الاعتقاد القادري دراسة وتعليق
إعداد
د. عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف
عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
ملخص البحث
يهدف هذا البحث إلى إبراز جهود الخليفة العباسي القادر بالله (ت ٤٢٢هـ) في سبيل إظهار الإسلام وإقامة السنة.
فالفصل الأول يتحدث عن نبذة موجزة عن سيرة القادر بالله، ثم يعرض جهوده في إقامة الإسلام والسنة، كإظهار الشروط العمرية، وإظهار مذهب أهل السنة واستتابة المبتدعة، وجهوده ضد الباطنية.
ويتحدث الفصل الثاني عن الاعتقاد القادري، من جهة التحقيق في مؤلفه، ومناسبة تصنيفه، وكذا التحقيق في متن الاعتقاد القادري، والتعليق عليه، وما يتضمنه من مزايا، ما أعقب تدوينه من ثمرات وآثار، ويسبق هذين الفصلين تمهيدٌ يحوي أمثلة من جهود خلفاء بني العباس في إظهار الإسلام والسنة، كما يلحقه خاتمة تتضمن نتائج البحث..
Unknown page
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد: تميّزت سيرة الخليفة العباسي القادر بالله ﵀ بمزايا ومواقف رائعة تقتضي البحث والتصنيف، فقد أظهر الإسلام وأقام السنة، فألزم أهل الذمة الشروط العمرية، وهتك أستار الباطنية، وطعن في نسب العبيديين، وذلك في وقت استفحل شأنهم وكثر دعاتهم، كما استتاب المبتدعة وقمعهم، وانتصر لأهل السنة.
ومن مآثره أنه كتب الاعتقاد القادري، وهو اعتقاد يستحق الدراسة والتأليف لجملة أمور منها:-
(أن هذا الاعتقاد على طريقة أهل السنة والجماعة، وقد أثنى عليه أئمة من أهل السنة كابن تيمية والذهبي وابن كثير وغيرهم.
(أن لهذا الاعتقاد أثره الإيجابي ونفعه المتعدي في إظهار مذهب أهل السنة ومدافعة أهل البدعة، بل إن آثاره لم تقف عند بلد معيّن أو عصر محدد - كما سيأتي مفصّلًا -
(يحتاج هذا الاعتقاد إلى تحقيق في مؤلفه، فمن قائل أن مؤلفه الخليفة القادر بالله، ومن قائل أن مؤلفه أبو أحمد الكرجي..
(كما أن متن الاعتقاد يحتاج إلى تحرير، فإن من أهل العلم من يقول: إنه طويل، مع أن المثبت منه لا يزيد عن بضع صفحات.
(أن للاعتقاد القادري مزايا كثيرة ومهمة، قلما تجتمع في أكثر المتون، وهي مزايا تستحق الإظهار والبيان.
فلعل هذا البحث القاصر يحقق ما آمله وأرجوه، والله المستعان وعليه التكلان.
1 / 226
خطة البحث
تتكون خطة البحث من مقدمة وتمهيد وفصلين وخاتمة.
المقدمة: وتتضمن أهمية الموضوع، وأسباب اختياره.
التمهيد: نبذة موجزة عن جهود خلفاء بني العباس في إظهار الإسلام والسنة.
الفصل الأول: الخليفة القادر بالله وجهوده في إظهار الإسلام والسنة وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: نبذة موجزة عن سيرة الخليفة القادر بالله.
المبحث الثاني: إظهاره الشروط العمرية.
المبحث الثالث: إظهاره مذهب أهل السنة واستتابة المبتدعة.
المبحث الرابع: جهوده تجاه الباطنية.
الفصل الثاني: الاعتقاد القادري.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: التحقيق في مؤلف الاعتقاد، ومناسبة تأليفه.
المبحث الثاني: متن الاعتقاد القادري.
المبحث الثالث: مزايا الاعتقاد القادري.
المبحث الرابع: آثار الاعتقاد القادري.
خاتمة: تتضمن نتائج البحث.
1 / 227
التمهيد: نبذة موجزة عن جهود خلفاء بني العباس في إظهار الإسلام السنة
يحوي هذا التمهيد أمثلة مختارة من خلفاء بني العباس الذين لهم جهود متميزة في سبيل إظهار السنة وإقامة دين الله تعالى، وسيكون الحديث عن ذلك على النحو الآتي:
المهدي:-
وصفه الذهبي (١) بقوله: "إنه خائف من الله، معادٍ لأولي الضلالة، حَنِق عليهم. (٢) "
ومن جهوده في نصر الإسلام والسنة، أنه منع الناس من الكلام والخوض فيه (٣) .
وأهمّ الخليفة المهدي (٤) أمر الزنادقة، فجدّ في طلبهم، وتتبعهم في سائر الآفاق، واستحضرهم، وقتلهم صبرًا بين يديه (٥) .
كما أوصى المهدي بنيه باستئصال الزنادقة (٦)، فقال لابنه موسى (الهادي): "يا بني، إن صار لك هذا الأمر، فتجرّد لهذه العصابة - يعني أصحاب ماني- فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم، وترك قتل الهوام تحرّجًا، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين، أحدهما: النور، والآخر: الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات ...
فارفع فيها الخشب، وجرّد فيها السيف، وتقرّب بأمرها إلى الله لا شريك له. (٧) "
وقد أثنى شيخ لإسلام ابن تيمية (٨) على المهدي؛ لما حصل في عهده من إظهار الإسلام والسنة، وقمع الكفر والبدعة.
يقول ابن تيمية: " تجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوى كانت السنة وأهلها وأظهر وأقوى، وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك، مثل دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان، ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين، كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر، وأهل البدع أذل وأقل، فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من لا يحصي عدده إلا الله.
_________
(١) . هو أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي، الإمام، الحافظ، المؤرخ، ولد سنة ٦٧٣هـ بدمشق، له رحلات في طلب العلم، وصاحب مؤلفات كثيرة، توفي بدمشق سنة ٧٤٨هـ.
انظر: طبقات الشافعية ٩/١٠٠، والبدر الطالع ٢/١١٠.
(٢) . سير إعلام النبلاء ٧/٤٠٣، وانظر: تاريخ الإسلام ١٠/٤٤٤.
(٣) . انظر: المرجع السابق، ٧/٤٠٠، وتاريخ الإسلام ١٠/٤٣٩.
(٤) . هو أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر المنصور، ولد سنة ١٢٧هـ بأرض فارس، ولي الخلافة بعد وفاة أبيه، فردّ المظالم، وأحسن إلى الرعية، وقتل الزنادقة، وتوفي سنة ١٦٩هـ.
انظر: تاريخ بغداد ٥/٣٩١، وسير أعلام النبلاء ٧/٤٠٠.
(٥) . انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري ٨/١٦٧، المنتظم لابن الجوزي ٨/٢٨٧، والبداية لابن كثير ١٠/١٤٩.
