المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الكلمة الأولى
أحمده وأسأله التوفيق والسداد، وبعد:
فهذ اشرح جديد مفصل، لكتاب الإيضاح، تأليف العالم الإمام الخطيب القزويني، إمام البلاغة وشيخ البيان، المتوفى عام ٧٣٩هـ.
توخيت فيه عمق البحث، ودقة التحليل، والعناية ببسط المسائل، وحل المشكلات، وأومأت فيه إلى شتى المراجع والمصادر. ليكون جامعًا لمسائل البلاغة ومصدرا للدراسات العالية فيها، ومرجعا للطلاب والدارسين والباحثين. والله يعلم مقدار ما أخذ مني من جهد وبحث ومراجعة، ومع ذلك فقد ثابرت على كتابته وإخراجه، لسد النقص الذي نلمسه في دراسات البلاغة.
وقد ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام ١٩٤٩، وها هي ذي الطبعة الثانية منقحة مهذبة. والله أسأله أن يجعله خالصًا لوجهه، وأن ينفع به العلم والثقافة ولغة الكتاب العزيز. فهو وليي، نعم المولى ونعم النصير.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
محمد عبد المنعم خفاجي.
1 / 3
مقدمات:
نشأة البلاغة العربية ومراحل التأليف فيها:
١- كان القرن الثاني الهجري أول عصر شهد نشأة آراء كثيرة أصيلة ومترجمة حول البلاغة١ وعناصرها، بعد فساد الملكات، وقد أخذ العلماء في بحث أصول بلاغات العرب، وفي تدوين آرائهم في معنى كلمة البلاغة والفصاحة. وأهم ما يؤثر من ذلك: وصية بشر بن المعتمر -من زعماء المعتزلة وتوفي نحو عام ٢١٠هـ- في البلاغة٢، وتفسير ابن المقفع للبلاغة٣، وتعريف العتابي لها٤، ووصية٥ أبي تمام للبحتري تدخل في هذا الباب، ويقول البحتري خير الكلام ما قل ودل ولم يمل٦، وفي البيان للجاحظ تحديد البلاغة كما يراها حكيم الهند٧، ويقسمها الكندي فيلسوف العرب المتوفى عام٢٦٠هـ إلى ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع بالعكس،
_________
١ لا تجد في العصر الجاهلي كلمات من البلاغة إلا ما روي عن عامر بن الظرب حين سئل من أبلغ الناس؟ فقال: من حلى المعنى المزين باللفظ الوجيز وطبق المفصل قبل التحزيز "٢٠٦ جـ١ العمدة، ٢٨٠ جـ٢ الأمالي" وفي العصر الأموي نجد لمعاوية كلمات في البلاغة ولسواه، روي أن معاوية سأل صحارًا عنها فأجابه "راجع ٨١ جـ١ البيان، ١٨ جـ٢ الكامل".
٢ ١٠٤ وما بعدهاجـ١ البيان.
٣ ٩١ جـ١ البيان، ٢١٤ جـ١ العمدة، ٧٥ جـ١ البيان، ٤٤-٤٦ الرسالة العذراء، ٢ و٣ و٢٢ و٢٣ جـ٣ العقد، ١٤٠-١٥٠ جـ١ زهر الآداب.
٤ ٩٠ و١٥٧ جـ١ البيان.
٥ ١٥١ جـ١ زهر الآداب.
٦ ٣٦ جـ١ المستطرف وتروى عن الثعالبي برواية أخرى: "ماقل ودل" "٢١٨ جـ١ العمدة".
٧ ٧٨ و٧٩ جـ١ البيان، ٢٠-٣٨ الصناعتين، ١٤٤ جـ١ زهر، ٤٤ الرسالة العذراء.
1 / 4
ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها١، وذكر بزر جمهر حكيم الفرس فضائل الكلام ورذائلة في كلمة مترجمة رواها صاحب الموازنة٢. إلى آخر هذه الكلمات والآراء.
٢- ثم ألفت بعد ذلك كتب تجمع كثيرًا من الآراء والدراسات الموجزة حول البلاغة وبحوثها. ومن هذه الكتب: مجاز القرآن لأبي عبيدة م ٢٠٧هـ والفصاحة للدينوري م ٢٨٠هـ٣ والتشبيه والتمثيل للفضل بن نوبخت٤ وصناعة الكلام للجاحظ٥، ونظم القرآن ٦ والتمثيل ٧ له أيضًا، والبلاغة وقواعد الشعر للمبرد٨.. وفي الكامل إشارات لمسائل كثيرة في البلاغة، وكذلك الرسالة العذراء لابن المدبر، والبلاغة للحراني"٩"، وقواعد الشعر لثعلب، وقد نشرته عام ١٩٤٨ بشروح كثيرة، والبلاغة والخطابة للمروزي ١٠ والمطابق والمجانس لابن الحرون ١١ وتهذيب الفصاحة لأبي سعيد الأصفهاني١٢ وإعجاز القرآن في نظمه وتأليفه للواسطي المعتزلي م ٣٠٦هـ، وصنعة البلاغة للباحث، وللسيرافي م ٣٦٨هـ. ونظم القرآن لابن الأخشيد ١٣، وكذلك لابن أبي داود م ٣١٦هـ ١٤ وكتاب الرد على من نفى المجاز في القرآن للحسن بن جعفر ١٥ ومن هذه الكتب أيضًا المفصل في البيان، والفصاحة للمرزباني م ٣٧٨هـ.
