بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم = كتاب الِاجْتِهَاد =
القَوْل فِي تصويب الْمُجْتَهدين وَذكر وُجُوه الْخلاف فِيهِ
اعْلَم وفقك الله ان مَا يجْرِي فِيهِ كَلَام الْعلمَاء يَنْقَسِم الى الْمسَائِل القطعية والى الْمسَائِل الاجتهادية الْعَارِية عَن ادلة الْقطع
فَأَما الْمسَائِل القطعية فتنقسم الى الْعَقْلِيَّة والسمعية
فَأَما الْعَقْلِيَّة فَهِيَ الَّتِي تنتصب فِيهَا ادلة الْقطع على الِاسْتِقْلَال
1 / 23
وتفضي الى الْمطلب من غير افتقار الى تَقْرِير الشَّرْع وَذَلِكَ مُعظم مسَائِل العقائد نَحْو اثبات حدث الْعَالم واثبات الْمُحدث وَقدمه وَصِفَاته وتبيين تنزيهه عَمَّا يلْزم فِيهِ مضاهاة الْحَوَادِث واثبات الْقدر واثبات جَوَاز الرُّؤْيَة وابطال القَوْل بِخلق الْقرَان وَتَحْقِيق قدم الارادة الى غير ذَلِك من الاصول
واما الشَّرْعِيَّة فَكل مَسْأَلَة تنطوي على حكم من احكام التَّكْلِيف مَدْلُول عَلَيْهَا بِدلَالَة قَاطِعَة من نَص اَوْ اجماع
وَقد اخْتلفت عِبَارَات اصحابنا اذ سئلوا عَن تَحْدِيد مسَائِل الاصول فَذكر القَاضِي عِبَارَات فِي مصنفاته فَقَالَ فِي بَعْضهَا حد الاصل مَالا يجوز التَّعَبُّد فِيهِ الا بِأَمْر وَاحِد فيندرج تَحت هَذَا الْحَد مسَائِل الِاعْتِقَاد وَيخرج عَنهُ مسَائِل الشَّرْع أجمع قطعيها ومجتهدها
وَقَالَ مرّة اخرى حد الاصل يَصح من النَّاظر العثور فِيهِ على الْعلم من غير تَقْدِير وُرُود الشَّرْع
وزيف فِي هَذَا الْكتاب مَا ذكره فِي كتبه وَقَالَ لَا يَنْبَغِي ان نحد
1 / 24
بِهَذِهِ وامثالها اصول الدّين اذ يدْخل عَلَيْهَا وجوب معرفَة الْبَارِي وَمَعْرِفَة صِفَاته وَوُجُوب معرفَة النُّبُوَّة فوجوب معرفَة هَذِه الاصول من اصول الدّين فَلَا سَبِيل الى الحاق هَذَا الْقَبِيل بمسائل الْفُرُوع مَعَ علمنَا بِأَن الْوُجُود لَا يثبت الا شرعا فَبَطل من هَذَا الْوَجْه حصر مسَائِل الاصول فِي العقليات وَلذَلِك يجوز تَقْدِير نسخ وجوب الْمعرفَة عندنَا فَكل مَا ثَبت اصله بِالشَّرْعِ يجوز فِيهِ تَقْدِير النّسخ
فالحد الصَّحِيح الَّذِي عول عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ من اصول الدّين ان قَالَ كل مَسْأَلَة يحرم الْخلاف فِيهَا مَعَ اسْتِقْرَار الشَّرْع وَيكون مُعْتَقد خلَافهَا جَاهِلا فَهِيَ من الاصول سَوَاء استندت الى العقليات ام لم تستند اليها
فَإِن قَالَ قَائِل فالعقليات الَّتِي يتَكَلَّم فِيهَا ارباب الْكَلَام وَيَقَع الِاسْتِقْلَال بذواتها فِي العقائد تعد من الاصول وَلَا يتَحَقَّق فِيهَا تَحْرِيم الْخلاف
قُلْنَا ان كَانَت مناطة بقاعدة من قَوَاعِد الدّين وان كَانَت من
1 / 25
الدقائق يحرم الْخلاف فِيهَا وان كَانَت لَا تتَعَلَّق بِشَيْء من الْقَوَاعِد فَلَا تعد من اصول الدّين وانما اعتبارنا بأصول الدّين
حكم تصويب الْمُجْتَهدين فِي الاصول