(٦) . الزندقة: لفظ أعجمي معرب، أخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام، ويطلق الزنديق على كل من: المجوسي، الدهري، والمنافق والجهمي.
انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي صـ ٣١، والسبعينية لابن تيمية صـ ٣٣٨، وفتح الباري ١٢/٢٧١.
(٧) . تاريخ الطبري ٨/٢٢٠ = باختصار، وانظر: تاريخ الاسلام للذهبي ١٠/٤٤٤.
(٨) . هو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية الحراني، الإمام الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ، المفسر، الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أفتى ودرّس وهو دون العشرين، وله مئات التصانيف، توفي سنة ٧٢٨هـ.
انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ٢/٢٨٧، والعقود الدرية لابن عبد الهادي.
1 / 228
- إلى أن قال- وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس، وأحسنهم إيمانًا وعدلًا وجودًا، فصار يتتبع المنافقين الزنادقة. (١) ".
ومن مناقب المهدي أيضًا: أنه ردّ المظالم (٢)، وأطلق خلقًا كثيرًا من السجن.
لقد أصلح الله تعالى المهدي دين هذه الأمة، فحقق نصرًا للإسلام بقتل الزنادقة، كما حقق ظهورًا للسنة بمنعه الكلام وبغضه أهل الأهواء.
كما جرى على يديه صلاح لدنيا الأمة من خلال إحسانه للرعية والرحمة بهم..
الرشيد:-
قال ابن كثير في وصفه: "فضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جدًا، قد ذكر الأئمة من ذلك شيئًا كثيرًا، وقد كان الفضيل بن عياض يقول: ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري، وقالوا: فلما مات الرشيد، وظهرت تلك الفتن والحوادث والاختلافات، وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك (٣) ."
لقد كان الرشيد (٤) ﵀ على طريقة أهل السنة من التعظيم والتسليم لسنة رسول الله ﷺ، كما هو واضح جلي في تلك الحكاية التي ساقها شيخ الإسلام الصابوني بسنده أن أبا معاوية الضرير حدّث هارون الرشيد بحديث أبي هريرة " احتج آدم وموسى.. (٥) "
فقال أحد الحاضرين: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما! فوثب به هارون، وقال: يحدثك عن رسول الله ﷺ، وتعارضه بكيف (٦)
وفي رواية أخرى: " أن الرشيد غضب من ذلك غضبًا شديدًا، وقال: أتعترض على الحديث؟ عليّ بالنطع والسيف، فأحضر ذلك، فقام الناس إليه، يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبره من ألقى إليه هذا، فأقسم ذلك الرجل بالأيْمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منه، وأنه يستغفر الله
_________
(١) . نقض المنطق صـ ١٨، ١٩ = باختصار
(٢) . انظر: تاريخ بغداد للخطيب ٥/٣٩٣.
(٣) . البداية ١٠/٢٢١.
(٤) . هو أبو جعفر هارون بن المهدي بن المنصور، ولد بالري سنة ١٤٨هـ، كان أن أنبل الخلفاء، وأحشم الملوك، ذا حج وجهاد، وشجاعة ورأي، ومحاسنه كثيرة، وله أخبار شائعة في اللهو، توفي سنة ٢٥٤هـ.
انظر: سيرة أعلام النبلاء ٩/٢٨٦، تاريخ بغداد ١٤/٥.
(٥) . أخرجه البخاري، ك القدر ح (٦٦١٤)، مسلم، ك القدر ح (٢٦٥٢) .
(٦) . أخرجه الصابوني في عقيدة السلف صـ ٣٢٠.
1 / 229
ويتوب إليها منها، فأطلقه (١) ."
وقال الصابوني (٢) - بعد إيراده القصة -:- هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله ﷺ، ويقابله بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد ﵀ مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف، على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقه بالقبول.. (٣) "
كما عرف الرشيد بكراهيته للمراء والكلام والجدال (٤)، وكان يقول عن المراء في الدين: "إنه لخليق أن لا ينتج خيرًا، وبالحرى ألا يكون فيه ثواب. (٥) "
إضافة إلى ذلك فقد أثنى عليه الأئمة، -كابن تيمية والذهبي ونحوهما- بكثرة الحج والغزو والجهاد في سبيل الله تعالى (٦) .
ومن قيامة بدين الله تعالى أنه أمر بهدم ما استحدث من الكنائس في مصر والعراق امتثالًا للأدلة الشرعية (٧) .
لاسيما وأن أبا يوسف ﵀ قد أوصاه بهدم ما أحدث من بيعة أو كنيسة، كما جاء في كتاب الخراج، والذي ألّفه أبو يوسف استجابة لطلب الرشيد (٨) .
المتوكل:
اشتهر المتوكل (٩) بإظهار السنة وإخماد البدعة، وإقامة شرع الله تعالى في أهل الذمة، كما أنه قتل من ارتد عن دين الله ﷿.
يقول الحافظ ابن كثير:
"لما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فإنه كان محبًا للسنة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن.. (١٠) "
وقال أيضا: "كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكف عن
_________
(١) . البداية لابن كثير ١٠/٢١٥ = باختصار يسير.
(٢) . إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني الشافعي، محدث، فقيه، مفسر، واعظ، نصر السنة في خراسان، ولقِّب شيخ الإسلام، توفي سنة ٤٤٩هـ.
انظر: طبقات الشافعية ٤/٢٧١، وسير أعلام النبلاء ١٨/٤٠.
(٣) . عقيدة السلف وأصحاب الحديث صـ ٣٢١.
(٤) . انظر: تاريخ الطبري ٨/٣٤٧، وتاريخ بغداد ١٤/٧، وسير أعلام النبلاء، ٩/٢٨٧، وتاريخ الإسلام ١٣/٤٢٦.
(٥) . تاريخ الطبري ٨/٣٤٧، وتاريخ بغداد ١٤/٧.
(٦) . انظر: نقض المنطق صـ ١٩، وسير أعلام النبلاء ٩/٢٨٧.
(٧) . انظر: جامع المسائل لابن تيمية ٣/٣٧٠، وأحكام أهل الذمة لابن القيم ٢/٦٧٥.
(٨) . انظر: كتاب الخراج لأبي يوسف صـ ٢٩٤، ٢٩٥.
(٩) . هو أبو الفضل جعفر بن المعتصم بالله بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، ولد سنة ٢٠٥هـ، ولي الخلافة بعد أخيه الواثق، فأظهر السنة وقمع البدعة، قتل سنة ٢٤٧هـ.
انظر: تاريخ بغداد ٧/١٦٥، وسير أعلام النبلاء ١٢/٣٠.
(١٠) . البداية ١٠/٣٣٧، وانظر: ١٠/٣٥١، وسير أعلام البنلاء ١٢/٣١.