على أن أهم الكتب التي تناولت بعض مسائل البلاغة بالبحث،
_________
١ ٢١٩ جـ١ العمدة.
٢ ١٨٣ الموازنة.
٣ ١١٦ الفهرست لابن النديم.
٤ ٣٨٣ المرجع.
٥ ٣٨ الجاحظ لمردم.
٦ ٤٠ المرجع.
٧ ٧٦ جـ٦ معجم الأدباء.
٨ ٨٨ فهرست، ١٤٤ جـ٧ معجم الأدباء.
٩ ١٧٨ فهرست.
١٠ ٢١٥ فهرست.
١١ ٢١٢ فهرست.
١٢ ١٩٧ فهرست.
١٣ ٥٧ و٥٨ فهرست.
١٤ ٣٢٤ فهرست.
١٥ ٥٢٠ فهرست.
1 / 5
أو التي ألفت فيها خاصة هي: كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ففي مقدمته بحوث موجزة طريفة تتصل بالبلاغة. وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وهو أهم ماألف في هذا الطور من كتب تتصل ببلاغات العرب نثرًا وشعرًا، وتتعرض لتحديد البلاغة بما حولها من آراء كانت ذائعة في عصر الجاحظ، وفيه كثير من بحوث البلاغة، فهو يعرف الاستعارة١ ويتكلم على السجع٢ ويشير إلى التفصيل والتقسيم٣ والاستطراد والكناية٤ والأمثال٥ والاحتراس٦ والقلب٧ والأسلوب الحكيم ٨، والجاحظ أول من تكلم على المذهب الكلامي٩ ويرى البلاغة في النظم لا في المعاني١٠ وهو ماذهب إليه ابن خلدون ١١، والجاحظ يشيد بالإيجاز١٢، كما يدعو في البيان كثيرًا إلى ترك الوحشي والسوقي، ويحث على الإفهام والوضوح، وعلى ترك التعمق والتهذيب في صناعة الكلام، إلى غير ذلك من شتى مادونه في البيان. ولا يضير الجاحظ أن كانت دراساته موجزة مفرقة كما يقول أبو هلال ١٣، فهي على كل حال ذات أثر كبير في نشأة البيان، وهي التي أوحت إلى كثير أن يعدوا الجاحظ الواضع الأول لعلم البيان. ومن الخطأ التهوين بأثر الجاحظ في البيان كما ذهب إليه بعض الباحثين المحدثين.
_________
١ ١١٦ جـ١ البيان.
٢ ١٩٤ جـ١ البيان.
٣ ١٧٠ جـ١ و٩١ جـ٢ البيان.
٤ ١٨٠ جـ و٨ و٢٩ و٣١ و٨٠ جـ٣ البيان.
٨٦٥ و٨٨ و١١٤ و١٨٣ جـ١ و٢٢٤ جـ٢ البيان.
١٦١٦ جـ١ البيان.
٧ ١٨٠ جـ١ البيان.
٢٠١٨ و٢٠٢ جـ٢ البيان.
١٠١٩ البديع لابن المعتز نشر محمد خفاجي، ٧٦ جـ٢ العمدة.
٤٠١٠ جـ٣ الحيوان.
٥٧٧١١ مقدمة ابن خلدون. ويقول شيلر: في الفن الشكل هو كل شيء والمعنى ليس شيئًا مذكورًا.
٨٣١٢ و٨٦ جـ١ ومواضيع أخرى.
١٣ ص٦ و٧ الصناعتين.
1 / 6
٣- وقد بدأ التدوين في البلاغة على يد ابن المعتز الذي ألفه كتابه القيم "البديع"١ وثعلب الذي ألف كتابه "قواعد الشعر"، وبعد قليل ظهر نقد النثر كما ظهر نقد الشعر لقدامة بن جعفر المتوفى عام ٣٣٧هـ. ثم كتاب الصناعتين لأبي هلال المتوفى عام ٣٩٥هـ، ثم كتاب الموازنة للآمدي، والوساطة للجرجاني، وإعجاز القرآن للباقلاني، وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي، والعمدة لابن رشيق وهما أكثر الكتب اتصالًا بالبلاغة.
٤- ثم جاء بعد ذلك أبو بكر عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة العربية والمتوفى عام ٤٧١هـ. فألف في البلاغة كتابين جليلين هما:
١- أسرار البلاغة، وفيه دراسات واسعة تتناول بحوث علم البيان من تشبيه ومجاز واستعارة وفيه شرح للسرقات وبعض ألوان البديع.
٢- دلائل الإعجاز، وفيه بحوث كثيرة هي أصول علم المعاني. كماأنه تحدث فيه عن الكناية وعن التمثيل والمجاز والاستعارة والسرقات أيضًا.
٥ - وبعد عصر الجرجاني بحث الزمخشري في تفسيره، والرازي في كتابه "نهاية الإعجاز"، وابن الأثير صاحب المثل٢ السائر، وبدر الدين بن مالك صاحب المصباح، والتنوخي صاحب "الأقصى القريب"، وكثير من العلماء، في البلاغة والفصاحة.
ومن أهم هؤلاء العلماء في هذا الطور أبو يعقوب السكاكي المتوفى عام ٦٢٦هـ تلميذ الحاتمي٣، الذي ألف كتابه "المفتاح"، وجعله
_________
١ على نهجه ألف ابن منقذ المتوفى عام ٨٤هـ كتابه "البديع".
٢ شرحه عز الدين بن أبي الحديد م ٦٦٥هـ في كتابه "الفلك الدائر على المثل السائر".
