فبقيت معهما مدة تسع سنوات أنجزت فيها - داخل كهفهما الرحب - أعمالا يدوية رائعة كثيرة: من مشابك صدر، وأسورة لولبية، وأزرار، وقلائد، وكان يتدفق حولي مجرى أوقيانوس، مزبدا، محدثا طوفانا يفوق الوصف. ولم يعرف بذلك أحد من الآلهة أو البشر، اللهم إلا ثيتيس ويورونومي، فهما اللتان أنقذتاني. وها هي ذي ثيتيس تأتي إلى منزلي، فواجب علي حقا أن أقدم إلى ثيتيس - الجميلة الجدائل - ثمن إنقاذ حياتي كاملا، كما ينبغي أن تقدمي لها وليمة طيبة، بينما أترك أنا كيري وأدواتي كلها.»
قال هذا، ورفع من السندان كتلة ضخمة لاهثة،
3
وهو يعرج قليلا. غير أن ساقيه الهزيلتين تحركتا بخفة تحته، فأزاح الكور عن النار ، وجمع كل الأدوات التي كان يستعملها في صنع صندوق من الفضة، وتناول إسفنجة مسح بها وجهه ويديه وعنقه القوي وصدره الأشعث، وارتدى إسفنجة مسح بها وجهه ويديه وعنقه القوي وصدره الأشعث، وارتدى عباءة، وأمسك عصا مكينة. ثم تحول وهو يعرج، فتحركت إماء مصنوعات من الذهب في صور عذارى أحياء، تحف به وتسانده، وكان في قلوبهن إدراك، وفيهن كلام وقوة، كما كن يعرفن أعمالا يدوية بارعة نعمة من الآلهة الخالدين، تحركت أولئك العذراوات بنشاط لمعاونة سيدهن في مشيته، وهو يقفز قريبا من مكان ثيتيس، ثم استوى جالسا على مقعد براق، وأمسك بيدها، وخاطبها بقوله: «أي ثيتيس الطويلة الرداء، ماذا أتى بك ضيفة مبجلة، أثيرة بترحيبنا؟ لم تكن عادتك من قبل أن تكثري التردد علينا، فأفصحي عما بنفسك. فإن قلبي ليأمرني بتحقيقه ما استطعت، إذا كان مما يمكن تحقيقه!»
فأجابته ثيتيس وقد انهمرت دموعها في الحال قائلة: «يا هيفايستوس، هل توجد بين ربات أوليمبوس جميعا، ربة قاست من المحن المحزنة الجمة في قلبها، كتلك التي رزأني بها زوس بن كرونوس، دون الأخريات؟ فقد زوجني - أنا وحدي، دون جميع أخواتي بنات البحر - لرجل من البشر هو «بيليوس بن أياكوس»، فتحملت مضاجعة إنسان رغم إرادتي. وإنه ليرقد الآن في قصره، وقد أنهكت الشيخوخة الأليمة قواه. وزيادة على ذلك فقد كان من نصيبي أحزان أخرى، فقد أنجبني ولدا لأحمله وأربيه. مبرزا بين المحاربين، فشب وترعرع أشبه بالغصن النامي. وبعد أن قمت بتنشئته كنبات في حقل غزير الإنتاج، أرسلته في سفن مدببة إلى طروادة ليحارب الطرواديين، غير أنني لن أستقبله عائدا إلى وطنه، وإلى بيت بيليوس. وبينما هو حي، يرى ضوء الشمس، فإن له ما يحزنه، ولا أستطيع مساعدته بحال من الأحوال، رغم ذهابي إليه. إن الفتاة التي اختارها له أبناء الآخيين جائزة، قد انتزعها الملك أجاممنون من بين ساعديه ، ففتت قلبه حزنا عليها. وكان الطرواديون يحاصرون الآخيين عند مؤخر السفن، ولم يمكنوهم من الخروج. فتوسل إليه شيوخ الأرجوسيين، ووعدوه بكثير من الهدايا المجيدة. وبالرغم من أنه رفض أن يدفع عنهم البلاء شخصيا، إلا أنه ألبس باتروكلوس حلته الحربية الشخصية وأرسله إلى الحرب، وبعث معه قوما كثيرين. فراحوا يقاتلون اليوم كله حول الأبواب السكايية. فخربوا المدينة في نفس ذلك اليوم، وأوقع ابن مينويتيوس الجريء ضررا بالغا بأهلها، فقتله أبولو وسط محاربي المقدمة مانحا المجد لهكتور؛ لذلك أتيت الآن إلى ركبتيك، عسى أن تهب ولدي - الذي كتب عليه ميتة سريعة - ترسا وخوذة، ودرعا عظيمة للساقين مدعمة بقطع للعقبين، ودرقة؛ فقد خسر صديقه كل ما كان له من قبل، عندما قتله الطرواديون؛ ومن ثم فإن ابني ينبطح على الأرض معذب القلب من الألم!»