فَإِذا عرفت مَا هُوَ الاصل فَلَا تقل فِيمَا هَذَا سَبيله ان كَانَ مُجْتَهد مُصِيب بل الْمُصِيب فِيهَا وَاحِد وَمن عداهُ جَاهِل مخطىء وَهَذَا مَا صَار اليه كَافَّة الاصوليين الا عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري فَإِنَّهُ ذهب الى ان كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الاصول كَمَا ان كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْفُرُوع
ثمَّ اخْتلفت الرِّوَايَات عَنهُ فَقَالَ فِي اشهر الرِّوَايَتَيْنِ انا اصوب كل
1 / 26
مُجْتَهد فِي الَّذين تجمعهم الْملَّة واما الْكَفَرَة فَلَا يصوبون وغلا بعض الروَاة عَنهُ فصوب الكافة من الْمُجْتَهدين دون الراكنين الى الدعة والمعرضين عَن امْر الِاجْتِهَاد وَحَقِيقَة مذْهبه يبين فِي الْخلاف فَهَذَا بَيَان اُحْدُ الْقسمَيْنِ وَهُوَ مسَائِل الاصول
حكم الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع من حَيْثُ التصويب والتخطئة
فاما مسَائِل الْفُرُوع فَنَذْكُر حَدهَا اولا
واصح مَا يُقَال فِيهَا ان نقُول كل حكم فِي افعال الْمُكَلّفين لم يقم عَلَيْهِ دلَالَة عقل وَلَا ورد فِي حكمه الْمُخْتَلف فِيهِ دلَالَة سمعية قَاطِعَة فَهُوَ من الْفُرُوع
1 / 27
واذا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء فِي مباينة اجتهادهم فَمَا حكمهم فِي التصويب والتخطئة
فاما نفاة الْقيَاس فقد قطعُوا بَان الْمُصِيب وَاحِد وعينوه وَزَعَمُوا ان من اخطأ الْحق الْمعِين فَهُوَ مأثوم مأزور وَلم يقل بِهَذَا الْمَذْهَب من القائسين الا الاصم وَبشر المريسي فانهما زعما ان الْمُصِيب وَاحِد وَالْمَطْلُوب وَاحِد وَمن تعداه مأثوم
1 / 28
وَصَارَ كَافَّة الْعلمَاء الى نفي الاثم والحرج فِي مسَائِل الْفُرُوع وَاخْتلفُوا بعد ذَلِك فِي التصويب
فاما الشَّافِعِي ﵀ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَة نَص على التَّخْصِيص لَا نفيا وَلَا اثباتا وَلَكِن اخْتلف النقلَة عَنهُ المستنبطون من قضايا كَلَامه
فَذهب الاكثرون الى انه يَقُول الْمُصِيب وَاحِد ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فَذهب بَعضهم الى انه كَانَ يَقُول الْمُجْتَهد كلف الِاجْتِهَاد والعثور على الْحق وَنصب الدَّلِيل المفضي الى الْعلم بِمَا كلف فان اصابه فَلهُ اجران وان اخطاه فالوزر محطوط عَنهُ لغموض الدَّلِيل والى هَذَا الْمَذْهَب صَار مُعظم الْقَائِلين بَان الْمُصِيب وَاحِد
وَذهب اخرون الى ان الْحق لَا دَلِيل عَلَيْهِ يُفْضِي الى الْعلم بِهِ وَلكنه كالشيء الْمكنون يتَّفق العثور عَلَيْهِ ويتفق تعريه وَلَيْسَ على الْعلم بِهِ دَلِيل
ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فَذهب بَعضهم الى ان العثور عَلَيْهِ مِمَّا يجب على الْمُكَلف وان لم يكن عَلَيْهِ دَلِيل يُفْضِي الى الْعلم
وَذهب اخرون الى ان العثور عَلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِب وانما الْوَاجِب الِاجْتِهَاد وَهَذَا حَقِيقَة مَذْهَب من يَقُول ان كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده
واما ابو حنيفَة فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ وَالَّذِي يَصح عَنهُ انه كَانَ
1 / 29