٣ ٧٣ المفتاح.
1 / 7
أقسامًا، وخص البلاغة بالقسم الثالث منه، وقسمها إلى ثلاثة أقسام: المعاني -البيان- البديع. وبذلك تميزت علوم البلاغة ومباحث كل علم منها بالتفصيل.
والفلسفة والمنطق تغلب على السكاكي إلى حد كبير، من حيث كان يغلب الذوق والطبع على عبد القاهر.
وبذلك تنتهي مراحل التأليف والابتكار في بحوث البلاغة وتدوينها تدوينًا كاملًا.
٦- وجاء الخطيب القزويني المتوفى عام ٧٣٩ فألف في البلاغة كتابيه: تلخيص١ المفتاح والإيضاح. وقد ألف الإيضاح ليكون كالشرح لتلخيص المفتاح وجمع فيه كثيرًا من آراء عبد القاهر والسكاكي في شيء من التنظيم والشرح.
وعلى متن التلخيص كثرت الشروح والحواشي والتقارير وفي مقدمتها الأطول للعصام، والمطول٢ للسعد وشروح التلخيص وسواها ... وهذه أهم كتب البلاغة وشروحها في هذا العهد. قوانين البلاغة لعبد اللطيف البغدادي م ٦٢٩هـ، والتبيان لابن الزملكاني م٦٥١هـ، والمعيار للزنجاني م٦٥٤هـ، وبديع القرآن لابن أبي الأصبع م٦٥٤هـ، والفوائد الغياثية للعضد م ٧٥٦هـ وشرحها الكرماني م ٧٨٦هـ والتبيان لشرف الدين الطيبي م٧٤٣هـ، والطراز ليحيى ابن حمزة العلوي م ٧٤٩هـ، وعروس الأفراح للسبكي م ٧٧٣هـ، والسمرقندية للسمرقندي وهي رسالة في الاستعارات، وتوفي السمرقندي عام ٨٨٠هـ.
_________
١ لزكريا الأنصاري م ٩٢٦هـ "مختصر تلخيص المفتاح": وللعباسي م ٩٦٣ شرح لشواهد التلخيص سماه معاهد التنصيص.
٢ عليه كتاب في شرح شواهده اسمه عقود الدرر في حل أبيات المطول والمختصر، وهو مطبوع طبعة حجر عام ١٣٠٧هـ في ١٦٦ صفحة.
1 / 8
٩- شروح المفتاح للسكاكي.
أ- شرحه بتمامه المولى حسام.
ب- وشرح القسم الثالث منه: الشيرازي م ٧١٠هـ في "مفتاح الفتاح"، والترمذي وهو معاصر للشيرازي، والخلخالي م ٧٤٥هـ، والسعد "٧١٢-٧٩١هـ"، والسيد م ٨١٦هـ في "المصباح" الذي ألفه عام ٨٠٣ "١"هـ، وعماد الدين الكاشي. وله رسالة في حل المتشابهات التي أوردها الخطيب على المفتاح، والأبهري سلطان شاه، وطاشكبري زاده م ٩٦٢هـ، وشيخ زاده م ٩٥١هـ، والشربيني م ٧٦٩هـ، والخوارزمي، وقد فرغ منه عام ٦٤٢هـ، والفناري م٨٣٤، وله على شرحي السعد والسيد تعليقات، وابن كمال باشام ٩٤٠، وسواهم.
ج- واختصر القسم الثالث منه:
المعانيجي م ٩٩٠هـ، والقزويني ٦٦٦-٧٣٩هـ، والأيجي م٧٥٦هـ في الفوائد الغياثية، وبدر الدين ابن مالك م ٦٨٦هـ في "المصباح في اختصار المفتاح" ونظم "المصباح" المراكشي، ثم شرحه وسماه "ضوء المصباح على ترجيز المصباح"، واختصر هذا المختصر ابن النحوية م ٧١٨هـ، وسماه "ضوء الصباح"، ثم شرحه في مجلدين في كتاب أسفار المصباح عن ضوء المصباح، ولمحمد بن خضر "مصباح الزمان في شرح المصباح".
هذا وقد ألف السعد "المطول على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني" وانتهى من تأليفه عام ٧٤٨هـ، كما انتهى من تأليف مختصر المطول عام ٧٥٦هـ.. وفرع ابن يعقوب من تأليف شرحه على مختصر
_________
١ على شرح السيد حواش: للبسطامي م ٨٧١هـ، وللمولى اللطفي م ٩٠٠هـ، ولحميد الدين م ٩٠٨هـ، ولأسعد الناجي م ٩٢٢، ولمحيي الدين الفنري م ٩٥٤، وللشهاب الخفاجي م ١٠٦٩هـ.
1 / 9
السعد في مكناسة في المحرم ١١٠٨هـ.. وانتهى ابن السبكي من تأليف شرحه "عروس الأفراح" على مختصر السعد في جمادى الأولى عام ٧٥٨هـ.. وانتهى الدسوقي من كتابة شرحه على مختصر السعد في شوال عام ١٢١٠هـ.
٨- يمتاز الإيضاح للخطيب القزويني بعدة ميزات ظاهرة: فهو أوفى كتاب في بحوث البلاغة، وهو أوضح الكتب المؤلفة فيها نظامًا وأسلوبًا، وهو كثير البحث والتعمق والاستنباط لأسرار البلاغة العربية، فوق أنه كتاب تطبيقي جميل في البلاغة، وينقد القزويني فيه كثيرًا من آراء السكاكي، وإن كان يعتمد الخطيب فيه على عبد القاهر والسكاكي كثيرًا. ومع ذلك فالخطيب يجمع في كتابه خلاصات لبحوث علماء البلاغة في شتى العصور حتى عصره، والكتاب بعد ذلك غزير المادة، كبير الفائدة في الأدب والنقد والبلاغة والبيان١.