1 / 230
القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت، وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل.. وارتفعت السنة جدًا في أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحدًا إلا بعد مشورة الإمام أحمد.. (١) "
لقد أظهر المتوكل السنة ونشر الحديث، فأمر الفقهاء والمحدثين أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الردّ على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية والصفات. (٢)
وساق الخطيب البغدادي بسنده أن إبراهيم بن محمد التيمي قاضي البصرة يقول: "والخلفاء ثلاثة أبو بكر الصدّيق، قاتل أهل الردة حتى استجابوا له، وعمر بن عبد العزيز ردّ مظالم بني أمية، والمتوكل محا البدعة وأظهر السنة. (٣) "
وأما عن إقامته شرع الله تعالى في أهل الذمة، فيتمثّل ذلك بإلزامهم الشروط العُمرية، وهدم ما استحدثوا من الكنائس.
ولذا قال ابن تيمية: "وكان في أيام المتوكل قد عزّ الإسلام، حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار. (٤) "
ولما ألزم المتوكل أهل الكتاب بشروط عمر الفاروق ﵁، استفتى علماء وقته في هدم الكنائس والبيع، فأجابوه، فبعث بأجوبتهم إلى الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سواد العراق. (٥)
وقد بسط ذلك ابن كثير في تاريخه، فكان مما قاله:-
"أمر المتوكل أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم.. وأن لا يُستعملوا في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم، وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة.. وأمر بتسوية قبورهم بالأرض، وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والآفاق. (٦) "
ومن محامد المتوكل أنه صادر أموال أحمد بن أبي داود، وسجن أصحابه، وأطلق من
_________
(١) . البداية ١٠/٣١٦ = باختصار
(٢) . انظر: المنتظم ١١/٢٠٧، وسير أعلام النبلاء ١٢/٣٤.
(٣) . تاريخ بغداد ٧/١٧٠، وانظر: المنتظم ١١/١٧٠.
(٤) . نقض المنطق صـ ٢٠.
(٥) . انظر: جامع المسائل لابن تيمية ٣/٢٧٠، وأحكام أهل الذمة ٢/٦٩١، ٦٩٣، ٧٠٠.
(٦) . البداية ١٠/٣١٣، ٣١٤ = باختصار، وانظر: تاريخ الطبري ٩/١٩٦، والكامل لابن الأثير ٧/٥٢، والمنتظم ١١/٢٢٢، ٢٣٨، ٢٦٥، وسير أعلام النبلاء ١٢/٣٤.
1 / 231
كان حبسه الواثق ممن امتنع من القول بخلق القرآن، كما أمر بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، ودفعه إلى أوليائه (١) .
كما أمر المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان بغداد؛ لأنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة ﵃، فضُرب بالسياط حتى هلك، ثم رمي به في نهر دجلة. (٢) .
وقتل المتوكل رجلًا كان نصرانيًا فأسلم، ومكث سنين كثيرة، ثم ارتد فاستتيب، فأبى الرجوع إلى الإسلام، فضربت عنقه (٣) .
ولما ظهر شخص يزعم أنه ذو القرنين ويدّعي النبوة، أمر المتوكل بضربه بالسياط، فضرب ضربًا شديدًا، فمات من بعد ضربه ذلك (٤) .
ولما توفي المتوكل، رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قيل له: بماذا؟ قال: بقليل من السنة أحييتها (٥) .
وبالنظر في جهود هؤلاء الخلفاء الثلاثة (المهدي والرشيد والمتوكل) نلحظ أنها جهود ظاهرة قوية، ومساعي جليلة في سبيل الإسلام والسنة، ومع أن خلفاء بني العبّاس المتأخرين لهم جهودهم في هذا المجال، إلا أنها لا تبلغ درجة أولئك الخلفاء السابقين في العصر العباسي الأول.
فالمعتضد (٦) مثلًا يُحمد على ما قام به إزالة سنة المجوس، وإبطال ما يُفعل في عيد النيروز من إيقاد النار، وصب الماء على الناس (٧) .
كما نهى الطرقية والمنجمين ونحوهم من الجلوس في المساجد والطرقات، ونهى عن بيع كتب الكلام والفلسفة والجدل بين الناس (٨) .
وأما المقتدي بأمر الله (٩)
فقد أحسن بإحيائه شعيرة الأمر بالمعروف في جميع البلدان، وإلزام أهل الذمة بلبس الغيار، وكسر آلات الملاهي، وإراقة الخمور، وإخراج أهل الفساد من البلاد (١٠) .
وكذا الخليفة المستضيئ بأمر الله (١١) "كان من خيار الخلفاء، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، مزيلًا عن الناس المكوسات والضرائب، ومبطلًا للبدع والمصائب. (١٢) "
_________
(١) . انظر: المنتظم ١١/٢٥١، وسير أعلام النبلاء ١٢/٣٦، والبداية لابن كثير ١٠/٣١٦.
(٢) . انظر: تاريخ الطبري ٩/٢٠١، والمنتظم ١١/٢٨٣، والبداية ١٠/٣٢٣.
(٣) . انظر: تاريخ الطبري ٩/٢٠٧، والمنتظم ١١/٢٩٦.
(٤) . انظر: تاريخ الطبري ٩/١٧٥، والكامل ٧/٥٠، والمنتظم ١١/٢٢٣، والبداية ١٠/٣١٤.
(٥) . انظر: تاريخ بغداد ٧/١٧٠، ١٧١، والبداية ١٠/٣٥١.
(٦) . هو أبو العباس أحمد بن الموفق بالله بن المتوكل، ولد سنة ٢٤٢هـ، كان ملكًا مهيبًا شجاعًا، حارب الزنج ونشر العدل، توفي سنة ٢٨٩هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء ١٣/٤٦٣، وتاريخ بغداد ٤/٤٠٣.
(٧) . انظر: تاريخ الطبري ١٠/٣٩، ٥٣، وتاريخ الإسلام للذهبي ٢١/٧.
(٨) . انظر: المنتظم ١٢/٣٠٥، والبداية ١١/٦٤.
(٩) . هو أبو القاسم عبيد الله بن ذخيرة الدين بن القائم بأمر الله بن القادر بأمر الله، كان حسن السيرة فقد أزال المنكرات، توفي سنة ٤٧٨هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء ١٨/٣١٨، وشذرات الذهب ٣/٣٨٠.
(١٠) . انظر: المنتظم ١٦/١٦٦، والكامل ١٠/٢٣، وسير أعلام النبلاء ١٨/٣١٨، وابن كثير ١٢/١٣٧.
(١١) . هو أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد بن المقتفي، ولد سنة ٥٣٦هـ، وولي الخلافة سنة ٥٦٦هـ، كان من خيار الخلفاء، وكان عادلًا كريمًا، توفي سنة ٥٧٥هـ.
انظر: البداية ١٢/٣٠٤، شذرات الذهب ٤/٢٥١.
(١٢) . البداية لابن كثير ١٢/٣٠٤.
1 / 232
وكان المستضيئ حريصًا على حضور مجالس ابن الجوزي ومواعظه (١)، كما أمر المستضيئ بتقوية ابن الجوزي وتأييده من أجل إزالة الرفض (٢) .
