Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Genres
فالواحد منا يحس بمعنى المسئولية إن ارتكب خطيئة أمام ربه وكان متدينا، ويحس بهذا المعنى إذا أساء ظنه بغيره من الناس بغير حق، ويحس به أن رأى بائسا يستطيع تقديم المعونة إليه، ثم يحجم عن إعانته. ويحس به ولكن على شكل آخر إن هو أوصل الأذى إلى غيره. ويحس به على شكل ثالث إذا أتى ابنه وأخوه أو صديقه أمرا نكرا. يحس بالمسئولية أمام ضميره في الأحوال الأولى، وأمام الناس أيضا في الأحوال الثانية يحس أعمالهم على نحو ما يظن أنهم يحملونه تبعة أعماله.
ومع تشعب معنى هذه الكلمة وامتداده، فإنك ترى إحساس الناس به إحساس إيمان وتسليم بحيث لا يكاد يتسرب إلى أنفسهم شك في وجود هذه المسئولية، ولا في كمها وكيفها. وليس ذلك بغريب فيهم فإنهم كانوا ولا يزالون يسرعون إلى الحكم على أشد الأشياء دقة وأكثرها تطلبا للبحث والنظر بسهولة مدهشة، في حين تراهم يترددون إذا دعوتهم للحكم في مسالة بسيطة يمكنهم البحث في كل أجزائها، والوصول إلى معرفة ما جل وما دق منها. فمسائل الدين كلها: وجود الله، وخلود النفس والعقاب والثواب، والنظريات الاجتماعية والاقتصادية العليا كفكرة الأسرة، وحق العقاب، وفكرة الملكية ونحو ذلك - هذه المسائل المعقدة الدقيقة لا تحتمل لديهم مناقشة ولا جدلا، بل هم يرون من السخف النظر أو البحث فيها، ويطلقون على هذا السخف أنواعا من الأسماء، فيسمونه التجديف مرة والهرطقة أخرى والسفسطة ثالثة، أما ما انحط إلى أسفل من هذه المسائل بدركات، فهو يستدعي تفكيرهم وبحثهم لإمكان الحكم فيه، ككون زيد رجلا طيبا أو رجلا خبيثا. وكون عمل من الأعمال يستحق المدح أو الذم، وجمال حيوان أو قبحه، وغير ذلك من المسائل البسيطة.
وظاهر أن هذا تناقض غريب؛ لأن التردد في الحكم يزداد كلما ازدادت المسألة المطلوب الحكم فيها دقة وتعقيدا. فيجب من أجل الوصول إلى حكم مقنع تذليل جميع المصاعب، وحل كل العقد واستظهار كل الدقائق حتى تصبح المسألة مجموع مسائل بسيطة تحل كلها على طريقة واضحة مقبولة. فكيف يسوغ إذن حل مسألة دينية أو اجتماعية أو اقتصادية بكلمة في حين أننا ندقق ونبحث، إذا أردنا الحكم في أصغر الأمور وأضعف الأعمال. أفليس هذا هو التناقض بعينه؟
لو كان صحيحا ما يقال من أن الإنسان حيوان مفكر، وطالبنا جميع الناس بالتفكير لكان هذا تناقضا من غير نزاع؛ لأن مطالبتنا جميع الناس بالتفكير في كل مسألة تعرض عليهم مطالبة بالمستحيل. ولو وقف كل فرد منهم حياته على التفكير. لوقف دولاب الأعمال في العالم، ووقف بذلك ما يدعو للتفكير. وإنما يعيش المجموع الأعظم في كل الأمم وغذاؤه الفكري الإيمان. يعيش على وهم أنه فكر، ووصل من تفكيره إلى نتائج معينة اتخذها قواعد في الحياة، في حين أنه وجد هذه القواعد محضرة له بواسطة أفراد أعدتهم الطبيعة بما وهبتهم من الملكات الخاصة للقيام بوظيفة الفكر في العالم. هؤلاء الأفراد يضعون قواعد الحياة لا اعتباطا، ولا نتيجة شهوة من شهواتهم الفكرية، بل يضعونها محكومين بماضي الإنسانية الطويل، والقواعد التي يضعونها هم أو يضعها المتشبهون بهم، ولا يكون لها بالماضي لحمة نسب إنما هي قواعد ضيقة محكوم عليها مقدما بالبوار والفناء؛ لأن حياتها إنما تكون بدخولها في كتاب إيمان العالم. وفصول هذا الكتاب متناسقة فما كان دخيلا عليها لا يبقي بينها؛ لأنها تلفظه وتنفيه.
