فرد عليها زوس، جامع السحب، بقوله: «لا تخافي يا هيرا أن يرى الأمر أي إله أو إنسان، فلسوف ألفك في غمامة هائلة من الذهب، لا يستطيع خلالها «هيليوس» نفسه أن يشاهدنا، رغم أنه أقوى الآلهة بصرا!»
وهكذا احتوى ابن كرونوس زوجته بين ذراعيه، ومن تحتهما أخرجت الأرض المقدسة الحشائش الناضرة، وكذا اللوتس المندي، والزعفران وشقائق النعمان، غزيرة ملساء، فحملتهما عاليا عن الأرض. هناك رقدا تلفهما غمامة، جميلة ذهبية، تتساقط منها قطرات الندى اللامعة. وهكذا نام الأب في هدوء فوق ذؤابة جارجاروس، وقد سيطر عليه النوم والهيام، يحتضن زوجته بين ذراعيه.
الآخيون يشنون هجوما مظفرا!
أما النوم اللذيذ فانطلق يعدو إلى سفن الأرجوسيين، ليحمل النبأ إلى مطوق الأرض ومزلزلها. فتقدم نحوه وخاطبه بكلمات مجنحة قائلا: «هل لك الآن يا بوسايدون أن تحمل المعونة إلى الدانيين بقلب رضي، وتمنحهم المجد - ولو لفترة وجيزة - بينما ينام زوس، إذ سكبت عليه النعاس الرقيق، وخدعته هيرا ليضطجع معها في عشق!»
هكذا قال، ثم رحل إلى قبائل البشر المجيدة، وبذا كانت أمام بوسايدون مدة أطول ليقدم فيها المساعدة إلى الدانيين، فقفز لتوه بين صفوف المقدمة وصاح عاليا يقول: «أيها الأرجوسيون، أحقا أننا من جديد سنسلم النصر لهكتور بن بريام، حتى يستولي على السفن ويحرز المجد لنفسه؟ كلا، هذا ما يقوله هو، ويزهو بأنه سيحققه؛ لأن أخيل يمكث إلى جانب السفن الجوفاء وقلبه مترع بالغضب، على أننا لا نأسف من أجله كثيرا لو أننا تكاتفنا وتحمسنا لمساعدة بعضنا بعضا. فتعالوا، ولنطع ما آمركم به. هلموا نتدثر بخير دروع الجيش وأكبرها، ولنغط رءوسنا بخوذات براقة كلها، ونمسك في أيدينا أطول الرماح، ثم نسعى هكذا إلى الأمام. ولسوف أتقدمكم. وأعدكم بأن هكتور بن بريام لن يصمد طويلا، مهما يكن تلهفه. وعلى كل رجل جسور في القتال، ويملك درعا صغيرة فوق كتفه، أن يقدمها إلى من هو أقل منه جرأة، ويزود نفسه بدرع أكبر.»
وإذ قال هذا، أنصتوا إليه بآذان صاغية، وأطاعه الملوك أنفسهم - برغم جراحهم - فانتظموا في صفوف، وكانوا، ابن أتريوس، وأوديسيوس، وأجاممنون بن أتريوس. وجاسوا خلال الجيش كله، وقاموا باستبدال العدد الحربية، فزود المحارب القوي نفسه بحلة حربية قوية، أما أقل المحاربين فقد نال أردأ العدد. وبعد أن وضعوا البرونز البراق على أجسامهم، قادهم «بوسايدون» - مزلزل الأرض - وهو يحمل في يده القوية سيفا مرعبا، طويل الحد، أشبه بالبرق لا يجرؤ أحد على أن يتعرض له في قتال، بل إن الهلع يستبقي الرجال بعيدا عنه! أما الطرواديون - في الجهة المقابلة - فقد نظمهم هكتور المجيد في صفوف ثم أذكى بوسايدون - الأدكن الشعر - وهكتور المجيد، جذوة الحرب: أحدهما يقدم المعونة للطرواديين، والآخر للأرجوسيين، فالتحم الطرفان، وفاض البحر عاليا إلى أكواخ الأرجوسيين وسفنهم، وارتفع طنين الصراع قويا، دونه صخب أمواج البحر على الشاطئ، تدفعها من اليم هبات الرياح الشمالية الفظيعة، ولا يفوقه ارتفاعا زئير النار المستعرة في ممرات أحد الجبال عندما تثب عاليا لتحرق الغابة، ولا تزمجر في مثل دويه، وسط قمم أشجار البلوط الباسقة، تلك الريح التي تزأر غاضبة بأعلى صوتها العاصف، هكذا كانت صيحة الطرواديين والآخيين وقتذاك، وهم يصيحون بصورة مفزعة، وقد انقض بعضهم على بعض.