بعد هذه النبذة الموجزة عن جهود خلفاء بني العباس في إظهار الإسلام والسنة، فيمكن التساؤل: أين تقع جهود الخليفة القادر بالله؟ هل تلحقه بالخلفاء المتقدمين أم المتأخرين؟
هذا ما سيتضح جوابه في الفصل الآتي.
الفصل الأول: الخليفة القادر بالله وجهوده في إظهار الإسلام والسنة
المبحث الأول: نبذة موجزة عن سيرة الخليفة القادر الله
هو أبو العباس أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المتوكل ابن الخليفة المقتدر ابن الخليفة المعتضد ابن الأمير طلحة ابن الخليفة المتوكل ابن الخليفة المعتصم ابن الخليفة هارون المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور الهاشمي العباسي البغدادي.
ولد سنة ست وثلاثين وثلاث مائة (٣) .
كان أبيض حسن الوجه، كثّ اللحية، يخضب (٤)، "وكان من الستر والديانة وإدامة التهجد بالليل، وكثرة البر والصدقات على صفة اشتهرت عنه، وعرف بها عند كل أحد (٥) ."
ووصفه بعض المؤرخين قائلا: "كان امرءًا صالحًا ورعًا تقيًا، حسن الخليقة، جميل الطريقة، طلق النفس، كثير المعروف (٦) ."
وقال آخر: " كان عابدًا زاهدًا، يصحب العلماء، ولا يدخر شيئًا، ومكرمًا للحديث وأهله (٧) ."
وأما عن خلافته فقد ولي الخلافة سنة ٣٨١هـ، إلى أن توفي سنة ٤٢٢هـ، عن ست وثمانين عامًا، ولم يعمر أحد من الخلفاء قبله ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سنة، وهذا ما لم يسبقه أحد إليه (٨) .
_________
(١) . انظر: المنتظم ١٨/٢١٨، ٢١٩، ٢٢١، ٢٢٦، ٢٢٩، ٢٣٠، ٢٣١، ٢٣٢، ٢٣٥، ٢٣٨، ٢٤٨، ٢٥٠.
(٢) . انظر: المنتظم ١٨/٢٢٢، والفروع لابن مفلح ٦/١١٠.
(٣) . انظر: تاريخ بغداد ٤/٣٧، وطبقات الشافعية للأسنوي ٢/٣١٠، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ٤/٢٧٥.
(٤) . انظر: تاريخ بغداد ٤/٣٧، والكامل ٩/٤١٥، وطبقات السبكي ٢/٣١١.
(٥) . تاريخ بغداد ٤/٣٧، وانظر: خلاصة الذهب للأربلي صـ ٢٦١، وسير أعلام النبلاء ١٥/١٢٧.
(٦) . أخبار الدول المنقطعة لعلي بن ظافر الحلبي صـ ٢٥٦، وانظر: البداية ١٢/٣١.
(٧) . مختصر تاريخ الخلفاء لمغلطاي البكجري صـ ١٤٢.
(٨) . انظر: تاريخ بغداد ٤/٣٨، والمنتظم ١٥/٢٢٠، وطبقات ابن الصلاح ١/٣٢٥، والوافي بالوفيات ٦/٢٤٠، والبداية ١١/٣٠٨، ١٢/١٣.
1 / 233
وكان القادر من خيار الخلفاء، حيث أظهر الإسلام والسنة - كما سيأتي مفصلًا في موضعه- وأقام العدل، وفي هذا المقام يقول ابن الأثير: "وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك، فلما وليها القادر بالله أعاد جدّتها، وجدّد ناموسها، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق، فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها (١) ."
وساق الصفدي حكاية طريفة تجلي حسن سياسة القادر ورفقه بالرعية، حيث قال الصفدي:-
"بينما القادر ذات ليلة يمشي في أسواق بغداد، إذا سمع شخصًا يقول لآخر: قد طالت علينا دولة هذا الشؤم، وليس لأحد عنده نصيب، فأمر خادمًا كان معه أن يتوكل به، ويُحضره بين يديه فما شك أن يبطش، فسأله عن صنعته، فقال: إني كنت من السُعاة الذين يستعين بهم أرباب هذا الأمر على معرفة أحوال الناس - يريد أصحاب المطالعات- فمنذ ولي أمير المؤمنين أقصانا، وأظهر الاستغناء عنّا، فتعاطلت معيشتنا، وانكسر جاهنا عند الناس، فقال له: أتعرف من في بغداد من السعاة؟ قال: نعم، فأحضر كاتبًا فكتب أسماءهم، وأمر بإحضارهم، ثم إنه أجرى لكل واحد منهم معلومًا، ونفاهم إلى الثغور القاصية ورتّبهم هناك عيونًا على أعداء الدين، ثم التفت إلى من حوله وقال: اعلموا أن أولئك ركّب الله فيهم شرًا، وملأ صدورهم حقدًا على العالم، ولا بدّ لهم من إفراغ ذلك الشر، فالأولى أن يكون ذلك في أعداء الدين، ولا ننغِّص بهم على المسلمين (٢) ."
فيلحظ الناظر إلى هذه الحكاية ما عليه القادر بالله من تفقد أحوال الرعية، وتجاوز عثراتهم، والإشفاق عليهم، حيث أجرى لأولئك القوم العطاء، كما يلحظ حسن تدبيره وسياسته إذا صرف هؤلاء القوم - أرباب المطالعات والتجسس - إلى ما هو أنفع فجعلهم عيونًا على أعداء الدين.
ومما يجدر ذكره أن القادر بالله يعدّ من أهل العلم وساداتهم، حتى أن ابن الصلاح عدّه من فقهاء الشافعية، وأنه من خيار خلفاء بني العباس وأحبارهم (٣) .
_________
(١) . الكامل ٩/٤١٥، وانظر: ٩/٨١.
(٢) . الوافي بالوفيات ٦/٢٤١.
(٣) . انظر: طبقات الشافعية لابن الصلاح ١/٣٢٤، والبداية ١١/٣٠٩، وتاريخ الخلفاء للسيوطي صـ ٤٩١.
1 / 234
وقد درس القادر على أحمد بن محمد الهروي (١) أحد فقهاء الشافعية (٢) .
توفي القادر بالله ﵀ ببغداد سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة.
أثنى العلماء على القادر ثناءً حسنًا، فوصفه صاحب ذيل تجارب الأمم بقوله:- "سلك من طريق الزهد والورع ما تقدمت فيه خطاه، فكان راهب بني العباس حقًا، وزاهدهم صدقًا ساس الدنيا والدين، وأغاث الإسلام والمسلمين، واستأنف في سياسة الأمر طرائق قويمة، ومسالك مأمونة، لم تعرف منه زلة، ولا ذمت له خلة، فطالت أيامه، وطابت أخباره، وأقفيت آثاره، وبقيت على ذريته الشريفة أنواره. (٣) "
وقال عنه الحافظ الذهبي:- "كان حسن الطريقة، كثير المعروف، فيه دين وخير. (٤) "
والمقصود أن الخليفة القادر قد اجتمع فيه من خصال الخير ما لا يجتمع في أغلب الخلفاء، فهو من أهل العبادة والديانة، وأصحاب البر والصدقات، أوتي علمًا وفقهًا، كما أقام العدل وأحسن إلى الرعية.