يَقُول كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده واحدهم عاثر على الْحق وَالْبَاقُونَ مخطئون فِيهِ وَكلهمْ على الصَّوَاب بِالِاجْتِهَادِ
قَالَ القَاضِي وَالَّذِي توضح عندنَا من فحوى كَلَام الشَّافِعِي ﵀ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين وَقد نقل ذَلِك بعض اصحاب الشَّافِعِي عَنهُ صَرِيحًا وعد نصوصا منبئة عَمَّا قَالَه
وَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي ان الْمُصِيب وَاحِد
وَذهب طَائِفَة من الْعلمَاء الى ان الْمُجْتَهد مَأْمُور بِطَلَب الاشبه وَصَارَ مُحَمَّد بن الْحسن وابو يُوسُف
1 / 30
وَابْن سُرَيج فِي احدى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ الى مثل ذَلِك وَلَا يتَبَيَّن الاشبه الا بتفصيل وسنقرر فِيهِ بَابا
فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب الَّتِي عدا القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين اجْتِهَادًا وَحكما
وَمَا صَار اليه الْمُعْتَزلَة قاطبة ان كل مُجْتَهد مُصِيب اجْتِهَادًا وَحكما وَمَال شَيخنَا ابو الْحسن الى ذَلِك وَهُوَ اخْتِيَار القَاضِي وكل من انْتَمَى الى الاصول الا الاستاذ ابا اسحق فانه صَار الى ان الْمُصِيب
1 / 31
وَاحِد وَحكى الطَّبَرِيّ ذَلِك عَن ابْن فورك وَالَّذِي عندنَا انه كَانَ يَقُول بتصويب الْمُجْتَهدين
وَنحن الان نرد على الْعَنْبَري اولا ثمَّ نذْكر شبه الْقَائِلين بَان الْمُصِيب وَاحِد ونتقصى عَن جَمِيعهَا ثمَّ نذْكر ادلتنا ثمَّ نقرر بعد ذَلِك ثَلَاثَة ابواب احدها فِي الرَّد على من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده وَالثَّانِي فِي الْقَائِلين بالاشبه وَالثَّالِث فِي القَوْل بالتخيير مَعَ تصويب الْمُجْتَهدين
مَسْأَلَة فِي الرَّد على الْعَنْبَري
حَيْثُ قَالَ بتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل الاصول فَنَقُول لَا يَخْلُو من اُحْدُ امرين فِي الْمُخْتَلِفين فِي نفي الصِّفَات واثباتها وَالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن وَقدمه وَغَيرهمَا من مسَائِل الاصول
اما ان يَقُول كل وَاحِد من المذهبين حق وَهُوَ علم ثَابت مُتَعَلق بالمعلوم على مَا هُوَ بِهِ فان قَالَ ذَلِك فَهُوَ خُرُوج مِنْهُ الى
1 / 32
السفسطة وَترك الضروريات وَجحد الْبِدَايَة فانا نعلم بضرورة الْعقل اسْتِحَالَة كَون الشَّيْء قَدِيما حَادِثا ثَابتا منفيا جَائِزا مستحيلا فَبَطل الْمصير الى هَذَا الْقسم وَتبين ان اُحْدُ الْمُجْتَهدين هُوَ الْعَالم بِحَقِيقَة مَا فِيهِ الْكَلَام وَالثَّانِي جَاهِل
فان زعم ان كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الاصول بِمَعْنى انه لم يُكَلف الا الِاجْتِهَاد فاما العثور على الْحق فَلم يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف لصعوبة مدركه وَاخْتِلَاف الاراء وغموض طرق الادلة فان سلك هَذَا المسلك فِي القَوْل بالتصويب وَقَالَ مَعَ ذَلِك بطرد مذْهبه فِي الْكفْر فقد انْسَلَّ من الدّين حِين عذر الْكفَّار فِي الاصرار على الْكفْر
