الشعر الحي ونزعة التجديد
واجب التنويه بفضل الشاعر
بقلم حسن صالح الجداوي
ما أحسب أن بين الأدباء من هو أشد اغتباطا مني بظهور هذه الدرامة الشعرية التلحينية (أو الأوپرا الشجية) لا لما هو معروف عن تقديري الكبير لشعر أبي شادي فقط؛ بل كذلك لأنها جاءت مؤيدة لإيماني بعزيمة الشاعر وحبه لفنه ومواصلته الجهد لتحقيق ما يعتزم إظهاره من عمل أدبي مهما عظمت الصعاب في طريقه. وما أشك في أن هذه الأوپرا الطريفة المؤثرة ستعد حلقة أولى في سلسلة طويلة متينة من المؤلفات الفنية الشائقة؛ لأن مثل شاعرنا الفنان المطبوع إذا قال فعل، وإذا اعتزم نفذ عزمه، وإذا وهب وقت راحته للأدب كما يهب وقت عمله للعلم فهو لا بد خادم العلم والأدب. ومما يزيد اغتباطي أن تظهر القصة في هذا المظهر الأدبي الجليل محاطة بمجموعة نقدية في الأدب المسرحي سواء للمؤلف أو لمريديه مما يجعل هذا الكتاب - أسوة بمؤلفات أبي شادي الأخرى - تحفة أدبية رائقة ومتعة لكل أديب حر الفكر مقدر لروح الإنشاء والتجديد. وإني العليم بسمو خيال الشاعر وتفننه أفهم جد الفهم أسباب اختياره في ظروفنا القومية الحاضرة لدرامة شعرية أساسا للأوپرا الأولى التي أهداها إلى وطنه وأقره على هذا الاختيار.
الأستاذ الجداوي.
وقد تحدث غيري عن قصة (إحسان)، وشرح الشاعر وجهات نظره في تأليفها، فحسبي إذن أن أقول في تقديرها: إنها تأليف جريء في الأدب العربي؛ لأنها مثال لأرقى الدرامات الشعرية التلحينية التي يشع منها التفكير والعاطفة كما يشع الروح الفني، وقد أراد منها الشاعر أداء حقوق شتى للشعر العصري، ولفن الأوپرا، وللوطنية المصرية، فضلا عن أساس القصة الخلقي النفساني، وكل ذلك في نيف ومائتين من الأبيات المتنوعة، وفي ثلاثة فصول وأربعة مشاهد. وهذه مقدرة لا يعرف قيمتها حقا إلا من عالج التأليف، وكثرت مشاهداته في المسارح الغربية، واتسع اطلاعه ووقوفه على آراء كبار النقاد للأدب عامة وللمسرح خاصة.
بيد أني وإن زففت إلى صديقي الشاعر تهنئة الإكبار والتشجيع فما يداخلني الشك في أنه أبعد الناس عن الغرور والحاجة إلى التهليل والتهاني، فإني أعلم علم اليقين أنه يبذل جهده الصادق وإخلاصه الوافي لعمله، ولكنه متى فرغ منه دب إلى نفسه القلق والطموح إلى ما هو أصلح وأسمى، وما يزال هذا أقوى حافز فني له على بلوغ الإتقان المستطاع. والقارئ الأديب لا يجهل كم من أدباء، أكابر وأصاغر، تسرب إليهم الغرور والتحاسد والأنانية، وقد لا يدفع بعضهم إلى العمل سوى حسده فيهدم بحسده أضعاف ما يبني بجهده، ولكن شاعرنا لا يدفعه إلى الأمام سوى ولوعه بفنه وإخلاصه وعدم رضائه عن جهده، وما اعتداده بنفسه في موقف الدفاع عنها إلا مظهر الغيرة على الأدب والشمم والكرامة النفسية، لا أكثر ولا أقل.
بمثل هذه المبادئ والعواطف يبني لنا الأستاذ أبو شادي صروحا من الشعر الحي، وبمثل خلقه الكريم وحرصه على الإنشاء والتجديد ومسايرة الزمن - بل مسابقته أحيانا - يكون للجيل الناشئ ثروة أدبية فكرية قمينة بالبقاء والإعزاز. ففرض على الأديب المتصفح لهذا الكتاب الحي أن يهب الشاعر عواطف الحب والتكريم، وأن يشترك في التنويه بفضله حتى يؤازر حركة التجديد الرشيدة التي يدفعها شاعرنا إلى الأمام بكل قواه، وما إكرام مثله إلا في إكرام عمله. •••
وإذا كان في مقدمة بواعث التقدير أثر الشاعر في الفن وفي بيئته، فمن الحق أن نسجل أهم ما نعرفه من فضله - ولا أقول كل ما نعرفه - ذلك الفضل الذي بث الأمل في نفوس كثيرة بين الأدباء والمتأدبين، ورفع مستواها الفكري، وجعلها تلمس الرجاء بعد أن كانت تتخيله، أو بعد أن كانت تصطدم باليأس مرارا: (1)
كان الأستاذ أبو شادي أجرأ شعرائنا على احترام الفكر والعاطفة الحرة الكريمة في أي مظهر شريف، ومن ثم داس بجراءة على الأساليب التقليدية في التعبير، وابتدع من وحي عصره وبيئته في أسلس لغة أساليب جديدة سخط عليها المحافظون، ولكن قدرها كل من يحترم الفكر الحر السليم والنظر البعيد الدقيق إلى الحياة وأسرارها ووحيها وبيانها البليغ. (2)
Unknown page