المبحث الثاني: إظهاره الشروط العمرية
لم أعثر - حسب اطلاعي - في شأن إظهار القادر الشروط العمرية إلا على معلومات يسيرة.
فقد ساق ابن الجوزي الواقعة التي تبدو سببًا في إلزام النصارى بالشروط العمرية، وخلاصة هذه الواقعة أن في سنة ٤٠٣هـ توفيت زوجة ابن أبي إسرائيل أحد رؤساء النصارى، فأُخرجت جنازتها، ومعها الطبول والصلبان والشموع، فأنكر ذلك بعض الهاشميين، فضربه بعض النصارى بدبوس في رأسه، فشجه، فثار المسلمون بهم، فانهزموا حتى لجأوا إلى كنيسة لهم هناك، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها، وما قرب منها من دور النصاري، قصدوا ابن أبي إسرائيل، فقاتلهم غلمانه، وانتشرت الفتنة ببغداد، وغلقت الجوامع، وقصد الناس الخليفة، فأمر بإحضار ابن أبي إسرائيل، فامتنع، فاشتدت الفتنة، ثم أحضر ابن أبي إسرائيل إلى دار الخلافة، فسكنت الفتنة، ثم أفرج عن ابن أبي إسرائيل. (٥)
_________
(١) . أبو حامد أحمد بن محمد الهروي، حافظ، مفسر، فقيه، توفي سنة ٣٥٨هـ.
انظر: طبقات الشافعية ٣/٤٥، سير أعلام النبلاء ١٦/٢٧٣.
(٢) . انظر: تاريخ بغداد ٤/٣٨، والكامل ٩/٤١٤، والمنتظم ١٥/٢٢٠.
(٣) . ذيل كتاب تجارب الأمم للروذراوري ٣/٢٠٧، ٢٠٨.
(٤) . تاريخ الإسلام ٢٧/٧.
(٥) . انظر: المنتظم ١٥/٩١، ٩٢.
1 / 235
ويمكن التعليق على هذه الحادثة بما يلي:-
١ - أظهر القادر بالله الشروط العمرية عقب هذه الحادثة، فألزم أهل الذمة بلبس الغيار.. فالنصارى - في تلك الحادثة - مخالفون للشروط العمرية التي اشترطها عمر الفاروق ﵁ على أهل الذمة من النصارى وغيرهم.. فإن مما شرطوه على أنفسهم:- "لا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر صليبًا.. (١) "، وهذه الشروط مجمع عليها في الجملة بين العلماء. (٢)
وقد أحسن القادر في إحياء وتجديد هذه الشروط التي جددها الخلفاء السابقون أمثال عمر بن عبد العزيز، وهارون الرشيد، والمتوكل ونحوهم. (٣)
وأثنى شيخ الإسلام على هذا الصنيع فقال:-
"وكان في أيام المتوكل قد عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم، وكذلك في أيام المعتضد والمهدي والقادر، وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة، وأحسن طريقة من غيرهم، وكان الإسلام في زمنهم أعز، وكانت السنة بحسب ذلك. (٤) "
٢- نلحظ - في هذه الواقعة - التفات عامة المسلمين إلى الخليفة القادر، وميلهم إليه، حيث قصدوا دار الخلافة.
كما يتجلى اهتمام القادر بالرعية، وحسن سياسته وتدبيره تجاه هذه الفتنة، فقد أنكر الخليفة ما جرى، وطالب بإحضار ابن أبي إسرائيل وتسليمه، من أجل إخماد الفتنة، فلما أُحضر إلى دار الخلافة، كفّ العامة وسكنت الفتنة، ثم أفرج عن ابن أبي إسرائيل.
٣- لا يخلو زمن خلافة القادر من أحداث تحكي شغب النصارى، وبغيهم على المسلمين، وظلم بعض عامة المسلمين للنصارى. (٥)
لكن بإلزام النصارى الشروط العمرية سنة ٤٠٣هـ اختفى الشغب واستقرت الأحوال، وكما اعترف بذلك جان مورييس فييه أحد النصارى المعاصرين. (٦)
٤- لعل إظهار القادر الشروط العمرية من أسباب تمكينه وتحقيق هيبته، ورحم الله
_________
(١) . اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ٢/٣٢٠، ٣٢١، وأحكام أهل الذمة لابن القيم ٢/٦٥٩ -٦٦٢.
(٢) . انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ٢/٣٢١، وأحكام الذمة ٢/٦٦٣.
(٣) . مجموع الفتاوى لابن تيمية ٢٨/٦٥٤، ٦٥٥.
(٤) . نقص المنطق صـ ٢٠.
(٥) . انظر: الكامل ٩/١٣٦، والبداية ١١/٣٣٠.
(٦) . انظر: أحوال النصارى في خلاصة بني العباس لجان فييه صـ ٢٦٥.
1 / 236
شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول:-
"وكل من عرف سير الناس وملوكهم، رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام، وأعظم جهادًا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله أعظم نصرة وطاعة وحرمة، من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وإلى الآن. (١) "
٥- تعصّب جان موريس فييه ضد القادر بالله، واتهمه بضعف الشخصية، وعدم الاستقلال برأيه!!
حيث عقد مبحثًا مستقلًا عن أحوال النصارى من خلافة القادر (٢)، وحوى ذلك المبحث جملة من المغالطات والأكاذيب التي ليس هذا موضع فقدها.
والذي يهمنا في هذا الموطن، ما ادّعاه من ضعف القادر، وأن سبب طول حياته بسبب ضعف سلطته!
وذاك تحامل مكشوف، ودعوى مردودة، لاسيما وأن الكاتب نفسه قد نقض ذلك، حيث اعترف بتدّخل الخليفة - في حادثة جنازة النصرانية- ومبادرته إلى علاج هذه الفتنة وقدرته على احتوائها، وإن إظهاره الشروط العمرية سبب في تحقيق الهدوء!
وكيف يوصف القادر بالله بضعف الشخصية، وأنه لا يستقل برأي، وقد أعاد للخلافة ناموسها، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق - كما سبق ذكره- كما أنه استتاب أهل البدع - مع اشتهارهم- وغلّظ عليهم، وهتك أحوال العبيديين - وهم في أوج تسلّطهم - وشجع على كشف أستارهم وزندقتهم - كما سيأتي بيانه- إضافة إلى إظهاره الشروط العمرية، وظهور قوته تجاه البويهيين (٣) !؟
وكما يقول د. عبد المجيد بدوي:-: "كان القادر نسيجًا وحده بين الخلفاء من بني العباس الذين عاصروا بني بويه، فلا غرابة أن يكون أقواهم، وأن يكون أول خليفة يعلن التمرد على البويهيين، ويحاول التخلص من سيطرتهم (٤) ."
