من ليلة الإثنين يوم الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام سنة ثمان وعشرين وسبعمائة للهجرة.
وفي القلعة الدمشقية قضى شيخ الإسلام ﵀ نحبه مسجونًا مظلومًا، وكان في جسه الأخير قد أقبل على تفسير كتاب الله، وقد ضيق عليه بآخره، وأخذوا منه الدواة والقلم، فكتب ﵀ بالفحم أوراقًا لبعض أصحابه (١)، وفي السجن ختم القرآن مدة إقامته في القلعة ثمانين ختمة، وفي الختمة الإحدى والثمانين انتهى إلى قول الحق تعالى ناصر المظلومين، وقامع المتجبرين: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥﴾ [القمر: ٥٤، ٥٥].
وكان قد مرض أيامًا يسيرة، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلا موته، ولقد زلزلهم الحدث، واهتزت يومئذِ دمشق، فلئن كان شيخ الإسلام يهزها بالأمس بجهاده ودعوته، فهو اليوم يهزها بعد مماته، وتخرج دمشق التي أحبته بجميعها، برجالها وصغارها، بأمرائها وأعيانها، بأثريائها وفقرائها، تبكي على الشيخ وتتأسف عليه، وأغلقت الأسواق والحوانيت، وتجمع الخلق في حشد عظيم لم تعرف له مثيلًا في ذلك الزمان، وقد صلي عليه في القلعة، أولًا، ثم صلي عليه في جامع بني أمية الكبير عقب صلاة الظهر، ودفن ذلك اليوم، وقد صليت عليه صلاة الغائب في غالب أقطار الإسلام، في مصر والشام والعراق واليمن وغيرها، ولقد ذكر أنه صلي عليه صلاة الغائب حتى في الصين.
وجنازة شيخ الإسلام التي تسابقت إلى حملها الأفئدة قبل الأيدي، تذكر الناس بمقولة إمام أهل السنّة والجماعة، الإمام المبجل أبو عبد الله أحمد بن حنبل ﵁ حين قال: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز (٢).
_________
(١) أورد ابن عبد الهادي في العقود الدرية جملة من مضمون هذه الأوراق التي كتبها شيخ الإسلام بالفحم (٢٤٢ - ٢٤٥).
(٢) كلمة الإمام أحمد رواها إمام الحفاظ في عصره أبو الحسن الدارقطني عن أبي سهل بن زياد القطان عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، كما ذكر ذلك ابن عبد الهادي في العقود الدرية (٢٤٩).
1 / 71