام البزدوي في شرح التقويم. انظر: محمد مصطفى شلبي، تعليل الأحكام، دار النهضة العربية، بيروت، ١٤٠١ هـ، ص ١١٣ وسيشار له: شلبي، تعليل الأحكام.
(^٣) الرازي، المحصول، ج ٢، ص ٣٠٨
(^٤) المرجع السابق.
(^٥) انظر: المرجع السابق، ج ٢، ص ٣٠٨، والزركشي، البحر المحيط، ج ٥، ص ١١٣، وشلبي، تعليل الأحكام، ص ١١٧.
1 / 14
وهذا تعريف حسن مطابق للوضع اللغوي ولما يعقله الناس من معنى العلة في أفعالهم وأقوالهم إلا أنه على الرغم من ذلك لم يسلم من انتقاد بعض الأصوليين، لا سيما أولئك الذين تأثروا بمذهب الأشعري في نفي التعليل عن أفعاله ﷾، فقالوا: هذا التعريف يستلزم نسبة الغرض إليه ﷾ وهو محال عليه «لأنّ من فَعَل فعلًا لغرض فلا بد وأن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى من لا حصوله، وإلا لم يكن غرضًا، وإذ كان حصول الغرض أولى وكان حصول تلك الأولوية متوقفًا على فعل ذلك الفعل كان حصول تلك الأولوية لله تعالى متوقفة على الغير، فتكون ممكنة غير واجبة لذاته ضرورةَ توقفها على الغير، فيكون كماله تعالى غير واجب لذاته، وهو باطل» (^١).
وبناء على ذلك لجأوا إلى تعريف العلة بأنها «المعرّف للحكم أو الأمارة على الحكم» (^٢)، ولم يسلم هذا التعريف من اعتراض أيضًا فقال الآمدي: إذا كانت العلة «أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين:
الأول: أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم، والحكم في الأصل معروف بالخطاب لا بالعلة المستنبطة منه.
الثاني: أن علة الأصل مستنبطةٌ من حكم الأصل ومتفرّعةٌ عنه فلو كانت معرَّفة لحكم الأصل لكان متوقفًا عليها ومتفرّعًا عنها وهو دورٌ ممتنع» (^٣).
_________
(^١) السبكي، الإبهاج، ج ٣، ص ٤٠.
(^٢) المرجع السابق، ج ٣، ص ٤٠، والرازي، المحصول، ج ٢، ص ٣١١، والزركشي البحر المحيط، ج ٥، ص ١١١، ١١٢.
(^٣) سيف ا لدين علي بن أبي علي الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية بيروت، ١٤٠٣ هـ، ج ٣، ص ٢٨٩. وسيشار له: الآمدي، الإحكام.
1 / 15
وللخروج عن هذا الاعتراض زاد بعضهم في هذا التعريف قيدًا وهو أن العلة هي: «المعرف لحكم الفرع» (^١) لا لحكم الأصل، وبهذا يُخرج عما أورده الآمدي.
وعلى الرغم من وجود هذا القيد فإن هذا التعريف لم يسلم من جديد من الاعتراض عليه، ومن ثَمَّ جوابٌ ودفعٌ لهذا الاعتراض (^٢)، وهكذا حتى غَدا معنى العلة تيهًا مُضلًّا وبحرًا مهلكًا.