وهناك مؤلفات جديدة ظهرت في البلاغة في عصر الحواشي، ومن بينها عقود الجمان للسيوطي. كما ظهرت في العصر الحديث عدة مؤلفات في البلاغة فيها لون من التهذيب والتنسيق وحسن الأخذ والاختيار.
وبذلك تنتهي مراحل التأليف في البلاغة منذ نشأتهاحتى الآن.
_________
١ شرحه الاقصرائي م ٨٠٠هـ وحيدرة م ٨٢٠هـ، والأستاذ الصعيدي والأستاذ التنوخي.
1 / 10
الخطيب وأثره في البلاغة العربية:
والخطيب القزويني١ هو "جمال الدين أبو المعالي محمد بن عبد الرحمن، ابن خطيب دمشق" كما يقول جورجي زيدان، وبتفصيل أوسع هو "الشيخ الإمام العالم العلامة خطيب الخطباء، مفتي المسلمين، جلال الدين، أبو عبد الله، محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني الشافعي" كما يقول تلاميذه أو هو نفسه في مقدمة كتابه "الإيضاح" فهو من أسرة علمية ودينية كبيرة، كان لها ولاشك أثرها في حياته وتفكيره وروحه.
ولد عام ٦٦٦هـ، وتعلم الفقه، وتولى القضاء، وانتقل إلى دمشق، وتولى الخطابة في مسجدها، ثم تولى القضاء بمصر، وتمكن نفوذه فيها أيام الملك الناصر، اكتسب مالًا طائلًا، ثم جاء إلى دمشق وتوفي فيها. وأشهر مؤلفاته تلخيص المفتاح، والإيضاح في المعاني والبيان٢، وكانت وفاته عام ٧٣٩هـ، كمايقول صاحب الدرر الكامنة.
وتدل مؤلفات الخطيب في البلاغة على ثقافة بلاغية وأدبية واسعة وقراءة مستفيضة لأهم المؤلفات في البلاغة وفي مقدمتها: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر، والمفتاح للسكاكي.
ألف الخطيب مختصرًا صغيرًا للمفتاح في البلاغة، أو للقسم
_________
١ شذرات الذهب، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، وسواها.
٢ وقد حرف جورجي زيدان اسمه فذكره "الإفصاح" بدل الإيضاح ""٤٤ جـ٣ تاريخ أدب اللغة العربية".
1 / 11
الثالث بعبارة أوضوح، وسماه "تلخيص المفتاح١" لخص فيه ذلك السفر القيم وقدم فيه وأخر، وحذف واختصر، وفيه بعض آراء له لم يرتضها جهابذة هذه الفنون، "ومن العجيب أن يسمي كتابه بهذا الاسم، وهو في رأي أحد الباحثين ليس بالتلخيص له وحده، بل أشبه بأن يكون تلخيصًا لكتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر ولسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي.. وروح التلخيص من الكتاب الأخير واضح كل الوضوح في مقدمته"٢ وقد يكون في هذا الرأي لون من المبالغة، فمتن التلخيص ليس تلخيصًا للأسرار ودلائل وسر الفصاحة في قليل ولا كثير، إنما هو تلخيص للقسم الثالث من المفتاح وحده، وما فيه من روح التأثر بعبد القاهر فمرجعه إلى المفتاح نفسه، الذي اعتمد فيه السكاكي على عبد القاهر إلى حد بعيد. وقد يستساغ ذلك في الإيضاح لا في "تلخيص المفتاح".
ثم ألف الخطيب كتابه الإيضاح في البلاغة على ترتيب التلخيص، وبسط القول فيه ليكون كالشرح له، فأوضح مواضعه المشكلة، وفصل معانيه المجملة، واعتمد على المفتاح والأسرار والدلائل وغير هذه المؤلفات في بحوثه ودراساته فيه، كما يشير إليه الخطيب نفسه في مقدمة الإيضاح. والكتاب "فيه أمهات مسائل هذه الفنون بعبارة واضحة فيها روح من أسلوب عبد القاهر الجامع بين التحقيق العلمي والرصانة الأدبية٣.
_________
١ شرحه الخلخالي م ٧٤٥، وناظر الجيش م ٧٧٨هـ والبابرتي م ٧٨٦، وشمس الدين القونوي م ٧٨٨هـ، التيزيتي م ٧٩٣هـ، والسيد عبد الله م ٨٠٠هـ، وعصام الدين م ٩٥١هـ، والسعد م ٧٩١هـ ... وعلى شرح السعد شروح: ليسن الحمصي م ٩٦١، ولابن يعقوب م ١١٠٨هـ وللدسوقي هـ ١٢٣٠هـ.
٢ ٦٢، ١٣٧ بحوث وآراء في علوم البلاغة للأستاذ المرحوم أحمد المراغي.
٣ ٦٣ المراجع.. وفي المكتبة الأزهرية حاشية مخطوطة على أبيات الإيضاح، وهي نسخة في مجلد بقلم فارسي في ١٢٦ ورقة بنمرة "٤٣" ١٠٩٥ وفيها نسخة أخرى في مجلد بقلم معتاد بخط محمد حسن سنة ١٣٦٥ في ١٥٠ ورقة بنمرة "٢١١٠" ٥٢٨٦ شرح مخطوط على الإيضاح، بدار الكتب المصرية.
