206

وهو معلوم أيضا أن الشائع عن العرب بين الإفرنج أنهم لم يضربوا إلا على وتر الشعر الموسيقي، ولم يتخطوا في النظم إلى ما وراء القصائد والأغاني، ولكنه قول مبالغ فيه بل زعم موهوم فيه كما سنبين في باب «ملاحم العرب».

ملاحم الأعاجم

قد يتبادر إلى الذهن أن رسم الظواهر أقرب إلى الفطرة وأيسر تناولا من رسم الخوافي الكامنة في النفس؛ ولهذا كان الشعر القصصي في أكثر الملل متقدما على الشعر الموسيقي وفنونه، والصواب أن الأغاني والقصائد أقدم من الملاحم والملاحم أقدم من التمثيليات لأن أقدم ما نطق به الإنسان من الشعر إنما كان أغنية يتطرب بها، أو أنشودة تقذفها النفس إشعارا بعاطفة من نحو حب ودعاء وغيظ ورجاء، أو ملهاة ينشدها الكبير ليتلهى بها الصغير، فهذه القطع الصغيرة تقدمت بلا ريب على المنظومات الطويلة من أشباه الإلياذة إذ لا تتوفر معدات نظم الملاحم إلا في الشعوب الراقية بعد أن تألف نظم المقاطيع القصيرة مئات من الأعوام، ولكن قد يمكن أن يكون ارتقاء الشعر القصصي متقدما على ارتقاء الشعر الموسيقي، وأن تقدم الموسيقى بالوضع كما أن ارتقاء بلاغة الشعر متقدمة على بلاغة النثر، وإن كان النثر متقدما بالوضع. أما التمثيليات فهي من نتاج الملاحم فجاءت متأخرة عنها بالطبع؛ لأنه كان أيسر على الشاعر في غابر الأزمان أن ينطق بلسان جميع ممثليه كما هي الحال في الملاحم من أن يجعل كلا منهم ينطق بلسان نفسه في محل معد لذلك كما هو الواقع في التمثيليات.

والشعراء في جميع الملل يجارون المؤرخين في تدوين الوقائع، وهم وإن قصروا عن المؤرخين في تعيين المواقيت وتفصيل الحوادث إلا أنهم يسبقونهم في تعريف الشعائر والأخلاق، ووصف أحوال المجتمع البشري وتبيان علاقة الخالق بالمخلوق؛ لهذا لم يكن في الأمم قديمها وحديثها أمة أدركت شأوا مذكورا في الحضارة إلا وقام نوابغ الشعر القصصي يبسطون أحوالها، ويجيدون الرسم بنافذ الكلام بما يفوق إجادته بقلم الرسام.

فلقدماء المصريين شعر كثير يستدل عليه من عادياتهم، وإن كان الزمان قد أباد ملاحمهم الطويلة، فإن في ما وجد من القطع المتبعثرة بين الآثار ما يدل على أنها كانت ذات شأن خطير، وحسبك منها شعر نبتاهور.

وللهنود ملاحم بقي بعضها ولا تزال «المهابهارتا» آية في بابها وقد ترجمت منها قطع كبيرة إلى لغات الإفرنج.

وللعبرانيين ملاحم لا يزال بعضها في التوراة، ولقدماء الجرمانيين والسكنديناڨيين ملاحم كانوا يحلونها محلا رفيعا.

واليونان كانوا منذ القدم مشغفين بالشعر القصصي، ولهم فيه منظومات كثيرة قبل ملحمتي هوميروس أشرنا إليها في موضعها.

والرومان ساروا على إثر اليونان، فأبدعوا في هذا الفن وقد أشرنا مرارا إلى إنياذة فرجيليوس.

وقام الإفرنج على أثار تينك الدولتين، وتغنوا قرونا بمنظومات رولان في فرنسا، وهيلدبراند ونيبولنغن في ألمانيا إلى أن قام نوابغ المتأخرين كدنتي الإيطالي، وملتن الإنكليزي ومن حذا حذوهما.

Unknown page