والحقّ أن معنى العلة ليس هو بهذه الدرجة من التعقيد حتى ينشب فيه الخلاف ويكثر فيه الكلام؛ إذ لا يُراد بالعلة - لغة وعرفًا - أكثر من أنها المعنى الذي لأجله شُرع الحكم، ولا غضاضة في إطلاق أي من التعريفات السابقة إذا اتُفق على أنها تتضمّن هذا المعنى، قال الأستاذ محمد شلبي في كتابه «تعليل الأحكام» بعد إيراده جملة من تعريفات العلة والمراحل التي مر بها بعضها: «هذه بعض خطوات ذلك التعريف وما صادفه في طريقه من عوامل المد والجزر والأخذ والرد في جامعيته ومانعيته وتمامه ونقصانه، وهو شيء يوقفنا على مبلغ عناية هؤلاء بالألفاظ وتقاتلهم من أجل العبارات؛ الأمر الذي لم يوله الأئمة السابقون شيئًا من عنايتهم، بل لم يلتفتوا إليه بالكلية وما كانوا يفهمون في العلة أكثر من أنها: الأمر الجامع بين الأصل والفرع الذي من أجله شرع الحكم منصوصًا عليه أو غير منصوص يقول الإمام الشافعي ﵁ في رسالته (^٣): فإن قال قائل: فاذكر من الأخبار التي
_________
(^١) جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، نهاية السول شرح منهاج الأصول، ط ١، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤٠٥ هـ ج ٣، ص ٥٣، وسيشار له: الإسنوي، نهاية السول.
(^٢) انظر: شلبي، تعليل الأحكام، ص ١٢٢، ١٢٣.
(^٣) الإمام الشافعي: محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق وشرح أحمد شاكر، دار الفكر، بيروت، ص ٥١٢، وسيشار له: الشافعي، الرسالة.
1 / 16
تقيس عليها، وكيف تقيس؟ قيل له إن شاء اللَّه: كل حكم لله أو لرسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام اللَّه أو رسوله بأنه حُكِمَ به لمعنى من المعاني فنزلت نازلة ليس فيها نصُّ حُكْمٍ حُكِمَ فيها حُكْمُ النازلة المحكوم فيها إذا كانت في معناها» (^١).
ومن هنا قال الشاطبي، وهو ميّال إلى إحياء المعاني السلفية: «وأما العلة فالمراد بها الحِكَمُ والمصالح التي تعلّقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي، فالمشقة علة في إباحة القصر، والفطر في السفر» (^٢).
والذي يمكن الخلوص إليه بعد إمعان النظر في تعريفات الأصوليين للعلة وفيما أداروا حول هذه التعريفات من نقاش هو أن خلافهم - أي الأصوليين - نشأ عن أمرين، كلاهما محدث:
أما الأمر الأول: فهو علم الكلام؛ إذ من كان مذهبه الكلامي قاضيًا بوجوب أو جواز تعليل أفعاله ﷾ لم يأنف عن تعريف العلة بالموجب أو المؤثر أو الداعي أو الباعث، ومن كان مذهبه قاضيًا بخلاف ذلك عرّف العلّة بالمعرف وفرّ من كل تعريف سواه.
وهاهنا يحسن التنبيه إلى حقيقة مهمة وهي أن المتكلمين جميعًا معلّلين وغير معلّلين معترفون بالقياس وبكل ما تقتضيه العلة من حيث البناء الفقهي، فخلافهم ليس منصبًا على العلة من حيث هي مصلحة يحصلها الحكم الشرعي، بل الكل متفقون على أن الأحكام الشرعية تحقق مصالح وتدفع مفاسد، وإنما خلافهم منصب - في رأي البعض - على قضية وجوب رعاية
_________
(^١) شلبي، تعليل الأحكام، ص ١٢٣، ١٢٤.
(^٢) الشاطبي: إبراهيم بن موسى، الموافقات، تحقيق وشرح عبد اللَّه دراز، دار المعرفة، بيروت، ج ١، ص ٢٦٥، وسيشار له: الشاطبي، الموافقات.
1 / 17
المصالح عليه ﷾، أو كون ذلك منه ﷾ تفضلًا وإحسانًا (^١)، وعلى رأي آخر هو منصب على جواز التعبير بنسبة «الغرض» أو «البعث» إليه ﷾ أو عدم جواز ذلك لما يوحيه من النقص (^٢)، قال الألوسي المفسِّر، ﵀: «الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله ﷾ معللة بمصالح العباد، مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح، ومن أنكر تعليل بعض الأفعال - لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود - فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة، والوقوف على ذلك في كل محل لا يلزم، على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظيًا لأن العلة إن فُسِّرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل، امتنع ذلك في حقه سبحانه، وإن فسِّرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهرًا مع الغنى الذاتي فلا شبهة في وقوعها، ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند» (^٣).