1 / 12
وعلى "تلخيص المفتاح للخطيب" كثير من الشروح والحواشي والتقارير ممايدل على مدى شهرته العلمية عند الباحثين. ولا يزال منهج الخطيب في البلاغة وفي تلخيصه بالذات هو المنهج العلمي في علوم البلاغة إلى عصرنا الراهن.
وكتاب الإيضاح عمل جليل في البلاغة سواء في ترتيبه وتقسيمه وتنظيم بحوثه، أم في استيعابه واستقصائه وتحليله، أم في جمعه واستمداده من شتى المصادر والمراجع، أم في أسلوبه الأدبي وروحه وكثرة تطبيقاته الأدبية، وهو أهم كتاب دراسي في البلاغة في العصر الحاضر.
وهذا شرح جديد للإيضاح، يتناول بالبحث والتحليل والدراسة والتعليق والشرح جميع مسائله وشواهده، ويشير إلى مصادره ومراجعه التي ألف منهاالخطيب هذا الكتاب. وهو عمل سيكون له أثره في البلاغة العربية، وفي خدمة الإيضاح وتذليل صعوبات البحث فيه بتوفيق الله.
ويمتاز هذا الشرح بدقة البحث. وطول المراجعة، وكثرة الشرح والتفصيل، والإلمام بكل رأي، وتحليل كل مذهب ما عليه وماله، وبعرض آراء جديدة في شتى بحوث البلاغة وعلومها.. كما يمتازا بمقدمته التي هي تأريخ للبلاغة ونشأتها وأطوار التأليف فيها، وغير ذلك مما يحتوي عليه من مميزات، وقد وضعنا للكتاب بعض العناوين المساعدة على فهمه وإيضاحه.
1 / 13
ترجمة الخطيب:
عن الدر الكامنة لابن حجر ١، والعقد المذهب لابن الملقن، وشذرات الذهب٢.
هو قاضي القضاة أبو المعالي جلال الدين محمد بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن إمام الدين عمر القزويني الشافعي.
ولد بالموصل سنة ٦٦٦ وسكن بلاد الروم، مع والده وأخيه واشتغل بالعلم وتفقه على والده وولي قضاء نيكسار من بلاد الروم ثم قدم دمشق وسمع من العز الفاروثي وطائفة وحدث وتفقه واشتغل في الفنون وأتقن الأصول والعربية والمعاني والبيان، وكان فهما ذكيا مفوهًا ذا ذوق سليم حسن الإيراد والمحاضرة حلو العبارة فصيحًا جميل الهيئة كبير الذهن جوادًا أديبًا حسن الخط، وناب عن أخيه الأكبر إمام الدين قاضي قضاة الشام إلى أن مات أخوه سنة ٦٩٩ ثم ولي خطابة جامع دمشق فأقام بها مادة طويلة ثم طلبه الملك الناصر إلى القاهرة في سنة ٧٢٤ وكان قدومه على البريد يوم الجمعة فاتفق أنه اجتمع بالناصر ساعة وصوله فأمر به أن يخطب بجامع القلعة فخطب مرتجلًا مع ما هو عليه من التعب وأثر السفر فأعجب به السلطان وشكره وسأله عن حاله وكم عليه من الدين فذكر أن عليه ثلاثين ألف فأمر بوفائها عنه فشافهه بقضاء دمشق فباشرها والخطابة جميعًا إلى أن ولاه قضاء الديار المصرية في سنة ٧٢٧ فعم أمره جدًّا وصرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين وحج مع السلطان فأعانه بمال وأحسن إلى المصريين والشاميين وكان لهم ذخرًا وملجأ ولم يزل على
_________
١ ص٦ جـ٤ طبع الهند عام ١٣٥٠هـ - لابن حجر م٨٥٢.
٢ ١٢٣/ ٦ شذرات الذهب.
1 / 14
حاله إلى أن أعيد إلى قضاء الشام بسبب أحوال أولاده وفرح به أهل الشام فأقام قليلًا وتعلل وأصابه فالج فمات منه في سنة ٧٣٩ عن ٧٣ سنة فأسفوا عليه كثيرًا وشيعه عالم عظيم، وللشعراء فيه مدائح كثيرة ومراث عددة وكان يرغب الناس في الاشتغال بأصول الفقه وفي المعاني والبيان. وتصنيفه المسمى تلخيص المفتاح مشهور ونظمه السيوطي وسماه عقود الجمان.. وله إيضاح التلخيص أيضًا. وكان يعظم الأرجاني الشاعر ويقول أنه لم يكن للعجم نظيره واختصر ديوانه فسماه "السور المرجاني من شعر الأرجاني". وقال الذهبي: عظم شأنه لماولي قضاء الديار المصرية وبلغ من العز ما لا يوصف بحيث لاترد له شفاعة وربما رمي علي يد السلطان نفسه وكان فصيحًا حلو العبارة، مليح الصورة، سمحًا حليمًا كثيرة التحمل وسيرته تحتمل كراريس، وذكر اليوسفي في سيرة الملك الناصر محمد أن القاضي كان محسنًا إلى الناس كثير التصدق والمكارم والبر لأرباب البيوت، قال: أنه لم يوجد لأحد من القضاة منزلة عند سلطان تركي نظير نزله جلال الدين، وكان الناصر يحتمل ما ينقل إليه من سيرة ولده حتى كان يقول لوالي البلد: أكبس فلانًا ثم يرسل إليه يقول: لا تفعل، نبقى في حياء من والده ... فرحمه الله تعالى عليهم وغفرانه.
