Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Genres
تأليف
الدكتور محمد حسين هيكل
الفصل الأول
الدين والعلم1
«... أما الدين والعلم فلم تكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة.»
1 ... فأما الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم فخصومة قديمة؛ لأنها خصومة على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم، وأما الدين والعلم فلم تكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة؛ لأن الدين يقرر المثل الأعلى لقواعد الإيمان التي يجب أن يأخذ الناس بها في حياتهم، والعلم يقرر الواقع في حياة الوجود ويترسم تطور الحياة في سبيل سيرها نحو ما يظنه الكمال، والواجب شيء والواقع شيء آخر، والكمال الذي يدعو الدين إليه كمال مقرر القواعد والأركان لا يمكن أن يتغير أو أن يتبدل، والكمال الذي يظن العلم أن الإنسانية تسير نحوه كمال ظني لا يستطيع العلم رسم قواعده؛ لأن العلم يعترف بأن الإنسانية، وهي بعض قليل من الوجود، خاضعة في تطورها ومورها لعوامل معروفة وأخرى ثابتة ولكنها ما تزال غير معروفة. وإلى أن يكشف العلم - إن أتيح له أن يكشف يوما ما - عن هذه العوامل غير المعروفة، فالكمال العلمي لا يزال ظنيا وما يزال مبهم الحدود غير مقرر القواعد والأركان.
فإذا سمعت يوما أن بين الدين والعلم خلافا أو خصومة فاقطع بادئ الرأي بأن الخلاف والخصومة ليستا بين الدين والعلم، ولكنهما بين رجال الدين ورجال العلم، وأن أساسهما ليس في شيء من الدين لذاته ولا من العلم لذاته، ولكنه في سعي كل من هاتين الطائفتين سعيا أنانيا صرفا ليكون بيدها الحكم والسلطان دون الأخرى.
وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن بين رجال الدين علماء في العلم آخذون بأساليبه من غير أن يطعن ذلك في دينهم أو يغير من عقيدتهم، ومن بين رجال العلم من عمرت بالإيمان نفوسهم، وأخذوا في حياتهم بما يدعو الدين إليه من قواعد الكمال . وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن رجال الدين من إذا خلوت إليه أو خلا إلى نفسه رأيت الشك يملأ جوانب فؤاده فيعذبه أو يدفعه إلى السخر والاستهزاء من غير أن يخرجه ذلك من زمرة رجال الدين، ومن رجال العلم من يشك في طرائق العلم وأساليبه أكبر الشك، ويدعو لذلك إلى الأخذ بأساليب أخرى قد تكون إلى أساليب الدين أقرب.
ألم يكن رينان الكاتب الفرنسي الكبير من رجال الدين، ثم بلغ من خروجه على متعارف قواعد الدين أن رمي بالإلحاد وأن أضافه أهل طائفته إلى رجال العلم ليحاربوه بالوسائل التي يحاربون بها رجال العلم، وبرجسون الفيلسوف الفرنسي الكبير يدعو إلى عدم التقيد بأساليب العلم الواقعي المقررة أن كان يراها أضيق من أن تتسع لكل الحقائق، وإلى الأخذ بوحي الإلهام فيما لم يصل العلم إلى الكشف عن حقيقته. ووحي الإلهام أقرب إلى الأساليب الدينية، بل هو قاعدة المذاهب الميتافيزيقية التي أنكرها العلم أشد الإنكار. وكثيرا ما حارب الدينيون رجلا منهم بتهمة خروجه على الدين فلما أتى عليه الموت وتقضت شهوات الحياة وفي مقدمتها شهوة الحكم والسلطان، ودخل هذا الرجل حوزة التاريخ عاد جيل جديد من الدينيين فجعله من المقدسين والأولياء المقربين. بل إنك لترى رجال الدين يشتدون في خصومتهم لأشد رجال العلم إيمانا لا لشيء إلا أن هؤلاء المؤمنين العلماء عرضوا لميدان الدين بالبحث. وهذا ديكارت العالم الفيلسوف الفرنسي الكبير كتب في العلم خير كتبه وعلا بين الناس مقامه وفضله، ولم يعرض له رجال الدين إلا حين بحث على طريقته العلمية - التي تبدأ بإنكار كل شيء - في وجود الله وخلود الروح. ومع أنه انتهى إلى إثبات وجود الله وخلود الروح بأدلته العلمية، فقد حظر رجال الكنيسة على الناس قراءة هذا الكتاب، بل قراءة كتب الفيلسوف كلها، وكانت مباحة من قبل. كذلك كان الأمر مع روسو؛ فقد أثبت وجود الله وأظهر من قوة الإيمان وفضله وجماله ما ندر أن استطاع واحد من رجال الدين أنفسهم الوصول إليه؛ ولهذا قامت عليه قيامة رجال الدين فنفي من فرنسا ونفي من سويسرا والتجأ إلى إنجلترا ثم تركها وظل هائما على وجهه طريدا من الكنيسة بقية حياته. هذا، وربما جاز لنا أن نقرن إلى هذين الاسمين اسم عالم من علماء الإسلام هو الأستاذ الشيخ محمد عبده؛ فلقد لقي في حياته من رجال الدين عنتا ورمي بالكفر والإلحاد، وهو صاحب رسالة التوحيد والقوة التي لم تعدلها في عصرها قوة للذود عن حياض الإسلام والمسلمين ضد من طعنوا عليه من أهل الأديان الأخرى.
ويزيدك دلالة على ما تقدم وعلى أن الخلاف ليس بين الدين والعلم، بل هو بين رجال الدين ورجال العلم وأنه خلاف على السلطة ونظام الحكم قبل أن يكون خلافا على شيء آخر، ما كان من الخلاف بين طوائف رجال الدين أنفسهم حين انقسامهم إلى مذاهب مختلفة. فقد بدأ الخلاف بين أهل هذه المذاهب على أنه خلاف في المبادئ لذاتها، ثم سرعان ما انقلب خلافا غايته السلطة والحكم، وكلمة هنري الرابع: «باريس تساوي قداسا» - يقصد أن امتلاك باريس يستحق انتقاله من البروتستاتنية إلى الكثلكة - تدل على معنى كبير. وكل الفرق بين هنري الرابع وغيره أن هنري الرابع كان صريحا وأن كثيرين يذهبون مذهبه لو أنهم وجدوا ما يساوي ذهابهم هذا المذهب. فإذا لم يجدوه ورأوا في التعصب لرأيهم ما يساوي باريس تعصبوا لهذا الرأي أيما تعصب.
Unknown page