فان قَالَ ذَلِك فِي الَّذين تجمعهم الْملَّة كَانَ الْكَلَام عَلَيْهِ من وَجْهَيْن
احدهما ان نقُول مَا الَّذِي حجزك عَن القَوْل بَان الْمُصِيب وَاحِد فان تمسك بغموض الادلة قيل لَهُ فَالْكَلَام فِي النبوات والاحاطة بِصِفَات المعجزات وتمييزها عَن المخاريق والكرامات اغمض عِنْد العارفين باصول
1 / 33
الديانَات من الْكَلَام فِي الْقدر وَغَيره مِمَّا اخْتلف فِيهِ اهل الْملَّة فَهَلا عذرت الْكَفَرَة بِمَا ذكرت وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُ عَنهُ
وَالْوَجْه الاخر من الْكَلَام ان نقُول مِمَّا خَاضَ فِيهِ اهل الْملَّة القَوْل بالتشبيه تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَالْقَوْل بِخلق الْقرَان الى غير ذَلِك مِمَّا يعظم خطره وَقد اجْمَعْ الْمُسلمُونَ قبل الْعَنْبَري على انه يجب على الْمُسلم ادراك بطلَان القَوْل بالتشبيه وَلَا يسوغ الاضراب عَن معرفَة هَذَا وامثاله من اصول الْحَقَائِق وَمَا قَالَ اُحْدُ مِمَّن مضى وَبَقِي انه لَا تجب معرفَة العقائد على الْحَقِيقَة بل قَالُوا قاطبة ان معرفَة العقائد وَاجِبَة على كل مُكَلّف وَهَذَا مَا لَا سَبِيل الى رده فَبَطل مَا قَالَه من كل وَجه وَقد ذكرنَا فِي خلال الْكَلَام مَا عَلَيْهِ معول الرجل
مَسْأَلَة فِي تصويب الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع
وَقد قدمنَا ذكر الْمذَاهب وَهَا نَحن الان نذْكر شبه الْقَائِلين بَان الْمُصِيب وَاحِد فمما سبق الى التَّمَسُّك بِهِ الْفُقَهَاء الَّذين لَا يحصلون حقائق
1 / 34
الاصول ان قَالُوا اذا اخْتلفت الْعلمَاء فِي تَحْلِيل وَتَحْرِيم فَلَو قُلْنَا ان كل وَاحِد مِنْهُمَا مُصِيب كَانَ ذَلِك محالا من القَوْل وجمعا بَين متنافيين فان الشَّيْء الْوَاحِد يَسْتَحِيل كَونه حَلَالا حَرَامًا واطنبوا فِيهِ وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ يُؤَدِّي الى مقصودهم
وَالَّذِي يُقَال لَهُم اول مَا فتحتم بِهِ كلامكم غلط فان الْعين الْوَاحِدَة لَا تحل وَلَا تحرم اذ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم لَا يتعلقان بالاعيان وانما يتعلقان بافعال الْمُكَلّفين فالمحرم فعل الْمُكَلف فِي الْعين والمحلل فعله فِيهِ فهما اذا شَيْئَانِ حرم احدهما وَحل الثَّانِي فَهَذَا وَجه مفاتحتهم بالْكلَام على انا نقُول لَو تتبعناكم وانما المتنافي ان يحرم الشَّيْء وَيحل على الشَّخْص الْوَاحِد فِي الْحَالة الْوَاحِدَة وَلَيْسَ هَذَا سَبِيل الْمُجْتَهدين فان كل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ وتنزلت الْعين الدائرة فِي النَّفْي والاثبات بَينهمَا مَعَ اخْتِلَاف اجتهاديهما منزلَة الْعين الْمَمْلُوكَة بَين مَالِكهَا وَغير مَالِكهَا وَهِي محللة عَلَيْهِ مُحرمَة على غَيره وَكَذَلِكَ الْميتَة بَين الْمُضْطَر وَالْمُخْتَار فَهَذَا اكثر من ان يُحْصى فَبَطل ادِّعَاء التَّنَاقُض
1 / 35
