Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Genres
وهذه القاعدة - وهي إحدى قواعد الطريقة التاريخية التي أكثر كومت من ترديدها - تنطبق تمام الانطباق على مذهبه. فمراجعة نصوصه وحدها لا تكفي لفهم نظريته فهما تاما، ولا لتقدير فكرته العامة على وجه الضبط، ولا تكفي لمعرفة الأسباب التي أدت بالمؤلف ليجعل لبعض نظرياته خطرا خاصا. وللوصول إلى ذلك كله يجب أن نقف مع مراجعة النصوص على الظروف التاريخية التي ظهر المبدأ في أيامها، وعلى حركة الأفكار العامة التي عاصرته، وعلى المؤثرات التي أثرت في نفس الفيلسوف أيا كان نوعها.
فالعصر الذي ظهرت فيه الفلسفة الواقعية (الوضعية) كان متأثرا بالثورة الفرنسية أكثر مما كان متأثرا بأي حدث آخر. وذلك ما قرره كومت صراحة. فلولا الثورة ما ظهر مبدأ التقدم ولا كان العلم الاجتماعي الذي بني عليه، ولا الفلسفة الواقعية التي جاءت على أثرهما. لكن هذه الهزة الاجتماعية غير العادية أحدثت حركة كبيرة في دائرة المضاربات الفلسفية والسياسية ، وقد اختلفت نتائج هذه الحركة باختلاف قوة الأذهان التي صادفتها وعبقريتها، وإن كانت بعض الظواهر الخاصة قد لفتت كبار المفكرين وضعافهم على السواء. من ذلك مثلا أن كان كل مفكر من الذين ظهروا في بدء القرن التاسع عشر يسائل نفسه: أي نظام يجب أن يقوم على أثر الثورة؟ ولم يكن الشكل الذي يريدونه للحكومة كل همهم من سؤالهم، بل كانوا يريدون أيضا الاهتداء إلى المبادئ الأساسية لنظام الاجتماع، وكانت هذه المسألة لا تحتمل في نظرهم إمهالا من الوجهة العلمية كما كانوا يحسبونها أم المسائل من الجهة النظرية. وهذه المسألة في صورها المختلفة هي التي شغلت «شاتوبريان» كما شغلت «فورييه» «وسان سيمون»، وتعلق بها «يوسف دمتر» كما عقلها «كوزن كومت».
على أنهم كانوا جميعا متفقين على نقطة أولية هي وجوب التجديد. فالعصر المضطرب الذي تداعى يجب أن يعقبه عصر نظام. وعبارة سان سيمون في هذا المعنى قوية غاية القوة إذ قال: «لم تخلق الإنسانية لتقيم في الخرائب والأطلال الدارسة». لكن الاضطراب الثوري والرجة التي تلته والهزة الاجتماعية التي جاءت على أثرهما كانت كلها من القوة والشدة، بحيث لم يستطع أحد معه أن يقدر نتائج الثورة تقديرا دقيقا. فكم من النظم كان يظن أنها تحطمت فإذا هي لم يصبها إلا بعض الاضطراب. وكثير من النظام القديم تخطى الأزمة سليما لم يصب بأذى. غير أن هذه الظاهرة التي لم تفت رجال سنة 1830 كانت لا تزال غامضة أمام الجيل الذي سبقهم، فلم يميزها وخيل إلى أهله أن النظام القديم دكت أعاليه وأسافله وأن واجبا عليهم لذلك أن يعيدوه، أو يخلقوا نظاما اجتماعيا جديدا، وكانوا في ظنهم هذا محتفظين بروح الثورة التي اعتبرها أهلها كما اعتبرها العالم المتمدن فاتحة لتشيد الإنسانية نظاما سياسيا واجتماعيا جديدا، لكن هذا المطمع العظيم لم يتحقق برغم أعمال الجمعيات الثورية وكفاية النوابغ الذين كانوا في الكنفنسيون
Convention ؛ بل تعاقبت الديركتوار
Le Directoire
والإمبراطورية بعد ذلك وبقيت المسألة كما كانت: كيف السبيل إلى تنظيم الجمعية بعد ما انهار النظام القائم؟
لذلك انصرفت المضاربات الفلسفية في مبدأ القرن التاسع عشر إلى المسائل الدينية والاجتماعية. صحيح أن تقدم العلوم الواقعية تقدما واضحا مطردا كان أمرا لا ريبة فيه، ولا يجوز إنكاره في بحث غايته استظهار فلسفة أوجست كومت. لكن عناية كومت بالمسائل العلمية كل تلك العناية إنما كان يقصد بها إلى حل المسألة الاجتماعية، وكانت كل غايته من الفلسفة أن يضع الأسس العقلية لبناء الجمعية، وأن يضع كذلك قواعد دين يحل محل الكثلكة التي كانت قد أتمت في نظره مهمتها.
قال رانك: «القرن التاسع عشر قرن إصلاح»، وتلك عبارة دقيقة تصور أحد مظاهر هذا القرن الخطيرة من جهته التاريخية. ولقد أراد به أهله أن يكون عصر إصلاح حقا. فكان الإصلاح وجهة معظم المبادئ الفلسفية التي صورت كنه طبيعة ذلك العصر، على أن هذا الإصلاح كان يثبت غير قليل من النتائج التي اكتسبت في أثناء الأزمة ويعضدها، كما أن نظريات جديدة استدعاها تقدم الصناعة الكبرى، جعلت بعيدي النظر من المفكرين يحسون تمام الإحساس بأن العصر الذي رغب الناس أشد الرغبة في انتهائه لم يكن في الحقيقة إلا عند أوله ومبتدئه.
واعتقد أوجست كومت كما اعتقد كثير من معاصريه أنه مبعوث لوضع «النظام الاجتماعي الجديد». لكنه كان يخالف من سواه في النظر. فكل من أولئك المصلحين كان يبدأ ما يرتئيه من مشروعات النظم صالحا لحل المسألة الاجتماعية، ويصرف كل مجهوداته بعد ذلك لتبرير رأيه. ولما كانت هذه المسألة في نظرهم لا تحتمل إمهالا، فقد قصروا أفكارهم عليها، أما كومت فكان يرى هذه الطريقة عقيمة محققة الخذلان. ذلك بأن المسألة الاجتماعية لا يمكن حلها مباشرة، بل يجب قبل التعرض لها حل مسائل أخرى نظرية صرفة، وهي هاته المسائل التي يجب البدء بها إذا كان للإنسان هم غير الاستكثار من الأحلام السياسية والأوهام الاجتماعية.
فالنظم عند كومت تابعة للأخلاق، والأخلاق تابعة للعقائد. ومن العبث وضع مشروعات نظم جديدة ما لم تكن الأخلاق قد رتبت، ونظمت وما لم يكن أساس هذا النظام مذهبا فكريا قد تم وضعه وقبلته النفوس كلها على أنه الحق، وآمنت به ما آمنت أوروبا بآي الكثلكة في القرون الوسطى. والمسألة الاجتماعية تبقى لا حل لها ما لم توضع فلسفة جديدة تكون أساسا لحلها.
Unknown page