وعليه - وكما هو في واقع الأمر - فالخلاف بين المتكلمين في تعليل أفعاله ﷾، ليس له ثمرة في الواقع الفقهي أو حتى الأصولي، وإنما هو - على فرض التسليم بأنه خلاف معنوي لا لفظي - خلاف في فرع من فروع الاعتقاد الكلامية المبتدعة؛ لذلك لا غضاضة في القول بلزوم محو هذه المسألة من علم أصول الفقه والاقتصار على بحثها في علم الكلام. قال الشاطبي، ﵀: «كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونًا في ذلك - فوضعها في أصول الفقه عارية» (^٤).
_________
(^١) انظر: محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ط ٦، الدار المتحدة، دمشق، ومؤسسة الرسالة، بيروت، ١٤١٢ هـ، ص ٨٩، ٩٠ وسيشار له: البوطي، ضوابط المصلحة.
(^٢) انظر: شلبي، تعليل الأحكام، ص ١٢٨.
(^٣) الألوسي: شهاب الدين محمود، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، ١٤٠٨ هـ، ج ١، ص ١٨٧ وسيشار له: الألوسي، روح المعاني.
(^٤) الشاطبي، الموافقات، ج ١، ص ٤٢.
1 / 18
وأمّا الأمر الآخر الذي جعل الأصوليين يختلفون في تعريف العلة ويتجادلون فيه هو: ما ألزموه أنفسهم من صناعة الحدود الجامعة المانعة، فكان هذا مثارًا للبحث والجدال لا في تعريف العلة فحسب بل في كثير من المفاهيم العلمية، فتجد الكم الهائل من الجدال في تعريف الحكم الشرعي وأنواعه المختلفة، وتعريف الأمر والنهي، والعام والخاص، وتعريف القياس، وغير ذلك من الأمور التي كثر فيها الأخذ والرد بما تستحق أحيانًا وبما لا تستحق في غالب الأحيان، حتى تضخم علم الأصول وتعقّد فعَسُر على المبتدئ وُلوجُه وعلى المنتهي حفظُه والإحاطة به.
وصناعة الحدود أو التعريفات والجدال فيها لا ينتمي إلى منهج السلف بنسب ولا ولاء، إنما هو شيء أحدثه المناطقة؛ قال الشاطبي، ﵀: «إن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبيٌّ يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور. فأما الأول: فهو المطلوب المنبَّه عليه كما إذا طلب معنى المَلَك فقيل: «إنه خلق من خلق اللَّه يتصرف في أمره»، أو معنى الإنسان فقيل: «إنه هو هذا الذي أنت من جنسه»، أو معنى الكوكب فقيل: «هذا الذي نشاهده بالليل»، ونحو ذلك، فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبي حتى يمكن الامتثال.
وعلى هذا وقع البيان في الشريعة كما قال ﷺ: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" (^١) ففسره بلازمه الظاهر لكل أحد وكما نفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغةً من حيث كانت أظهر في الفهم منها، وهي عادة العرب والشريعة عربية، ولأن الأمة أمية فلا يليق بها من البيان إلا الأمي …
_________
(^١) مسلم بن الحجاج القشيري، الصحيح، ومعه شرح النووي، ط ١، دار المعرفة، بيروت، ١٤١٤ هـ، حديث رقم (٢٦١) وسيشار له: مسلم، الصحيح.
1 / 19
وأما الثاني: وهو ما لا يليق بالجمهور، فعدم مناسبته أخرجه عن اعتبار الشرع له، لأن مسالكه صعبة المرام، وما جعل عليكم في الدين من حرج، كما إذا طلب معنى الملك فأُحيل به على معنى أغمض منه وهو: "ماهية مجرّدة عن المادة أصلًا" أو يقال: "جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلي" أو طلب معنى الإنسان فقيل هو "الحيوان الناطق المائت" وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعاني ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلّف به» (^١).