وَرُبمَا يفْرض من قَالَ ان الْمُصِيب وَاحِد صورا فِي غير دَعْوَى التَّنَاقُض وَنحن نذْكر مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال حَتَّى يسْتَدلّ بطرق الْجَواب فِيهَا على امثالها
وَمِمَّا تمسكوا بِهِ أَن قالو اذا قَالَ للْمَرْأَة زَوجهَا فِي حَال الْغَضَب وسالته الطَّلَاق انت بَائِن وَالزَّوْج شَافِعِيّ يعْتَقد ان الطَّلَاق لَا يَقع بذلك وَالْمَرْأَة حنفية تعتقد وُقُوع الطَّلَاق قَالُوا فاذا زعمتم ان كل وَاحِد مِنْهُمَا مُصِيب وَلَعَلَّهُمَا كَانَا مجتهدين فالجمع بَين القَوْل بتصويبها وتصويبه يَقْتَضِي الْجمع بَين التسليط على الِاسْتِمْتَاع وَالْمَنْع مِنْهُ فان الرجل مسلط على قَضِيَّة اعْتِقَاده على الِاسْتِمْتَاع وَمن مُوجب اعْتِقَاده انه لَا يجوز لَهَا ان تَمنعهُ استمتاعا مُبَاحا مِنْهَا لَهُ وَمن مُوجب اعتقادها التَّحْرِيم وَوُجُوب الِامْتِنَاع وَهَذَا متناقض جدا
فاول مَا نفاتحهم بِهِ ان نقُول فانتم معاشر الْقَائِلين بَان الْمُصِيب وَاحِد لَا سَبِيل لكم الى ان تنزلوا الْمَرْأَة على قَوْله أَو تنزلوا الرجل على قَوْلهَا فانكم لَا تعرفُون فِي الظَّاهِر الْمُصِيب مِنْهُمَا فَمَا وَجه جوابكم
1 / 36
اذا عنت هَذِه الْحَادِثَة فَكل مَا قدرتموه جَوَابا ظَاهرا فِي حَقّهمَا فَهُوَ حكم الله تَعَالَى عندنَا ظَاهرا وَبَاطنا وان زَعَمُوا ان الامر بَينهمَا يُوقف الى ان يرفعا الى حَاكم فَيَقْضِي عَلَيْهِمَا بِمُوجب اعْتِقَاده قُلْنَا فالوقت قبل الرّفْع حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا قطعا واذا رفعا اليه فَمَا حكم بِهِ القَاضِي فَهُوَ حكم الله تَعَالَى قطعا
وان زَعَمُوا ان الْمَرْأَة مأمورة بالامتناع جهدها وَالرجل مُبَاح لَهُ طلب الِاسْتِمْتَاع وان ادى ذَلِك الى قهرها وَلم يعدوا ذَلِك متناقضا فِي ظَاهر الْجَواب فَهُوَ الحكم عِنْد الله تَعَالَى وَعِنْدنَا ظَاهرا وَبَاطنا
وَالْجُمْلَة الكافية فِي ذَلِك جدالا وتحقيقا مَا قدمْنَاهُ من ان كل مَا يقدره الْقَائِلُونَ بَان الْمُصِيب وَاحِد فِي امثال هَذِه الْمسَائِل ويزعمون انه كَلَام مِنْهُم فِي الظَّاهِر فَهُوَ الحكم عندنَا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن
وَمِمَّا يتمسكون بِهِ من الصُّور ان الْمَرْأَة اذا نكحت بِغَيْر ولي اولا ثمَّ زَوجهَا وَليهَا ثَانِيًا وَالَّذِي زوج بهَا ثَانِيًا شَافِعِيّ الْمَذْهَب يعْتَقد بطلَان نِكَاح الاول وَالَّذِي تزوج بهَا اولا حَنَفِيّ يعْتَقد صِحَة النِّكَاح الاول وَبطلَان
1 / 37
الثَّانِي وَالْمَرْأَة مترددة بَين دعوتيهما وهما مجتهدان مثلا فَمَا وَجه تصويبهما وَفِيه الافضاء الى تحليلها لَهما وتحريمها عَلَيْهِمَا اَوْ جمع الْحل وَالتَّحْرِيم فِي حق كل وَاحِد مِنْهُمَا
قُلْنَا فَلَو حدثت هَذِه الْمَسْأَلَة وسئلتم عَنْهَا فبمذا كُنْتُم تفضلون الحكم فِيهَا ظَاهرا وكل مَا اجبتم بِهِ فِي ظَاهر الامر وَلم تعتدوه تناقضا فَهُوَ حكم الله تَعَالَى عندنَا وان اجتزيت بِهَذَا الْقدر كَفاك وان اردت التَّفْصِيل فِي الْجَواب قلت