ولا شيء أشد تنافيا مع الإيمان من التحليل والتنسيب (إيجاد النسب بين الأجزاء المختلفة من الشيء الذي تحلله)؛ ذلك لأن أول ما يستدعيه التحليل والتنسيب هو إمكان الشك في مجموع ما نحلله، أو في نسبة شيء منه لشيء آخر. والشك وإلإيمان نقيضان لا يجتمعان؛ لذلك كان من أول خصائص الإيمان التسليم بالشيء جملة أو نفيه جملة.
وهذه النظريات الكبرى الدينية والاجتماعية والاقتصادية تستدعي من أجل تناول الفهم إياها تناولا دقيقا تحليلا طويلا، وملاحظة كثيرة يستلزمان الشك المرة بعد المرة حتى يمكن الوصول فيها إلى نتيجة تقنع العقل. وهذا التحليل وهذه الملاحظة هما من شان المفكر لا العامل. والنتائج الأخيرة التي يصل إليها المفكر هي وحدات إيمان كل فرد من أفراد المجموع يأخذها مقياسا للأعمال التي يستلزمها وجوده في الحياة.
هذه الوحدات الإيمانية يزداد عددها أو يقل بانحطاط الوسط أو رقيه، وبكثرة المفكرين وقلتهم. فكلما ارتقى الوسط قلت الوحدات الإيمانية. وكلما زاد المفكرون أمكن المجموع أن يرقى إلى مكانة من العقل تسمح له أن يشك في عدد أوفر من النظريات، وهذا هو السبب في «تطور» فكرة البطولة والألقاب التي كانت تعطى للعظماء والأبطال في متعاقب الدهور. فبينا كنت ترى لقب الألوهية يطلق على مفكرين، وعظماء أمثال (أودن) الاسكندنافي، وأمثال الآلهة وأنصاف الآلهة الكثيرين الحافل بهم تاريخ أثينا، ترى هذا اللقب يضعف ويتلاشى من عالمنا الأرضي، ويبقى وقفا على الإله الأعظم الذي لا تراه العيون، ولا تحيط بمكنون كنهه العقول. ويحل محل الآلهة، وأنصاف الآلهة الذين كانوا يشرفون الإنسانية في التاريخ الأول الأنبياء والرسل - عليهم السلام.
وهكذا ترى هذه الوحدات الجميلة التي كانت موضع القداسة والإجلال في الأزمان الأولى أزمان قصر العقل الإنساني، يرضى بعضها بالخلود في مستودع الماضي معززا مكرما في حين لا تستطيع الأخريات الوصول إلى هذا المركز من الإعزاز، ويكون كل نصيبها أن تذكر في تاريخ الإنسانية كموجود عقلي أخذ دوره على الزمان، ثم هرم وتلاشى.
وهذه «التطورات» تسير في حصولها على سنة معينة، تلك السنة هي الضرورة الاجتماعية. فما دامت فكرة معينة لازمة لبقاء الجمعية وتوازنها، فهذه الفكرة تدخل حتما في مجموع الوحدات التي يتكون منها القانون العام لبقاء الجمعية؛ لهذا كان الناس أكثر إيمانا بما وراء الطبيعة وبالقوى المصرفة للكون حين كانوا يعتقدون لهذه القوى أثرا فعالا في نزول المطر، وفي حركات الرعد والبرق، وفي الصواعق وفي غير ذلك مما يؤثر في حياة الاجتماع بالخير والشر. فلما بدت تباشير العلم وابتدأوا يوقنون أن الصواعق والمطر والخسوف كلها ظواهر تسير على قوانين ونواميس معينة قل إيمانهم الأول بما وراء الطبيعة، وأصبحوا يحسون بأن الصلات التي كانت تربطهم بتلك القوى تتلاشى شيئا فشيئا، حتى جاء مذهب الوضعيين (Les Positivistes)
في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وأساسه درس السنن والقوانين التي تحكم الطبيعة، وتصرف حياة الاجتماع من غير تعرض بخير أو شر أو احترام، أو تحقير للقوى الأصلية التي يقول بعضهم: بوجودها في حين ينكرها آخرون إنكارا تاما.
Unknown page