المقصد الثاني التعريف بمقتضى العلة
الاقتضاء هو الاستلزام أو التطلّب (^٢). ومقتضى العلّة هو ما تستلزمه أو تتطلبه العلة، أو إن شئتَ قلتَ: ما تدل عليه العلة، وذلك كما نقول: مقتضى الأمر الوجوب أي: ما يدل عليه هو الوجوب، أو ما يستلزمه هو الوجوب.
والذي تقتضيه العلة - إذا ثبتت لأحد الأحكام بمسلك صحيح - أمران:
أحدهما: ثبوت هذا الحكم لكل محل توجد فيه هذه العلة، وهذا ناشئ عما يعبر عنه الأصوليون بـ «اطراد العلّة» (^٣) أو «العموم العقلي للعلة» (^٤).
_________
(^١) الشاطبي، الموافقات، ج ١، ص ٥٦، ٥٧ مع حذف ما لا حاجة إليه.
(^٢) انظر: المعجم الوسيط، ج ٢، ص ٧٧١.
(^٣) انظر: إمام الحرمين: أبو المعالي الجويني، البرهان في أصول الفقه، ط ٣، دار الوفاء، المنصورة، ١٤١٢ هـ، ج ٢، ص ٦٤٨، وسيشار له: إمام الحرمين، البرهان. والغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، ط ٢، دار الفكر، دمشق، ١٤٠٠ هـ، ص ٣٤٨، وسيشار له الغزالي، المنحول. والزركشي، البحر المحيط، ج ٥، ص ١٣٥.
(^٤) انظر: الرازي، المحصول ج ١، ص ٣٥٥.
1 / 20
والآخر: انتفاء هذا الحكم عن كل محل لا تتحقق فيه هذه العلّة.
وهذا ناشئ عما يعبر عنه الأصوليون بـ «انعكاس العلة» (^١) أو «المفهوم المخالف للعلة» (^٢).
فالمقتضى الأول موجب للحكم والمقتضى الآخر سالبٌ للحكم، وفيما يلي شرح لهذين المقتضيين بشيء من التفصيل:
أولًا: مقتضى اطراد العلة:
معناه: ثبوت حكم العلة في كل محل تتحقق فيه.
وبيان ذلك: أنه إذا تقرر أن حكمًا من الأحكام الشرعية ثبت في محل من المحال لعلة من العلل، كما لو قيل بتحريم قضاء القاضي حالة الغضب لما في ذلك من تشوش الفكر الحائل دون الإصابة في الحكم - فإنّ مقتضى اطراد العلة هذه - وهي تشوش الفكر - هو ثبوت حكمها، وهو في المثال التحريم، لجميع المحال التي تتحقق فيها هذه العلة.
فيحرم بناءً على هذا المقتضى القضاء حالة الألم المفرط، أو الجوع المفرط، أو النعاس المفرط، أو الحزن المفرط، وغير ذلك من المحال التي تتحقق فيها العلة.
الفرق بين مقتضى اطراد العلة وبين القياس:
فإن قيل: فما الفرق بين مقتضى اطراد العلة وبين القياس مع أنهما في النتيجة يشتركان في كونهما إلحاق واقعة مسكوت عنها بأخرى منصوص عليها إذا اشتركتا في العلّة المقتضية للحكم؟
_________
(^١) انظر: إمام الحرمين، البرهان، ج ٢، ص ٥٥١، والغرالي، المستصفى، ط ٢، ص ١٤٣، دار الكتب العلمية، بيروت، ج ٢، ص ٣٤٤، وسيشار له: الغزالي، المستصفى، والزركشي، البحر المحيط، ج ٥، ص ١٤٣.
(^٢) انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج ٤، ص ٣٦، وإمام الحرمين، البرهان، ج ٢، ص ٥٥٦.
