لم يكن هوميروس أول من نظم الملاحم أو منظومات الشعر القصصي، ولا مبتدعا لطرق إنشادها، وأساليب ترصيعها بشواهد العلم والتاريخ، فتلك سليقة ألفتها أمته، وأكثر الأمم في غوامض أيام البداوة والجاهلية، وقد حسبوا لمن تقدم من شعراء اليونان سبعين منظومة كملحمتيه منهما إلياذتان الكبرى والصغرى، وأوذيسية واحدة، وقد بادت جميع تلك المنظومات، ولم يقو على مكافحة الزمان سوى تينك المنظومتين، فقد بقيتا كلؤلؤتين براقتين في قلادة الأدب، وكسفتا بأشعتهما سائر ما بقي من نظائرهما، وخلدتا لليونان مجدا لا يمحوه تقادم العصور، وكرور الدهور.
ولم يشع شيوعهما بين البشر شيء من المنظوم والمنثور إلا كتب الدين، ولا تزالان كما كانتا منذ ثلاثة آلاف عام في المقام الأول بين نتاج القرائح.
وليس ما تقدم من إبداعهما خلاصة العلم والسياسة وتوابعهما من أسباب ذلك البقاء في شيء فإن طلاب العلم، ولا سيما في العصور الغابرة فئة ضعيفة تطلب العلم من أبواب أخرى تتلقنها من كتب وضعت لها، والعلم كل يوم في شأن يتقلب ويتغير، وينحط ويرتقي، فما صلح منه في الأمس لا يصلح في الغد، وما كان منه في اليوم صوابا ساطعا أصبح بعده خطأ فادحا، فلا بد من أن تكون ثمة أسباب ثابتة مغرسها في النفس، ومنبتها في القلب لا تتغير بتغير زمان، ولا تتأثر بترق وحضارة.
فإن هوميروس إنما نقر على أوتار الأفئدة فأثارها، ونفخ في بوق الأرواح فأطارها، ومزج الحقيقة بالخيال مزجا يخيل لك أنهما تآلفا فتحالفا، وسبر أعماق النفس في سذاجتها، وتحرى الفطرة في بساطتها، وهاج العواطف والشعائر، وتكلم بجلاء لا تشوبه مسحة التكلف، فأسهب موضع الإسهاب، وأوجز موضع الإيجاز، ومثل تمثيلا ناطقا، وفصل تفصيلا صادقا عن عقيدة وإخلاص.
وإذا أضفنا إلى ذلك بلاغة الشعر، وتناسق النظم، ودقة السبك، ورقة المعنى، والسهولة والانسجام ذهبت عنك غرابة ذلك الخلود.
قال غيزو:
48 «وإن ما يرى في شعر هوميروس من مزج الخير والشر، والضعف بالقوة، واتحاد الأفكار والمشاعر بمظاهر مختلفة، وتنويع الأفكار والأقوال، وبسط أحوال الطبيعة والأقدار على أنماط متباينة كل ذلك يبث الأميال الشعرية بما لا يماثله مثيل؛ لأن فيه أس كل أساس، وحقيقة الإنسان والعالم» وعندي أن من أقوى عوامل البقاء في الإلياذة والأوذيسية مع استجماع ما تقدم من الأسباب أن بذورهما وقعت من كف صالحة على أرض صالحة إذ نظمتا بلغة سهلة في عصرها، فلم يكن يغلق فهم شيء من معانيهما على أقل الناس علما، فشغف بهما القوم وتناولوهما وتناقلوهما، وحرصوا على ادخارهما؛ لأنهما مستودع الجمال، والمرء حريص على استبقاء كل جميل.
انتشارها ونقلها من اليونانية إلى سائر اللغات
اللاتينية
كان انتشار الإلياذة بين اليونان كانتشار نور الشمس عند بزوغها، فما كان يبرق منها بارق من فم الشاعر حتى يتهافت عليه كل رفيع ووضيع، ثم ما لبث أن تطرق هذا التهافت إلى الرومان، فنقلوها إلى لغتهم وترنموا بإنشادها، وشد شعراؤهم على التقاط دررها، وتحدي معانيها حتى أقاموا على تلك المعاني دعائم منظوماتهم الكبرى وفي مقدمتهم فرجيليوس كبير شعراء اللاتين.
Unknown page