عندئذ أجابها الرب العظيم، ذو الساعدين القويين، قائلا: «هوني عليك، ولا تجعلي هذه الأمور تعكر صفو قلبك. ليتني أستطيع أن أوفق في إخفائه عن الموت المؤلم، عندما يحل عليه المصير القاتل. ومن الأكيد أن ستكون له حلة حربية عظيمة تستأثر - في الأيام المقبلة - بإعجاب الكثيرين من جموع البشر، الذين يرونها.»
هيفايستوس يصنع عدة حربية!
وما إن قال هذا حتى تركها هناك، وانطلق إلى منافيخه يصوبها على النار، ويأمرها بالعمل، وكانت عشرين في العدد، فأطلقت لهيبها على بواتق الصهر، بألسنة متباينة القوى، كي تسعفه وهو يشتعل بجد ونشاط. فوضع البرونز الصلب والقصدير والذهب الثمين والفضة على النار، ثم أقام سندانا ضخما فوق قاعدة، وأمسك مطرقة هائلة بإحدى يديه، وأمسك بالأخرى الملاقط.
وصنع - أولا - ترسا عظيما متينا، زينه بمهارة من جميع النواحي. وثبت حوله إطارا براقا - من ثلاث طبقات - ووصله بحمائل من الفضة، فكانت طيات الترس خمسا، نقش عليها رسوما غريبة، بمهارة فائقة؛ نقش عليها الأرض، والسماء، والبحر، والشمس التي لا تكل، والقمر كاملا في استدارته، وجميع الكواكب التي تتوج السماء، البلياديس، والهياديس، وأوريون العتيد، والدب الذي يسميه البشر «المركبة» والذي يدور باستمرار في مكانه متطلعا إلى أوريون، والوحيد الذي ليس له مكان وسط حمامات المحيط.
ثم نقش عليه مدينتين للبشر غاية في الجمال؛ في إحداهما أعراس وولائم، والعرائس تزف - تحت أضواء المشاعل - من مخادعهن، خلال طرقات المدينة، بينما ترتفع أناشيد الزواج، ويرقص الشباب اليافع، على نغمات المزامير والقيثارات، وقد وقفت كل سيدة أمام بابها مجبة. واجتمع الناس في مكان الاحتشاد، إذ نشب هناك صراع، فقد اشتبك رجلان للأخذ بثأر رجل مقتول؛ الأول يعلن أنه دفع كل شيء، ويعرض الأمر على الجمع، بينما يرفض الثاني قبول أي شيء. وكل منهما يتلهف إلى أن يفوز بالنتيجة من فم الحكم، والناس يحيون كليهما - مؤيدي هذا الطرف أو ذاك - والمنادون يبعدون الشعب، بينما يجلس الشيوخ على أحجار مصقولة في حلقة مقدسة، يحملون في أيديهم صولجانات مندوبي الشعب ذوي الأصوات العالية، وكانوا يقفون ويدلون بالحكم بواسطتها، كل بدوره، وقد وضع في الوسط ثقلان من الذهب، جائزة لمن يصيب الحق في حكمه!
Unknown page