من الْقَائِلين بَان الْمُصِيب وَاحِد من صَار فِي هَذِه الصُّورَة الى الْوَقْف حَتَّى يرفع الامر الى القَاضِي كَمَا قدمْنَاهُ فِي الصُّورَة الْمَعْلُومَة الاولى فعلى هَذَا القَوْل حكم الله تَعَالَى فيهمَا الْوَقْف ظَاهرا وَبَاطنا حَتَّى يرفع امرهما الى القَاضِي فينزلهما على اعْتِقَاد نَفسه فَحكم الله تَعَالَى حِينَئِذٍ عَلَيْهِمَا ذَلِك
وَمِنْهُم من قَالَ تسلم الْمَرْأَة الى الزَّوْج الاول فانه نَكَحَهَا نِكَاحا يعْتَقد صِحَّته وَهُوَ السَّابِق بِهِ فَلَا يبعد ان يَقُول ان هَذَا هُوَ الحكم
1 / 38
وَاعْلَم ان هَذِه الْمَسْأَلَة وامثالها من المجتهدات وفيهَا تقَابل الِاحْتِمَالَات فيجتهد الْمُجْتَهد فِيهَا عندنَا فَمَا ادى اليه اجْتِهَاده فَهُوَ حق من وقف اَوْ تَقْدِيم اَوْ تَأْخِير أَو غَيرهمَا من وُجُوه الْجَواب وَقد اكثروا فِي ايراد الصُّور وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ المغنى ان شَاءَ الله تَعَالَى
وَالَّذِي عول عَلَيْهِ الاستاذ ابو اسحق فِي الْمَسْأَلَة لما رأى أَن ادِّعَاء التَّنَاقُض فِي الاحكام لَا وَجه لَهُ الْتزم التَّنَاقُض فِي الادلة فَقَالَ لَا تثبت الاحكام فِي آحَاد الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة الا بالادلة كَمَا لَا يثبت اصل الشَّرِيعَة المتلقاة من تَبْلِيغ الرَّسُول ﵇ الا بالمعجزة الدَّالَّة على صدقه وَقد اتّفق الْعلمَاء قاطبة على ان الاحكام فِي جَوَاز الِاجْتِهَاد تستند الى ادلة وامارات فاذا ثَبت هَذَا الاصل فَالَّذِي اداه اجْتِهَاده الى الْحل متمسك بامارة اَوْ دلَالَة تعم فِي قضيتها وَلَا تخص هَذَا الْمُجْتَهد بِعَيْنِه وَكَذَلِكَ من قَالَ بِالتَّحْرِيمِ معتصم بطريقة عَامَّة فِي قضيتها اذ لَيْسَ فِي قَضِيَّة دلَالَة من ادلة الشَّرِيعَة اخْتِصَاص لبَعض الْمُجْتَهدين فَالْقَوْل بتصويبهما فِي الْحل وَالتَّحْرِيم مَعَ مَا مهدناه من انهما لَا يثبتان الا بدلالتين اَوْ امارتين ذهَاب
1 / 39
الى تَحْقِيق الامارتين العامتين وتصحيحهما وهما متناقضتان وان لم يتناقض الْحل وَالتَّحْرِيم فِي حق رجلَيْنِ
وَقد انْفَصل بعض من لَا يتَحَقَّق مَقْصُود هَذِه الْمَسْأَلَة عَن هَذِه الدّلَالَة بِأَن قَالَ انما يَسْتَقِيم هَذَا اذ لَو قُلْنَا ان مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي صور الاجتهادات ادلة فاما وَقد قدمنَا بانهما لَيست بادلة لَا يلْزم فِيهَا التَّنَاقُض
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء فان التَّنَاقُض فِي الامارات المنصوبة على الاحكام كالتناقض فِي الدَّلَائِل الدَّالَّة على مدلولاتها بانفسها من غير بعد نصب فِيهَا وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ
وَطَرِيق الْجَواب عَن ذَلِك مَا ذكره القَاضِي فِي علل الاحكام وَذَلِكَ انه قَالَ اذا اخْتلف المجتهدان فِي تَعْلِيل الْبر فِي حكم الرِّبَا وَألْحق احدهما بِهِ فرعا ونفاه الثَّانِي ومرجعهما فِي الِاجْتِهَاد الى وصف الْبر فَلَيْسَ فِي وصف الْبر دلالتان بأنفسهما على النَّفْي والاثبات ولسنا نقُول ايضا ان صَاحب الشَّرِيعَة نصب فِي الْبر عَلامَة مَعْلُومَة عِنْده وكلفنا العثور عَلَيْهَا اَوْ نصب فِيهِ امارتين حَتَّى نقدر الامارتين المنصوبتين متناقضتين اَوْ