_________
(١) . مجموع الفتاوى ٢٨/٦٤٠.
(٢) . انظر: أحوال النصارى في خلافة بني العباس صـ ٢٥٥ - ٢٧٥.
(٣) . انظر: التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني لعبد المجيد البدوي صـ ٦٤.
(٤) . المرجع السابق صـ ٦٤.
1 / 237
المبحث الثالث: إظهاره مذهب أهل السنة واستتابة المبتدعة
ولي القادر بالله الخلافة في زمن استفحلت فيه البدع والمحدثات، فظهر الرفض والاعتزال، وانتشرت دعوة العبيدين. (١)
وكما يقول المقريزي - عن خلافة القادر -: "وفي أيامه عظمت الباطنية، واشتهر مذهب الاعتزال، والرافضة. (٢) "
إضافة إلى ذلك فقد وقع في خلافته الكثير من الفتن والقلاقل بين الرافضة وعوام أهل السنة. (٣)
ومع ذلك كله فقد تحرك القادر بالله، فأظهر السنة، وسعى إلى إخماد البدع، ونصر مذهب أهل السنة، واستتاب المبتدعة، وغلّظ عليهم - كما سيأتي بيانه-
(ففي سنة ٤٠٨هـ استتاب القادر فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع، وتبرأوا من الاعتزال، ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأنهم متى خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم. (٤)
واشتهرت هذه الواقعة، فساقها الأئمة في مؤلفاتهم، وأثنوا على القادر بذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:-
"ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام، وجهاد أعدائه، حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة..
وكذلك الخليفة القادر ربما اهتم بذلك، واستتاب المعتزلة من الفقهاء.. (٥) "
ويقول: - في موضع آخر:- "وكانت قد انتشرت إذ ذاك دعوة الملاحدة المنافقين.. (٦) وكان هذا مما دعا القادر إلى إظهار السنة، وقمع أهل البدع، فكتب الاعتقاد القادري.. وأمر باستتابة من خالف ذلك من المعتزلة وغيره. (٧) "
_________
(١) . انظر: نقض التأسيس ٢/٣٣١.
(٢) . السلوك لمعرفة دول الملوك ١/١٢٥.
(٣) . انظر: المنتظم لابن الجوزي ١٥/١١، ١٩٨، ٢١٣، ٢١٤، والكامل ٩/٢٩٥، ٣٠٥، ٣٣٦، والبداية ١١/٣٢٥، ١٢/ ٢، ٦.
(٤) . انظر: المنتظم ١٥/١٢٥، ١٧٦، والكامل ٩/٣٠٥، وتاريخ الإسلام ٢٨/٢٧، والبداية ١٢/٦.
(٥) . نقض المنطق صـ ١٣ = باختصار
(٦) . يعني العبيديين، والذين يزعمون أنهم فاطميون.
(٧) . نقض التأسيس ٢/٣٣١ = باختصار، وانظر: الصفدية ٢/١٦٢، والدرء ٦/٢٥٢.
1 / 238
وقال الحافظ الذهبي:-
"وفيها استتاب القادر بالله - وكان صاحب سنّة- طائفة من المعتزلة والرافضة، وأخذ خطوطهم بالتوبة. (١) "
وقال ابن القيم (٢):-
"وكان [القادر] قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم.. فتحرك ولاة الأمور لإظهار السنة. (٣) "
(ونسوق دليلًا ثالثًا على جهود القادر في إظهار مذهب أهل السنة، ومحاربة البدعة، كما في الواقعة الآتية:
ففي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة أحضرتْ الشيعة مصحفًا، يدّعون أنه مصحف عبد الله بن مسعود ﵁ وهو يخالف المصاحف كلها، فجمع الأشراف والقضاة والفقهاء، وعرض المصحف عليهم، فأشار أبو حامد الأسفراييني بتحريقه، ففعل ذلك بمحضر منهم، لغضب الشيعة غضبًا شديدًا، وعزموا على إيذاء أبي حامد، وأوقعوا شغبًا وفتنة، فغضب الخليفة القادر، وأرسل أعوانه لنصرة أهل السنة، وعوقب من كانت له يد في الفتنة، فهدأت البلاد، واستقرت الأحوال. (٤)
فهؤلاء العلماء - بما آتاهم الله من علم وبصيرة، وقوة وشجاعة في دين الله - أفتوا بتحريق هذا المصحف، وأوقعوه، وأما الخليفة القادر فقد أخمد الفتنة، وأزال شغب الشيعة وبغيهم.
(ومن محامد الخليفة القادر أنه عزل خطباء الشيعة، واستبدل بهم خطباء من أهل السنة.
وحكى ابن كثير هذه المحمدة قائلًا: " وعزل خطباء الشيعة، وولى خطباء السنة، ولله الحمد وعلى ذلك وغيره. (٥) "
ومن ذلك أن خطيب جامع براثا - وبراثا مأوى الرافضة- كان شيعيًا غاليًا،
_________
(١) . العبر ٣/٩٨.
(٢) . هو الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، برع في علوم متعددة، كان واسع العلم، عارفًا بالخلاف ومذهب السلف، له تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة ٧٥١هـ.
انظر: البداية ١٤/٢٣٤، والدرر الكامنة ٤/٢١.
(٣) . الصواعق المرسلة ٤/١٢٨٦.
(٤) . انظر: المنتظم ١٥/٥٩، وطبقات الشافعية للسبكي ٤/٦٥، والبداية ١١/٣٣٨، ٣٣٩، وتاريخ الخلفاء للسيوطي صـ ٤٨٨.
(٥) . البداية ١٢/٢٦.
1 / 239
فيذكر في خطبته أقوالًا غالية، وزندقة ظاهرة، كقوله: علي بن أبي طالب ﵁ محيي الأموات، البشري الإلهي..، فقُبض عليه، وجاء خطيب سني، فخطب الجمعة، فضربه عامة الشيعة، حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفه، كادوا أن يقتلوه.. فانتصر الخليفة القادر لأهل السنة، وأهان الشيعة وأذلهم، وكتب الخليفة القادر كتابًا يحوي تفصيل هذا الواقعة، وما عند الرافضة من الإلحاد والانحراف، والتغليظ عليه وتهديدهم.. ثم اعتذر الرافضة عما فعلوه. (١)
وإقصاء خطباء الشيعة وتولية خطباء من أهل السنة لهو دليل ظاهر على حكمة الخليفة القادر وقوته، فلا يخفى انتشار التشيع، وتغلغل نفوذهم آنذاك، سواءً من قبل البويهيين أو العبيديين، خاصة وأن الحاكم العبيدي قد بثّ دعاته في بلاد المشرق، فعمد الخليفة القادر إلى مدافعة ذلك فعزل خطباء الشيعة، وولّى خطباء من أهل السنة، من أجل نشر المذهب السني، وإيقاف المدّ الشيعي، ولما يحققه من نفوذ للخليفة العباسي.
