ليس في عصر المتأخرين ما يستوقف النظر، فهو عصر الانحطاط والتقليد فإن الدول العربية كانت قد دالت، وتغلب الأعاجم على ممالك الإسلام، ولولا القرآن لبادت لغة قريش المضرية كما تقدم وبانت في عداد اللغات الميتة، وقامت في إثرها لغات لا يتفاهم أصحابها، والعباسيون وهم أصحاب ذلك اللواء الخافق بين المشرقين كانوا قد هبطوا من سماء مجدهم لقرون خلت، ولكن أسس العلم أرسخ من أسس الدول، فالدول تدول وملكها يزول، وتبقى معالم حضارتها وعرفانها، ولولا ذلك لانطفأت جذوة النهضة العباسية في أواخر القرن الثالث للهجرة حين لم يبق للعباسيين من حقيقة السلطان إلا طيف خيال، ولكان شاعرهم ابن المعتز آخر من أسلم تلك الراية البيضاء بيد الجلاد الذي تولى قتله، ولكن قاهر الدول ومبيدها يذل دون إبادة معارفها ؛ ولهذا تعاقبت الأحقاب وشرارة النهضة العباسية لاهبة تتضرم في أفئدة الشعراء تضرمها في عقول العلماء، ولم تخمد إلا بعد أن بلغت الحد المقضي لكل مفطور ومنظور.
ومع هذا فإن تلك الجذوة ما زالت ترسل قبسا تذكو به قريحة شاعر حينا بعد حين حتى لا تخلو الأرض في زمن من شعراء العرب، وحسبك النظر إلى ابن نباتة المصري في القرن الثامن، وابن حجر العسقلاني في القرن التاسع، وعبد الباقي المعروف عند الترك بملك شعراء الروم في القرن العاشر، وابن معتوق الشهاب الموسوي في القرن الحادي عشر، وعبد الغني النابلسي في القرن الثاني عشر.
ويقال مع ذلك إجمالا أن الانحطاط في الشعر العربي أخذ يظهر قبل انقضاء عصر المولدين، وبات التقليد شعار المتأخرين، وحبذا لو كان تقليدا صحيحا بل هو شوه وجه الشعر، ولا سيما في القرنين الأخيرين إذ بات شاعرنا، ولا إلمام له بأحوال عصره فضلا عن أحوال المتقدمين يتحدى امرأ القيس، فيضرب في البوادي والقفار، وهو في بيت موصد الأبواب، ويسوق الظعن وهو على متن قطار البخار، ويترنم ببهجة الرقمتين وينيلهما من كرمه صفات جنة عدن، ولا يدري أنهما مطمئنان من الأرض في بادية قفرة تقتله أشعة الشمس إذا وقف إليهما ساعة واحدة، وهو لو فطن يتنقل في موطنه في روض أريض، وجنات تجري من تحتها الأنهار، حتى لو أردت أن تستدل من شعرهم على شيء من حالة مجتمعهم لأعياك ذلك، وغاية ما يرتسم في ذهنك صور مشوهة لا يعلم لها رأس من ذيل.
ولما كانت الكنانة فارغة من سهام المعاني عمدوا إلى قذف الألفاظ مزوقة بحلية يتسترون من ورائها وما هم بمتسترين، حتى كأن قدماء العروضيين كانوا ينظرون إليهم عندما وضعوا للشعر ذلك التعريف الناقص، فقالوا: «هو الكلام المقفى الموزون» ولم يزيدوا.
الشعر العصري
لم يبق للشعر بعد تلك الرقدة الطويلة إلا أن يهب هبة جديدة بطور جديد، وروح حية، وفي الأمة والحمد لله بقية متأهبة لولوج ذلك الباب الرحب، وهي شاغرة منذ نصف قرن بوجوب مجاراة الزمان، وعالمة أن التصدي لمصادمة تيار الترقي غرور عاقبته الزيغ والخذلان ؛ ولهذا شرع النوابغ من أبناء هذا العصر في تعديل الخطة، فكانت لهم اليد البيضاء، وأسفر جهدهم عن إبراز الشعر الرقيق بالثواب الأنيق، وما هو إلا قبس فاض من غرة هلال سيتكامل بفضلهم بدرا إن شاء الله.
الملاحم أو منظومات الشعر القصصي
بحث العرب في أبواب الشعر وضروبه وفنونه، ودعوها جميعا بأسماء تنطبق عليها، ولكنه لم يتصل بنا أنهم وضعوا اسما لمنظومات الشعر القصصي من نظائر الإلياذة إلا أن يكون ذلك ما استحدثه أهل المغرب، وسماه بعضهم بالملاحم، وهو عندهم كالملاعب بالشعر العامي ما تضمن من المنظوم أحوال أمة أو قوم وفصلت فيه وقائع الحروب والتاريخ، ولعلهم أخذوا ذلك من التحام القتال، والملحمة في اللغة: الوقعة العظيمة، وربما قصد بها الإحكام من لحم الأمر بمعنى: أحكمه؛ لأن من ألقاب صاحب الشريعة الإسلامية «نبي الملحمة» وقالوا في تفسيرها: «نبي القتال أو نبي الصلاح، وتأليف الناس كأنه يؤلف أمر الأمة.
ويقول العرب أيضا: ألحم فلان الشعر، وحاكه بمعنى: نظمه تشبيها لبيت الشعر ببيت الشعر، وبالثوب المحوك كأنهم يريدون الإشارة إلى تأليف أجزائه بإحكام اللحمة بينها، ومنه الملحمات لمختارات سبع من قصائدهم سيأتي ذكرها.
ومهما يكن من النسبة المعنوية بين لفظ الملحمات والشعر القصصي، فالنسبة بينه وبين الملاحم أظهر؛ ولهذا سمينا إلياذة هوميروس وأشباهها بالملاحم تفاديا من استحداث لفظة لم يسبق لها استعمال بين الكتاب.
Unknown page