1 / 40
متماثلتين اذ لَو قُلْنَا بذلك كُنَّا قائلين بِطَلَب شَيْء والعثور عَلَيْهِ سوى الْعَمَل وَهَذَا قَول ثَان الْحق هُوَ طلب علم اَوْ هُوَ طلب الاشبه وَنحن نبطل الطريقتين جَمِيعًا فَيخرج من ذَلِك انا لَا نقدر دلالتين وَلَا امارتين منصوبتين على الْوَجْه الَّذِي فَرْضه الْمُسْتَدلّ علينا وَلَكنَّا نقُول امارة الحكم فِي حق كل وَاحِد مِنْهُمَا غَلَبَة ظَنّه وَكَأن الرب تَعَالَى جعل غَلَبَة ظن كل مُجْتَهد علما على الحكم بِمُوجب ظَنّه وَهَذَا مَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ تنَاقض فَتبين ذَلِك واعلمه فَأَنَّهُ سر الْمَسْأَلَة وَلَا يُحِيط بِهِ الا من تَأَكد غوصه فِيهَا وَلَا يَنْتَفِي بعْدهَا علينا مؤونة الا بِشَيْء وَاحِد وَهُوَ انهم ان قَالُوا اذا زعمتم ان الَّذِي يتَمَسَّك بِهِ الْمُجْتَهد لَا يقدر امارة مَنْصُوبَة شرعا فَمَاذَا يطْلب الْمُجْتَهد وَلَيْسَ عِنْده فِيمَا يطْلب عِلّة مَنْصُوبَة عِنْد الله تَعَالَى قبل طلبه وَلَا يتَحَقَّق طلب من غير مَطْلُوب وَهَذَا اصعب سُؤال لَهُم وَلَو قَامَت للقائل بَان الْمُصِيب وَاحِد حجَّة لكَانَتْ هَذِه وَلَا تحسبن ذَلِك تشككا فَنحْن من القاطعين بَان كل مُجْتَهد مُصِيب وسنتقصى عَن هَذَا السُّؤَال عِنْد ذكرنَا الاشبه ان شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِمَّا استدلوا بِهِ فِي الْمَسْأَلَة ان قَالُوا اذا قُلْتُمْ ان كل مُجْتَهد مُصِيب
1 / 41
فَبِمَ تنكرون على من يزْعم ان الْقَائِل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد مُصِيب ايضا وَهَذَا مَا لَا طائل وَرَاءه فانا انما نقُول بتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد وَهَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي نَحن فِيهَا من مسَائِل الْقطع وَهِي ملتحقة بالقطعيات الَّتِي الْمُصِيب فِيهَا وَاحِد مُتَعَيّن
وَمِمَّا تمسكوا بِهِ ايضا ان قَالُوا اذا كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا فَمَا فَائِدَة التناظر وَالْحجاج وَمَا زَالَ الْعلمَاء من عصر الرَّسُول ﵇ الى عصرنا يتحاجون وَيطْلب كل وَاحِد مِنْهُم من المتناظرين دُعَاء خَصمه الى مَا ينصره من الْمَذْهَب فَلَو كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا مَأْمُورا بملازمة اجْتِهَاده وَهُوَ الْحق عِنْد الله تَعَالَى لما كَانَ فِي طرق الْحجَّاج وَالنَّظَر فَائِدَة وَفِي اجماع الْعلمَاء على التناظر دَلِيل على فَسَاد هَذَا الاصل واوضحوا ذَلِك بَان قَالُوا كَمَا وجدناهم يتحاجون فِي اصول الديانَات فَكَذَلِك سبيلهم فِي الشرعيات ثمَّ كَانَ نظرهم فِي العقليات لطلب الْعلم بالمنظور فِيهِ فَكَذَلِك النّظر فِي الشرعيات
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل من أوجه مِنْهَا
1 / 42