المبحث الرابع: جهوده تجاه الباطنية
استفحل نفوذ العبيديين - في عصر القادر بالله - فنشط دعاتهم في نشر المذهب الباطني، وانتشروا في أطراف البلاد، فكان رسل العبيديين ودعاتهم يفدون من مصر إلى الأمراء والسلاطين، فدخل بعضهم في دعوتهم (٢)، وخطب بعض الأمراء للحاكم العبيدي وأظهر الطاعة له (٣)، بل أفضى الأمر إلى الخطبة في الحرمين سنة ٣٩٦هـ، وأمِر الناس بالقيام عند ذكره..
قال الحافظ الذهبي- معلقًا على تلك الحادثة -:- "فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد كان هؤلاء العبيديون شرًا على الإسلام وأهله من الشر. (٤) "
وقد أشار شيخ الإسلام إلى انتشار دعوة الباطنية قائلًا:
"وكانت قد انتشرت إذ ذاك دعوة الملاحدة المنافقين الذين كانوا إذ ذاك بمصر، وقد بنوا القاهرة وغيرها، ولهم دعاة من أقاصي الأرض بالمشرق وغيره، وكان والد ابن سينا منهم.
وفي ذلك صنف الناس الكتب في كشف أسرارهم وهتك أستارهم.. (٥) "
_________
(١) . انظر: المنتظم ١٥/١٩٨ -٢٠١، والكامل ٩/٣٩٣، والعبر ٣/١٣٤، ١٣٥، والبداية ١٢/٢٦، ومرآة الجنان لليافعي ٣/٣٤، ٣٥.
(٢) . انظر: الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي صـ ٢٩٢، ٢٩٣، وسير أعلام النبلاء ١٥/١٣٢، والبداية ١٢/٢٩، وأصول الإسماعيلية ١/٢٨٢.
(٣) . مثل بعض الولاء في أرض خوارزم، وفي المقابل فإن بعض الأمراء سخر من دعوة الحاكم قائلًا: إني لا أذكرك إلا على المستراح، وبعضهم كتب على ظهر كتابه: "قل يا أيها الكافرون"، وعمد بعض الأمراء إلى قتل بعض دعاة الحاكم.
انظر: الفرق بين الفرق صـ ٢٩٢.
(٤) . تاريخ الإسلام ٢٧/٢٣٤.
(٥) . نقض التأسيس ٢/٣٣١.
1 / 240
لقد أدرك الخليفة القادر بالله خطورة المد الباطني، وانتشار دعوتهم، والتي ظاهرها التشيع والرفض، وحقيقتها الكفر المحض، لاسيما وإن قرواش بن مقلد - أمير الموصل وما حولها - خطب للحاكم العبيدي سنة إحدى وأربعمائة، وبالغ في مدحه والدعاء له، وكان سبب ذلك أن دعاة الحاكم العبيدي وهداياه، كانت تتوالى إلى قرواش، فمال إليهم.
فلما بلغ الخبر الخليفة القادر بالله، كتب يعاتب قرواش على ما صنع، وعزم الخليفة على محاربته، فحينئذ رجع قرواش عن رأيه، وندم على ما كان منه، وأعاد الخطبة للقادر بالله. (١)
وفي السنة التالية لتلك الواقعة (٤٠٢هـ) اتخذ الخليفة القادر بالله - من أجل مواجهة العبيديين ودعوتهم - محضرًا يتضمن الطعن في أنسابهم، ويكشف حقيقة مذهبهم، وأنهم زنادقة كفّار.
وكتب هذا المحضر، وأقره جمع من الأشراف والقضاة والمحدثين والفقهاء والعدول، وخلاصة هذا المحضر: أن الفاطميين ملوك مصر، منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرّمي، فليسوا من أهل البيت، ولا نسب لهم في ولد عليّ بن أبي طالب ﵁، ولا يتعلقون منه بسبب، وأن الذي ادّعوه إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أحدًا من أهل بيوتات علي بن أبي طالب ﵁ توقف عن إطلاق القول في أنهم كذبة، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعًا في أول أمرهم..
وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فسّاق فجار، ملحدون زنادقة، معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادّعوا الربوبية. (٢)
تتجلى - في هذا المحضر - قوة وشجاعة الخليفة القادر بالله تجاه العبيديين، عكس أسلافه السابقين كالمطيع والطائع، والذين غلب عليهم الضعف أمام رفض البويهيين، وباطنية العبيديين. (٣)
فإن هذا المحضر إنما كُتِب عقب نفوذ وظهور مذهب الباطنية (٤) - في عصر القادر-
_________
(١) . انظر: المنتظم ١٥/٧٤-٧٧، ٣٢٧، والكامل ٩/٢٢٣، وسير أعلام النبلاء ١٥/١٧٧، والبداية ١١/٣٤٣.
(٢) . انظر: المنتظم ١٥/٨٢، ٨٣، وتاريخ الإسلام ٢٨/١١، وسير أعلام النبلاء ١٥/١٧٧، والبداية ١١/٣٤٥، ٣٤٦، والنجوم الزاهرة ٤/٢٢٩.
(٣) . انظر: سير أعلام النبلاء ١٥/١٦٤.
(٤) . انظر: السلوك لمعرفة دول الملوك ١/١٢٥.
1 / 241
وانتشار دعاتهم، كما أشار إليه الذهبي قائلًا:
"وفي هذا الوقت انبثت دعاة الحاكم في الأطراف، فأمر القادر بعمل محضر يتضمن القدح في نسب العبيدية.. (١) "
ويتميّز هذا المحضر بتقريرات قوية، وعبارات جامعة، فهو يجزم بأن العبيديين أدعياء، فلا نسب لهم في ولد عليّ، ولا يتعلقون منه بسبب، وإنما هم منسوبون إلى ديصان الخرّمي.
كما يقطع المحضر بأن العبيديين زنادقة كفار، ويورد شيئًا من كفرهم البواح وإلحادهم الصراح، ومناقضتهم لجميع مقاصد الشريعة الخمسة (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، فهم ملاحدة كفار، يسفكون الدماء، يستحلون الخمور، ويستبيحون الفروج والأموال..
وهذا المحضر يتفق تمامًا مع تقريرات سائر العلماء والمؤرخين، كما بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:-
"قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس، أو اليهود، هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم، وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم..
- إلى أن قال - وسبب ذلك أن الأنساب المشهورة أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه، وكذلك إسلام الرجل وصحة إيمانه بالله والرسول أمر لا يخفى.
وهؤلاء بنو عبيد القداح ما زالت علماء الأمة المأمونون علمًا ودينًا يقدحون في نسبهم ودينهم، لا يذمونهم بالرفض، التشيع، فإن لهم في هذا شركاء كثيرين، بل يجعلونهم من القرامطة الباطنية.. الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.. (٢) "
وتبدو حكمة القادر بالله، وحسن تدبيره في شأن الذين شهدوا في هذا المحضر، فمنهم أشراف أعلام أقروا بالطعن في أنساب العبيديين، وأنهم لا يتصلون بآل البيت، كما أن الحكم
_________
(١) . سير أعلام النبلاء ١٥/١٣٢.