1 / 21
فالجواب: نعم، هما من حيث النتيجة سيّان؛ إذ لا اختلاف بين الحكم بالقياس في واقعة ما وبين الحكم بمقتضى اطراد العلة في الواقعة ذاتها بل هما يؤديان الغرض نفسه ويثبتان الحكم نفسه، وإنما يكمن الفرق بينهما - ولم أرَ من نبّه على ذلك - في طريقة إجراء كل منهما من قِبَل المجتهد وذلك من وجهين:
الأول: أن المجتهد حين إجرائه القياس يبتدئُ النظر في الواقعة المسكوت عنها ليلحقها بما يشابهها من الوقائع المنصوص عليها، وهذا بخلاف حاله إذا أراد أن يحكم بمقتضى اطراد العلة، فإن نظره إذ ذاك، ينصب بادئ ذي بدء على الواقعة المنصوص عليها ليستنبط منها العلة ثم ليعمم حكمها في جميع الوقائع المسكوت عنها التي تتحقق فيها هذه العلة.
فالقياس - على ذلك - يبدأ بالمسكوت عنه، والحكم بمقتضى اطراد العلّة يبدأ بالمنطوق به.
والوجه الثاني: أن المجتهد حين إجرائه القياس ينظر في إلحاق واقعة مفردة مسكوت عنها بأخرى منصوص عليها وأما في مقتضى اطراد العلة فينظر في إلحاق عموم الوقائع المسكوت عنها والتي تتحقق فيها العلة بحكم الواقعة المنصوص عليها التي أُخذت منها هذه العلة.
وعليه فمقتضى اطراد العلة هو حكم بجملة من الأقيسة في آن واحد دفعة واحدة واللَّه أعلم.
عموم العلة وعموم اللفظ والفرق بينهما:
والحكم بمقتضى اطراد العلة أو - بعبارة أخرى - بمقتضى عموم العلة، بما هو تتبع لمحال تحقق العلة لإلصاق حكمها بهذه المحال، كالعموم اللفظي الذي
1 / 22
هو تتبع لمحال تحقق الاسم العام لإلصاق حكمه بها - فإنه يختلف عن الحكم بمقتضى عموم اللفظ اختلافًا جوهريًا، نشأ عن التباين بين طبيعة كلا العمومين: عموم العلة، وعموم اللفظ.
فعموم العلة، عموم عقلي لا بد فيه من الاطراد كما هو الشأن - تقريبًا - في القضايا العقلية إذ لا تثبت إلا بالاستقراء التام.
أما عموم اللفظ فهو عموم لغوي خاضع للاصطلاح، وقد اصطلح العرب في خطابهم على أن لا يشترط له الاطراد، ولذا كان من السائغ بل الواقع الكثير أن يُحدَّ من عموم اللفظ بالتخصيص فيبطل حكم اللفظ في محلّ التخصيص بينما يبقى عاملًا فيما هو وراءه من المحال، ولا يُعد هذا التخصيص بحال من الأحوال إبطالًا للفظ العام بالكلّية.
أما عموم العلة فإن ثبت تخصيصه أو - بعبارة أخرى - إن ثبت تخلّف حكم العلة عن محل من محال تحققها من غير «فرق مؤثر» (^١) بين محل التخصيص وبين باقي المحال، فإن هذا يُعد إبطالًا «نقضًا» لهذه العلة بالكلية.
قال الغزالي، ﵀: «اعلم أن العلة إذا ثبتت فالحكم بها عند وجودها حكم بالعموم، فإنه إذا ثبت أن الطعم علة انتظم منه أن يقال: كل مطعوم ربوي، والسفرجل مطعوم، فكان ربويًا، وإذا ثبت أن السُّكْر علة انتظم أن
_________
(^١) كانتفاء شرط لعمل العلة أو وجود مانع من عملها أو وجود علة أخرى تقتضي حكمًا آخر. انظر: آل تيمية، المسودة في أصول الفقه، دار الكتاب العربي، بيروت، ص ٤١٤، وسيشار له: آل تيمية المسودة والغزالي، المستصفى، ج ٢، ص ٣٣٤.
1 / 23