وترجم له السيوطي في بغية الوعاة "ص٦٦"، فنسبه إلى أبي دلف العجلي، وذكر ما لايخرج عما سبق، ثم قال: ولا أعلمه نظم شيئًا مع قوة باعه في الأدب، ومات في منتصف جمادى الأولى عام ٧٣٩هـ.
ويقول صاحب الدرر الكامنة: أن له ابنًا اسمه محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني، وهو ابن القاضي جلال الدين خطيب جامع دمشق.. وقد ترجم له١.
_________
١ ١٨٥ جـ٤.. ويقول فيه: أنه ولد عام ٧٠١هـ وتفقه ومهر في الخطابة ومات في جمادي الآخر عام ٧٤٢هـ.
1 / 15
أول كتاب الإيضاح
تمهيد
...
أول كتاب الإيضاح للخطيب القزويني:
تمهيد:
قال الشيخ الإمام، العالم العلامة خطيب الخطباء، مفتي المسلمين، جلال الدين: أبو عبد الله محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني الشافعي. متع الله المسلمين بمحياه، وأحسن عقباه:
الحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد وعلى آل محمد أجمعين.
أمابعد: فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها١، ترجمته ٢ بـ"الإيضاح" وجعلته علي ترتيب مختصري الذي سميته تلخيص المفتاح. وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له، فأوضحت مواضعه المشكلة، وفصلت معانيه المجملة وعمدت إلى ماخلاعنه المختصر، مماتضمنه "مفتاح العلوم٣"، وإلى ماخلاعنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني٤ ﵀ -في كتابيه: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما٥، فاستخرجت زبدة٦ ذلك كله، وهذبتها ورتبتها، حتى استقر كل شيء منها في محله، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكرى، ولم أجده لغيري. فجاء بحمد الله جامعًا لأشتات هذا العلم. وإليه أرغب في أن يجعله نافعًا لمن نظر فيه من أولى الفهم.
وهو حسبي ونعم الوكيل.
_________
١ علم البلاغة يشتمل على المعاني والبيان وتوابعها هو علم البديع والكلام في السرقات الشعرية.
٢ المراد: سميته.
٣ تأليف السكاكي م ٦٢٦هـ.
٤ هو شيخ البلاغة العربية وفيلسوفها. توفي عام ٤٧١هـ. واسمه أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني: وله ترجمة في فوات الوفيات وفي بغية الوعاة للسيوطي وعرض له ولكتابيه: الأسرار والدلائل صاحب كتاب بحوث وآراء في علوم البلاغة "ص٥٨، ١٢٩-١٣٢".. وقد ألفت فيه كتابًا عنوانه "عبد القاهر والبلاغة العربية".
٥ أي غير السكاكي والجرجاني.
٦ زيدة الشيء: جوهرة وخلاصته.
1 / 16
مقدمة ١:
في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة:
وانحصار علم البلاغة في علمي٢ المعاني والبيان للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة، لم أجد فيما بلغني منها. ما يصلح لتعريفها به، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم ٣، فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين، فنقول:
_________
١ الإيضاح مقسم إلى: مقدمة وثلاثة فنون وخاتمة، فالمقدمة ليست من قبيل مقاصد علم البلاغة وتوابعها، بل هي تمهيد لذلك. والفنون الثلاثة هي من مقاصد البلاغة إلا أن موضوع كل فن منها يختلف عن موضوع الآخر، فموضوع الفن الأول -وهو علم المعاني- الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وموضوع الفن الثاني -علم البيان- الاحتراز عن التعقيد المعنوي، وموضوع الفن الثالث -البديع- ليس الاحتراز عن شيء أصلًا، بل مجرد تحسين اللفظ وتزيينه. والخاتمة تشمل السرقات والكلام علي حسن الابتداء والتخلص وحسن الخاتمة، فهي من الفن الثالث أو متصلة به بصلة كبيرة.
والمقدمة هنا لبيان معنى شيئين: الأول معنى الفصاحة والبلاغة، والثاني انحصار علم البلاغة في علمي المعاني والبيان، وكل ذلك مما يرتبط بالمقصود من الكتاب.. فالمقدمة هنا هي مقدمة كتاب.
وذكر معنى الفصاحة والبلاغة قبل الشروع في مسائل المعاني والبيان والبديع ضروري، لتوقف معرفة معانيها علي معرفة معنى البلاغة والفصاحة.
٢ في الأصل "في علم".
٣ في هذا الكلام شيء من المجازفة: فقد سبق أبو هلال ببيان الفرق بين الفصاحة والبلاغة في الصناعتين، فذكر أن البلاغة هي كل ماتبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة
1 / 17
.........................................................................
_________
= ومعرض حسن، ثم قال: وأما الفصاحة فقد اختلفوا فيها، فقال قوم: إنها مأخوذة من قولهم: أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره وعلى هذا ترجع الفصاحة والبلاغة إلى معنى واحد وإن اختلف أصلهما في اللغة، وقال بعضهم: الفصاحة تمام آلة البيان، وعلى هذا تكون الفصاحة والبلاغة مختلفين، وذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على المعنى إلخ "٣٩ وما بعدها صناعتين".