(٢) . مجموع الفتاوى ٣٥/١٢٨، ١٣٠، ١٣١ = باختصار
وانظر: سير أعلام النبلاء ١٥/١٥٤، والبداية ١١/٣٤٦.
1 / 242
على العبيديين بالكفر أو الإلحاد قد قرره جمع من أصناف العلماء سواءً كانوا من المحدثين أو الفقهاء أو القضاة.
لقد بيّن هذا المحضر - على إيجازه - حقيقة العبيديين نسبًا ودينًا، وفضح نفاقهم، وهتك أستارهم، حتى اضطر الحاكم العبيدي في سنة ٤٠٣هـ - وهي السنة التي تلي كتابة المحضر- إلى إظهار منع الناس من سبّ الصحابة ﵃ وعقوبة من فعل ذلك. (١)
وكما أدى هذا المحضر إلى امتناع الحاكم عن سبّ الصحابة في السنة التي تلي كتابة المحضر، فإنه أعقب - بعد أكثر من أربعين سنة - إلى التذكير به، وإعادة تقريره - في خلافة القائم بأمر الله.
ففي سنة ٤٤٤هـ كُتِب محضر يتضمن القدح في أنساب العبيديين، وأنهم خارجون عن الإسلام، وأقر هذا المحضر جمع من الأشراف والعلماء والقضاة. (٢)
لقد كانت جهود الخليفة القادر ضد الباطنية ظاهرة جريئة، مما شجع العلماء على تأليف الكتب في الردّ على الباطنية، حيث صنّف القاضي أبو بكر الباقلاني في تلك الوقت كتابه في الردّ على الباطنية، أتباع الحاكم العبيدي، وسماه "كشف الأسرار وهتك الأستار" بيّن فيه قبائحهم، ووضح أمرهم لكل أحد، وكان يقول فيهم: هم قوم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض. (٣)
كما صنّف علي بن سعيد الاصطخري - أحد شيوخ المعتزلة - للقادر بالله كتاب "الرد على الباطنية" فأجرى عليه جراية سنية، فلما توفي الاصطخري نقل جرايته إلى ابنته. (٤)
الاعتقاد القادري
المبحث الأول: التحقيق في مؤلف الاعتقاد ومناسبة تأليفه
اشتهر أن الاعتقاد القادري ألّفه الخليفة القادر بالله، كما حكاه أكثر المؤرخين، لكن بعض العلماء المحققين يقرر أن هذا الاعتقاد - في الأصل من تأليف أبي أحمد الكرجي (٥)، وكتابة القادر بالله، كما سيأتي توضيحه..
_________
(١) . انظر: اتعاظ الحنفا ٢/٩٨، والنجوم الزاهرة ٤/٢٣٦، والتاريخ السياسي والفكري لبدوي صـ ٧٤، ٧٥.
(٢) . انظر: المنتظم ١٥/ ٣٣٦.
(٣) . انظر: الصفدية لابن تيمية ٢/١٦٢، والبداية ١١/٣٤٦.
(٤) . انظر: المنتظم ١٥/١٠٠، والبداية ١١/٣٥٢، والنجوم الزاهرة ٤/٢٣٦.
(٥) . أبو أحمد محمد بن علي بن محمد الكرجي، الغازي المجاهد، وعرف بالقصّاب لكثرة ما قتل من الكفار في مغازيه، له عدة مصنفات، عاش إلى حدود ٣٦٠هـ، وفيه يقول أبو الحسن الكرجي:
وفي الكرج الغراء أو حد عصره أبو أحمد القصّاب غير مغالب
تصانيفه تبدي غزير علومه فلست ترى علمًا له غير سارب.
انظر: سير أعلام النبلاء ١٦/٢١٣، وتذكرة الحفاظ ٣/٩٣٨، والوافي بالوفيات ٤/١١٤.
1 / 243
يقول الخطيب البغدادي:-
"وكان [القادر] صنّف كتابًا في الأصول، ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، وإكفار المعتزلة، والقائلين بخلق القرآن. (١) "
وحكى جمع من المؤرخين ما قرره الخطيب هاهنا، كالأسنوي (٢)، والصفدي (٣)، وابن الصلاح (٤)، وابن كثير (٥)، والروحي (٦)، والسيوطي (٧) .
ويقول ابن الجوزي - في حوادث سنة ٤٢٠هـ:-
"جُمع الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء في دار الخلافة، وقريء عليكم كتاب طويل عمله القادر بالله، يتضمن الوعظ، وتفصيل مذهب أهل السنة، والطعن على المعتزلة..إلخ (٨) "
وساق ابن كثير ما حكاه ابن الجوزي مختصرًا. (٩)
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر أن هذا الاعتقاد من جمع الشيخ أبي أحمد الكرجي القصاب، وكتابة الخليفة القادر بالله، إذا يقول:
"كتب [القادر] الاعتقاد القادري المنسوب إليه، وهو في الأصل من جمع الشيخ أبي أحمد القصاب (١٠)، وهو من أجل المشايخ وأعلمهم، وله لسان صدق. (١١) "
وقرر شيخ الإسلام - في موضع آخر - أن عامة الاعتقاد القادري من نظم أبي أحمد الكرجي، حيث قال:
"وكتب الإمام القادر الاعتقاد القادري المعروف، وعامته من نظم الشيخ أبي أحمد الكرجي. (١٢) "
وقال - في موضع ثالث:-
"وقال الشيخ أبو أحمد الكرجي، والإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة، في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهي العقيدة التي كتبها الخليفة (١٣) القادر بالله (١٤) .
_________
(١) . تاريخ بغداد ٤/٣٧.
(٢) . انظر: طبقات الأسنوي ٢/٣١٠.
(٣) . انظر: الوافي بالموفيات ٦/١٤٠.
(٤) . انظر: طبقات الشافعية لابن الصلاة ١/٣٢٥.
(٥) . انظر: البداية ١١/٣٠٩.
(٦) . بلغة الظرفاء في تاريخ الخلفاء للروحي صـ ٢٧١.
(٧) . انظر: تاريخ الخلفاء صـ ٤٨٦.
(٨) . المنتظم ١٥/١٩٧، ١٩٨.
(٩) . انظر: البداية ١٢/ ٢٦.
(١٠) . في المطبوع القصار، والصواب ما أثبته: القصاب، وكما جاء في غير موطن.
(١١) . نقض التأسيس ٢/٣٣١.
(١٢) . الصفدية ٢/١٦٢.
(١٣) . هكذا أثبت في الأصل الخطي - كما ذكر المحقق د. محمد رشاد سالم -، لكن المحقق استصوب: كتبها للخليفة، ولعل الصواب ما جاء في الأصل، وكما يشهد لذلك النقول السابقة عن ابن تيمية، وهو المثبت في أصل الصواعق المرسلة ٤/١٢٨٦، والعلو للذهبي ٢/١٣٠٣.
(١٤) . الدرء ٦/٢٥٢.
1 / 244