374

Al-Iʿtibār wa-salwat al-ʿārifīn

الإعتبار وسلوة العارفين

Regions
Iran

أما بعد: فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني ،وجموح الدهر علي، وإقبال الآخرة علي ما يزعني عن ذكر من سواي، والاهتمام بما وراي، غير أنه حيث تفرد بي دون هم الناس هم نفسي، صدفني عن هواي، فصرح لي محض أمري، فافضى إلى جد لا يزري به لعب، وصدق لا يشوبه كذب، وجدتك يابني بعضي بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني، وحتى كأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي هذا يا بني إن بقيت أو فنيت: أوصيك بتقوى الله، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله ، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أخذت به، احي قلبك بالموعظة، وموته بالزهد، وقوه باليقين، وذلله بالموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر، وفحش تقلب الأيام، فاعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره بما أصاب من كان قبلك، وسر في ديارهم ، واعتبر بآثارهم، وانظر ما فعلوا وأين حلوا ونزلوا [وعما انتقلوا فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة ] ونزلوا دار الغربة، وكأنك صرت عن قليل كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والنظر فيما لم تكلف، وأمسك عن طريق إن خفت ضلالته، فإن الكف عن حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله، وانه عن المنكر بلسانك ويدك، وباين من فعله بجهدك، وخض الغمرات إلى الحق، وتفقه في الدين، وعود نفسك الصبر على المكروه، وألجيء نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجيها إلى كهف حريز، ومانع عزيز، واخلص في المسألة لربك فإن الله بيده العطاء والحرمان، وأكثر الإستخارة، وتفهم وصيتي، ولا تذهبن عنك صفحا، فإن خير القول ما نفع، واعلم يابني أنه لا غنى بك عن حسن الارتياد [وقدر] بلاغك من الزاد مع خفة الظهر،فلا تحملن على ظهرك فوق بلاغك، فيكون عليك ثقلا ووبالا، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادا فيوافيك به حيث تحتاج إليه فاغتنمه، واستغنم من استقرضك في حال غناك وقضاك في يوم عسرك، فإن أمامك عقبة كئودا، وإن مهبطك منها لا محالة على جنة أو نار، فارتد لنفسك قبل نزولك[وأحسن كماتحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستهجنه من غيرك، وارض من الناس ما ترضى به لهم، ولا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كلما علمت، وأعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فإن اهتديت لقصدك فكن أخشى ما تكون لربك عز وجل] ، واعلم أن الذي بيده خزائن السموات والأرض وملكوت الدنيا والآخرة قد أذن بدعائك، وتكفل بإجابتك، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وهو رحيم كريم لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجيك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يفضحك حين تعرضت للفضيحة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة، [ولم يعاجلك بالنقمة]، ولم يشدد عليك في التوبة، فجعل توبتك التورع عن الذنوب، وجعل سيئتك واحدة، وحسنتك عشرا، وفتح لك باب المتاب ، وهيأ لك الأسباب فمتى شئت سمع دعاك، [فأفض إليه بحاجتك وبثه، ذات نفسك، واسند إليه أمورك، ولتكن مسألتك فيما يعنيك لا فيما يلزمك حباله، ويبقى عليك وباله فإنك يوشك أن ترى عاقبة أمرك حسنا أو قبيحا] .

Page 407