وذكر ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لاتكون إلاوصفًا للألفاظ مع المعاني، فلا يقال في كلمة واحدة أنها بليغة وإن قيل أنها فصيحة إذا فضلت عن مثلها، وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغًا كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه، ثم قال: والفصاحة على ذلك شطر البلاغة وأحد جزءيها، ولها شروط إذا تكاملت في الألفاظ فلا مزيد على فصاحتها، وتلك الشروط: منها ما يتعلق باللفظة الواحدة، ومنها ما يوجد في الألفاظ المنظومة بعضها مع بضع.. وهذا كله هو خلاصة رأي القزويني أقتبسه من ابن سنان "راجع ص٥٥ وما بعدها من سر الفصاحة طبعة الرحمانية" وذكر ابن رشيق في العمدة: أن البلاغة والفصاحة راجعان إلى اللفظ والمعنى جميعًا إلخ "ص٨٠ طبعة هندية".
وذكر عبد القاهر: أن البلاغة والفصاحة وما يجري مجارها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى معناها حسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة ثم تبرجها في صورة هي أبهى، ولا جهة لذلك غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأحرى بأن يظهر مزية "ص٣٥ من دلائل الإعجاز"، وقال في أسرار البلاغة: أما رجوع الاستحسان "أي الوصف بالبلاغة والفصاحة" إلى اللفظ من غير شرك من المعنى فيه فلا يعدو نمطًا واحدًا، هو أن تكون اللفظ مما يتعارفه الناس في استعمالهم ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا أو عاميًّا سخيفًا"ص٣ أسرار البلاغة"، فالبلاغة والفصاحة عنده مترادفان، وإن اختلف فهم كلامه فيهما وفي هل يرجعان عنده إلى اللفظ أو إلى المعنى. ويرى عبد القاهر أن الفصاحة تقال لكون اللفظ جاريًا على القوانين المستنبطة من استقراء كلامهم كثير الاستعمال على ألسنة العرب الموثوق بعربيتهم "ص٣٥٣ دلائل الإعجاز" وهو كلام السكاكي أيضًا "ص١٧٦ من المفتاح".
ويرى السكاكي أن البلاغة بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدًّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، وأما الفصاحة فهي عنده قسمان: قسم يرجع إلى المعنى وهو خلوص الكلام من التعقيد المعنوي، وقسم يرجع إلى اللفظ وهو أن تكون الكلمة عربية أصلية جارية على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم، لا مما أحدثه المولدون، ولا مما أخطأت فيه العامة "وأن تكون" سليمة من التنافر "راجع ص١٧٦ من المفتاح".
ويرى ابن الأثير أنه يحتاج في تأليف الكلمات إلى ثلاثة أشياء: اختيار الألفاظ المفردة، ونظم كل كلمة مع أختها بحيث لا يكون هناك قلق ولا منافرة، والغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه ... والأول والثاني عنده هما المراد بالفصاحة، والثلاثة بجملتها هي المراد بالبلاغة. وتكلم في كتابة المثل السائر على الصناعة اللفظية "وهي عنده قسمان: قسم اللفظة المفردة، وقسم الألفاظ المركبة"، وعلى الصناعة المعنوية.
1 / 18
كل واحدة منهما١ تقع صفة لمعنيين: أحدهما الكلام كمافي قولك قصيدة فصيحة أو بليغة، ورسالة فصيحة أو بليغة، والثاني المتكلم كما في قولك شاعر فصيح أو بليغ، وكاتب فصيح أو بليغ. والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد فيقال: كلمة فصيحة، ولايقال كلمة٢
_________
١- أي من البلاغة والفصاحة.
٢- هذا هو الفرق بين الفصاحة والبلاغة عند الخطيب، فالفصاحة عنده صفة للمفرد والكلام والمتكلم، والبلاغة صفة للكلام والمتكلم فقط. ولاشك أن من يرى أن البلاغة والفصاحة مترادفان بحيز أن يقال كلمة بليغة كمايقال كلمة فصيحة، وإن كان عبد القاهر -الذي يرى أن الفصاحة والبلاغة مترادفان- يجعلهما وصفًا للكلام لا للفظ المفرد فلاتقول عنده كلمة فصيحة ولا كلمة بليغة.
هذا والمراد بالكلام ما يقابل الكلمة فيشمل المركب الإسنادي والمركب الناقص جميعًا، فإنه قد يكون بيت من القصيدة غير مشتمل على إسناد يصح السكوت عليه مع أنه متصف بالفصاحة مثل:
إذا ما الغانيات برزن يومًا ... وزججن الحواجب والعيونا
فيكون المراد بالكلام تامًّا أو ناقصًا. وورد على هذا الرأي اعتراضات منها: أن المركب الناقص إنما يصح إدخاله في مدلول الكلام لو كانوا يطلقون على مثل هذا المركب أنه كلام فصيح ولم ينقل عنهم ذلك بل المنقول وصفهم له بأنه فصيح دون كونه كلامًا، على أنه يجوز أن يكون وصفه بالفصاحة باعتبار فصاحة مفرداته.
وقيل أن المركب الناقص خارج عن المفرد وعن المركب التام فلايتصف بالفصاحة والبلاغة بالنظر لذاته بل قد يوصف بها بالنظر لمفرداته.
والصحيح أن المراد بالكلام مايقابل المفرد، حقيقة "وهو اللفظة الواحدة المفردة" أو حكمًا "وهو المركب الناقص"، فالمركب الناقص على هذا داخل في المفرد؛ لأن المفرد يطلق على ما يقابل المركب، وعلى ما يقابل المثنى والمجموع وعلى ما يقابل الكلام، ومقابلة المفرد ههنا بالكلام قرينة دالة على أنه أريد به ما ليس بكلام تام الإفادة، فيكون المركب الناقص داخلًا فيه -أي في المفرد.