وبادر هكتور المجيد فقذف رمحه نحو أياس - بمجرد أن استدار ليواجهه - ولم يخطئه، بل أصابه في موضعي حمائل ترسه وسيفه المرصع بالفضة، وكانت ممتدة عبر صدره، فصانت جسمه الرقيق. واستشاط هكتور غضبا لأن الرمح السريع قد طار عبثا من يده، فانبرى عائدا وسط حشد رفاقه، متحاشيا الموت. بيد أن «أياس» التيلاموني ضربه بحجر - بمجرد أن ارتد إلى الوراء - فلقد كانت هناك أحجار كثيرة تستخدم كدعامات للسفن السريعة، وكانت تتدحرج بين أقدامهم وهم يتقاتلون - فرفع واحدا منها إلى فوق، وضرب به هكتور على صدره فوق حافة الترس، بقرب عنقه، فأخذ هذا يدور - من عنف الضربة - كما تدور الدوامة، يدور ويدور، وكما يحدث عندما تسقط شجرة بلوط - وقد اجتثت جذورها - بفعل صاعقة من صواعق الأب زوس، فيصعد منها دخان الكبريت المخيف، وتغيض جرأة كل من يقف على مقربة، فزعا من صاعقة زوس العظيم، هكذا سقط هكتور القوي إلى الأرض في الحال، يتخبط في الثرى، وسقط الرمح من يده. غير أن الترس وقع فوقه، وكذا الخوذة، ومن حوله صلصلت حلته الحربية المرصعة بالبرونز.
عندئذ جرى أبناء الآخيين بصرخات مدوية، أملا في أن يجروه بعيدا. وهم يقذفون رماحهم كثيفة وسريعة. بيد أن أحدا لم يفلح في أن يجرح راعي الجيش بطعنة أو رمية، إذ تجمع حوله - قبل أن يقدر لشيء من هذا أن يحدث - أشجع القوم من أمثال «بولوداماس»، و«أينياس»، و«أجينور» العظيم، و«ساربيدون» - قائد اللوكيين - و«جلاوكوس» المعدوم النظير. ولم يكن بين الباقين من لم يفطن إليه، فاندفعوا جميعا أمامه يحملون تروسهم المستديرة، ورفعه رفقاؤه على سواعدهم، وحملوه بعيدا عن معمعة القتال، حتى بلغوا الجياد السريعة، التي كانت تقف في انتظاره عند مؤخرة ميدان المعركة والصراع، مع سائقها وعربتها المرصعة ترصيعا فاخرا. فحملته هذه الجياد إلى المدينة، وهو يئن أنينا عنيفا. فلما بلغوا مخاضة النهر السلس الجريان كسانثوس ذي الدوامات - الذي أنجبه زوس الخالد - حملوا هكتور من العربة إلى الأرض، ورشوا الماء فوقه، فانتعش، وتطلع بعينيه إلى فوق، ثم جلس على ركبتيه راكعا، وتقيأ دما قاتما. ثم انهار من جديد على الأرض، وغشي عينيه ليل أسود، وكانت الضربة لا تزال تؤلم روحه.
وعندما شاهد الأرجوسيون هكتور محمولا، راحوا ينقضون على الطرواديين انقضاضا أكثر شدة من ذي قبل، وهم يحدثون أنفسهم بالقتال. وعندئذ كان «أياس» السريع - ابن أويليوس - أول من انقض على «ساتنيوس» وجرحه بطعنة من رمحه الحاد، وهو ابن «أينوبس» الذي أنجبته له الحورية النيادية العديمة النظير، بينما كان يرعى قطعانه بالقرب من شواطئ ساتنيويس. فاقترب منه ابن أويليوس - المشهور برمحه - وضربه فوق جنبه، فسقط إلى الوراء، ومن حوله اشتبك الطرواديون والدانيون في صراع مرير. فهب لمعونته عندئذ الرماح «بولوداماس بن بانثوس»، ورمى فأصاب «بروثونيور بن أرايلوكوس» فوق كتفه اليمنى. وشق الرمح القوي طريقه خلال الكتف، فسقط «بروثوينور» في الثرى، وأمسك الأرض براحته. وعندئذ اختال «يولوداماس» بزهو بشع، وصاح عاليا: «إني لأرى أن الرمح لم ينطلق عبثا - مرة أخرى - من اليد القوية التي أوتيها ابن بانثوس العظيم الهمة. بل لقد تلقاه أحد الأرجوسيين في جسمه، وأعتقد أنه سيتكئ عليه - كأنه العصا - وهو يهبط إلى بيت هاديس.
هكذا قال، فران على الأرجوسيين الحزن من جراء تهلله ولا سيما «أياس» الحكيم القلب، ابن تيلامون، الذي ثار غيظه لأن الرجل سقط قريبا جدا منه. وبسرعة قذف رمحه البراق صوب الآخر، وهو ينسحب إلى الوراء. ونجا «بولودامان» نفسه من الموت، بأن وثب جانبا، ولكن أرخيلوخوس بن أنتينور تلقى الرمح، إذ أرادت الآلهة له الموت. فأصابه الرمح في موضع اتصال الرأس بالعنق، فوق أعلى فقرة من العمود الفقري، ومزقت الطنبين.
Unknown page