وهم سلاطين الكلام ألا ترى
كل امرئ منهم له ديوان
نظر صاحب هذين البيتين إلى الشعر العربي من حيث إنه دليل البلغاء وحجة اللغويين، وشاهد الخطأ والصواب، ولكنه لو أراد الزيادة لقال: إن سلطان الشعراء يمتد إلى ما فوق ذلك، وإن الشعر ريحانة النفوس ومبدد البئوس، وقد كان في غابر العهد سجل الحكمة، ومنهل النغمة، ومحط الفخار، ومطمح الأبصار، وأن شاعرا واحدا كان يرفع قبيلة ويخفضها، ويعزها ويذلها فينفذ كلامه في الإحساس، ولا نفوذ أحكام الآمر المستبد بالناس، وأن سلطة الشعراء في الجاهلية كانت تباري سلطة الرؤساء، والقبائل تستثمر سلائق الفتيان أيان توسمت فيها الذكاء استثمار بني الحضارة كل غرس زهي، وفرع زكي، فإذا نبغ فتاهم، وقال قولا نافذا تباشر به الكهول والشبان والشيوخ والولدان، وخرجت النساء بالمزاهر وغنين ورقصن، وقلن أزف الفرج فقد صينت الأعراض، وحفظت الأنساب، وارتضت الأحساب وحمي الذمار وتخلدت الآثار، وطارت البشائر فأقبلت الوفود من سائر العشائر كأنهم في يوم نصر عظيم.
ولطالما قال شاعرهم أبياتا، فتناقلتها الركبان وأومضت وميض البرق فبهرت الأنظار، وقضت الأوطار. قالوا: إن الأعشى الأكبر كان يأتي سوق عكاظ في كل عام فيتجاذبه الناس في الطريق للضيافة طمعا بمدحه إياهم في سوق عكاظ، فمر يوما ببني كلاب، وكان فيهم رجل يقال له المحلق فقير الحال، ضيق المعاش، وله ثماني بنات لا يخطبهن أحد لمكان أبيهن من الفقر، وخمول الذكر، فقالت له امرأته ما يمنعك عن التعرض لهذا الشاعر وإكرامه، فما رأيت أحدا أكرمه إلا وأكسبه خيرا، فقال: ويحك ما عندي إلا ناقتي، فقالت يخلفها الله عليك، فتلقاه قبل أن يسبق إليه أحد من الناس، وكان الأعشى كفيفا يقوده ابنه، فأخذ المحلق بخطام الناقة، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على الخطام فقال: فتى شريف كريم، ثم أتى به منزله وأكرمه، ونحر الناقة وجعلت البنات يدرن حوله، ويبالغن في خدمته، فقال: ما هذه الجواري حولي، فقال المحلق: بنات أخيك، وهن ثمان نصيبهن قليل، فقال الأعشى: هل لك حاجة، فقال: تشيد بذكري فلعلي أشهر فتخطب بناتي ، فنهض الأعشى من عنده ولم يقل شيئا، فلما وافى سوق عكاظ أنشد قصيدته التي أنشأها في مدحه، وهي التي يقول فيها:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
إلى ضوء نار بالبقاع يحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق
فاشتهرت القصيدة، ولم تمض على المحلق سنة حتى زوج بناته، ويسرت حاله وإن في كتب العرب من أخبار شعراء الجاهلية ما لا تعد هذه الرواية بجانبه أمرا خطيرا.
وكان المولدون مع تبذل الجم الغفير منهم، وانحطاط منزلتهم عن شعراء الجاهلية ينالون بشعرهم أبعد المطالب. روى ابن خلكان أنه قدم بين يدي المأمون نصر بن منيع، وكان قد أمر بضرب عنقه، فقال نصر يا أمير المؤمنين: اسمع مني كلمات أقولها، فقال: قل فأنشأ يقول:
Unknown page