1 / 19
بليغة١.
_________
١ إذالم يسمع ذلك عن العرب، وهذا هو التعليل الصحيح. وبعضهم يعلل لهذا بأن البلاغة إنما هي باعتبار المطابقة لمقتضى الحال وهي لا تتحقق في المفرد، وورد على هذا التعليل بأن عدم تحقق المطابقة لمقتضى الحال في المفرد إنما هو في بلاغة الكلام والمتكلم، فلم لا يجوز أن تكون هناك بلاغة أخرى غير المطابقة يصح وجودها في الكلمة؟
1 / 20
الفصاحة١:
أما فصاحة المفرد٢ فهي خلوصه٣ من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي:
_________
١ هي في اللغة تنبئ التزامًا عن الظهور والإبانة "راجع ص٣٥٣ من الدلائل" يقال: فصح الأعجمي وأفصح: إذا انطلق لسانه وخلصت لغته من اللكنة وجادت فلم يلحن، وأفصح به أي صرح، وفصح اللبن إذا أخذت رغوته وذهب لباؤه، قال أبو محجن الثقفي أو نضلة السلمي:
رأوه، فازدروه، وهو خرق ... وينفع أهله الرجل القبيح
فلم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الفصيح
٢ بدأ بذكر أقسام الفصاحة وتعريف كل قسم منها على حدة دون أن يعرفها في نفسها على الإطلاق لتعذر جمع المعاني المختلفة غير المشتركة في أمر يعمها في تعريف واحد.. وقدم الكلام على الفصاحة قبل البلاغة؛ لأن معرفة البلاغة سواء كانت بلاغة كلام متكلم موقوفة على معرفة الفصاحة في الجملة "إذ لا دخل لفصاحة المتكلم في بلاغة الكلام أو المتكلم"، لكون الفصاحة مأخوذة في تعريف البلاغة، ولهذا أيضًا قدم فصاحة المفرد على فصاحة الكلام والمتكلم، أما توقف فصاحة الكلام على فصاحة المفرد فظاهر، وأما توقف فصاحة المتلكم عليه فبواسطة أخذ فصاحة الكلام المتوقف عليها في فصاحة المفرد.. هذا وعيب المفرد أما في مادته أي حروفه وهو التنافر أو في صورته وهو المخالفة للقياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة "فالقياس اللغوي هو الضابط المتقرر من استعمالات العرب وهو القياس الصرفي"، وأما من دلالته على معناه وهو الغرابة.
٣ تفسير الفصاحة بالخلوص من هذه العيوب لا يخلو عن تسامح؛ لأن الفصاحة تحصل عند الخلوص؛ لأنها هي كون الكلمة جارية على القوانين الصرفية متناسبة الحروف كثيرة الاستعمال، ويلزم من ذلك الخلوص، وبتفصيل أدق أقول: الفصاحة هي كون اللفظ جاريا على القوانين المستنبطة من استقراء كلام العرب كثير الاستعمال على ألسنة العرب الموثوق بعربيتهم.
1 / 21
فالتنافر١:
منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها، كما روي أن أعرابيًّا سئل عن ناقته فقال: تركتها ترعى الهعخع٢.
_________
١ هو وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعسر النطق بها، والحكم في التنافر هو الذوق، وهو قوة يدرك بها لطائف الكلام ووجوه تحسينه، فكل ما يعده الذوق الصحيح ثقيلًا متعسر النطق به فهو متنافر سواء كان من قرب المخارج أو بعدها أو غير ذلك، وقد صرح بذلك ابن الأثير في "المثل السائر". وقال الزوزني: أن قرب المخارج سبب للثقل المخل بالفصاحة، وأن في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ﴾ ثقلًا قريبًا من التناهي فيخل بفصاحة الكلمة، ولكن الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير فصيحة لا يخرج عن الفصاحة، كما لا يخرج الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير عربية عن أن يكون عربيًّا. ورد رأي الزوزني بما يأتي:
١ أن فصاحة الكلمات مأخوذة في تعريف فصاحة الكلام من غير تفرقة بين طويل وقصير.
٢ وأن الزوزني يرى أن الكلام ما ليس بكلمة، وحينئذ فالقول بوجود كلمة غير فصيحة في كلام فصيح أكثر فسادًا من ذلك القول على تفسير غيره، فالفساد لازم لكلام الزوزني في المركب التام وفي المركب الناقص إذا اشتمل كل منهما على كلمة غير فصيحة، أما على قول غير الزوزني وهو الشارح "السعد" فالفساد في المركب التام فقط؛ لأنه يجعل المركب الناقص داخلًا في الكلمة.
٣ على أن القياس على الكلام العربي ظاهر الفساد؛ لأن القرآن عربي باعتبار كله أو جله، وأيضًا فلم يشترط في عربية الكلام عربية الكلمات.
٤ ولو سلم عدم خروج السورة عن الفصاحة مع اشتمالها على كلمة غير فصيحة، فإن مجرد اشتمال القرآن على كلام غير فصيح بل على كلمة فصيحة مما يقود إلى نسبة الجهل أو العجز لله.
٢ هي اسم شجرة من شجر الصحراء، وتنطق الكلمة بصور كثيرة، وقيل أنها كلمة معاياة لا أصل لها في اللغة.
1 / 22